ترجمة: علي رضا – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
إذا سألتَ أحد العلماء سؤالًا عن فلسفة العِلم، فالاحتمال الأكبر أن إجابته ستتضمَّن فيلسوفًا أو اثنَيْنِ فحسب.
على الأغلب ستجده يذكر الفيلسوف البريطاني ذا الأصل النمساوي كارل بوبر Karl Popper (1902-1994)، في ضوء أطروحته المتعلّقة بمبدأ التكذيب، وهو “معيار التمييز demarcation criterion”، الذي لا يزال العديد من العلماء يستخدمونه للتمييز بين العلم واللّا-علم. فالنظرية تكون علمية فقط إذا قدَّمت تنبّؤات يمكن -من حيث المبدأ- إثبات خطأها. لذلك لا يمكن اعتبار علم التنجيم علمًا؛ لأن تنبؤاته عادةً ما تكون مبهمة للغاية بحيث لا يمكن تكذيبها: إنها غير قابلة للدحض. هذا هو الأساس الذي استند إليه تناول بوبر للمنهج العلمي. يقترح العلماء سلسلة من التخمينات الإبداعية التي يحاولون بعد ذلك دحضها. فيُحرزون تقدّمًا من خلال تنقيح فرضيّاتهم في ضوء هذه التفنيدات، ثم يُعيدون تكرار هذه العملية من جديد.
من المرجّح أيضًا أن تجد الفيلسوف الأمريكي توماس كون Thomas Kuhn (1922-1996)، في ضوء نظريّته عن الثورات العلمية. في سياق البحث العلمي المعتاد، تُحلّ المشاكل وتُجرَى الاكتشافات ضمن شبكة من النظريّات التأسيسية المقبولة، أو ما يسمّيه “كون” “النموذج paradigm”، الذي يُقبل بوصفه غير قابل للدحض. منطقيًّا، إذا توقّف العلماء عمَّا يفعلونه كل خمس دقائق، وسعوا إلى تكذيب الأساس الذي استندوا إليه في وضع تنبّؤاتهم، واختباراتهم وفي تحديد إجراءاتها، فلن ينجزوا الكثير. قارن هذا بالعلم الثوريّ، حيث تكون جميع الاختيارات متاحة وتتغيّر النماذج، في عمليةٍ شبّهها “كون” بالتحوّل الديني أو الثورة السياسية. حاجَج “كون” بأن مثل هذا التغيير العلمي الثوري لا ينطوي فقط على تغيير في القوانين، والكيانات، وأوصافها الرياضية، ولكن أيضًا في المعايير التي يحكم العلماء عبرها على كفاءة التفسيرات النظرية.
وفقًا لـ “كون”، لا يختلف علم التنجيم عن علم الفلك في عدم قابليّة الأوّل للدحض، وإنما في التراث البحثي للأخير ودوره في حلّ مشكلات العلم المعتاد. في مواجهة تنبّؤ فاشل، يبدأ الفلكيّ في العمل: يفحص البيانات، أو يُعيد إجراء الحسابات، أو يُعيد تصميم الأدوات وتحسينها. أما المُنَجِّم فليس لديه مثل هذا التراث، فيكتفي فقط بالتلويح بذراعيه. علم التنجيم ليس علمًا؛ لأن المنجمِين لا يمارسون العلم.
يميل إطلاع العالِم العاديّ على الفلسفة إلى أن يكون من النوع العابر. وذلك أمر مؤسف للغاية. لقد أدَّت المشكلات عميقة الجذور، التي تبدو مستعصية على الحلّ في الفيزياء النظرية التأسيسية -فيزياء المادة، والإشعاع، والمكان، والزمان، والكون-، إلى إحباط التقدّم لمدة 50 عامًا أو أكثر. نحن نعيش فترة في تاريخ الفيزياء التأسيسية حيث تكون الأفكار المتعلّقة بالطبيعة رخيصة، لكن جمع الوقائع التجريبية اللازمة لإظهار أن هذه الأفكار ليس لها أيّ علاقة على الإطلاق بالعالم الحقيقي أصبح مكلّفًا للغاية، وطويل الأمد، ومستهلِكًا للوقت، وبلا أيّ ضمانة للنجاح. اتّضح أن هذه فترة لا يستطيع فيها “بوبر وكون” مساعدتنا حقًّا؛ لذا نحن بحاجةٍ إلى النظر أبعد من ذلك.
هذا صحيح بشكلٍ خاصّ بالنسبة لعلماء الفيزياء النظرية التأسيسيّين الذين يفضّلون نظرية الأوتار String Theory كنموذج جديد طور التكوين. في برنامج نظرية الأوتار، الذي بدأ في أواخر السبعينيّات، من المتصور أن المكوّنات الأوّلية للطبيعة، والقوى التي بينها، تتشكّل من أوتار أو حلقات من الطاقة. سرعان ما تعقّدت هذه الصورة بسبب الحاجة إلى افتراض تناظر أساسي – يسمَّى التناظر الفائق supersymmetry – بين المادة وجُسيمات القوى، وأيضًا بسبب الحاجة إلى إخفاء ستة أبعاد مكانية إضافية في بنية رياضية تسمَّى شكل كالابي-ياو Calabi–Yau. أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا عندما اتّضح أن هناك خمسة أنواع على الأقل من نظرية الأوتار وعددًا استثنائيًّا من أشكال كالابي-ياو الممكنة، مع انعدام وجود وسيلة لتحديد النوع المتعلِّق بالجُسيمات والقوى التي يتكوّن منها كوننا. كانت استجابة بعض مُنظِّري الأوتار هي استدعاء المبدأ الأنثروبي anthropic principle: في أكوان مُتعدّدة تتضمَّن جميع الأشكال الممكنة، لا ينبغي أن نتفاجأ كثيرًا عندما نجد أنفسنا في كونٍ ملائمٍ ومُرَكَّب من شكلٍ مناسبٍ تمامًا لتطوّر الحياة الذكية.
بخلاف “التنبّؤ” المبهم بالوجود المحتمل لما يسمَّى بالجُسيمات فائقة التناظر، (التي لم يتمّ العثور عليها حتى الآن)، تبدو نظرية الأوتار غير قادرة تمامًا على التنبّؤ بأيّ شيء على الإطلاق. إنها غير قابلة للدحض.
في عام 2006، أدّى القلق من فقد برنامج نظرية الأوتار كل اتّصال مع الواقع إلى “حروب الأوتار”. استُخدِمَ معيار بوبر لقابلية التكذيب في محاولة لمحاسبة مُنظّري الأوتار. وردّ مُنظّرو الأوتار برفض إملاءات المبادئ الفلسفية وآراء “صيّادي مشاهير [المجتمع العلمي]”. أدركنا متأخّرًا أن هذه كانت فرصة ضائعة، حيث إن المشكلات المتعلّقة بمعيار بوبر معروفة للفلاسفة منذ زمن، وهناك بديل جاهز يتضمّن جوانب من فلسفات “بوبر وكون”. هذا البديل هو منهجية إمري لاكاتوش Imre Lakatos لبرامج البحث العلمي.
من بين جميع فلاسفة العلم البارزين، ربما يكون لاكاتوش هو الوحيد الذي جسَّد كَوْنَ الفلسفة تجربة مُعاشة. وُلد في مدينة ديبريسين Debrecen المجريَّة عام 1922، ودرس الرياضيات، والفيزياء، والفلسفة في الجامعة، لكنه كان شغوفًا في المقام بالأوّل بالشيوعية الثورية. بعد الغزو النازيّ للمجر في مارس 1944، تم إجبار اليهود في ديبريسين على دخول معسكرات اليهود، وتمّ ترحيل حوالي 6000 شخص إلى معتقل أوشفيتز. كانت والدة لاكاتوش وجدّته من بينهم، ولم يستطيعوا النجاة من الموت.
هرب لاكاتوش إلى نجفريارد Nagváryad (الآن أوراديا Oradea في رومانيا)، حيث عيّن نفسه القائد الفعليّ لمجموعة طلّابيّة راديكالية، مسيطرًا عليهم بتعويذة فكرية قوية. اعتنق هؤلاء الستالينيّون الشباب رؤية رومانسية للثورة: لقد “تاقوا إلى الشنق عدّة مرات في اليوم من أجل الطبقة العاملة والاتّحاد السوفيتي العظيم”. انضمت إلى المجموعة إيفا إيزاك Éva Izsák البالغة من العمر 19 عامًا. لكن بينما كانت تكافح من أجل العثور على سكنٍ آمن، انتاب لاكاتوش شعور بالقلق من أن النازييّن سوف يأسرونها ويجبرونها على خيانة المجموعة. فشجّعها بدلًا من ذلك على الانتحار، حيث تكون التضحية بالنفس من أجل المجموعة بمثابة عمل ثوريّ فريد. وبتوجيه منه، تمّ اصطحابها إلى جزءٍ بعيد من “الغابة العظيمة”، حيث أخذت سمّ السيانيد وماتت. عندما اكتُشِفَت جثّتها لاحقًا، لم يُتعرَّف عليها على الفور.
بعد الانتصار السوفيتيّ في المجر، أواخر عام 1944، أصبح لاكاتوش عضوًا متعصّبًا في الحزب الشيوعيّ الحاكم. لكن حماسه الخاصّ في نهاية المطاف جعله في خلافٍ مع قيادة الحزب، وتمّ طرده واعتقاله من قبل هيئة حماية الدولة (ÁVH) في أبريل عام 1950. وقضى أكثر من شهرَيْنِ تحت “الاستجواب” في مقرّ ÁVH، قبل أن يتمّ ترحيله في النهاية إلى معسكر اعتقال في شمال شرق المجر. ثم أطلق سراحه بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، وبعد مرور ستة أشهر على وفاة ستالين. لكن المثير للعجب، هو أنه ظلّ من الموالين للحزب، واستمرّ في كتابة التقارير الأمنية عن أصدقائه وزملائه.
نجح لاكاتوش في الحصول على منصب في المعهد الرياضي التابع للأكاديمية المجرية للعلوم حيث ظلّ يقرأ بنهم، في محاولة لتعويض الوقت الضائع من عُمره. وهناك اطّلع على أعمال بوبر لأوّل مرّة، خاصةً نقده للنظرية الماركسية. وهو ما حطّم رؤيته للعالَم تمامًا. فقد اتّضح له أن التنبّؤات “العلمية” للماركسية الأرثوذكسية قد تمّ تكذيبها منهجيًّا. بحلول عام 1956، تحوّل لاكاتوش من ستالينيّ متحمّس إلى إِصلاحِيّ متحمّس. لقد غيّر بوبر حياته.
عندما دخلت الدبَّابات السوفيتية T-54، إلى وسط بودابست لقمع الانتفاضة المجرية في نوفمبر 1956، هرب لاكاتوش إلى النمسا. وحصل على منحة من برنامج اللاجئين المَجَرِيّين التابع لمؤسَّسة روكفلر، ووصل إلى إنجلترا في يناير عام 1957. وأثناء دراسته للحصول على الدكتوراة في جامعة كامبريدج، انتهز الفرصة لإعادة رسم نفسه، فتجنّب سياسات النفي السياسيّ وأخفى ماضيه الستالينيّ.
عام 1960، تمّ تعيينه محاضرًا مساعدًا في قسم بوبر في كلّيّة لندن للاقتصاد (LSE). بعد تسع سنوات، أصبح يتمتّع بسمعةٍ دوليَّة راسخة، وتمّ تعيينه أستاذًا للمنطق في كلّيّة لندن للاقتصاد. في عام 1965، قدَّم ورقة بعنوان: “التكذيب ومنهجيَّة برامج البحث العلمي Falsification and the Methodology of Scientific Research Programmes”، في ندوة دوليَّة عُقِدَت في لندن، التي تُمثّل مساهمة فريدة في فلسفة العلم.
كانت المشكلات المتعلّقة بمبدأ بوبر الخاصّ بقابليّة التكذيب معروفة جيّدًا بحلول ذلك الوقت: فهذه ليست الطريقة التي يعمل بها العلم. كما لاحظ “كون”، فإن مبادئ التكذيب الصارمة، المطبَّقة بسذاجة، تستبعد الكثير ممّا يمكن اعتباره ممارسة علمية يومية عادية. على سبيل المثال، نعلم أن مدارات الكواكب ليست قطوعًا ناقصة ellipses بشكلٍ دقيق، وأن أقرب نقطة يقترب فيها الكوكب من الشمس (تسمَّى الحضيض الشمسيّ perihelion)، تتغيّر قليلًا، أو “تبادر”. كان يُعتقد أن هذا ناتج عن المجموع التراكمي لجاذبية جميع الكواكب الأخرى في النظام الشمسي، وكان الأمر أكثر وضوحًا في حالة عطارد. لكن قوانين نيوتن تتنبّأ بمبادرة لا تتّفق مع الملاحظة التجريبية. على الرغم من صغر هذا الاختلاف، إلا أنه يَتراكَم ويُعادِل مدارًا “إضافيًّا” كل 3 ملايين سنة أو نحو ذلك.
لفهم ما يعنيه هذا الاختلاف حقًّا، نحتاج إلى تقدير كيفيّة تطبيق النظريّات بشكلٍ اعتياديّ. يتضمّن هذا عادةً بعض التبسيط أو الافتراضات أو الفرضيّات الإضافية. بعضها متأصّل في الصياغة الرياضية للنظرية، مثل الافتراض في نظرية إسحاق نيوتن بأن كتل الأجسام الجاذبة تقع في مراكزها. البعض الآخر ضروري لتبسيط الحسابات، مثل افتراض أنه في الدراسات التجريبية للقوّة الكهرومغناطيسية، يمكن تجاهل تأثيرات القوى الأخرى (مثل الجاذبية) بأمان. وهذا يعني أن التنبّؤات الناتجة لا يتمّ أبدًا اشتقاقها مباشرة من النظرية نفسها، بل من النظرية التي كيَّفها عدد من الفرضيّات “المساعدة”. لكن إذا تمّ تكذيب هذه التنبؤات لاحقًا، فلن يتضح أبدًا موطن الخطأ الذي حدث. قد تكون النظرية خاطئة بالفعل، لكن يمكن أيضًا أن تكون واحدة أو أكثر من الفرضيّات المساعدة غير صالحة: لا يمكن للأدلّة إخبارنا أيّ من الاحتمالَيْنِ هو الصحيح.
يقول لاكاتوش: هل هذا [الاختلاف] يُعتبَر دحضًا للعلم النيوتوني؟ لا؛ لأنه إما أن تُقتَرَح فرضيّة مساعدة بارعة أخرى أو تُدفَن القصّة بأكملها في مجلّدات الدوريّات المليئة بالغبار، ويُمتنع الحديث عنها مرة أخرى.
نظريًّا، بمقدور التعديل الإبداعي المناسب للفرضيّات جعل أيّ نظرية علمية غير قابلة للدحض بشكلٍ افتراضيّ.
حاجَج لاكاتوش بأن معيار بوبر مُقَيِّد للغاية. لكنه أيضًا كان مُنزَعِجًا من وصف “كون” لعمليّات الثورة العلمية. إذا تغيّرت المعايير التي نستخدمها للحكم على نجاح النظريّات العلمية من نموذجٍ إلى آخر، كما حاجَج “كون”، فإن السؤال عن أيّهما سيكون “الأفضل” سيصبح محلَّ نقاش عقيم. بالنسبة لـ”كون”، الثورة تكون مدفوعة بأزمة ثقة ينتج عنها الذعر المُعدِ. حيث يقول لاكاتوش: “من وجهة نظر (كون)، الثورة العلمية غير عقلانية، مسألة تتعلّق بسيكولوجيا الغوغاء”. يؤدّي هذا إلى مفهوم غامض بعض الشيء عن التقدّم العلمي المستند إلى علمَيِّ النفس والاجتماع، ومن ثَمّ إلى اتهاماتٍ بالنسبية. قاوم “كون” هذه التهمة، لكن من الصعب استبعادها.
على الرغم من هذه التناقضات، رأى لاكاتوش أن هناك عدّة مزايا في نهجَيْ “بوبر وكون”. حيث يتشابه “البرنامج البحثيّ” لدى لاكاتوش مع “النموذج” لدى “كون”. فبرنامج البحث يتكوّن من نظرية أو أكثر تسمَّى “النواة الصلبة” المحاطة بـ “حزام وقائيّ” من الفرضيّات المساعدة. تهدف الفرضيّات المساعدة إلى تحقيق غرضَيْنِ: إنها تساعد على ربط النواة الصلبة بالعالم التجريبي من خلال التنبّؤات، كما أنها تعمل على عزل النواة وجعلها غير قابلة للدحض جوهريًّا. ما يخضع للاختبار التجريبي هو ذلك المزيج بين النواة الصلبة والفرضيّات المساعدة، فهذا المزيج -من حيث المبدأ- قابل للدحض.
عبر ما أشار إليه لاكاتوش باسم “القاعدة الإرشاديّة السلبية”، تشجّع التنبّؤات الفاشلة العلماء على الاحتفاظ بالنواة الصلبة، التي لا يمكن دحضها والتلاعب بالفرضيّات. أمَّا “القاعدة الإرشاديّة الإيجابية”، فهي “مجموعة الاقتراحات أو التلميحات المفصَّلة جزئيًّا حول كيفيّة تغيير وتطوير (الأنواع القابلة للدحض) لبرنامج البحث، أيّ كيفية تعديل وتطوير الحزام الوقائيّ (القابل للدحض)”، أو إذا جاز التعبير، “الحدوس”. لم يتطوّر عمل ألبرت أينشتاين في النسبية العامة نتيجة سؤال محيّر حول الانحرافات غير المفسَّرة مثل مبادرة حضيض عطارد (القاعدة الإرشاديّة السلبية)، بل نتيجة تحوّل إبداعي مفاده الحدس بأن الجاذبية مرتبطة بانحناء الزمكان (عبر القاعدة الإرشاديّة الإيجابية لبرنامجه).
تسمح هذه المنهجية بتناول مشكلة معيار التمييز بشكلٍ رائع. اعتبر لاكاتوش أن البرنامج يكون “تقدميًّا” إذا تحقَّق شرطان: أن يكون تقدميًّا في المجال النظري (أن تتنبأ النواة الصلبة والفرضيّات المساعدة بوقائع تجريبية جديدة)، وأن يكون تقدميًّا في المجال التجريبي (على الأقل يمكن اختبار بعض هذه الوقائع الجديدة). في المقابل، يكون البرنامج “منتكسًا” إذا كان منتكسًا في المجال النظري (لا يتنبّأ بأيّ وقائع جديدة)، أو أنه تقدميّ في المجال النظري، ولكن منتكسًا في المجال التجريبي (لا يمكن اختبار أيّ من الوقائع الجديدة).
كمثال على حقيقةٍ جديدة، قدَّم لاكاتوش انحناء ضوء النجوم خلال الكسوف الكلّيّ للشمس، وهو ما نجحت نظرية النسبية العامة لأينشتاين في التنبّوء به، على العكس من نظرية الجاذبية الكونيّة لنيوتن. يقول لاكاتوش: “لم يفكر أحد في إجراء مثل هذه الملاحظة قبل برنامج أينشتاين”. بمرور الوقت، قلّ الطلب على استحداث وقائع جديدة وتمدّد ليشمل تنبؤات جديدة للوقائع الموجودة بالفعل. تتنبَّأ النظرية النسبية العامة بشكلٍ صحيح بمبادرة الحضيض الشمسيّ لعطارد، وهي حقيقة تجريبية مُثبَتة بالفعل رغم أنه لم يتمّ وضع هذه النظرية لحلّ هذه المشكلة بشكلٍ صريح، ومع ذلك فقد تمّ اعتبارها نقطة لصالح أينشتاين.
بضربةٍ واحدة، دمج لاكاتوش التمييز بين العلم واللا-علم، وبين العلم الجيّد والسيئ. إذا كان البرنامج لا يتوقّع شيئًا جديدًا أو لا يمكن اختبار تنبّؤاته، فهذا علم سيء، وقد يستمر في الانتكاس ليصبح علمًا زائفًا. تعمل الاختبارات التجريبية على تحسين الفرضيّات المساعدة ويستمرّ البرنامج في التقدّم طالما ظلّ يتنبّأ بوقائع جديدة وبإمكانية إجراء اختبارات جديدة. تحدث الثورة العلمية عندما ينتكس البرنامج المهيمن تمامًا ويعجز عن الاستجابة لتراكم الانحرافات -مما يخلق أزمة الثقة التي توقّعها “كون” بالضبط- وصولًا إلى إمكانية أن يحلَّ محلّه برنامج تقدميّ بديل. ولكن، وفقًا للاكاتوش، عندما يحين الوقت، تكون الثورة مدفوعة بالمنطق والأسلوب، وليس بسيكولوجيا الغوغاء اللّا-عقلانيّة: يمكن “استبدال البنية على طريقة (كون) دون إزالة منظار بوبر”.
لكن هذا لا يعني أن جميع المشاكل قد حُلَّت. فقد طلب لاكاتوش من الفلاسفة والمؤرّخين البحث عن أمثلةٍ عاملة لمنهجيّته في تاريخ العلم، لكن أتت النتائج مُتضاربة. تسمح منهجية لاكاتوش بإمكانية تغيّر قيمة البرنامج البحثيّ بمرور الوقت، فربما يبدأ تقدميًّا ثم ينتكس. وهي إلى حدٍّ كبير نفس وجهة نظره حول النظرية الماركسية، التي استحوذت على مخيّلته عندما كان شابًّا. لكن، ولنفس الأسباب، لا يوجد ما يستبعد احتمال أن البرنامج المنتكس يمكن بطريقةٍ ما أن يحقّق تعافيًا مذهلًا، بغضّ النظر عن مدى احتمال حدوث ذلك.
بالنسبة لأيّ شخص يسعى إلى إيجاد معيار تمييز نهائيّ لا لَبس فيه، فإن هذا هو ناقوس الموت. فمن ناحية، العلماء الذين يتابعون بإصرارٍ برنامجَ بحثٍ مُنتكِسٍ مذنبون بالتزامٍ لا-عقلانيّ بعلم سيئ. لكن، من الناحية الأخرى، يمكن لهؤلاء العلماء أنفسهم أن يجادلوا بشكلٍ شرعي بأنهم يتصرّفون بعقلانية تمامًا، حيث إن برنامجهم البحثي “من المحتمل أنه لا يزال صحيحًا”، وقد يكون الخلاص قاب قوسَيْنِ أو أدنى (الذي، في برنامج نظرية الأوتار، يتمّ تمثيله عادةً بواسطة مُصادِمِ الجُسَيمات الذي لم يتمّ بناؤه بعد). لا تنفي منهجية لاكاتوش هذه الحجَّة بشكلٍ صريح، وعلى الأرجح ليس هناك أيّ سبب معقول لذلك.
حاجَجَ لاكاتوش بأن الأمر متروك للعلماء بوصفهم أفراد (أو مؤسَّسات) لكي يتحلّوا ببعض الصدق الفكري، والاعتراف بأوجه القصور في برامجهم المنتكِسة (أو، على الأقلّ، “عدم إنكار سجلّها السيئ”)، وبأن يقبلوا بشكلٍ عقلانيّ عجزهم عن جَلْد الحصان الذي يبدو ميّتًا تمامًا من جميع النواحي. لقد قَبِل لاكاتوش ما يلي: “من العقلانيّ تمامًا أن يلعب المرء لعبة محفوفة بالمخاطر، لكن من غير العقلانيّ أن يخدع نفسه بشأن المخاطر”. كان لاكاتوش واضحًا تمامًا بشأن عواقب الانغماس في مثل هذا الخداع الذاتيّ: “يجب على محرّري المجلّت العلمية رفض نشر أوراقهم، كما يجب أيضًا على مؤسَّسات البحث رفض المال”.
لكن الفيلسوف الأمريكي، النمساوي الأصل، بول فييرابند Paul Feyerabend (1924-1994) لم يكن راضيًا. حيث رأى فييرابند أنه إذا لم يكن بمقدور معيار التمييز أن يُملي على العلماء ما ينبغي وما لا ينبغي فعله فإنه سيكون بلا قيمة تُذكر. فقد نتخلَّى عن المنهج العلمي تمامًا ونقبل كَوْنَ “كل شيء مباح”. توسّع فييرابند في هذا النهج الأناركيّ للعلم في كتابه: “ضد المنهج Against Method” (1975). في عام 1983، رفض الفيلسوف الأمريكي لاري لودان Larry Laudan مسألة مبدأ التمييز بوصفها “لا تمثّل مشكلة”، مشيرًا بشكلٍ فعّال إلى نهايتها كموضوع صالح للبحث بالنسبة لفلاسفة العلم.
الحقيقة أن هذا أمر مؤسف للغاية؛ لأنه في الوقت الذي أصبحت فيه تطوّرات الفيزياء النظرية التأسيسية تتطلّب مشاركة نشطة وبنَّاءة بين العلماء والفلاسفة حول تعريف العلم ذاته، كان مجتمع الفلسفة يهجر النقاش تمامًا، تاركًا العلماء يتشاجرون فيما بينهم.
دعونا على الأقلّ نعترف بأن الأزمة الحاليّة ليست خطأ العلم. أمامنا خيار. الاختيار الأوّل هو قبول كوننا الآن في منطقة مجهولة، ولهذا نحتاج إلى تهيئة تعريف لما تعنيه “ممارسة العلم”. هذا هو أساسًا ما يشجّعنا الفيلسوف النمساوي الأصل ريتشارد داويد Richard Dawid على القيام به في كتابه: “نظرية الأوتار والمنهج العلمي String Theory and the Scientific Method” (2013).
يدعو داويد إلى تكييف معنى العلم لكي يتضمّن ما يسمّيه: “التقييم اللا-تجريبي للنظرية”، والذي يعدّ قريبًا للغاية من المفهوم المتناقض لـ “العلم ما بعد التجريبي”. المقصود من ذلك هو تفكيك منهجية لاكاتوش، واستبعاد الأحكام التجريبية -لأنها مستحيلة- لصالح الأحكام النظرية البحتة. وفقط استنادًا لما سبق، يمكن اعتبار نظرية الأوتار برنامجًا تقدميًّا، فقط لأنها تمكَّنت من إنشاء بعض العلاقات الرياضية الجديدة، بدلًا من الوقائع التجريبية الجديدة.
الاختيار الثاني هو التصدّي، والإصرار على أن رغبة عددٍ قليلٍ من علماء الفيزياء النظرية في الانغماس في تخيّلاتهم ليست سببًا كافيًا للعبث بمعنى العلم. إن البرنامج البحثي الذي يتّسم بالتقدّم نظريًّا ولكن منتكِس تجريبيًّا هو برنامج منتكِس، كما أعلن لاكاتوش. إنه علم سيئ، ويجب أن يكون لذلك عواقب. إنها لمناقشة مختلفة (ولكنها ليست أقلّ إثارة) أن يكون هذا العلم السيئ، أيًّا كانت صورته، هو البديل الوحيد المتاح بالنظر إلى مأزقنا الحاليّ.
في وقتٍ لاحق من حياته، كان لاكاتوش على حقٍّ في التفاؤل بشأن فرصه في أن يكون جزءًا من المؤسَّسة الأكاديمية البريطانية. فتقدّم بطلب ليصبح مواطنًا بريطانيًّا، وأجرى معه كلٌّ من المكتب الخامس MI5 والفرع الخاصّ من الاستخبارات البريطانية مقابلات مكثّفة. تكشف محاضر المقابلات، التي رُفعت عنها السِّرية، عن الصورة التي رسمها لنفسه أمام السلطات. وفقًا له، اختارت إيفا إيزاك المسكينة الانتحار (ادّعى لاكاتوش عدة أشياء مختلفة مثل أنه يشتبه في إصابتها بمرض في القلب، أو أن علاقة فاشلة مع عضو آخر في المجموعة قد حطّمت قلبها). وادعى أيضًا أنه وافق على مضضٍ، لكن أحد المحاورين لاحظ أن “ذكرى هذا الحادث ظلَّت تطارده في كوابيسه وفي يقظته حتى يومنا هذا”. لكن يبدو أن لاكاتوش لم يُعرِب أبدًا بصورةٍ شخصية عن أسفه على هذه الحادثة أو دوره فيها. في الحقيقة، وفقًا للعديد من معارفه المقرَّبين: “بدا فخورًا بذلك. لقد رآه عملًا ثوريًّا”.
على الرغم من تأييد العديد من الشخصيات الأكاديمية البارزة -بما في ذلك بوبر- له بشكلٍ شخصي، لكن يبدو أن السلطات البريطانية لم تتغلّب أبدًا على التحفّظات التي أثارها اشتباههم في صِلاته السابقة بـ ÁVH. فحُرم من الجنسية في يوليو 1963، ومرّة أخرى في يناير 1967. وكانت هناك دلائل على أنه قد يُقبَل طلبه الثالث للحصول على الجنسية، لكنه لم تتح له الفرصة أبدًا لتقديمه. فقد تُوفِّي عديم الجنسية في فبراير 1974، عن عُمر يناهز الـ 51 عامًا.
على الرغم من أنّ تأثيره على فلسفة العلم كان هائلًا، إلا أن اسم لاكاتوش غير معروف جيّدًا بين العلماء على عكس أسماء أخرى مثل “بوبر، وكون”. ويلزم تغيير ذلك. لمنهجية لاكاتوش مزاياها وعيوبها، ولكن في غياب البدائل القابلة للتطبيق، أقترح أنها توفّر إطارًا مفيدًا لما سيكون نقاشًا مطوَّلًا بالتأكيد.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.