لا يُقرأ باروخ سبينوزا (1632-1677) عادة من أجل استشارته في مَسائل الحُبِّ؛ فلسنا نعرف إلى أي مدى قد عَرِفَ الحُبَّ، كما أن أقاويله في الحب الجسديّ تميل نحو الارتياب من الحب، وغير عاطفيّة. في فقرة حول عاطفة الغيرة، يضرب هذا المثال المتعلّق بـ«حبّ المرأة»، إحدى المواضع القليلة التي تظهر بها المرأة في مؤلفه [الأخلاق]:
«فمن يتخيلُ أنَّ المرأةَ التي يُحِبّها تستسلم لِرَجُلٍ آخر، سيحزنُ لا لكون شهوته الخاصّة قد مُنعتْ فحسب، بل أيضًا لكونه مُضطرًّا إلى ربط صورة الشيء المحبوب بالأعضاء المُخجلةِ للرجل الآخر وبإفرازاته».
(الأخلاق، الجزء الثالث، القضية 35، حاشية، 1677)
هذه صياغة مريرة، بل حتى مؤلمة بصورة غير اعتياديّة لكاتب يمتاز، فيما خلا ذلك، بكرم الروح، وعاطفة تجاه النوع الإنسانيّ. إن مثل هذا الحبّ الذي يصفه يبدو مَحكومًا بالفشل دومًا؛ فإذا لم ينته إلى الخيانة والغشّ فإنه سيبدد العزلة التي تُميِّز حياة الفيلسوف (وهو الذي لم يتزوج، مثل كثير من معاصريه، ولم ينجب، أو لم يكن لديه أية علاقة رومانتيكية بارزة فيما نعلم – عدا واحدة، سنأتي على ذكرها…).
في رسالة في إصلاح العقل (Treatise on the Emendation of the Intellect ) (1662) –إحدى أفضل الكتابات للتعرُّف على فلسفة سبينوزا التي تُعرف بصعوبتها– يتحدّث سبينوزا بشيء من الحسرة عن كيف قد ارتاد الحياة الفلسفيّة:
«بعدما علّمتني التجربة أن أكثر صروف الدهر تواترًا في حياة الإنسان إنما هي في مُعظمها تافهة باطلة، وبعدما اتّضح لي أنّ الأشياء التي كانت في نظري موضوعًا للخشية أو سببًا من أسباب الخوف لا تنطوي في ذاتها لا على الخير ولا على الشرّ، إلا إذا اعتبرنا ما تُثيره هذه الأشياء في النفس من حركة، عقدت العزم أخيرًا على البحث فيما إذا كان يوجد شيء يكون خيرًا حقيقيًّا قابلًا للتوصيل، تزهد النَّفس فيما عداه ولا تتأثر بسواه.. بحيث يجعلها اكتشاف هذا الخير وامتلاكه مُبتهجة أبدًا أعظم ابتهاج».
لا يبدو أن خطر الحبّ، سواء هنا أو في مصنَّف الأخلاق، يكمن في فعل الحبّ نفسه بل إنه يكمن في الأهمية التي يسبغها الحبّ على شخص الشريك، وعلى علاقة غير ثابتة تكون دومًا عرضة للتغيُّر بصفة ضروريّة؛ قد يحبّ المُحِبّ المَحبوبَ بشدّة، لكن المحبوبَ قد يتوقّف في أحد الأيام عن أن يكنّ للمُحِبّ الشعورَ نفسه، أو قد يُحِبّ شخصًا آخر. إلا أن الحبّ يفتننا ويوقعنا في أسره. إنّ هَذَيانه الهوسيّ يُعتِم البحثَ العقلانيّ ورتابة الحياة اليوميّة وعملها الرتيب. يترك سبينوزا فيما بعد مَجالًا لإمكانية الرضا الرومانتيكيّ مكسوة في بعض تعريفاته التقنية. فهو يرى أن الزواج يمكن أن يوافق العقل في بعض الأحوال، ما دامت الوحدة الجسديّة بين الزوجَيْنِ «لا تقوم على المَظهر الخارجيّ» بل يدفعها «حُبُّ إنجاب الأطفال وتنشئتهم بحكمة»، وحبّ يسير وفق «حريّة الذهن» (الأخلاق، الجزء الثالث، تعريفات العاطفة، التعريف 20).
بيد أن هذه اللحظات تتوارى في الصياغات اللاحقة تدريجيًّا. يعرف دارسو فلسفة سبينوزا السياسيّة أنه في نهاية رسالته السياسية غير المُكتملة قد استبعد النساء من المشاركة في ديمقراطيّته المثاليّة بسبب ضعفهن الطبيعيّ المزعوم. وفي حين أن جينيفيف لويد Genevieve Lloyd وبيث لورد Beth Lord قد أعادا بناء مذهب نسويٍّ من فلسفة سبينوزا بصورة مُقنعة بالرجوع إلى عمله المبكّر في الأخلاق (Ethics)، حيث النساء ضعفاء لا بمقتضى طبائعهنّ الأساسيّة وإنما لظروف تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة، إلا أن هذه الملاحظات تحول دون أن نعدّ سبينوزا بسهولة «واحدًا منّا، نحن المُحدثين».
حب الجنون
حَسِبَ كتّاب سيرة سبينوزا الأوائل أنّ قلبه قد جُرح في أوائل العشرينيات من حياته. إن يوهانيس كوليروس Johannes Colerus، القسّ اللوثريّ ومُعاصر الفيلسوف تقريبًا، الذي كتب أول سيرة حياة له، عندما تقابل مع مالك منزله السابق وذويه بعد موته المُبكّر في 1677، زعموا أن كلارا ماريا Clara Maria، ابنة أستاذه في اللاتينيّة فرانسيسكوس فان دين إندن Franciscus Van den Enden، قد رفضته بعد أن وقعت في غرام طالب آخر. وقد حاولت السير اللاحقة دحض هذه الفكرة بالقول إن الفجوة العمْريّة بينهما كانت كبيرة للغاية، بصورة تجعل فكرة تقدمّه لخطبتها غير مرجّحة. لكن ثَمّة سيرة حياة حديثة لسبينوزا بقلم ماكسيم روفيري Maxime Rovere (لم تترجم حتى الآن إلى الإنجليزيّة) قد زادت الطين بلة؛ فقد كانت كلارا ماريا في السادسة عشرة من عمرها عندما التقت بسبينوزا الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا آنذاك. كانت تساعد والدها في تدريس سبينوزا اللاتينيّة، ويحتمل مشاركتها في التراجيديّات وقصص الحبّ التي عمد فرانسيسكوس على تقديمها للجمهور.
أين يُمكن أن نلتفت من أجل فهم أوجاع قلب سبينوزا فيما خلا القدح والظنّ والدفاع الذاتي المتضمَّن في النصّ؟ بوسعنا النظر في إشاراته الشعريّة والأدبيّة.
في رسالة في اللاهوت والسياسة (Theological-Political Treatise ) (1670)، حيث ينتقد سلطة الكتاب المقدّس بصورة جذريّة (وقد حاز الكتاب على تسمية مُثيرة للإعجاب من أحد خصومه باعتباره كتابًا «أُلِّفَ في الجحيم»، من قبل «الشيطان نفسه») يُفيد سبينوزا من نصٍّ شعريٍّ كان معروفًا جيّدًا في أوروبّا في خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بتناوله موضوع الحبّ، أورلاندو الغاضب (Orlando Furioso ) (1532) لأريوستو Ariosto. في هذه الملحمة الشعريّة المركّبة نتابع رحلة الفارس أورلاندو الذي يقع في حبّ الملكة الوثنيّة أنجليكا؛ يُقابَل حبّ أورلاندو بالرفض عندما تقع أنجليكا في حبّ فارس آخر، ونتيجة لذلك يجنّ جنونه، فيجوب أوروبّا وإفريقيا ثائرًا، إلى أن يُسافر صديقه أستولفو إلى القمر ليستردّ عقله حرفيًّا. يُحيل سبينوزا في رسالته في اللاهوت والسياسة إلى ذلك النصّ كمثال على أهمّيّة الإلمام بالدوافع، والسياق الخاصّ بالكاتب بغية فهم الأشياء الغريبة أو التي لا يمكن تصديقها:
«إني لأذكر أني قرأت في كتاب ما أنَّ رجلًا يُدعى أورلاندو الغاضب كان من عادتِهِ أن يَمتطي تنِّينًا ذا جناحَيْنِ يَطير في الهواء ويُحلِّق في جميع المناطق كما يشاء، يفترس بمُفرده عددًا كبيرًا من الناس والعمالقة. وحكايات خُرافية أخرى من هذا النوع لا يستطيع الذهن تصوُّرَها على أيِّ نحو».
(الفصل السابع، الفقرة 61)
في إشارة مُستفزّة يبدو أن أحدًا لم ينتبه لها، يُقارن سبينوزا ذلك ببيرسيوس في كتاب أوفيد الذي استطاع ذبح ميدوسا بفضل صندله المُجنّح، وبشمشون الذي استطاع قتل ألف رجل بعظمة فك حمار (القضاة 15:15)، ومركبة النار التي نقلت إيليا إلى السماء (الملوك الثاني 2:11): «أقول: إنَّ هذه الحكايات مُتشابهة للغاية». ولا يفصل بينها غير سياقها والغاية منها فحسب.
وفي حين أن هذه الملاحظات تأتي مطبوعة بفطنته الساخرة المُعتادة، إلا أنها تُشير كذلك إلى المكانة التي يحتلها الأدب في فكر سبينوزا. تتضمن قائمة محتويات مكتبته عندما توفّي كمًًا مذهلًا من الأعمال الأدبيّة بالنسبة إلى فيلسوف اشتهر بنزعة ميتافيزيقيّة صارمة. كثير منها باللغة الإسبانيّة -وهي لغة التدريس في مجتمع اليهود السفارديم الذي نشأ في كنفه- وتتضمن أعمالًا لكتّاب أمثال ثربانتس، وكيفيدو، وجونجورا. كما أن كتابات سبينوزا تملؤها إحالات إلى شعراء وكتّاب مسرح لاتينيّين، مثل أوفيد وترنتيوس.
تتناول كوميديا الخصيّ لترنتيوس متاعب القلب بالتحديد؛ عرف سبينوزا هذه المسرحيّة جيدًا. والظنّ أنه قد لعب دورًا بها لمّا كان شابًّا في إخراج مسرحيّ عامّيّ قدّمه فرانسيسكوس فان دن إندن، يُحتمل أن ابنته شاركت فيه. وسبينوزا يلمّح إليها لاحقًا في الجزء الخامس من الأخلاق، عندما تعود ثيمة العاشق غير الوفيّ: «قسْ على ذلك أولئك الذين تستقبلهم عشيقاتهم ببرودة؛ فهم لا يفكّرون إلّا في تقلُّب النساء، وخداعهم والعيوب الأخرى التي يُكثرون الحديث عنها، وهي أمور سرعان ما ينسونها عندما تستقبلهم عشيقاتهم من جديد». ويبدو أن ذلك يُطري على المشهد الأوّل من المسرحيّة، حيث يئس البطل العاشق الولهان فايدريا، بعد طرده من منزل ثايس التي كان يأمل في إغوائها. يحذّر العبد الأمين بارمينو سيده من عواقب أن يفقد صوابه، ثم يسدي له نصيحة حول دراما الحبّ وأهواله: «فالحبّ فيه كل هذه الشرور: الزلل، والشكوك، والعداوات، والتصالحات، والحرب، ثم السلام؛ إذا كنت تأمل في جعل هذه الأشياء غير المُتغيرة، بحسب طبيعتها، ثابتة بمقتضى قوّة العقل فلن تصيبها بشيء، أكثر ممّا لو كنت ستركز جهودك بحيث تصبح مهووسًا بالعقل» (مسرحيّة الخصيّ، الفصل الأوّل).
لدى سبينوزا الكثير لقوله بشأن الإقدام على محاولة جعل المُتغيّر ثابتًا؛ ينبجس ذلك في رسالته في إصلاح العقل، عندما يسأل ما إذا كان «على استعداد لأن يفقد ما هو ثابت –حياة العقل– في سبيل لذّة حسيّة مُتغيّرة» مثل الثراء، والمكانة. إن هذه الأفكار تأسيسيّة بالنسبة إلى الجزء الرابع من الأخلاق، حيث يُحدّد معالم علم للانفعالات، يكون أيضًا فيزياء للعواطف، ويتعرّض إلى سلطتها، وقوّتها، وعلّيّتها. إن سقيم الحبّ، مثل الثمل، والبكّاء، والثرثار، والمخبول، هو إحدى الشخصيات الدرامية dramatis personae التي تظهر عبر كتابات سبينوزا. يُكابد الشخص السقيم بالحبّ نوعًا مُعيّنًا من الجنون، فهو يفقد السيطرة على كلّ من جسده وعقله. إنه ليس «المجنون بالحبّ» الإلهيّ المستلهم من محاورتي فايدروس والمأدبة لأفلاطون، أو الحبّ الرومانتيكيّ l’amour fou الملهب كالذي نجده عند أندريه بريتون والسيرياليّين، بل إنه أقرب إلى الأَسْر؛ يُحذّر بارمينو سيّده فايدريا من حالة الوقوع في الأسْر تلك، ويشبّهها بحال شخص يُباع للعبوديّة: «حرّر نفسك… بأقلّ ثمن تقدر على ذلك»؛ فهو يحثه على أن يدفع الفديةَ، ويتجنّب الوقوع في الحبّ إلى الأبد.
كانت الملاحظات المتعلّقة بجنون الحبّ، وسخف الفروسيّة، وغيرها، شائعة في القرن السادس عشر. نلمح ذلك في دون كيخوته لثربانتس، حيث الفارس الذي حارب طواحين الهواء من أجل دولسينيّا ديل توبوسو، الأميرة غير الموجودة. وأعمال شكسبير تغمرها فكرة حماقة الحبّ «ما الحبّ إن لم يكن جنونًا عاقلًا». حيث يقع روميو وجولييت أيضًا، الحبيبان «اللذان يخرجان إلى النور»، في أسْر تعويذة وهْم قويّ، أي في نوع من العبوديّة. إنه إشكال مُلحّ يتعلّق بأن موضوع الرغبة يتسبّب في أذيّتنا، لكونه مستحيلًا، ويوقعنا في استيهامات الانجذاب أو العظمة، التي لا تلبث أن تتحول إلى انفعالات الغيرة، والكراهية، والانتقام.
إن تعريف سبينوزا للحبّ، المراوغ في بساطته، بوصفه «فرحًا مصحوبًا بفكرة علّة خارجيّة» لم ينتبه إليه القرّاء من قبل انتباهًا مُلائمًا. وبالرغم من ذلك، إلا أن ما قاله سبينوزا يوضّح كل شيء: إن أمر الحبّ مُعقّد.
دان تايلور محاضر في الفكر الاجتماعيّ والسياسيّ في جامعة التعليم المفتوح.