ترجمة: محمد السعيد – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
هل يُغيّرنا الفن؟ يُدخلنا الفن عالَمًا آخرَ كأنّ له سِحرًا، ولكن ما تأثيره الحقيقيّ فينا؟
سيناريو أوَّل
تخيّل تأمّلك لوحة رامبرانت: «بورتريه شخصي» (1659)، المعلَّقة على جدران معرض الفنون الوطني، في واشنطن، ثمّ يُقال لك: إنّ حاسوبًا ما رَسَمها؛ حيث استطاع أن يُحاكي أسلوب رامبرانت، بمساعدة خوارزميات التعلّم العميق. حينئذ ستشعر أنّ شيئًا ما مفقودًا، ومن المحتوم أن يزيل المتحف اللوحة عن جدرانه.. لكن ما الشيء المفقود هنا؟
توصيف 1: بورتريه شخصي (تفصيل، 1659) – رامبرانت ڤان رين.
سيناريو آخر
عُثِر مؤخرًا، على آلاف الرسومات، على جدران منحدراتٍ بعيدة في قلب غابات الأمازون، حيث امتدّ طولها إلى ثمانية أميال، وقُدِّر عُمرها باثني عشر ألفًا وخمسمئة سنة (12500). يستعرض هذا الفن الأمازوني الصخريّ خليطًا ملوّنًا فيه بشرٌ متشابكوّ الأيدي يتراقصون، وماستودونات، وخيول جامحة من العصر الجليدي (بعضها واضح المعالِم حتى إنَّ سبِيبَها ظاهر)، وحيوانات كسلان ضخمة كـ التي رسمها هيرونومس بوش. انتشر الخبر كالنار في الهشيم، ولمن المدهش أن نقف أمام هذه الرسومات الصخريّة، ولكن ما إن نعرف أنّ الرسومات مجرد خدعة، فلن نشعر حينها بلذّة. تخيّل أنّ إنسانًا ما -قبل التاريخ- قد يشبهنا، قادرٌ على رسم مثل هذه الصور.
أرى -بصفتي عالِمة نفس تحفل بالفنَّ- أنَّ انجذابنا له يثير تساؤلين عميقَين؛ إذ ألهب كلاهما فضولَ الفلاسفة وعلماء النفس ومحبّي الفن. أوّلهما: ما سِرّ هذا الانجذاب تجاه الأعمال الفنيّة؟ لجمالها بلا رَيب. لكنّ الجمال ليس كلَّ شيء، كما أظهرت التجربتان الفكريّتان أعلاه. أمّا الآخر، فهو: ما الفوائد الجليّة -إنْ وُجدت- التي بمقدور الفنون أن تهبها لنا؟
للإجابة عن التساؤل الأول، أزعم أنّنا مفتونون بالأعمال الفنيّة؛ لأنها تُلقِينا داخل عالم الفنّان المتخيّل. نحن نعتقد أنّ للفنّانين غايةً في خَلقِهِم، حتى وإن كانت هذه الغاية بعيدة المنال أحيانًا. وبناءً على هذا المُعتقد، حينما يكون الشيءُ فنًّا -لا صدفةً ولا أداةً أثرية- نسعى جاهدين لقراءة مقاصده ومعانيه.
عندما نتأمّل في عملٍ لرامبرانت، نشعر أنّنا نقرأ رسالة من الماضي، تركها لنا هذا الفنان الألمعيّ؛ إذ إنَّ ضربات فُرشاته دليلٌ على حركة ذراعه أثناء الرسم، ويمكن خلالها استقراء حالته النفسيّة آنذاك. تمعّن رامبرانت في نفسه تمعّنًا عميقًا، لذا نشعر أنَّ بمقدورنا تصوّر كيف غدا يَعي ذاته ويفهمها في سلسلةٍ من الصور الشخصية رسمها لنفسه مع تقدّمه في العُمر. نحسّ بشعورٍ مماثل عندما نتأمّل رسومات الأمازون الصخريّة؛ إذ نتصوّر ما كان يقصد، ويفكّر، ويشعر به فنّانوّ ما قبل التاريخ حين رسمها، حيث كان لهم خيال شبيه بخيالنا.
مِن المتعارَف أنْ ينفر الناس مِن الشيء المزيَّف. كشف الفيلمان الوثائقيّان: «مُنقادون للتجريد» (2019)، وَ«جعلتك تنظر: قصة حقيقيّة عن فنٍّ مزيّف» (2020)، أكبر فضيحة تزييف ناجحة في تاريخ الفن. ظلّت امرأة بدايةً من عام 1994، ولأكثر من عشر سنوات، تحضر ما وصل عدده أربعين لوحة فنيّة، لمعرض نودلر المرموق في نيويورك، حيث ادّعت أنها تمثّل جامع أعمال فنيّة ثريّ يُفضّل أن يبقى مجهولًا.
تعود هذه اللوحات لكبار فنّانيّ القرن العشرين، من بينهم: مارك روثكو، وجاكسون بولوك، وروبرت مَذَروِل، وفرانز كلاين، وكليفرد ستِل. ذَكَرت مالكة المعرض أنّ جمال هذه اللوحات سَحَرَها، فابتاعاتها بثمَنٍ بَخس؛ إذ أُخبرت أنّ الجامع المجهول غير مهتم بالمال. ثمّ باعهنَّ المعرض في إحدى المزادات بالملايين.
إمَّا أن يكون المعرض غَفَلَ عن حقيقة ألَّا دليل يفيد على مِلكيَّة الجامع المجهول لهذه اللوحات أو تجاهلها. اختلف خبراء الفنَّ حول أصالة هذه الأعمال الفنية، ولكنَّ هذا لا ينفي حقيقةَ أنها بِيعت بإجمالي سبعين مليون دولارٍ أمريكيّ. انخدع معظم سكّان عالم الفنّ الرفيع، ثمّ أخذت الحقيقة تنكشف شيئًا فشيئًا حتى اعترفت المرأة -التي أحضرت اللوحات للمعرض في المحكمة- أنَّ الأعمال مزيّفة؛ إذ رسمها رجلٌ صيني يقطن في مدينة كوينز في نيويورك، يُدعى بي-شين تشيان. إنّ التزييف مقبول في المجتمع الصيني، بل واختصاص بعض الفنّانين. ويعرض أحد الفيلمين إحدى الأستوديوهات الفنيَّة الخصبة التي زيّفت كثيرًا من الأعمال الفنية.
هذا ما أثار حفيظة مبتاعيّ اللوحات. لكن يبقى السؤال: ما المشكلة إنْ وجدوا أنّ الأعمال خلّابة منذ البداية؟ أحد الأسباب الواضحة انخفاض قيمة اللوحات؛ فما استحقَّ الملايين لأنه أصليٌّ، صار لا قيمةَ له لأنّه مزيّفٌ. ثمّ إنَّ هناك احتمالًا واردًا بتلاشي جمال لوحة فنية عندما نعرِف أنها مزيّفة كأنّما لطّخها الزّيف وفساد الأخلاق بلونٍ مقيت. علاوةً على ذلك، يجب مراعاة مسألة الخيلاء، حيث ذكر آرثر كستلر عام 1964، أنَّ إحدى صديقاته حين علِمت أنّ لديها لوحة أصليّة لا نسخة مطبوعة، علّقتها على الجدار تعليقًا لافتًا رغم أنَّ اللوحة لم تتغيّر. لكننا لا نبغض الأعمال المزورة فحسب، بل نبغض رؤيتها على جدران متحف، ولا ذكر للخيلاء إن لم نملك العمل الفنّي.
لكن لنفورنا من الأعمال الفنية المزيّفة سببٌ أعمق، فمن الطبيعي ألا يوجد أيُّ انسجام مع لوحات رامبرانت المزيّفة، فإن كانت الأعمال الفنيّة مدخلًا محتملًا لعالم الفنّان المتخيّل؛ فيلزم ألَّا يكون تزييفها من الجاذبية في شيء، ولو كان رفيع المستوى.
أجرى فريقي البحثي تجربة لاستبعاد الأسباب التي تقوم على أساسات مادية وغير أخلاقيّة. بدايةً توجب علينا التفكير بطريقةٍ نفصل بها العمل المزوّر عن هذين الأساسَين، فقررنا اختيار النموذج الفنّي الأمثل، وهو نسخة رسمها مساعد فنّان، وتحمل توقيع الفنان الأصل، وقيمتها تماثل قيمةَ لوحة أصِيلة. و لنقض الأساس اللاأخلاقي أخبرنا المشاركين أنّ من الطبيعي في عالم الفنّ أن يقوم المساعدون بأعمال الفنّانين المشهورين، وطلبنا منهم تقييم أخلاقيّة هذا العمل لنجعل الأمر ذا مصداقيّةٍ أكبر. صارت النسخة الفنيّة مثل العملِ المزيّف، لكنَّها نتاج عمليّة أخلاقية وذات قيمةٍ تماثل قيمةَ العمل الأصلي. عُرضت الصورة نفسها على المشاركين، وأُخبروا أنها من يدَي الفنّان. غاية التجربة معرفة مدى انخفاض قيمة نسخة المساعد عن نسخة الفنّان.
أشارَ المشاركون إلى أنّ نسخة الفنّان أعظم إبداعًا وأصالةً وتأثيرًا من نسخة مساعده، وجاء هذا التفضيل لاستقلاله عن القيمة الماديّة في المقام الأوّل؛ (حيث إنّ للنسختَين القيمة نفسها)، ولاستقلاله عن القِيمة الأخلاقيّة بعد أن ضُبطت التقييمات المنخفضة لعمل المساعد ضبطًا إحصائيًّا في قياس مدى أخلاقيّة هذا العمل. كلتا الصورتَين منسوختان، ولا أصالة فيهما. إذَنْ، فعلى أيّ أساس يمكن أن تصبح نسخة المساعد أسوأ من نسخة الفنّان حتى وإن كانتا مثاليّتَين؟
التفسير الوحيد هو ما يعتقده الناس -ولو كان بصورةٍ غير منطقيّة- أنّ الأعمال الفنيّة تتشرَّب جوهر الفنّان في لحظة الإبداع وإن كانت نسخًا منسوخة. ناقش عالِم النفس بول بلوم هذا الاعتقاد غير المنطقي وتكلَّم عن علاقته بما سمَّاه الجوهريّة، حيث تفسّر مَيلَنا إلى الأشياء التي تحمل تاريخًا معيّنًا بسبب قانون السببيّة الذي يشوبه نوع من التفكير السحري، إذ نفضّل ما له قيمة عاطفيّة؛ لأنَّ له جوهرًا داخليًّا. على سبيل المثال، إنْ ضاع خاتم الزواج، فلن نرضى تمامًا عن بديلٍ مطابق؛ وإن أضاع طفلٌ دميتَه، فلن يتوقف عن البكاء حتى إن أُعطيَ واحدة جديدة. ومن ناحية الأعمال الفنيّة، فما يجعلنا نشعر أننا مرتبطون بعالم الفنّان الإيمانُ بجوهره. اتّخذ تقديسنا للأصالة مع الجنون المستطير تجاه الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT)، منحًى في غاية السُخف، حيث يضارب الناس على «امتلاك» عملٍ فنيٍّ رقميٍّ بإنفاق ثروة ماليّة يمكن لأيّ أحدٍ تحميلها بالمجان. لمَّا كان لا أصالة في ملفٍّ رقميّ، يستطيع الفنان توثيقه بالأصالة والاسترباح. سترينا الأيّام إن كانت هذه الرموز موضة عابرة، أم نهجًا جديدًا يرسم الشعورَ بعالم الفنان الرقمي.
ولكنَّ هذا التقديس ليس عالميًّا، فالنظرة للأصالة على أنها شيءٌ مميز ومقدّس توجّهٌ غربي. بينما ترى الصين واليابان أنّ من المقبول إنتاج نسخ مطابقة للأصل، بل تساويها به، لا سيّما أنّ الأصل يتدهور مع الزمن، أمَّا نسخة جديدة ترينا كيف بدا في حالته الأولى. وناقشتُ هناك أستوديوهات في الصين حاضنة للفنانين المزيِّفين. ربما تحثنا ثقافتنا على تصوّر عقل الفنّان عند الاستجابة للأعمال الفنية.
وللإجابة عن سؤال ما إن كان للفنّ فوائد جليّة، فمن البديهي أن نقول: إنّ للفنِّ آثارًا إيجابيّةً على صحتنا النفسيّة، لأنه يجعلنا أكثر عطفًا وتعاطفًا. وهناك عدّة أدلّة تقرّ الأثرَ الإيجابيّ الأوّل، لكن لا دليل لأثر التعاطف.
مِن المتعارف عليه أنّ الفن ليس ضرورة حيويّة كالطعام والنوم، ولكن يتّفق أكثر الناس أنَّ إنتاج الفن والاستجابة له مهمٌّ للازدهار الإنسانيّ. لكن أنَّى للفنَّ هذه السطوة؟ وهل لدينا أيُّ دليل يقرّ بهذا الشيء؟ أطرح دليلًا يقرّ أنَّ الفنّ يحسّن مِن صحتنا في شقَّين متعارضَين؛ نظرًا لأنه يمكّننا من الهروب أولًا، ومن مواجهة المشاعر السلبية وفهمها ثانيًا.
لنتأمّل المَزيّة الأولى. اعتقد أرسطو أنّ الأعمال التراجيديّة تثير فينا الرحمة والخوف، ثمّ تطهّرنا منهما في عملية سمَّاها التنفيس، فيغمرنا شعور بالراحة. يوظّف المعالجون بالفنّ هذه التقنية في مساعدة المصابين بصدمةٍ نفسيّة من خلال التعبير الفنّي. لكن للفنّ سطوة مُقابلة من حيث إنّه مهرب. ربما نظنّ أنَّ الهروب يدل بالضرورة على الإدبار، ولكن للهروب دور مهم في الصحة العامّة. هذا الملجأ الذي يخلقه لنا الفنّ بوابة إلى عالمٍ آخر. وهذا الشيء ذاته هو ما يمنعنا عن النوم، إن لم نلجأ أوّلًا لعالمٍ خياليّ سواءً في مسلسلٍ تلفازيّ أو في رواية.
يستعرض عمل جنيفر دريك -الأستاذة المشاركة في كلية بروكلين، وإحدى طالباتي في مرحلة الدكتوراة سابقًا-، التأثيرَ الإيجابي لهذا المهرب في إنتاج الفنون المرئيّة. طُلب من البالغين والأطفال التفكير بذكرى شخصيّة كئيبة، ثمّ رسم ما يريدون، أبلغوا عن تحسّن المزاج، (حيث قِيس قبل وبعد الرسم عن طريق تقييم ذاتي). إنّ اللافت هو التحسّن المزاجي الأكبر عند مَنْ عبَّر عن شيءٍ مختلفٍ عن ذكراه الكئيبة، وليس عند من عبَّر عنها؛ نظرًا لأنّهم يستطيعون تجاوز هذه الذكرى. يرينا هذا الاكتشاف الذي تمّ التوصل إليه مرّة أخرى أنَّ للتعبير الفنّي أثرًا إيجابيًّا عندما ينتشلنا من المشاعر المزعجة فضلًا عن مواجهتها والغرق فيها.
أمّا المزيّة الأخرى، فتتجلَّى عندما ينير لنا الفنُّ طريقًا لفهم مشاعرنا السلبيّة. تساءل الفلاسفة عن سبب رغبتنا في الفن المصبوغ بألوان المعاناة، وفي الوقت نفسه رغبتنا عنه في حياتنا اليومية. إذنْ لمَ نحبّ لوحة بورتريه شخصيّ لرامبرانت، حيث يظهر فيها كهلًا شاردَ الذهن، وقلقًا، وذا طلعةٍ حزينة؟ هل لأننا نستمتع بشعور الحزن الذي تثيره فينا هذه اللوحة؟ حاولت ثاليا گولدستين -إحدى طالباتي السابقات في مرحلة الدكتوراة وأستاذة مساعدة في جامعة جورج ميسن في ڤيرجينيا- التفريقَ بين الحزن الشخصي والحزن الناتج عن الفن. طلبت من عدة أشخاص تقييم شعورهم بالحزن والقلق الناتج عن ذكرى حزينة، ثمّ فعل المثل بعد مشاهدتهم مشاهد سينمائية مأساوية. شعر المشاركون بدرجة الحزن نفسها في كلتا التجربتَين، ولكن صَاحَبَ القلقُ الحزنَ الناتج عن الذكرى الشخصية. أمّا الحزن الآخر فكان نقيًّا غيرَ مشوبٍ بالقلق البغيض؛ لأنّ المشاركين تعاطفوا مع الآخر.
طرح عالِم النفس وينفريد منينگهاوس نموذج «التقبّل البعيد»، حيث ناقش سبب انجذابنا للفنّ الذي يستحضر المشاعر السلبية؛ إذ إنها تأخذنا من تلابيبنا، وتزيد من سطوة العاطفة، وتجعل الفنّ ذكرى مؤثّرة لا تنسى، (والشعور بالتأثر ممتع). حين نعرف أننا نعيش الفن، وهو شكل من أشكال الخيال، نبقى في محيدٍ عن المشاعر السلبيّة، ونحاول التحكّم بها. علاوةً على ذلك، يدعونا الفنُّ لتقبّل هذه المشاعر؛ لأنها تُحَسُّ في بيئةٍ آمنة، حيث لا عواقب فعليّة تؤثر على حياتنا. مع ذلك، نعرف أنه خيال، أو كما قال عالم النفس بول روزن: «مازوخيّة حميدة» في سياقٍ آمن. عندما نتقبّل المشاعر السلبيّة، يمكننا تأمّلها وفهمها فهمًا أفضل.
صحيح أنَّ الفن جيّد لصحتنا العامة، لكن هل يجعلنا نتعاطف تعاطفًا أكبر؟ إنْ وضعنا الفنَّ في عالم الفنان، أوليس هذا شكلًا من أشكال التعاطف؟ يثير هذا الادّعاء من ناحيةٍ إشكالًا، حيث يعني أكثر من مجرد ربطٍ بعالم الفنان، ويعني من ناحيةٍ أخرى العطف بدرجةٍ أكبر (أو موافقة سياسات متعاطفة) نتيجة وضعنا مكان الآخر.
هذا الادعاء مقبولٌ عندما نرى فنًّا يظهر الجور والظلم. على سبيل المثال، نحت الفنان البريطاني لوك جيرام شخصًا نائمًا (مصنوعًا من زجاج) على ورقٍ مقوّى تحت غطاءٍ بلاستيكيٍّ في إحدى ضواحي مدينة بريستول. يحتمل أنه يريد رفع مستوى الوعي تجاه التشرّد، وحثّ الناس على التصرّف. وتصوِّر لوحة «گورنيكا» لبابلو بيكاسو (1937)، الخراب الذي صبّته قنابل الألمان على هذه البلدة الإسبانية. ولا ننسى لوحة گويا «الثالث من مايو/أيار» (1814)، عندما صوَّر إعدام جنودٍ إسبان تحت بنادق جيش نابليون المُحتلّ. هل تجعلنا هذه الأعمال دُعاة للسلام؟ وهل يجعلنا بورتريه رامبرانت -المُسِن- أكثر عطفًا تجاه كبار السنَّ؟
توصيف 2: زائر يتأمّل لوحة گورنيكا لبابلو بيكاسو (1937)، في متحف الملكة صوفيا المركزي الوطني للفنون في مدينة مدريد. صوَّرها دينس دويل.
توصيف 3: الثالث من مايو/أيار 1808: إعدام حماة مدريد (1814). رسمها فرانتشسكو دي گويا.
ينطبق هذا الادّعاء على الفنون كافّة، لا سيَّما السردية منها، كالسينما والمسرح والأدب. أعربت الفيلسوفة مارثا نوسباوم في إحدى المقابلات عن إيمانها بقدرة الأدب على تعزيز التعاطف الإنساني؛ لأنه يضعنا مكان الآخر. وتُفصح العبارة المكتوبة في مسرح سان فرانسيسكو: “مسرحنا صالة رياضيّة للتعاطف، حيث نتمرّس فيها على العطف، فنعبر هذه الأبواب حاملين في ثنايانا التجارب الإنسانيّة الكبرى راجين أن نكون مجتمعًا أفضل”. يقول عالِم الأعصاب من جامعة ستانفورد والباحث في دراسات التعاطف جميل زكي أنّه “مهما تعدَّدت أشكال الفنّ فإنّ العاطفة هي النتيجة، فمتى رأيتَ إنسانًا يُجلد أو ينوح؛ شعرت به”.
تذكّر الفرضية العامة أنَّ قراءة الأدب ومشاهدة الأفلام والمسرحيات تمرّسنا على التعاطف؛ إذ نضع أنفسنا مكان الآخرين المختلفين عنَّا غالبًا، وهذا بحدّ ذاته يجعل الآخر إنسانًا. يتفق الفيلسوف ريتشارد رورتي في كتابه: «العرضية، والسخرية، والتضامن» (1989)، فيشير إلى عدّة كتب تناولت موضوع الاضطهاد؛ منها روايتَا: «كوخ عمّ توم» لهارييت بيتشر ستو (1852)، و«البؤساء» لڤيكتور هوگو (1862). ويقول: متى عرف القرّاء ما يخلّفه الظلم؛ صاروا أقلّ قسوة. يُقال: لمَّا التقت بيتشر ستو بالرئيس أبراهام لنكِن عام 1862، قال لها: «إذنْ أنتِ تلك المرأة الصغيرة التي ألَّفت كتابًا أقام هذه الحرب العظيمة». لا يهم إن كانت هذه الحادثة حقيقية أم لا، ولكنها تظهر الإيمان بقدرة الأدب على تغيير ما في النفوس.
الاعتقاد القائم أنَّ قراءة الأدب يجعلنا أفضل وأكثر تعاطفًا اعتقادٌ صحيح، فلا يخفى علينا أننا تعطافنا تعاطفًا قويًّا مع شخصيات خياليّة. يبقى السؤال عن قدرة الفن على تغيير ما بأنفسنا حين نغلق رواية ما أو نغادر المسرح؛ نظرًا لأنه يزيد العطف والتعاطف تجاه الآخرين. إذنْ، هل نشعر أننا دفعنا رسوم التعاطف عندما نغادر عالَم الخيال؟
أجريتُ دراسة بحثية غير منشورة بالتعاون مع رويان زينگ -طالب متفوّقٍ في كلية بوسطن-، تدعم هذه الدراسة الفرضية التي تقول: إنّ سرديّات المعاناة تزيد التعاطف، ولا تقلِّل منه. شارك فيها 114 طالبًا، تحت عنوان: «دراسة في تأثير القراءة». وجب على المجموعة الأولى قراءة كتاب: «عزيزتي أمريكا: مذكرات مواطن غير شرعي» (2018) لهوزيه أنطونيو فارگاس. تستحضر هذه المذكرات ذكريات المؤلف في حداثة سنّه في الفلبين، حين أُرسل ليعيش مع أقاربه في الولايات المتحدة طمعًا في حياةٍ طيّبة. لكنه عاش أزمة هُويّة بعدما عُرف أنه مهاجر غير شرعي. فيما قرأت المجموعة الأخرى معلومات واقعية عن مأساة المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة فحسب.
أكمل الجميع قبل القراءة استبانة من ثمانية أسئلة تقيس شعورهم تجاه المهاجرين غير الشرعيين. على سبيل المثال، من 1 إلى 5 هل تتفق مع عبارات كهذه:
1- يجب إجلاء الشباب الذين عاشوا طفولتهم دون أوراق رسمية، ثمّ يجب عليهم الانتظار للدخول الشرعي مهما كانت ظروف ديارهم ومهما طال الانتظار.
2- الغالب ألَّا خيار للعائلات المسحوقة مِمَن يرسلون أطفالهم للولايات المتحدة؛ هربًا من شدّة الظلم والجوع والخوف.
صار لكل شخص درجة لشعوره. أكمل المشاركون الاستبانة نفسها حالَ انتهائهم من القراءة، ومرّة أخرى بعد انقضاء شهرٍ واحدٍ.
لا فرق بين درجة المجموعتَين قبل القراءة. لكن بعد القراءة، قفزت درجات مجموعة المذكّرات قفزةً تشير إلى دعمٍ أكبر للسياسات التي تتعاطف مع المهاجرين غير الشرعيين، بينما لم يتغير شعور المجموعة الأخرى. لاحظنا تراجعًا إحصائيًّا في مجموعة المذكرات بعد انقضاء شهر واحد، حيث قاموا بالرجوع إلى ما كانوا عليه قبل القراءة، فلم يعد هناك فرقٌ واضح بين المجموعتَين.
هذا التراجع ليس غريبًا عند قراءة كتابٍ واحد. إنه لمن الصعوبة تغيير مواقف الناس، فمن الحماقة الإيمان بقدرة كتابٍ واحدٍ على التغيير. من الجليِّ أنَّ عدة قراءات (وربما نقاشات عن هذه القراءات)، ستترك أثرًا أبقى. المشكلة الأخرى انحياز أكثر المشاركين تجاه الهجرة غير الشرعية؛ إذ زاد هذا الانحياز عند مجموعة المذكرات فقط. لكن هل نستطيع تغيير مواقف الناس ممن يحسّون بشعورٍ سلبي قبل القراءة؟ هذا ما سنعرفه لاحقًا -ونحن الآن نجري هذه الدراسة-، ومن المؤكد أنَّ إثبات ذلك سيكون صعبًا.
إنَّ التعاطف سيجعلنا أكثر عطفًا، لكننا نستطيع فعل النقيض. يحذّر بول بلوم أنَّ معرفة شعور شخص آخر يجعل بعض الناس أفضل في معرفة طريقة إيذاء الآخرين، فلا ننسى أنَّ النازيّين المجرمين أحبّوا الفن والأدب والموسيقا. صحيح أنَّ الفنَّ يمكنه زيادة عطفنا وتعاطفنا، لكن لا ضمان له. ينبغي لنا مقاومة أيّ أفكار مبنيّة على رغبات تجاه الفنّ إلا بشهاداتٍ داعمة لهذه الرغبات.
إنَّنا منجذبون للفن لأسبابٍ عديدة، أهمّها خوض تجربة ارتباطنا بعالَم الفنان. لكن ينعدم هذا الاحتمال إن أُخبرنا أنَّ حاسوبًا ما أو مزيِّفًا ما أو مساعدًا ما أنتج هذا الفنّ؛ حيث سنشعر بالغضب والإحباط. أمَّا تفاعلنا مع الفنّ، فقد أُثبت أنَّ لإنتاجه أثرًا إيجابيًّا على المزاج، وأنَّ التأمّل فيه يتيح لنا التعامل مع المشاعر السلبيّة تعاملًا آمنًا يؤدي إلى تجربةٍ ممتعة نظرًا لتأثيره. ولكن هل للتعاطف الذي نشعر به تجاه الفنان -تجاه رامبرانت المُسِن، أو تجاه شخصيات خيالية مثلًا- القدرة على تغييرنا بعد أن نغادر المتحف أو ننهي رواية أو فيلمًا؟ ومثل كثير من الطرق التي لا تفضي إلى شيء، سيبقى فيض من تلك الأسئلة متعطشًا إلى إجابة.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.