حاورته: بلقيس الأنصاري
الكاتب والباحث والشاعر والناقد القدير الأستاذ محمد العبَّاس، رسم بخطابه النقدي لوحة بانورامية للنقد الثقافي المتجاوز للنصّ، من خلال تعامله المباشر مع الحياة المجتمعية، وتأمّله للمشهد الثقافي، وخروجه بقراءاتٍ نقدية، تثري وترصف الطريق إلى الوعي بأهمية فهم الفِكر/الخِطاب الفردي ونتاجه.. ولاستقراء معجمه النقدي الخاصّ يسعدنا ويشرّفنا استقباله لإجراء هذا الحوار..
1- «من أكبر أخطاء الناقد توهّمه بأنه يمثّل سُلطة ذوقية ومعرفية». من هذا المنطلق، وبما أن النقد عملية تفكّر وتأمّل، ما التعبير الخاصّ الناتج عن تأثير العمل الإبداعي على الحسّ النقدي، هل العمل الإبداعي هو تحديّ للنقد، وأين تكمن الصعوبة النقدية في السينما مقارنةً بنقد الفنون الأخرى كوسائل تعبيرية لمخاطبة المتخيّل عن الحواسّ؟
فكرة تموضع الناقد كوسيط ما بين منتج العمل الأدبي الفني ومتلقيه أصبحت اليوم من الماضي، خصوصًا بعد ظهور الدراسات الثقافية، التي ألغت ما يُعرف بحكم القيمة. وهو مآل حتميّ منذ أفلاطون -بصفته الناقد الأوّل- وصولًا إلى نقّاد المدونات. حيث تفتت كل مظاهر السُلطة على النصّ في الوقت الذي بُشِّر فيه بعصر القارئ. إلاّ أن ذلك كلّه لم يحد من الممارسة النقدية التي ازدهرت كمناهج ونظريات وصارت أكثر اقترابًا لكل المنتجات الأدبية والفنية. وعندما نتحدث عن الحسّ النقدي فإننا نتحدث عن حسٍّ ذوقي عام يصبح رائجًا في حقبةٍ ما من الحقب، مقابل الحسّ النقدي الممنهج الذي لا يستسلم للسائد وغالبًا ما يسجل اختراقات في الذائقة والوعي الفني والأدبي.
وهنا تكمن صعوبة مقاربة الفنون البصرية بوجهٍ عام ومن ضمنها السينما على وجه الخصوص؛ إذ أُخذت من كل الفنون المُتعارف عليها؛ ومن ثمّ تأسَّس الفيلم على التماسّ مع كافة الحواسّ، الأمر الذي يحتم مقاربته بكل الحواسّ، فالحديث ليس عن قصة أو أسلوب أو مجاز، بل عن مزيجٍ من الرسائل النصيّة وما تحتها، وعن تقنياتٍ تعبيرية فائقة الدقة، وعن الصورة التي تمثّل حقلًا خصبًا للتأويلات.. وهكذا.
2- متى يجب على النقد أن يجدد مفاهيمه بغض النظر عن تطور المتن، وهل يُمكن لأعمالٍ خالية من التجديد النوعي والتجريبي في اشتغالها الفنّي/النصيّ/التقني أن تحفز النقد الإبداعي، أم أنّ الناقد سيجد نفسه يُقدِّم للجمهور أشياء متجاوزة للمتن الأدبي/السينمائي؟
النقد يتعامل مع المنتجات الفنية والأدبية باعتبارها مادة خام، بغض النظر عن منسوب التجريب فيها أو غرائبية تركيبها، أو حتى تقليديّتها. ولا شك أنّ الأعمال الفارقة هي التي تحفز النقد للتورط في مقاربتها، فهي تشحذ أدوات الناقد وتتحدى تصوّراته الاعتيادية، كما تهبه الفرصة لاختبار قدراته. وهو مسار يؤكد على التناغم البنيويّ ما بين المنجز الفني الأدبي والنقدي؛ لأن النقد لا يعمل في الفراغ، ولا يمكن للتنظير بمعزلٍ عن عملية الإنتاج أن تؤدي إلى التفاعل الخلاّق الذي يحتاجه أيّ مشهد.
3– باعتبار النقد أساسي في حضارة الصورة التي نعيشها اليوم، كيف ساهم العقل النقدي في عصر الصورة، في تطوير الاستخدام السمعي والبصري لإبراز القِيم الجوهرية الأكثر وعيًا للعمل السينمائي، وكيف مكَّن المُشاهِد من استنباط أفكاره الخاصة عن الفيلم من خلال شرعنة ما يبدو فنيًّا مختلفًا ليغدو مقبولاً ومقدَّرًا؟
تميل الدراسات إلى أنّ حضارة اليونان هي حضارة الفلسفة، وحضارة العرب هي ابنة الكلمة، أمّا حضارة الغرب -التي نعيشها اليوم- فهي لحظة الصورة؛ ولذا لم يكن من المستغرب كثافة الدراسات النقدية حول مفهوم الصورة، كما نظَّر لها ريجيس دوبريه مثلًا في (ميديلوجيا الصورة). ثمّ الانتقال من حقل الصورة الساكنة إلى عصر الصورة السائلة، المتمثّلة في الأفلام. مع ملاحظة أنّ السينما هي الفن الوحيد الذي ظهر في ظلّ الرأسمالية وارثًا ومستحوذًا على كل الفنون المعروفة منذ القِدم. وفي هذا المنعطف كان لا بد من دخول النقّاد -ورثة الفلاسفة- لمفهمة الأبعاد الواقعية والرمزية للأفلام، حيث كتب جيل دولوز مثلًا كتابه الشهير بجزئيه: (الصورة-الحركة)، و(الصورة-الزمن). بالإضافة إلى قائمةٍ طويلة من الدراسات المعرفية والجمالية تناوب عليها كلّ من: إدجار موران (نجوم السينما)، ولوي دي جانيتي (فهم السينما-السينما والأدب)، ودانييل فرامبتون (الفيلموسوفي-نحو فلسفة للسينما).. وغيرهم.
4- «فيلم نولان يصبّ في وظيفة تبييض صورة الوحش أوبنهايمر». باعتبار الفيلم منتج يساهم في إنتاج المقالات النقدية الموازية من خلفياتٍ فنية جمالية وأيديولوجية، ما دور النقد الزائف الناجم عن نيَّة الرفع من القيمة الفنيّة للفيلم في التأثير على التجربة العامة للفيلم بالرغم من انحطاط المضمون والإيديولوجيا؟
الأفلام ليست دائمًا مناصرة للحقيقة والعدالة، بل إنّ هوليوود هي بمثابة مطبخ كبير لتزييف الحقائق وإعادة هندسة المجتمعات، ولها في هذا الصدد تاريخ طويل: في اضطهاد الهنود الحُمر عبر الأفلام، وتقديم مرويَّة زائفة للسُّود في أميركا، وتشويه وقائع الحياة في المعسكر الشرقي ومجتمعات العالم الثالث، ليس على مستوى الموضوع فحسب، بل على المستوى التقني حتى؛ حيث نلاحظ أنّ بعض الأفلام تستخدم الفلاتر المُعتمة المائلة إلى البنيّ الغباري؛ للإيحاء ببؤس الحياة في العوالم التي تستهدفها هوليوود. وهو الأمر الذي يؤكد أنّ للأفلام نزعة أيديولوجية ولا توجد أفلام بريئة من النوايا. ويكفي قائمة هوليوود السوداء إبّان الحقبة المكارثيّة التي طُرد بموجبها كل فنّان له ميول يساريّة.
وبالنسبة لي فيلم (أوبنهايمر Oppenheimer)، من الشواهد الصريحة على إمبريالية السينما؛ حيث اُستخدمت فيه أعلى درجات الإبهار الفني إلى جانب سمعة مخرجه كريستوفر نولان؛ لخداع المُشاهد الذي لا يمتلك ذاكرة أو معرفة. وغالبًا هذا هو حال المُشاهدين من أكلَة البوب كورن، الذين لا يمتلكون الوقت ولا الجهد لفحص رسائل الأفلام. هذا هو ديدن أميركا في تحميل الجمال رسائل متعددة الأبعاد، كما حدث لفيلم ديفيد لين (دكتور جيفاكو Doctor Zhivago)، الذي أدَّى بطولته عمر الشريف بكل كفاءته الفنية، حيث اُستخدم كرسالة مضادة لفكرة الثورة والاشتراكية. وكل ذلك لا ينفي وجود مساحة من الديمقراطية في السينما الأميركية التي سمحت بظهور الفيلم المقتبس عن كتاب جون ريد (عشرة أيام هزّت العالم Ten Days That Shook the World)، للمخرج وارن بيتي، الذي يحكي سيرة مؤسِّس الحزب الشيوعي الأميركي.
5– «السينما تبتعد عن الواقع وتحتكم إلى العقل». باعتبار أنّ الفيلم يجسّد معنىً أكمل وأبعد في مراحله من خلال الأدوار الصحيحة للنجوم بجانب الإدارة الجيدة والنصّ المكتوب بعناية، ما النموذج الأسمى لمعنى السينما الأشمل للمعاني التي تحتويها الحياة والقضايا والقِيم التي يعيش من أجلها الفنّان، وما أثر ذلك في المعنى السينمائي المتجدد؟ أمثلة.
القصص والدراما الإنسانية هي النموذج الأمثل للخطاب السينمائي؛ لأنها تعكس الحياة الطبيعية والواقعية للبشر، ويزدحم خطابها بالمشاعر والقِيم والمعاني والأحاسيس. ومرجعيّتها -في الغالب- الواقعية الاجتماعية بكلّ اشتقاقاتها. وهي حاضرة بقوةٍ في أفلام معظم الدول بما في ذلك السينما الأميركية، التي أنتجت منظومة أفلام رائعة يأتي في مقدِّمتها فيلم (Ordinary People)، وكذلك الفيلم الإيطالي (سينما باراديسو Cinema Paradiso)، والفيلم الياباني (المنديل الأصفر The Yellow Handkerchief)، وكما يتمثّل في جانبٍ هامٍ من السينما الإيرانية. حيث الرهان في هذه الأفلام على النصّ في المقام الأوّل؛ إذ تبتعد قدر الإمكان عن الإبهار والخدع السينمائية، حتى لكأنها منذورة لتقديم بانوراما حياتية صادقة جوهرها المعنى.
6- في سبيل التعامل مع العمل الفنّي بكل عناصره، من خلال اعتماد العلاقة التكاملية لا النديّة بين المخرج والنجم، متى يجب على الناقد/المُشاهد أن يتعامل مع الفيلم كصورة حيويّة كاملة خارج دائرة المخرج، ومتى يجب عليه أن يتعامل معه من باب «الفيلم يشبه مخرجه»، كما يقول تروفو؟
هناك صنف من المخرجين لا يخيّبون أفق التوقّع لدى المُشاهد أو الناقد. وقد بنوا سمعتهم على منجز نوعيّ متراكم؛ لذا نتوقّع منهم على الدوام إنتاج أفلام على درجةٍ من الجودة والجمالية والتأثير كالمخرج اليوناني ثيو أنجلوبولس مثلًا. إلاّ أنّ هذا الميثاق لا يعطينا الحقّ في التعامل مع مُجمل أفلام المخرج كمنظومة نوعية متكاملة، بل علينا النظر إلى كل تجربة بمعزلٍ عن الأخرى. مع الحفاظ على أفق التوقّع لأسلوب هذا المخرج أو ذاك. ولذلك أتوقع وأحبُّ أسلوب اللقطات الشاعرية الطويلة عند ثيو أنجلوبولس، وأتعامل معها بمثابة ميثاقٍ بيني وبينه. وهذه حالة من حالات التشابه ما بين المخرج وأفلامه، كما أنها إحدى مفاتيحي لمقاربة أفلامه على اعتبار أنّ البطء وإطالة اللقطة أحد أدواته؛ لإشباع المُشاهد بالقيمة الجمالية، وهي بصمته الأسلوبية التي يفارق بها غيره من المخرجين.
7- «الفيلم لا يُشاهد بشكله الصحيح إلاّ في صالة السينما». باعتبار أنّ ما يُعرض من أفلامٍ يمثّل السينما، ما سبب غياب التنوع النوعيّ فيما يُعرض من أفلامٍ في السينمات المحلية، لمَ لا تُعرض الأفلام المختارَة في المهرجانات السينمائية العالمية الكبرى كـ: البندقية، كان، برلين.. إلخ، وما أثر ذلك على الناقد الذي يتحيّن الفُرص ليُشاهد فيلمًا ما وعلى ذائقة المُشاهد على المستوى الفني المحلي؟
عندما نشاهد صورة للوحةٍ من لوحات سلفادور دالي فإنَّنا في الواقع لا نشاهد اللوحة بل التكوين العام للوحة، وهذه تجربة بصرية ناقصة. وكذلك عندما نستمع إلى سمفونية لبتهوفن عبر الآيبود فإنَّنا لا نستمع إلاّ للخطوط اللحنية العامة للسمفونية، كذلك الفيلم عندما نشاهده على شاشة التلفزيون يفقد الكثير من خصائصه السينمائية مقارنةً بما نشاهده على شاشة السينما. هذا على المستوى الفني.
أمّا على المستوى الموضوعي فالأولى أن نشاهد ذلك التنوع السينمائي العالمي بدل الانغماس في موديل السينما الأميركية، التي صارت تهدد ذائقة المشهد وتؤثِّر بشكلٍ سلبي على صناعة السينما. إذ من حقّ المُشاهد أن يحظى بفرصة مشاهدة كافّة المدارس الفنية وكسر احتكار النمط الهوليوودي. وبالمقابل يستحقّ الفيلم المحليّ فرصة العرض في صالات السينما المحلية وعدم الاكتفاء بعرضه في المهرجانات.
وإذا كانت التجارب مخيبة حتى الآن بالنسبة للأفلام غير الكوميدية إلاّ أنها يمكن أن تسجل اختراقات لاحقة مع التراكم والإصرار؛ إذ في النهاية تمثّل وجهة نظرنا للعالم.
8- «الثقافة التي تتخثّر في حقبةٍ زمنية تموت». استنادًا إلى أهمية الكلمة مقارنةً بالوصف ما بين الإيديولوجيا والصيرورة، هل تعتقد بأنّ كسب ذائقة الجمهور ما زالت صعبة، أم أنّ الصورة قد درّبته باعتبار الجمهور اليوم صنيعة إعلامية، وما تأثير الموروث السلبي للصورة على ذلك؟
كل ثقافة لا تتحرك إلى الأمام تفقد فاعليتها بما في ذلك الحداثة التي قد تنتهي صلاحيتها إذا ما تمّ التعامل معها كأيديولوجيا صلبة. أمّا إذ عُوملت كصيرورة فستكون عامل حركة وتجديد، ومن ثمّ يمكن أن تهب الجمهور طاقة تذوّق الأعمال الأدبية والفنية. وبمقتضى هذا الوعي بفكرة الحداثة يمكن تفتيت سطوة الإعلام الرامي إلى تنميط الذائقة؛ وهذا ما يجعل فكرة الحداثة ثقافة مساءلة للموروث لا مجرد حالة انسياق مع مُمليات الصورة.
9- باعتبار السينما الأوروبية وليدة التقشف، إلى ماذا يعود ميل المخرج المحليّ الشاب للمنحى السينمائي الأوروبي وليس الأميركي بالرغم من توفّر الدعم والإمكانات المادية للإنتاج السينمائي المحلي اليوم، أم أنّ طفرة السينما في الأوساط المحلية ما زالت خارج نطاق الإنتاج المؤسَّسي؟
بتصوّري، الصناعة السينمائية المحلية تميل إلى المدرسة الأميركية أكثر لأسبابٍ يأتي في مقدِّمتها التشبُّع من مشاهدة الأفلام الأميركية. وبصورةٍ أدقّ يميل العاملون في السينما المحلية إلى أنماطٍ محدودة من السينما الأميركية، المتمثّلة في الكوميديا الهزلية مثلًا.
وعلى الرغم من توفّر الدعم إلا أنّ المشكلة تقع في مكانٍ آخر. أيّ في عصب الأفلام وهو النصّ؛ حيث تفتقر معظم الأفلام إلى السيناريو المكتوب باحترافية. وهي الوصية التي أكَّد عليها المخرج الفريد هتشكوك: «السيناريو، ثمّ السيناريو، ثمّ السيناريو».
وهناك اليوم مؤسسات كثيرة داعمة للصناعة السينمائية، ولكن للأسف المخرجات ما زالت متواضعة. وربما احتاج الأمر إلى مراكمة الخبرات والمزيد من التجريب للحصول على نصابٍ سينمائيّ مُقنع.
10- «للأسف نسبة كبيرة جدًا من منجزنا السينمائي لا يشبهنا». ما سبب تعَالي صِيغ بعض الأفلام التي تحمل عبق التراث في صيغٍ حديثة تجعل من التراث مرتكزًا لحكايةٍ حضرية، من خلال سرد الأزمة الراهنة كنقطة التقاء بين التراث والحضارة، ومتى تعتقد بأنّ الإغراق في الرمزية يشكّل عبئًا في الدلالات المباشرة والبناء المنطقي للفيلم بين الهوُيّة والغرائبية؟
المسألة لا تختصر في استدعاء التراث، بل في الوعي بمنطلقات الصناعة السينمائية. إذ يلاحظ أنّ العاملين في السينما في حالة اندفاعٍ نحو أنماطٍ سينمائية بعيدة جدًا عن الواقعية الاجتماعية التي تشكّل خزان الهُويّة وسِمات المكان. كما أنهم في حالة خصامٍ مع الأعمال السردية من القصص والروايات التي تتطلب كُتّاب سيناريو على درجةٍ من الخبرة والكفاءة؛ ولذا نلاحظ أنَّنا ما زلنا في المرحلة (المناحيّة) المُستمدة من الملامح الكاريكاتورية لشخصية «مناحي»؛ حيث الأفلام الكوميدية التهريجيّة، التي تساهم في توطين صورة الأبطال ذوي الملامح (الدرباويّة) بكل رثاثتها الشكلية وارتداداتها المضمونية. في الوقت الذي تغيب فيه (سينما القضايا)، وهو اتجاه على درجةٍ كبيرة من الأهمية.
وأعتقد أنّ السينما هي إحدى الأدوات المُهمة لصيانة الهُويّة وعرض اللوحة الاجتماعية العريضة عوضًا عن التجريب والغرائبية والهزليات التي قد تنجح مؤقتًا في شبّاك التذاكر، لكنها لا تراكم التجربة السينمائية ولا تخلق وعيًا اجتماعيًا بقيمة السينما.
11- «الدراما التلفزيونية هي أكثر أشكال الفنّ قُربًا للمجتمع». باعتبار أنّ تناول العمق الإنساني في السياق الاجتماعي هو اللغة الفنية المفهومة/المقدّرَة التي ترقى لذائقة الجمهور، هل تعتقد بأنّ الأعمال الدرامية التي نالت استحسان الجمهور في الموسم الفائت: «الهرشة السابعة»، «سفر برلك»، «الزند: ذئب العاصي»، «النار بالنار».. ستلفت انتباه صُنّاع الدراما للتركيز على الكيف لا الكمّ في ما يُنتج للموسم الدرامي القادم؟
كل الأعمال المذكورة حقَّقت النجاح بسبب موضوعاتها أوَّلًا ثمّ الإتقان الفني في تنفيذها. ولذا حين يقول نورثروب فراي بأنّ الدراما ترقى إلى مستوى النظام الاجتماعي، فإنه لا يبالغ؛ لأنّ الدراما سجل اجتماع يُؤرِخ للظواهر ويرصد التحوّلات. وهذا هو مصدر قوة تلك الأعمال التي كانت شكلًا فنيًا من أشكال الفكر، ووسيلة لترجمة التصوّرات المجردة إلى علاقات إنسانية.
وفي كل موسم لنا وقفة مع أعمال تحقِّق هذه المعادلة، ولكن للأسف الدراما المحلية دائمًا خارج السباق؛ نظرًا لانشغال صُنّاع الدراما التلفزيونية بالمسلسلات والبرامج الهزلية التي تعتمد على الاسكتشات التهريجية، ومن ثمّ نفقد قدرتنا على تجسيد روح الحياة. وأتمنَّى أن نسارع بانتاج أعمالٍ درامية تضعنا على خارطة الإبداع.
12– برأيك، ما الضرورة القصوى لإعادة الترجمة لنصٍّ ما المرّة تلو الأخرى بجانب إغفال ترجمة نوادر لم تترجم من قبل، ما الذي يستفيده عموم القرّاء من تشابه مخرجات دور النشر، حين يُصدم القارئ العربي يترجماتٍ متزامنة لرواية «مزرعة الحيوان»؟
ليس كل ما يُكتب يستحقّ الترجمة. وقد انتشرت في السنوات الأخيرة ترجمات لأعمالٍ عادية جدًا؛ بسبب الاعتقاد بأن كل ما ينتجه الآخر يستحقّ القراءة والترجمة، وكذلك بموجب ميثاق قراءة ما بين القارئ العربي ومنتجات الآخر الأدبية. وبالمقابل هناك أعمال عظيمة تستحقّ الترجمة ويحتاجها القارئ العربي ولكنها لم تُترجم؛ لصعوبتها أو لعدم وجود المترجم أو المؤسسة القادرة على تحقيق هذا الأمر.
ولذا لاحظنا مؤخرًا تصدي دار (معنى للنشر والتوزيع) لترجمة كتابٍ على درجةٍ كبيرة من الأهمية وهو كتاب (المقالات)، لميشيل دو مونتيني بأجزائه الثلاثة، كما تصدَّت دار (أدب للنشر والتوزيع) لكتابٍ طالما حلمنا بقراءته وهو كتاب (العلم الجديد)، لجيامبا تيستافيكو. وما زلنا نأمل ترجمة منظومة من النوادر الهامّة.
أمّا إعادة ترجمة بعض الكتب فأعتقد أنها ضرورة ثقافية؛ لأن الترجمات المُبكرة أُنجزت ضمن ظروف أقلّ جودة من اللحظة الحاضرة، حيث تطورت الترجمة اليوم ضمن أفق ثقافي أكثر انفتاحًا، أتاحت للمترجم التعرُّف على شفرات النصّ وشروط انتاجه. ومن حقّ أيّ دار نشر أن تراهن على صدقيّة ترجمتها وفرَادتها خدمة للقارئ.
13- «إنّ أغلب الروايات الآن تعتمد على الحافز، حيث هو الوقود للشخصية». من منطلق دوافع الكتابة الروائية الحديثة، إلى أيّ مدى ساهم الأسلوب السردي للواقعية المبتذلة في تحوّل الرواية من كونها مرآة للطبيعة والمجتمع إلى اعتبارها مرآة للإنسان الحديث، وإلى أيّ مدى ساهم الشكل الأدبي الجديد هذا في ابتذال «فنّ التأمّل الارستقراطي»؟
هذا السؤال يستدعي تصوّر جيرالد برنس للبناء الروائيّ. فعندما نقول: مات الملك. فهذا مجرد خبر. أمّا عندما نقول: مات الملك مقتولًا. فهذا يستلزم وجود قاتل أيّ شخصية، ووجود دافع، ووجود حبكة.. وهكذا يتسلسل البناء الروائي. وهذا التكوين السردي هو صناعة دنيوية يؤلّفها كاتب ما للتأكيد على مجموعة أهداف وحقائق، يقدِّم من خلالها اللوحة الاجتماعية بكل تشابكاتها الأخلاقية والسياسية والثقافية؛ لذا جاءت الرواية كمرآة للإنسان الحديث، كوريث مضاد للملحمة التي كان أبطالها أنصاف آلهة وأنصاف بشر، ولم يكن للحسّ الدنيوي فيها أيّ نصيب. ومن ذلك المنطلق تحركت الرواية في آفاقٍ واسعة ومتعددة من ضمنها الواقعية بكل أشكالها كـ: الواقعية الاجتماعية، والواقعية الفجَّة، والواقعية الهستيرية.. وغيرها من الأنماط.
14– «دور المحرِّر الأدبي يرتبط مباشرةً بتجويد العمل بحرفيّة العمل الذي تقدّمه دور النشر». انطلاقًا من الدور التاريخي المُهم في الثقافة الغربية لعمل المحرِّر الأدبي من خلال دعم كِبار الكتّاب وتقنين المنتج وتهيئته للنشر، برأيك لم لا يزال الوعي بثقافة المحرِّر الأدبي غير فعّال في بعض دور النشر العربية وذلك باعتماد الكاتب/المترجم محرِّرًا ومن ثمّ نشر الكتاب بلا تحرير؟
المحرِّر الأدبي كلفته عالية جدًا. وهو جزء من صناعة النشر الاحترافية التي يفتقدها العالم العربي. كما أنّ الكاتب العربي ما زال يعاند وجود ذلك المحرِّر الذي يرافقه أثناء كتابة عمله أو يحرِّر ما كتبه. وستظلّ هذه الأزمة قائمة إلى أن تتغيّر معايير النشر.
15– «الكثير من الكتب السيئة تصنع أفلامًا رائعة، لكن أغلب الكتب الرائعة تصنع أفلامًا سيئة»، انطلاقًا من قول الناقد السينمائي الكبير روجر إيبرت -الذي أصبح قاعدة هوليوود-، ما الدور الذي يلعبه المخرج ما بين إخراج عمل رائع والالتزام بالكتاب الذي يقتبس عنه، وما الدور الذي يلعبه الناقد السينمائي ما بين تقويم الفيلم كعمل فنّي وجودة تحويل الكتاب إلى فيلم؟ أمثلة على ذلك.
النقّاد يقترحون الروايات لتتحوّل إلى أفلام، ولكن ليس بالضرورة أن يؤخذ بآرائهم. إلاّ أنّ بعض شركات الإنتاج توظف النقّاد في هذا المجال؛ باعتبارهم الأكثر متابعة للإصدارات، والأقدر على فحص الأعمال الأدبية، في كافّة أنواع السرد كـ: القصص الواقعية، وقصص الخيال العلمي، والقصص البوليسية.. وغيرها.
أمّا مقولة روجر إيبرت فما أعرفه أنها جاءت في سياق الحطّ من قيمة بعض الأفلام التي لا تستثمر مُمكنات الروايات القوية. وتاريخ السينما يزدحم بالأعمال القصصية التي تحوّلت إلى أفلام. ففي الوقت الذي نجح فيه المخرج ديفيد فينشر في تحويل قصة قصيرة للكاتب الأميركي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، بعنوان: (الحالة المُحيرة لبنجامين بتن The Curious Case of Benjamin Button)، لم يتمكّن المخرج جان جاك أنود من تحويل رواية عظيمة وهي (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو إلى فيلمٍ عظيم. وفيما نجح فيلم توم تيكوير (العطر: قصة قاتل Perfume: The Story of a Murderer)، المقتبس عن روايةٍ بنفس الاسم لباترك زوسكند، لم ينجح فيلم مايكل كورماك نيويل (الحبّ في زمن الكوليرا Love in the Time of Cholera)، المأخوذ عن روايةٍ بنفس العنوان للروائيّ الشهير غابريل غارثيا ماركيز، كما حقَّق فيلم فرانسيس فورد كوبولا (العرَّاب The Godfather)، المقتبس عن رواية ماريو بوزوا نجاحًا مذهلًا.. وهكذا.