مفارقاتُ الحياة | زاك ويبيريس

ترجمة: رضا زيدان – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
حين يفشل المنطق في فهم عالَمٍ مشوَّش بعدم الاتساق؛ يُقدَّم المنطق المتجاوز للاتساق حلولًا ممكنة/مستحيلة.
إليك معضلة قد تألفها. تتطلّب الحياة الحسَنة من ناحية، الأمن والأمان والانتظام، وقد يعني هذا العائلة، أو الشريك، أو الوظيفة المستقرة. وتتطلب من ناحيةٍ أخرى خبرات جديدة، ومخاطرة، واستقلالية حقيقية، بطرقٍ لا تتوافق مع العائلة أو الشريك أو الوظيفة. نجد في حياتنا المُعتادة أنْ تحقيق التوازن بين هذه المطالب قد لا يبدو أمرًا صعبًا فحسب، بل مستحيلًا تمامًا؛ إذ نشعر أنَّ متطلبات الحياة الطيبة ليست صعبة فحسب؛ بل تعارض مطالب الحياة الطيبة أحيانًا. كتبت الروائية جورج إليوت George Eliot (1)، عام 1876، أنَّ «الخبرة الإنسانية تكون متناقضة عادةً paradoxical».
يتمثّل أحد أهداف الفلسفة في مساعدتنا على فهم make sense حياتنا، والمنطق طريق من الطرق التي حاولت الفلسفة بها المساعدة في هذا الصدد. ربما يكون المنطق الصُوري مقاربة حرفية بإفراط، فكان حاصل «الفهم» رموزًا رياضية صارمة. لكن لا تكون حياتنا مفهومة أحيانًا، ولا حتى عندما نفكر فيها مليًّا بتدقيقٍ شديد. أين المنطق إذن؟ ماذا لو كان العالَم أحيانًا بلا معنى حقًّا؟ ماذا لو كانت هناك مشكلات لا يمكن حلّها باتساق؟ نشأ المنطق الصُوري كما نعرفه اليوم من المشروع الذي ساد خلال تنوير القرن السابع عشر، وهو الخطة العقلانية لفهم العالَم رياضيًّا. والافتراض الأساسي لهذه الخطة هو أنَّ العالَم معقول، ويمكن فهمه: فهناك أسباب معقولة للأشياء، وقدرتنا العقلية ستكشف لنا هذه الأسباب. فقد افترض رينيه ديكارت في كتابه: الهندسة La Géométr (1637)، أنَّ العالَم يمكن الإحاطة به بشبكةٍ دقيقة متداخلة بدرجةٍ كبيرة، بحيث تُختزَل الهندسة في التحليل. واقترح باروخ سبينوزا في كتابه: «الأخلاق» Ethic (1677)، رؤيةً دقيقة للطبيعة ومكاننا فيها، حيث يمكن ترجمتها إلى براهين. وتصوَّر غوتفريد لايبنتز في سلسلة مقالاتٍ كتبها عام 1679، لغة صُورية قادرة على التعبير عن كل فكرة مُمكنة برموزٍ محددة بوضوحٍ وذات بُنية صلبة -الطابع العالمي characteristica universalis-، تخضع للقواعد الجبرية الدقيقة، ما يسمح لنا بإيجاد الإجابات، أيّ: الاستدلال المنطقي لحساب التفاضل والتكامل calculus ratiocinator.
لقد كانت أحلام العقلانية عظيمة، لكنَّ الأحلام رخيصة. الشيء المذهل في سلسلة الأحداث هذه أنه إبّان مطلع القرن العشرين، بدت طموحات لايبنتز قريبة التحقّق بسبب التقدّمات الدرامية في العلوم، حتى إنَّ عالم الرياضيات المؤثِّر ديفيد هيلبرت David Hilbert، كان يقترح شيئًا معقولًا عندما جعل الافتراضَ العقلانيَّ عقيدةً، عام 1930، إذ قال: «يجب أن نعرِف، وسنعرِف». لقد استندت عقيدة هيلبرت جزئيًّا إلى النجاحات المدهشة لعلماء المنطق، في أواخر القرن التاسع عشر، حيث حفروا في قلب الرياضيات البحتة -الهندسة، ونظرية المجموعات، والحساب، والتحليل الحقيقي-؛ للعثور على اليقين المطلَق للصحة الاستدلالية. إذا كان من الممكن فهم المنطق نفسه على نحوٍ صارم، فإنَّ مشروع ابتكار نظرية كاملة ومتسقة للعالَم -أو على الأقلّ، الأساس الرياضي لها، يبدو ممكنًا- طريقة للإجابة على كل سؤال «من أجل شرف فهم الإنسان لـ نفسه itself»، حسب تعبير هيلبرت.
لكن حتى عندما كان هيلبرت يعلن عقيدته ويفصِّل خططه لحلّ مسألة القرار Entscheidungsproblem -فيما يتعلّق ببناء ما نسمّيه الآن حاسوبًا، يمكنه أن يقرِّر آليًا صحة أيّ جملة أو زيفها- لم يكن كل شيء مواتيًا. وفي الواقع، استمرّ هذا الوضع لفترةٍ ما.
كان هراء.. تبين ببضعة أسطرٍ قصيرة أنَّ عمل فريجه الذي أفنَى فيه حياته كان إخفاقًا
تلقَّى المنطقيّ غوتلوب فريجه، عام 1902 -وهو على وشك الانتهاء من إنجاز عُمره-، رسالة مشؤومة من برتراند راسل. كان فريجه يعمل على إيجاد أساسٍ لرياضيات المنطق البحت؛ لاختزال الأسئلة المعقدة المتعلّقة بالحساب والتحليل الحقيقي إلى السؤال الأساسي المتعلّق بالصحة الصُورية والمنطقية. وإذا كان هذا البرنامج المعروف باسم: «المنطقانية logicism» ناجحًا، فإنَّ اليقين الواضح للاستدلال المنطقي -أيّ: الصحة التي لا مفرّ منها لاستنتاجات الاشتقاقات السليمة- سوف يتسرّب، إن جاز التعبير، إلى كل الرياضيات (وأيّ مجال آخر يمكن اختزاله إلى الرياضيات).
في عام 1898، ابتكر فريجه «ترميزًا مفاهيميًّا concept notation» أصليًّا للمنطق الكمّي لهذا الهدف بالتحديد، واستخدمه في كتابه: «القوانين الأساسية للحساب Basic Laws of Arithmetic» (مجلدان عن الرمزية المثيرة للإعجاب، نُشِرا عاميّ 1893- 1903). تقاسم راسل هذا الهدف المنطقيّ مع فريجه، وذكر راسل في رسالته إلى فريجه ما مفاده أنّه أحبَّ كتابه الأخير حبًّا جمًّا، لكنه لاحظ للتَو شيئًا غريبًا، فقال: «يبدو أنَّ إحدى المسلّمات axioms الأساسية التي بنَى عليها فريجه كل جهوده فيها تناقض».
لقد افترض فريجه ما أسمَاه: «القانون الأساسي الخامس Basic Law V»، الذي يقول: «المجموعات sets هي مجموع الأشياء التي تشترك في خاصيةٍ ما». فمثلًا، تتكّون مجموعة كل المثلثات من كل المثلثات فقط. بدا هذا واضحًا بما يكفي لكي يفترضه فريجه حقيقة منطقية بديهية. لكن راسل أظهر من القانون الأساسي الخامس أنَّ نظام فريجه يمكن أن يثبت عبارة صورتها P وليس-P، بوصفها مبرهنة. وهو ما يُعرَف بـ: متناقضة راسل Russell’s Paradox: «اجعل R هي مجموعة لكل الأشياء التي لا تكون عضوًا ذاتيًّا». (على سبيل المثال، مجموعة المثلثات ليست بحدّ ذاتها مثلثًا، ومن ثمّ هي an R). ماذا عن R نفسها؟ إذا كانت R في R، فهي ليست كذلك بحكم تعريفها، وإذا كانت R ليست في R، فإنها كذلك بحكم التعريف أيضًا. لا بد أنّ تكون R إمَّا هذا وإمَّا ذاك، ومن ثمّ فإنّ كون «R في R»، و«R ليست في R» -أيّ: عضوة في نفسها، وليست عضوة في نفسها- يمثّل تناقضًا.
الحقيقة أنّ النظام برمته غير متسق، ومن ثمّ كان -من وجهتيّ نظر فريجه وراسل- غير معقول. كان هراءً. وتبيّن في بضعة أسطرٍ أنَّ العمل الذي أفنَى فيه فريجه حياته كان إخفاقًا. سيواصل فريجه العمل عقدين آخرين، لكنَّ مشروعه الجليل قد دُمِّر. وسيقضي راسل أيضًا العقود التالية في محاولةٍ للتصالح مع اكتشافه البسيط، حيث كتب أوّلًا عمله الخالد والمعيب في الوقت نفسه: «مبادئ الرياضيات Principia Mathematica» (ثلاثة مجلدات، 1901-1913)، مع ألفريد نورث وايتهيد، ثمّ ابتعد في النهاية عن المنطق دون أيّ حلّ فعليّ للمشكلة. وتمرّ الأعوام دون إيجاد حلّ مُرضٍ تمامًا، رغم محاولة بعض أفضل العقول في العالم للتغلب على التناقض الذي وجده راسل.
بداية سنة 1931، استخرج عالِم المنطق الشابّ: كورت غودل، متناقضة مماثلة من نظام راسل نفسه، إذ وجد غودل عبارة: «إذا أمكن إثبات صحتها أو زيفها -أيّ: إذا كانت قابلة للبتّ فيها- فستكون غير مستقلة». تُظهر براهين عدم الاكتمال لغودل أنّه لا يمكن أن يكون هناك نظرية عن العالم كاملة ومتسقة وقابلة للحساب، ولا حتى مجرد أعداد، فأيّ نظرية كاملة وقابلة للحساب ستكون غير متسقة. وهكذا، فإنَّ المشروع العقلاني التنويري من لايبنتز إلى برنامج هيلبرت، قد تبيّن أنّه مستحيل.
أو هكذا تقول السردية القياسية. لكنَّ الدرس الذي مغزاه إنكار أيّ فهم كامل للعالَم الذي نعيش فيه، لا بدَّ من قبوله على ما ينطوي عليه من صعوبة. لقد مرّ ما يقرب من قرنٍ أو أكثر على هذه الأحداث، وهذه الفترة مليئة بالتطورات الجديدة والمُبتكرة في المنطق، ويعتقد بعض الفلاسفة والمناطقة أنَّ الوقت قد حان لإعادة التقييم.
إذا كان العالَم مكانًا مثاليًّا؛ فلن نحتاج إلى المنطق. يخبرنا المنطق بما يتبع ما نعتقده من الأمور التي نلتزم بها بالفعل. ويساعدنا المنطق في التغلّب على قيودنا المتمثّلة في قابلية الخطأ والمحدودية. تجد في العالَم المثالي أنَّ العواقب اللانهائية لاعتقاداتنا واضحة أمامنا. فكما قال المنطقيّ روبرت ماير Robert Meyer، عام 1976: «إنَّ الإله ليس بحاجةٍ إلى أيّ حُجج، حتى الحُجج الوجيهة»، فكلّ الحقائق ظاهرة أمام الإله، ولا يحتاج إلى استنتاج إحداها من الأخرى. لكنَّنا لسنا آلهة، وعالَمنا ليس مثاليًّا؛ ومن ثمّ نحتاج إلى المنطق؛ لأننا قد نخطئ، فقد تسوء الأمور، ونحن بحاجةٍ إلى توجيه. إنَّ المنطق هو الشيء الأهمّ لفهم العالَم، عندما يبدو العالَم بلا معنى.
لقد انتهت القصة التي رُويت للتَوّ بالفشل جزئيًّا؛ لأنَّ المنطق الذي استخدمه فريجه وراسل وهيلبرت كان منطقًا كلاسيكيًّا. افترض فريجه شيئًا واضحًا فحصل على تناقض، لكنَّ المنطق الكلاسيكي لا يسمح بالتناقض. وبسبب القاعدة الكلاسيكية القائلة: «إذا كنت تحصل على كل شيء من التناقض (ex contradictione quodlibet)، فإنَّ التناقض الواحد يجعل النظام كلّه عقيمًا». لكنَّ المنطق نظرية للصحة ومحاولة لتفسير الاستنتاجات التي تنتج بالفعل من مقدماتٍ معينة. وكما لاحظ «مناهضوّ استثنائية المنطق»، فإنَّ نظريات المنطق -مثل أيّ شيء آخر في العلم والفلسفة-، قد طوّرها الناس وتجادلوا فيها، و كان هناك خلافات دومًا حول ماهية نظرية المنطق الصحيحة. ومن خلال هذا الجدل المُستمر، اقترح الكثيرون أنَّ التناقض الواحد الذي يؤدي إلى هراءٍ اعتباطيّ يبدو غير صحيح. إذن، ربما تكون قاعدة التناقض نفسها خاطئة، ولا ينبغي أن تكون جزءًا من نظريتنا للمنطق. وإذا كان الأمر كذلك؛ فربما لم يفشل فريجه في نهاية المطاف.
طوّر علماء المنطق على مدى العقود الماضية أنظمة رياضية صارمة، يمكنها معالجة عدم الاتساق لا بالقضاء عليه ولا «حلّه solving»، وإنّما بقبوله. لقد أحدث المنطق المتجاوز للاتساق Paraconsistent logics فرصة جديدة للنظريات التي تبدو صحيحة بثبات تقريبًا (مثل القانون الأساسي الخامس لفريجه)، لكن من المعروف أيضًا أنها تحتوي على تناقضات، مثل العبارات الخام ذات الصيغة «“P و ليس-P». في المنطق الكلاسيكي، هناك خيار صعب، وهو التخلّي عن أيّ نظرية غير متسقة؛ بوصفها غير عقلانية، أو التحوّل إلى صوفيةٍ واضحة. مع هذه التطورات الجديدة في المنطق الصُوري، قد يكون هناك حلّ وسط، حيث يمكن في بعض الأحيان الإبقاء على عدم الاتساق، لا باعتباره أُحجية غامضة، وإنَّما كرؤية عقلانية باردة تمامًا لعالَمنا المتناقض.
هذه هي العقلانية التي تستوعب بعقلانيةٍ بعض اللاّعقلانية الظاهرة
لقد اشتهر المنطق المتجاوز للاتساق بفضل نيوتن دا كوستا Newton da Costa منذ الستينيات، وغراهام بريست Graham Priest منذ السبعينيات. ورغم أنَّ «المنطق المتجاوز للاتساق»، نُظر إليه بدايةً (وإلى الآن) بشيءٍ من التشكك، إلاّ أنّه يمتلك -الآن- رمزًا تصنيفيًّا رياضيًّا رسميًّا (03B53، وفقًا لجمعية الرياضيات الأمريكية)، وانعقد المؤتمر العالمي لتجاوز الاتساق World Congress of Paraconsistency، خمس مرّات منذ عام 1977. يدرس الباحثون الآن هذا المنطق في جميع أنحاء العالم، وهو يحمل إمكانية تحقيق المستحيل، أيّ: إعادة صياغة قوانين المنطق نفسها لفهم موقفنا الذي يبدو أحيانًا بلا معنى. وإذا نجح هذا المنطق، يمكن أن يؤسِّس لنوعٍ جديد من مشروع التنوير، وهو عقلانية تستوعب بعقلانيةٍ بعض اللاعقلانية الظاهرة. ووفق هذا النوع من المقاربات تُدين الحقيقة بالفضل للعقلانية، لكنَّ العقلانية أيضًا في نهاية المطاف مَدينة بالفضل للحقيقة.
قد يبدو هذا محيّرًا بعض الشيء، فلنبدأ بمثالٍ عاديّ جدًّا. افترض أنك تنتظر صديقًا لك. وقد أخبرك أنه سيلتقي بك في الخامسة مساءً. والساعة الآن الخامسة وسبع دقائق. إنَّ صديقك قد تأخر، لكنه لم يتأخر عن الموعد سوى بضع دقائق، ولذا فإنَّ صديقك في الواقع لم يتأخر بعد. هل عليك الاتصال به؟ ربما اتصالك سيكون مبكرًا جدًّا، لكن ربما لا يكون كذلك…؛ لأنَّ صديقك تأخر ولم يتأخر (ما يُنفى عن صديقك ليس هو التأخر ولا عدم التأخر، فمن الواضح أنك تقف منتظرًا له، ومن الواضح أنه لم يصل بعد). وأيًّا ما كان رأيك في هذا، فإنَّ المنطق المتجاوز للاتساق ينصح ببساطةٍ بأنّه في هذه المرحلة يجب ألاّ تستنتج -ولو بشرط- أنَّ القمر مصنوع من الجُبن الأخضر، أو أنّ 2+2=5، أو أنّه ربما بنَى الفضائيون الأهرامات، في النهاية، سيكون هذا مجرد تفكير سيئ.
الآن، المواقف المماثلة لهذا الموقف شائعة حتى إنّه قد لا يعقل أنَّ هناك حاجة إلى نظامٍ خياليّ fancy من المنطق غير الكلاسيكي لتفسير ما يجري. لكن ربما نحن واقعون في التناقضات في حياتنا اليومية؛ لذلك ننجذب باستمرارٍ في اتجاهاتٍ متضاربة متعددة في وقتٍ واحد، بحيث لا نلاحظ أيّ تناقض إلاّ عندما يصبح عدم الاتساق لافتًا للنظر، بحيث لا يمكن تجاهله.
يساعدنا المنطق المتجاوز للاتساق على إيجاد بُنية وسط الضجيج. وأكثر ما يلفت الانتباه ظهور حقل فرعيّ داخل المنطق المتجاوز للاتساق يعنى بتطبيقاته في الرياضيات. وتتمثّل إحدى الأفكار هنا في العودة إلى النظام المهيب لفريجه في كتابه: «القوانين الأساسية Grundgesetze»، وإعادة صياغته بمنطقٍ متجاوز للاتساق. تتطلب المقاربات الكلاسيكية إيجاد سبيل يجعل متناقضة راسل غير قابلة للاشتقاق (كما حاول الكثيرون). أمَّا المقاربة المتجاوزة للاتساق فإنها تقبل التناقض بطريقةٍ واحدة لا تسبب ضررًا (كبيرًا).
اقترح ريتشارد سليفان Richard Sylvan، في أواخر السبعينيات -وهو صاحب تبصّرات مبكرة في الرياضيات اللاتساقية- نظرية من نظريات المجموعات البديهية axiomatic set theory «تجابه المتناقضات». وفي السنوات الأخيرة كان هناك عدة خطوات جيدة في هذا الاتجاه، وإن لم تكن حاسمة. والفكرة أنّه يمكن بهذه الطريقة إعادة أُسس الرياضيات إلى المسار الصحيح من أجل إيجاد يقينٍ لا يتزعزع (إذا كان متناقضًا) في نهايته.
هناك قلق فوري بشأن أيّ مقاربة متجاوزة للاتساق يكمن في كونها تبدو كنوع من الخداع. يبدو أنها تتهرب من العمل الشاق المتمثّل في التنظير الفلسفي أو البناء العِلمي للنظريات. ومفاد هذا القلق الذي عبَّر عنه مؤخرًا فيلسوف العلم آلان موسغريف Alan Musgrave، في ورقته: ضد مذهب تجاوز الاتساق Against Paraconsistentism، (202)، أنّه: «يمكن القول على نحوٍ معقول: إنَّ تنامي المعرفة البشرية كان -ولا يزال- تدفعه التناقضات. وبتعبيرٍ أدقّ، كان -ولا يزال- تدفعه الرغبة في إزالة التناقضات في الأنظمة الاعتقادية المختلفة. فإذا سمح لنا المنطق المتجاوز للاتساق بألاّ نقلق من أيّ نظريةٍ غير متسقة، فلن يكون هناك دافع للتحسين. هناك طريقة أخرى للتعبير عن الاعتراض، وهي أنَّ تجاوز الاتساق يبدو أنّه يوفر طريقة سهلة للخروج من المشاكل الصعبة، طريقة لتجاهل أيّ اعتراض أو دليل مضاد للإبقاء على النظريات المعيبة أو الفاشلة لفترةٍ طويلة بعد أن فقدت اعتبارها. هل تتعارض الأدلة الأثرية مع نظرية الفضائيين-القدماء؟ لا تقلق. هذا مجرد تناقض، وليس تهديدًا للنظرية. ومن ثمّ يبدو أنَّ النقاش العقلاني في مأزق، إن لم يُدمَّر تمامًا».
يشير هذا الاعتراض المنهجيّ إلى بعض الافتراضات الفاعلة تحت السطح في نظرياتنا العلمية والفلسفية، من عصر التنوير وما قبله. كثيرًا ما تكون اثنتان أو أكثر من النظريات المتنافسة لتفسير بعض البيانات المُعطاة. كيف نقرّر اعتماد أيّ واحدة منها؟ هناك تقرير قياسي قدَّمه توماس كون عام 1977، مفاده أنَّنا نزِن كثيرًا من المزايا النظرية، والاتساق منها، نعم، لكن هناك أيضًا العمق التفسيري، والتوافق مع الأدلة، والأناقة، والبساطة، وما إلى ذلك. على نحوٍ مثالي، قد يكون لدينا كل هذه الأشياء، لكن سوف يُنحَّى معيار، مثل معيار البساطة جانبًا إذا فاقه معيار القوة التنبؤية مثلًا. وينطبق الأمر نفسه على الاتساق، كما يقول المناطقة القائلون بتجاوز الاتساق، مثل: غراهام بريست، وريتشارد سليفان.
المنطق الكلاسيكي يسمح بتمرير العديد من البراهين، عندما يجب عدم تمريرها
إنَّ أيَّ مزية من المزايا النظرية تكون مزية بقدر ما تطابق مع العالَم فقط. على سبيل المثال، تكون النظرية الأبسط أفضل من النظرية الأعقد، عند تساوي كل الأمور الأخرى. لكن نادرًا ما تكون «كل الأمور الأخرى» متساوية، وكما يشير الناس من أرسطو إلى ديفيد هيوم، فإنَّ النظرية الأبسط تكون أفضل فقط بقدر ما يكون العالَم نفسه بسيطًا. فإذا لم يكن كذلك، فلا أفضلية لها. ومن ثَمَّ فإنَّ مزية أيّ نظرية معينة تتعلّق بتطابقها مع العالَم. لكن إذا كان العالَم نفسه غير متسق، فإنَّ الاتساق ليس مزية على الإطلاق. إذا كان العالَم غير متسق -إذا كان هناك تناقض في قعر المنطق، أو في قعر وعاءٍ من الحبوب-، فمن المؤكد أنَّ النظرية المتسقة ستغفل عن شيءٍ ما.
إذن ما الذي يدفع التقدّم في الحالات التي قد نقرّر فيها أنَّ النظرية غير المتسقة مسموح بها؟ هناك العديد من الطرق التي قد تكون بها إحدى النظريات أفضل من الأخرى. في كثير من الحالات، سيفوز الاتساق (مثلًا، صديقك لا يصل عند 5: 12 و 5: 20)، وأفضل نظرية لديك عن انتظار الصديق أنه ينبغي ألَّا تقول: «إنَّ صديقك لا يصل في هذين الوقتين». لكنَّ هذا الاختيار للنظرية يتعلّق بحقائق متعلّقة بالأشخاص والوقت أكثر من تعلّقه بالاتساق المنطقي. إنَّ استخدام عدم الاتساق باعتباره عاملًا شاملًا -كما يفعل المنطق الكلاسيكي- يبدو -للمنطقي المتجاوز للاتساق- كأنه تجنب فظ للغاية للعمل الجاد الحقيقي، أيّ: التفكير في الأمور على أساسٍ فردي. سأل بريست وسليفان عام 1983، السؤال التالي: «كيف لنا إذن أن نحدد ما إذا كان تناقض معيّن في سياقٍ معيّن مقبولًا عقلانيًّا؟»، هناك حلّ بسيط: «من الإجابات الأوليّة أنَّنا في هذه المرحلة نحتاج إلى النظر في كل نوعٍ من الحالات بناءً على مزاياه».
هناك إجابة أكثر تعلّقًا بالواقع على مشاغل موسغريف المنهجية -وتحذيرًا لأيّ شخص يغريه التناقض كنوع من التمرير الحُرّ-، وهي أنَّ العمل ضمن نطاق المنطق المتجاوز للاتساق يُصَعِّب الأمور، ولا ييسرها. ففكرة تجاوز الاتساق هي أنَّ المنطق الكلاسيكي يجعل كثيرًا من الحُجج صحيحة، ويمرِّر العديد من البراهين عندما لا ينبغي ذلك؛ فتُزال هذه التصحيحات والبراهين من الآليّة المنطقية. وهذا يزيد صعوبة استخلاص النتائج في إطار عملٍ غير اتساقيّ؛ نظرًا لوجود عددٍ أقلّ من المسارات الاستدلالية المتاحة. قد يجد الشخص الذي يسعى إلى نظريةٍ غير اتساقية تقول بالفضائيين-القدماء: إنَّ بناء حُجج صحيحة في نظامه الجديد «الأكثر تساهلًا»، يمثّل تحديًا كبيرًا حتى إنّه لا يستحق الجهد.
وهذا يشير إلى بعض المشاكل العملية الجادة لمذهب تجاوز الاتساقية، والتي ظهرت منذ اُقتُرح هذا المذهب. ربما لم يعد فريجه ملزمًا بالقلق من أن تؤديَ متناقضة راسل إلى أن يكون 0=1 في نظريته. لكنَّ فريجه يريد أيضًا أن تثبت نظريته أنَّ 1+1=2، وأنْ تدعم العمليات الحسابية الأوليّة الأخرى. قد يبدأ فريجهّ المتجاوز للاتساق في القلق؛ لسببٍ وجيه، وهو أنَّ هذه النتائج الحقيقية لم تعد قابلة للاشتقاق أيضًا. واعتمادًا على آرائك بشأن دور المنطق في الرياضيات، فإنَّ هذه المسألة التي تسمَّى أحيانًا: «الاسترداد الكلاسيكي classical recapture»، تمثّل مشكلة خطيرة. لقد طرح سليفان فكرة «إعادة تأهيل» الرياضيات، باستخدام تجاوز الاتساق – محاولة إعادة إنماء regrow الحقائق الراسخة، بدلًا من الطريقة التي يمكن بها إعادة تأهيل النظام البيئي المتضرِّر. حتى اليوم لم يُنفَّذ قدر كبير من مشروع سليفان. وقد كان العمل على هذه المشكلة من أكثر الحقول نشاطًا وتحديًا في البحث المتجاوز للاتساق.
كيف سيبدو المشروع العقلاني المُعاد تأهيله؟ أثبت غودل أنّه لا يمكن أن يكون هناك نظرية تجيب عن كل سؤال بطريقةٍ متسقة وقابلة للحساب. والحكمة السائدة أننا سوف نحتاج إلى التعامل مع نظريات غير مكتملة أو غير قابلة للحساب (المحصلة نفسها لفكرة عدم الاكتمال إلى حدّ كبير؛ لأنّه وإن كان هناك إجابة، فليس لدينا طريقة فعّالة للوصول إليها). تتمثّل إحدى الطرق المتجاوزة للاتساق للمضيّ قُدمًا في البحث عن نظامٍ له قواعد دقيقة وفعّالة، وهو النظام الذي يُجيب عن كل سؤال في النهاية -أيّْ: وصف كامل للعالَم (أو على الأقلّ الجزء الرياضي)-، لكنه أحيانًا «يفرط» في الإجابة عن السؤال، قائلًا: نعم ولا معًا؛ لأنّه قد تكون الإجابة أحيانًا: نعم ولا معًا.
إنَّ القلق العميق بشأن تجاوز الاتساق -بعيدًا عن المسائل المنهجية المتعلّقة بالتقدّم العلمي أو المشاكل العملية المتعلّقة باستنباط البراهين- يكمن فيما يعنيه فلسفيًّا قبول رؤية للعالَم تتضمن بعض الزيف (حيث تعني كلمة «الزيف» هنا وجود نفيّ حقيقي). كيف يمكن قبول نظرية زائفة؟ وإذا كانت مقبولة أو يمكن أن تكون مقبولة، فهل هناك -بمجرد انتهاك قدسية الاتساق- أيُّ أرضية صلبة بعد؟ إذا كان الزيف ممكنًا، فربما يكون كل شيء ممكنًا، وليس على نحوٍ جيد. ربما هذا هو ما يشير إليه موسغريف، بقوله: «النظرية غير المتسقة لا تقدّم تفسيرًا جيدًا لأيّ شيء». وإن صحَّ هذا، فإنَّ أيّ مشروع تنويري مُستعاد متجاوز للاتساق، سيكون انتصارًا باهظ الثمن، أو أسوأ من ذلك. يجب الإقرار بأنَّ التفسيرات التي تقدّمها نظرية غير متسقة قد لا تبدو كما توقّع الفلاسفة التقليديون. لكنَّ توقعات الفلاسفة التقليديين لم تتحقَّق، والواقع أنه قد قدَّم لنا غودل إثباتًا رياضيًّا على أنها لن تتحقَّق أبدًا. في الوقت نفسه هناك أنواع أخرى من التفسيرات القيّمة أمامنا مباشرة. وكما قال شرودنغر: «المُهمة ليست أن ترى ما لَم يَره أحد قبلك، وإنّما التفكير فيما لم يفكّر فيه أحد بَعْدُ حول ما يَراه الجميع».
ماذا لو وَجَدَ فتغنشتاين ما كان يبحث عنه ولم يتعرَّف عليه؟
نُشِر عام 1921، كتاب لودفيغ فتغنشتاين الشابّ: «رسالة منطقية فلسفية Tractatus Logico-Philosophicus»، بعد إنجاز كبير مشروط من راسل بكتابه: «مبادئ الرياضيات»، لكن قبل مبرهنات غودل التقييدية. وقد أعلن فتغنشتاين في مقدِّمة الكتاب أنه حلّ كل مشاكل الفلسفة. ويتقدّم في مسيرته إلى هذا الاستنتاج من خلال تسلسلٍ صارم من القضايا المرقمة، ويبدو كأنه يحدد طبيعة المنطق، وما يمكن أن يحقَّقه المنطق، و الأهمّ من ذلك ما لا يمكنه تحقيقه. وفي النهاية وصَلت مسيرته إلى الساحل -إن جاز التعبير-، حيث يمكننا النظر إلى اتساع المحيط، رغم أنَّ المنطق لن يأخذنا إلى أبعد من ذلك. حدود المنطق عند فتغنشتاين تعني أنَّ ما هو مهم حقًّا في الحياة، يمكن إظهاره ولكن لا يمكن قوله، إذ يقول: «يكمن حلّ لغز الحياة في المكان والزمان خارج المكان والزمان». لكنه يضيف: «اللغز غير موجود». وهكذا، يضطر فتغنشتاين إلى استنتاج أنَّ كل حديثه عن الإظهار والقول والألغاز غير مشروع أصلًا. نعم، «هناك في الواقع أشياء لا يمكن التعبير عنها بالكلمات… إنّها ما هو صوفيّ»، لكنَّ الصوفيّ نفسه مستحيل منطقيًّا، وهو تناقض لا معنى له. يجب أن يعترِف فتغنشتاين بأنَّ كتابه الجميل كلّه كان -بمنظور فتغنشتاين- هراءً، وأنَّ مشاكل الفلسفة لم تُحَلّ بقدر تجاوزها في صمت.
كان فتغنشتاين يبحث -مثل كثيرين- عن نقطةٍ أرخميدية، مكان «خارج» العالَم. وهذه الرؤية ستكون رؤية من المنظور الأبدي sub specie aeternitatis (تعبير مستعار من سبينوزا). وكان يعتقد أنّه من هذا المكان فقط يمكن تفسير العالم. إنَّ فتغنشتاين يناقض نفسه حتى في سعيه لصياغة ذلك؛ لرسم حدود ما يمكننا فهمه، وهذا التناقض لا مفرّ ىمنه. لقد وجد فتغنشتاين تناقضًا، تمامًا كما فعل فريجه وراسل وغودل عندما حاولوا وضع نظرية كاملة. واعتبر هذا نوعًا من الإخفاق. ولكن ماذا لو وجد ما كان يبحث عنه ولم يتعرَّف عليه؟ ربما شعر فتغنشتاين -مثل الكثيرين- أنّه مدفوع لاتخاذ اختيارٍ زائف بين التصوّف الذي يُوجِد معنى شموليًّا للعالَم، لكن لا يمكن صياغته، وبين نظرية عقلانية صارمة ودقيقة لكنها يجب أن تكون غير كاملة وغير كافية إلى الأبد.
إنَّ هذا الاختيار زائف إذا كان من الممكن أن يكون هناك نظرية للعالَم توفر هذين البديلين. ليس لمذهب تجاوز الاتساق اليوم مثل هذه النظرية، لكنه يحمل إمكان توفيرها يومًا ما أم أنَّ ذلك سيتعذر، وقد طُبّق مؤخرًا على رؤى عالمية دينية (طبّقها بريست على البوذية، وطبّقها جي سي بيل Jc Beall على المسيحية). ربما يكون المغزى الذي يجب استخلاصه أنَّ النقطة الأرخميدية الفلسفية في نهاية مشروع التنوير يجب أن تكون في العالَم وليس في العالَم. وقد كتب فتغنشتاين المتأخِّر: «القضية التي تتناقض مع نفسها، ستقف مثل تمثال تذكاريّ (برأس يانوس Janus) (2)، فوق قضايا المنطق».
إذا كنَّا نعيش في عالَمٍ غير متسق ذي تناقضات بدايةً من أُسس الرياضيات إلى الأمور العادية، مثل مواعيد العشاء، فإنَّ منطقه سيترك مجالًا للزيف والشكوك والخلافات. وهذا الحاصل شيء كان يلحّ عليه لفترة ما كثير من الفلاسفة من خارج التقاليد التحليلية والمنطقية. وكما قالت سيمون دي بوفوار: «دعونا نحاول افتراض غموضنا الأساسي… المرء لا يقدّم أخلاقًا إلى إله». لن يحتاج الإله إلى منطق، ولا حتى منطقًا متجاوزًا للاتساق، لكن ربما نحن من نحتاج إلى هذا المنطق.
الهوامش
1- اسم قلمي، للروائية ماري آن إيفانس Mary Ann Evans، وهي من اختارت هذا الاسم المذكّر (المترجم).
2- يانوس: إلهٌ لهُ وجهان في الميثولوجيا الرومانية، وجهٌ ينظر إلى المستقبل، ووجهٌ ينظر إلى الماضي (المترجم).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.