“إذا أصَختَ السمع “للأوقات”، فستتعلّم أنّها تخبرك بصوتٍ خفيض لا أن تتحدث باسمها، بل أن تصمت به.”
_ موريس بلانشو، كتابة الكارثة.
تتحدّى معالجة غابرييل تينتي لمذكرات الانتحار التي عُثر عليها، كلمات أخيرة، قارئها أن يكون شاهدًا. والواقع أنّني كافحتُ الرغبة العارمة التي اعترتني لوضع الكتاب جانبًا بدلاً من إكمال النص حتى نهايته. إن حقيقة إثارة كتاب كلمات أخيرة لهذا التحول الغرائزي ضد المشاهدة يعبر عن مجموعة من حالات الإحباط العلائقيّة التي يواجهها كاتبوها بيأسٍ بالغ.
يُعتبر كلمات أخيرة كتابًا مُروِّعًا، بمعنى أن النص يتطلب وجود مُشاهدة، ولكنّه يرفض في الوقت ذاته الدخول. يتمحور موضوع الكتاب حول الانتحار، وهو موضوعٌ مُعضِل ولا سبيل لمعرفته، وغير قادر على الإجابة أو التحدث عن نفسه. وهكذا، يتعيّن على القارئ أن يشغل هذا الدور: الشهادة، وهو دور -في حالة كلمات أخيرة– محكوم عليه بالفشل منذ البداية، لأن الملاحظة ما هي إلا تفكير بأثر رجعي يسبق فعل الانتحار نفسه. وفي كل مرة يحاول فيها المرء مواجهة الصدمة، يجد نفسه إزاء مفارقة التمثيل representation والقيود limitation. وفي كتابَة الكارثة، يكتب بلانشو عن الخطاب العلائقي للكتابة الذاتية قائلًا:
أن يكتب المرء سيرته الذاتية، إمّا من أجل الاعتراف أو الانخراط في تحليل الذات، أو من أجل أن يكشف نفسه كعملٍ فنّي، فيكون محطّ أنظار الجميع، لهو ربّما سعيٌ نحو البقاء على قيد الحياة، ولكن من خلال انتحارٍ مستمر؛ موت كلّي بقدر ما هو متشظٍّ. أن تكتب عن ذاتك يعني أن تتوقف عن الوجود من أجل ائتمان ضيف -الآخر، القارئ- فتعهد بنفسك إليه، والذي سيجعل من تلك اللحظة أمر انعدام وجودك بمثابة التزام على عاتقه، بل بمثابة هدفٍ لحياته.
تعمل العلاقة بين الكتابة الذاتية والانتحار على إضاءة المفارقة المأساوية الموجودة في قلب هذه الرسائل، حيث أن الفعل ما قبل الأخير المتمثّل في الكتابة يشكّل دعوة ورفضًا في آن واحد.
وبصفته وصِيًّا، يحتفظ تينتي بمسافة موضوعية بينه وبين النصوص. فمن بين رسائل الانتحار السبعين المعروضة هنا، يرتبط ثلثاها تقريبًا بالعنوان و/أو السياق. وفي واحدة من هذه الرسائل، كتب صاحبها “أرجوك، افعل شيئًا”، في حين كُتب ببساطة في أُخرى: “سامحني”. كلا الكاتبين، حتى في لحظاتهما الأخيرة، يحاولان الوصول لآخر من خلال اللغة، في حين تعالج غالبية الرسائل العزل الاجتماعي والعائلي والرومانسي مباشرة: “فلتغرقوا في مسلسلاتكم الواقعية reality shows”، “أنا مُشرّد، وعاطلٌ عن العمل، ومُفلس”، “المكان موحشٌ هنا”، “شعرتُ بوحدةٍ بالغة حتى وأنت معي”، “لم يستمع أحد”. يبدأ التكرار المواضيعي بالظهور: الصدمة بسبب الخيانة الرومانسية أو الجنسية، والعوز الاقتصادي، والعزلة التي تحوّلت إلى وحدةٍ لا تُطاق، والعبث الوجودي وعدم القدرة على إيجاد معنىً كافٍ، وفشل النفعية، والمرض والإنهاك البدني، والامتنان والتكفير المسبق عن التمرد والجنوح، ومحاولاتٍ استباقية للابتعاد باستخدام السخرية والفكاهة.
يشكّل المشهد الحميمي لـ كلمات أخيرة جوهر التحدي المتمثّل في التعاطف empathy -قرار الدخول إلى ذاتيّة الآخر- ومع ذلك، فإنّ غياب الشخص المُعاني/ المتألّم يعكس للقارئ نُكران الوعي البشري ورفضه وهشاشته. تتطلب صفة التعاطف هنا من القارئ السير عبر رفضها الخاص من أجل التعرض لتصدّع أو لصدمة. لذا فالصدمة هنا لا تشير إلى مكان العودة الذي يمنح أمل الوصول النهائي، بل إلى لا مكانٍ من العودة المستمرة مع وجود احتمالية للوصول المحدود. يتطلّب ترتيب تينتي مواجهات لا نهائية؛ ليس بالانغماس أو الإلحاح في المحاولة حتى الوصول للإتقان، بل بالاستعداد للعودة من أجل الاستيعاب.
وتقدّم سلسلة من الصور الفوتوغرافية المأخوذة من السلسلة الواقعية “المشرحة The morgue “ للمصوّر اندريه سيرانو وقفة شعرية (caesura) بصرية في منتصف الكتاب. توثق هذه الصور تشريحًا مقرّبًا للغاية لأجساد أولئك الذين ماتوا منتحرين، وتترك أثرها من خلال الإيحاء، فصورة “الانتحار بالشنق” مثلًا تقدّم صورة مُقرّبة ليد شخص. تزيد صور سيرنو من تعقيد مقصد كلمات أخيرة، وذلك بعدم عرضها لأي مواءمة واضحة أو سهلة الإثبات بين كاتبي الرسائل ومواضيع الصور.
وماذا عن التحرير؟ تبقى الأسئلة المتعلّقة بمنهجية تينتي هي: إلى أي درجة من المعالجة خضعت هذه الرسائل؟ ما مدى كثرة أو قلة النص الأصلي الذي أخضعه تيتني للفرز والفصل؟ ما هي القرارات التي أثرت في اختيارات المؤلف، وكيف حصل على هذه المصادر؟ إن عدم وجود إجابات لهذه التساؤلات يثير إشكاليات حول الوظيفة التمثيلية للكتاب. يستحيل على القارئ تبيان ما إذا كان أي من هذه الرسائل قد خضع لتعديلات، بالرغم من أنه يفترض اقتران العديد منها بمواد تعريفية، مثل أسماء المتوفين والمرسل إليهم أو الموقع أو التوقيت. تواجه كل رسالةٍ القارئَ بإغفال للهوية حفاظًا على خصوصية كاتبها، ولكنها مع ذلك لا تكشف أي شيء يخص عمليّة الاختيار. وفي مقدّمة الكتاب، يكتب تينتي قائلاً:
في كلماتٍ أخيرة، أتجول حول مقبرة أولئك الذين لم يُكملوا الطريق… الرجال الذين ينتهي بهم المطاف بالتفكير في الانتحار بأكثر الطرق تنوعًا ولأكثر الأسباب تنوعًا… ما ينبثق هو تمثيل لتجربة الموت التي اختبرها كل أولئك الأشخاص أثناء توصيلهم له. تجربة لشيء آخر غير الموت الجسدي.
ومع أن الكتاب يعتبر بورتريهًا تمثيليًا، فإنّ ما يظل مجهولاً حقًّا هو التجربة نفسها، وبدلاً من ذلك، تميل الرسائل نحو الإشارة إلى كل شيء عدا الفعل المقصود نفسه. أظهرت الأبحاث أن نسبة الذين يتركون رسائل عند انتحارهم قد بلغت 15-20% فقط. يقدّم كلمات أخيرة لمحة سطحية عن ظاهرة الانتحار، في ظل الأغلبية الصامتة التي لم تترك أي رسائل. ومع ذلك، يبدو أن الرسائل تعتمد على الاعتقاد بأن اللغة قادرة على الشهادة، وبهذا المنظور، ربّما يكون الكتاب تنويريًا للغاية. تعكس الرسائل مسألة التواصل فيما يتعلّق بالظروف والعلاقات والحالات العاطفية والإدراكيّة والديموغرافيات، وتنقل عبارات مذهلة في تعبيرها عن الوحدة والإرهاق والألم والارتباك.
إنّ ما يدعونا إليه غابرييل تينتي وكتابه كلمات أخيرة يعتمد اعتمادًا كبيرًا على استعداد القارئ لتجاوز شهوة التلصص أو الفضول المَرَضي. بدلاً من ذلك، تسكن قُدسيّة كلمات أخيرة في دور الشّاهد المؤلم والصامت. تعد النصوص تذكيرًا بحيويّة فعل الكلام نفسه وأهميّته، ويبقى الخطاب هنا فعل إرادة، وفعل دعوة، وأخيرًا، فعل رفض. يُستحسن بنا أن نميّز لغة الأحياء في هذه الرسائل، فلربّما تمكّنا من الرد عليها.