– تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
ماذا لو لم تكن العواطف عالميّة ومتأصِّلة بل تصرفات مُتقنة ذات معنىً خاصّ بالسياق والثقافة؟
في المرّة الأولى التي شاهدتُ فيها فيلم «قلبًا وقالبًا» (Inside Out)، الذي أنتجته استوديوهات بيكسار عام 2015، فُتنت جدًّا بحرفيّته لدرجة أنني لم أدرك وجود شيء غريب، بل شِبه مخيف، في الشخصيات البشرية التي تظهر بالفيلم. لقد سحرتني رايلي الصغيرة، بطلة الرواية، والمخلوقات الثرثارة التي تتقافز حول رأسها. ويضمّ الفيلم شخصية الفرح (Joy) وهي نسخة مشاكسة من شخصية تِنكر بيل (1) لها شَعر أزرق قصير وتتصفّ بالتفاؤل الدائم؛ وهناك الغضب (Anger) وهو شخص قصير ذو شَعر أحمر لامع وعينان كفتحتين في وجهه وتتفجر النار من رأسه؛ وشخصية الحزن (Sadness) وهو شخص بدين يرتدي نظارة طبية؛ أمَّا الخوف (Fear) فهو نحيل أرجوانيّ اللون ذو حواجب كثيفة يرتدي ربطة عنق، وأخيرًا هناك الاشمئزاز (Disgust) وهي فتاة أنيقة خضراء اللون رموشها الطويلة تبرز من وجهها كما لو كانت مكنسة مصغرة.
تدور أحداث الفيلم داخل عقل رايلي. ومن غرفة التحكّم في عقل رايلي، تقوم عواطفها المتجسِّدة في صورة أشخاص بتشغيل لوحة مفاتيح لها أزرار وأذرع تجعل الفتاة تبتسم أو تَعبِس أو تبكي أو تدفع جسدها إلى العمل، حيث نجدها تارةً تعانق، وتارةً تنتكس، وتارةً تنهار، وأخرى تدوس الأرض غضبًا، وتارةً تصفع الأبواب. والفيلم من نوعية الأفلام التي تتوقع أن تصنعه بيكسار– دراما من الدرجة الأولى ممزوجة بروح الدعابة الساخرة تشترك فيها شخصيات رائعة. ولكن مع كل حركة تمّ تصميمها لتهزّ عواطف المشاهد، لا بد وأن يشعر بغياب شيء ما؛ فوراء عينَيْ الصغيرة رايلي الواسعتَيْن الجميلتَيْن يوجد إنسان آليّ، مجرد دمُيّة تحرّكها مشاعرها.
لو كان الفيلم مجرد خيال، ما كنتُ لأجادل فيه. لكن الفيلم -بعيدًا عن قشرته الخيالية- يروِّج لنظرية سادت في علم النفس لأكثر من خمسين عامًا، وهي التي ترى أنّ بعض المشاعر عالمية وفطرية ومتأصلة في أدمغتنا، فمن الواضح أنّ جميع البشر في كل مكان يعرفون الفرح والحزن والغضب والخوف والاشمئزاز. ونحن جميعًا نعتقد أنه يمكننا التعرّف على هذه العواطف في وجوه الأحبّاء والغرباء والأصدقاء والأعداء. وأصبح هناك ما يُسمَّى بـ «نظرية العواطف الأساسية» التي لا يتمّ تدريسها في الجامعات فحسب بل وتسلَّلت أيضًا إلى كتب علم النفس الشعبي والبرامج الإذاعية وحفلات الكوكتيل، وانتشرت في الوعي العام بوصفها حقيقة لا جدال فيها. وظلَّت النظرية عصيّة على النقد لفترةٍ طويلة، إذ لم يشكّك بها سوى قلّة من الباحثين الذين كان مصيرهم الاستهزاء في التجمعات البحثية أو الرفض من المجلات العلمية.
تعود «نظرية العواطف الأساسية» -التي أطلق عليها بعضُ منتقديها أيضًا: «أطروحة عالمية العواطف»- إلى أواخر ستينيات القرن العشرين، عندما أجرى عالم النفس الأميركي بول إيكمان (الذي تمّت استشارته في فيلم «قلبًا وقالبًا»)، دراسات على مجتمع «الفور» وهو مجتمع للسُّكان الأصليين في بابوا غينيا الجديدة. وأوضح إيكمان أنّ أفراد «الفور» استطاعوا مطابقة صور الوجوه مع التعبيرات العاطفية التي تصوّرها تلك الوجوه -وهي: سعيد، حزين، غاضب، مشمئز، وخائف أو متفاجئ- بدرجةٍ كبيرة من الصواب. ونظرًا لأنّ الأفراد المشاركين في دراسته لم يتعرّضوا للثقافة الغربية سوى بقدرٍ ضئيل، فقد ادّعى إيكمان أنه وجد دليلًا قاطعًا على وجود ستة عواطف أساسية ومتطورة ومشتركة عالميًّا، بل وأنّ كل عاطفة منها تأتي ببرنامج تأثير مميز مرتبط بالدماغ. وعند التعرض لمحفز خارجي، تؤدي هذه الآلية العصبية التي يقوم عليها البرنامج بتفعيل سلسلة من الاستجابات المجهزة سلفًا، منها التغيرات الفسيولوجية وتعبيرات الوجه والميول السلوكية والحالات الذاتية التي نطلق عليها عادةً المشاعر.
وتعتمد «أطروحة عالمية العواطف» على حدسٍ يقول بأننا جميعًا متماثلون في مكانٍ ما في أعماقنا؛ صحيح أنّ الثقافة تُضفي على عاطفتنا بعض التفاصيل، بيد أنه في لحظاتٍ خاطفة تتسرب إنسانيتنا المشتركة إلى المشهد، فيُغرِق الحزن العيون بالدمع ويُجعِّد الفرح الشفاه. ولكن على مدار العقدَيْن الماضيَيْن، كان هذا الرأي هدفًا للهجوم من جانب مجموعة صغيرة ولكنها متزايدة من الباحثين المجددين، إذ يرى هؤلاء الباحثون أنّ العواطف ليست استجابات ماثلة كامنة في أدمغتنا تنتظر أن تطلقها التهديدات أو الفرص. بل يرون أنّ العواطف هي طرق لتنظيم التجربة تتسم بأنها طارئة وموقفية بشدة: أيّ أنها تصرفات متقنة ذات معنى تتشكَّل عبر التفاعل المعقَّد بين الطبيعة والتنشئة. وفي هذه الرواية الجديدة المثيرة -والتي سنسميها: «أطروحة تنوع العواطف»- نجد أنّ ما نشعر به وكيفية شعورنا به وربما حتى احتمال شعورنا به هي أمور لا تعتمد على البيولوجيا فحسب بل على السيّاق أيضًا، بما في ذلك اللغة التي نستخدمها والثقافة التي ننتمي إليها.
اعتبر إيكمان صعوده إلى الصدارة انتصارًا للعلم على السياسة، فقد انحاز في روايته إلى جانب الأدلة ضد ما اعتبره «نسبوية مضلّلة لا تستند إلى أساس». كان من بين مناصريها ثلاثة من علماء الأنثروبولوجيا الأكبر تأثيرًا في النصف الأوّل من القرن العشرين، وهُم: مارغريت ميد، وغريغوري باتسون، وراي بيردويستل؛ فقد كان الثلاثة يؤيدون الفكرة التي ترى أنّ البيئة لا الجينات هي التي تشكِّل هويّة الإنسان، وأنّ الاختلافات بين الناس لا تنبع من الطبيعة، بل من التنشئة. وكانت ميد على وجه الخصوص تؤيد بشدة فكرة الأساس الثقافي للسلوك البشري والشخصية، وهو الموقف الذي دافعت عنه لاحقًا باعتباره موقفًا ضروريًّا في وقتٍ كان يمكن أن يصبح فيه الاعتراف بالاختلافات الفطرية لعبة سهلة في أيدي أنصار الأيديولوجية النازية والداروينية الاجتماعية وعلم تحسين النسل، (وهي المواقف التي تبنّاها النازي).
ولكن إيكمان كان يرى أنّ البيولوجيا لا تُسبِّب التباين الفردي فحسب بل هي أيضًا مصدر للتماثل الفطري بين البشر. وبحسب آلان فريدلوند، عالم النفس الاجتماعي والإكلينيكي في جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، فقد لاقت نظرية إيكمان عن عالمية العواطف قبولًا شديدًا في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث كان العالَم يتدافع نحو الوحدة والسلام، وفي هذا الشأن قال لي فريدلوند: إنّ «الإعلان التجاري الأكثر شهرة في تاريخ التلفزيون كان به أُناس من مختلف الثقافات يرتدون أزياءهم المحلية يقفون على قمة جبل ويغنّون في انسجامٍ تامٍ: “أودّ أن أشتري للعالَم كولا”، فقد كان المزاج العام السائد آنذاك هو أننا جميعًا شعب واحد، وعالم واحد، ويمكننا جميعًا التعايش معًا».
وعلى الرغم من أنّ فكرة «شعب واحد وعالم واحد» كانت تَعِد بالتغلب على التحيز، إلا أنها قد انتهت في نهاية المطاف إلى ما انتهت إليه فكرة «التعامي عن العِرق»، حيث فرضت نموذجًا محدودًا على العواطف الإنسانية يتميز بأنه أنجلوفوني، ورسخت منظورًا غربيًا في البحث، ومحت الاختلافات من المشهد. لكن الآن وبعد توافر بيانات أحدث ومناهج بحثية أكثر تعقيدًا، أضحى هناك تزايد في عدد العلماء الذي يتخلّصون من غمامة العالمية ويرون بدلًا منها تنوعًا رائعًا من الحالات والخبرات التي تغيّر فهمنا لماهيّة العواطف حقًّا.
ماذا لو لم يكن الأشخاص يتعرّفون بالفعل على العواطف بل فقط يعبّرون عن تخميناتٍ مدروسة؟
كان فريدلوند بين أوّل من عارضوا «نظرية العواطف الأساسية»؛ إذ إنه وبعد حصوله على الدكتوراة مباشرة قد عمل مساعدًا لإيكمان، حتى أنهما قد كتبا أوراقًا بحثية مشتركة، ثمّ عمل بعد ذلك في هيئة التدريس بجامعة بنسلفانيا حيث التقى دبليو جون سميث الذي كان يدرس الطيور، وتعلّم على يد سميث وغيره هناك الكثير عن التطورات الحديثة في التواصل مع الحيوانات، وهي التطورات التي زعزعت ثقته في «أطروحة عالمية العواطف» كثيرًا. وأخبرني فريدلوند أن العلماء كانوا ينظرون إلى الحيوانات في السابق على أنها كائنات آلية تحركها الاستجابات «ولم تختلف نظرية العواطف الأساسية التي تبنّاها إيكمان عن تلك النظرة… فقد كانت ترى أن عواطفنا تظهر بسبب تلك المحفزات التي جُبِلنا جميعًا على التأثر بها». ولكن بمرور الزمن أدرك العلماء أنّ الحيوانات تتواصل بطرقٍ بارعة واستراتيجية للغاية، وذلك باستخدام مجموعة من الإشارات التي تتفاوض بها على تفاعلاتها مع غيرها؛ مثل الأبناء والأعداء وأفراد ذات النوع المرغوبة للتزاوج. وأضاف لي قائلًا: «لقد أذهلني أنّ علماء البيولوجيا التطورية قد صدّقوا الحيوانات بقدر أكبر من تصديق أصحاب نظرية العواطف الأساسية للبشر».
لقد ظلَّت أطروحة إيكمان عن «عالمية العواطف» بدون منازع تقريبًا على مدى عقود بعد إنجازه للدراسات الأصلية لها، وهو ما حفّز على ظهور حالة من البحث النشط في المشاعر الإنسانية في مرحلةٍ استمرت حتى يومنا هذا. وبدأ ظهور أولى جوانب القصور الخطيرة في أوائل التسعينيات عندما نشر عالِما النفس أندرو أورتوني وجيمس راسل انتقادان مؤثران جدًّا للنتائج التي توصل إليها إيكمان، فقد قدّم راسل وصفًا مفصلًا للعيوب المنهجية المختلفة في دراسة إيكمان، مثل نموذج الاختيار القسري الذي يكون على المشاركين فيه ربط الوجه الذي يرونه بكلمةٍ تعبّر عن عاطفةٍ معينة من قائمة خيارات محددة أمامهم. وتساءل راسل في هذا السياق: ماذا لو لم يتعرّف المشاركون بالفعل على العواطف التي يختارونها؟ ماذا لو كانوا فقط يُعبّرون عن تخميناتٍ مدروسة؟
خضعت «نظرية العواطف الأساسية» لمزيد من التمحيص على مدار العقد التالي، ولكن وفقًا لعالم النفس كارلوس كريفيللي، كانت هذه المحاولات في أغلبها «نقاشات نظرية»، إذ كان الاختبار النقدي لعالمية المشاعر سيؤدي حتمًا إلى إجراء دراسات على مجتمعات السُّكان الأصليين المعزولة، لضمان ألا تكون أيّ تشابهات تتم ملاحظتها بين الثقافات ناتجة عن التأثير الغربي. ولكن الغريب أنه لم يتم إجراء مثل هذه الدراسات طوال الفترة بين عاميّ 1976- 2008. ولتفسير ذلك قال لي كريفيلي: «في نهاية المطاف، كان إيكمان يقول دائمًا: “حسنًا، لقد كنتُ هناك وأنت لم تكن هناك”». لذلك، عندما طلب عالم الأنثروبولوجيا سيرجيو جاريلو دي لا توريه من كريفيلي أن يرافقه في رحلةٍ ميدانية إلى بابوا غينيا الجديدة، وهي الموقع الأصليّ لدراسات إيكمان، وجدها كريفيللي فرصة لاختبار «الحقيقة المؤسسة» لأطروحة عالميّة العواطف.
لم يكن تحدي نظرية راسخة مثل نظرية إيكمان أمرًا يسيرًا على الإطلاق، لذلك قال كريفيلي: «كان علينا القيام بالدراسة المثالية… دراسة أفضل كثيرًا جدًّا من سابقاتها». سألته عن التفاصيل فابتسم ابتسامة عريضة وقال: «لم أكن أحبّ المغامرة، دعني أخبرك». وعندما يتحدث كريفيلي عن عمله، تتساقط الكلمات منه كما لو كانت على طرف لسانه طوال الوقت في انتظار إشارة لتنطلق، ولا يحتاج إلى التوقف للتفكير أو التقاط أنفاسه، وعندما يحتاج إلى التأكيد على نقطة ما، فإنه يحرك ذراعيه بحماسة، كما لو كان غاضبًا من عجز الكلام عن التعبير.
وصل كريفيلي مع سيرجيو جاريلو دي لا توريه إلى بابوا غينيا الجديدة لأوّل مرّة عام 2013. واستأجرا للرحلة التي يبلغ طولها 200 كيلومتر بين البرّ الرئيس ووجهتهم –وهي جزر تروبرياند– قارب شحن لنقل الهدايا التي اشتراها للسُّكان المحليين (الذين لا يزالون يديرون حياتهم باقتصادٍ يقوم على التبادل). واحتوت الشحنة على «كل ما يمكنك تخيّله» ويمكن الحصول عليه بمبلغٍ يقلّ عن 3000 دولار، من الأواني وأدوات المائدة إلى الصابون والضمادات والباراسيتامول ولفائف القماش ومصابيح البنزين، وهذه الأخيرة هي أفضل ما يمكن تقديمه إلى مكانٍ لا توجد به كهرباء. وعلى الشاطئ، امتدت محتويات القارب على مساحةٍ بعرض عدة أمتار: ساحة خردة للواردات الصينية المبالغ في سعرها، والتي حوّلتها كيمياء الحاجة في هذا الركن من العالم إلى كنزٍ حقيقي.
وعلى عكس الدراسات السابقة التي اعتمدت على المترجمين، تعلَّم كريفيلي اللغة المحلية وانغمس في الحياة على الجزيرة، فقد أراد قدر الإمكان أن يمنع الثقافة الغربية من تشويه رؤيته أو التسلّل بالتحيزات إلى داخل البحث. وباستخدام مجموعة متنوعة من الإجراءات الصارمة في القيام بالاختبارات وانتقاء العينات، أجرى فريق كريفيلي العديد من الدراسات (نُشرت ثلاث منها حتى الآن، وهناك رابعة قيد الإعداد) وألقت هذه الدراسات بظلالٍ من الشك على أطروحة عالميّة العواطف.
أخطأ سُكّان جزر تروبرياند في قراءة وجه «الخوف» (عيون مفتوحة عن آخرها وفم لاهث) واعتبروه وجهًا غاضبًا يهدد
في تجربة نُشرت عام 2016، نجح 7 % فقط من أفراد العينة من سُكان جزر تروبرياند في التعرّف على الغضب بشكلٍ صحيح من الصور التي تمّ عرضها عليهم، وكان أفراد العينة يعتبرون وجه الاشمئزاز المتعارف عليه وجهًا حزينًا أو غاضبًا أو خائفًا في الغالب. ولم يتعرّف المتطوعون على عاطفة السعادة من صورة الوجه المبتسم إلا بأغلبيةٍ ضئيلة (58 %). وعلى النقيض من ذلك، كانت هناك مجموعة ضابطة في إسبانيا عُرضت عليها نفس الصور ونجحت بنسبة 93 % (في المتوسط) في التعرّف على العواطف التي في الصور بشكلٍ صحيح. وفي دراسةٍ أخرى، وجد كريفيلي أن سُكان جزر تروبرياند يخطئون باستمرارٍ في قراءة وجه «الخوف» النموذجي، ذي العيون المفتوحة عن آخرها والفم اللاهث)، واعتبروه وجهًا غاضبًا يهدد. وعندما تمّ إجراء التجربة من دون الاختيار القسري القياسي، أصرَّ حوالي خُمس المشاركين على أنهم لا يعرفون ما هي العاطفة التي كانوا ينظرون إليها عند ظهور وجه حزين أو مشمئز. (والواقع أنه في هذه الدراسة، لم تكن الاستجابة الأكثر شيوعًا على جميع الوجه -باستثناء الوجه السعيد- هي كلمة تعبّر عن عاطفةٍ بالأساس بل كانت كلمة «جيبولوا» gibulwa، التي تعني تقريبًا الرغبة في تجنب التفاعل الاجتماعي).
تصعب مواءمة النتائج التي توصل إليها كريفيلي وفريق آخر يعمل في إفريقيا بالتوازي، مع أطروحة عالمية العواطف، ولكن ليس بالمنظور الذي كنت أطلق عليه أطروحة تنوع العواطف، فقد ظهرت هذه النظرية البديلة على الساحة في عام 2003، وعُرفت أيضًا باسم: «البنائية السيكولوجية»، وذلك في ورقةٍ بحثية أعدّها راسل وتُعَدّ حتى يومنا هذا من بين أكثر ما يُستشهد به في علم العواطف، حيث وضع فيها راسل رؤية جديدة لتلك الطرق المعقدة التي تتفاعل بها الطبيعة والتنشئة لتنتج الحالات الإنسانية المألوفة لنا على غموضها، والتي نعرفها على أنها عواطفنا.
وتبدأ تلك الرؤية بما أسمَاه راسل بـ «الشعور الأساسي»، وهو إحساس عام غير متمايز بجسمك في العالم، يكون حاضرًا دائمًا في الخلفية. والأمر يشبه كما لو كان هناك بارومتر يأخذ بعض القراءات الأساسية لبيئتك الداخلية، ثمّ يتيحها لوعيك في صورة خطوط عريضة تجيب على أسئلة مثل: هل تشعر أنك بحالةٍ جيدة أم سيئة؟ أو هل تشعر بالخمول أو النشاط؟ ويرى راسل أنّ هذا الشعور الأساسي هو قاعدتنا العاطفية الفطرية والمشتركة، وهو يمثل حدًّا أدنى من «عالمية العواطف»، ويمكن أن يساعدنا في تفسير التشابه الكبير الذي وجده إيكمان وغيره بين أفراد من ثقافاتٍ مختلفة في تعرّفهم على عاطفة السعادة مثلًا.
ولكن «الشعور الأساسي» لا يمكن أن يفسّر ذلك التنوع الهائل في الحالات العاطفية الدقيقة التي يجد المرء نفسه فيها؛ فالرضا مثلًا يختلف عن الفرح، بينما يمتد طيف السعادة من الوفرة المطلقة إلى الرضا البسيط. ولكن يذهلني تعقيد عاطفة «الرهبة»، ذلك المزيج بين الخوف والنشوة الذي يتملك النفس عند النظر في قوةٍ أعظم. ولكن إذا أخذنا الحالات السلبية عالية الإثارة مثل الغضب والخوف كمثال عملي، فكيف يستطيع المرء الانتقال من تلك الأحاسيس البسيطة غير المتمايزة إلى الغضب الفعلي أو الخوف الحقيقي، أيّ إلى العواطف التي نختبرها بعمقٍ وبتفاصيل وبقوةٍ واضحة؟
ترى أطروحة التنوع أنّ هذا هو الموضع الذي تتدخل فيه اللغة والثقافة، فهما توفّران التفاصيل والتعريفات التي نستخدمها لتفسير الشعور الأساسي في صورة عاطفة. ونحن نصنف أحاسيسنا لنجعلها مفهومة، وهذا الفعل المتمثّل في إسباغ المعنى على الصور منخفضة الدقة التي تصدرها أجسادنا يحول تلك الصور ذاتها إلى الخبرات واضحة الألوان النازفة والخافقة التي نسميها عواطفنا. وعندما يُطلق المرء تصنيفًا على حالته الحالية -وليكن «الخوف» مثلًا-، فهو بذلك لا يستحضر رمزًا فحسب، بل يستحضر أيضًا قدرًا هائلًا من البيانات المتعلقة بالخوف، وتشمل تلك البيانات أيّ شيء بدايةً من العلامات الدالة إلى الإشارات المرئية، بما في ذلك السياق المحيط والأسباب المحتملة والمعاني الثقافية والعواقب المتوخاة، وجميعها تمّ استقاؤها من تجارب الخوف السابقة وتخزينها في نموذجٍ أو سيناريو عقليّ. ويلخّص راسل ذلك بأنّ «الشعور بالخوف يعني إدراك تشابه قويّ بين الحالة الحالية للمرء كما يعرفها وبين السيناريو العقليّ للخوف».
هذا لا يعني أنّ العواطف تتبع تسلسلًا محددًا مسبقًا، أو أنّ النظرية الجديدة تستبدل برنامجًا بيولوجيًّا ببرنامجٍ آخر يتم التدرب عليه، بل يرى منظور أطروحة التنوع أنّ العواطف تظهر بالضبط مثلما تتحدد معالم لوحة بدقة بعد أن كانت مجرد مخطَّط تقريبي، حيث تندمج بقع الألوان العشوائية في أنماطٍ ذات مغزى بينما يلوِّن الفنان رسمته ويملأها بالتفاصيل، فتصبح ضربات الفرشاة أدقّ تدريجيًّا مع تبلور رؤيته.
وبالمثل تتجمع العواطف من الخطوط العريضة الضبابية للشعور الأساسي، حيث تعمل أدمغتنا بناءً على «مفاهيم للعواطف» متفاوتة الدقة والنوعية، ويستدعي الدماغ هذه المفاهيم من السيناريو العقلي ذي الصلة بحيث تلائم الموقف الحالي وتفهمه، وفي أثناء ذلك يبني حالة عاطفية. وتتشكّل العواطف التي نمرّ بها من خلال التقاء مجموعة من العوامل مثل ما يحدث في حالة اللوحة تمامًا. وما يحدد الشكل النهائي للوحة هو مجموعة الألوان التي يستخدمها الرسام وموهبته في رسم الفروق الدقيقة وتربيته والتأثيرات الثقافية التي تعرّض لها. وهذه الأشياء نفسها: المخزون العاطفي، والبيئة المبكرة التي يقوم فيها الدماغ بترميز سيناريوهاته العاطفية، والثقافة الأوسع التي يستقي منها الوالدان القواعد والخرائط وقوالب العواطف، كلّ هذه الأشياء تشكّل تجربتنا العاطفية على نحوٍ أعمق.
الثقافة لا تضفي على عاطفتنا التفاصيل المحلية فحسب، بل تشكّل محتوى حياتنا العاطفية بشكلٍ أعمق
إن بناء المشاعر عملية شديدة التعقيد، لذلك لا تشترك نوبتان من الخوف أو الغضب أو الحزن في نفس المكونات، ويرى راسل أنّ المرء إذا شعر بالخوف قد تنفتح عيناه عن آخرهما، ولكن هذا يحدث فقط في الحالات التي يمكن أن يساعده فيها النظر إلى مجال رؤية أوسع على تفادي التهديد الماثل أمامه. وبالمثل، قد يرغب المرء في الفرار، أو الجلوس والمذاكرة استعدادًا لامتحان الغد. بل يمكن أن يوجد عدد لا حصر له من الحالات العاطفية المحتملة التي لا توجد لها إشارات منفصلة تسمح لنا بفصلها فصلًا تامًا عن غيرها من الظواهر العقلية. ويرى رسل أنّ الأمر يستلزم علم النفس بأكمله لاستيعاب وتفسير كل حالة من حالات العواطف الإنسانية. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنه سيُحبِط العلماء بلا شك. لكني أتخيّل أنّ كل إنسان سيشعر بالراحة عندما يعرف أنّ حتى أفظع نوبات الغضب يمكن أن تُخفي بعض الذكاء العضوي العميق، وبدلًا من أن تكون عواطفنا مجرد بقايا من طبيعتنا الوحشية تنفجر لتعذّبنا أو لتحرجنا، فقد تكون عواطفنا تصرفات معقدة ذات معنى تُظهر لنا ماهيتنا المتشابكة والمعقدة بل وحتى الغامضة أمام أنفسنا. وهذا أيضًا أمر مختلف جدًّا جدًّا.
لا تزال أطروحة التنوع حديثة العهد ومثارًا للجدل، ولكن الأدلة التي تدعم ادعاءاتها تتزايد بوتيرة سريعة، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة معارضة شديدة لنظرية العواطف الأساسية تقودها ليزا فيلدمان باريت، أستاذة علم النفس في جامعة نورث إيسترن في بوسطن، ومعها تلاميذها. وكانت كريستين ليندكويست (من جامعة نورث كارولينا) بين أوائل من انضموا إلى مختبر باريت، وتقول لي أنّ في تلك الأيام «كان الناس يقولون لنا: “هذا جنون. هذا بدعة”». بينما كانت هي على النقيض من ذلك تشعر بأنهم على أعتاب ثورة، أو على حدّ قولها: «كنت أشعر أنّ الوقت قد حان، وأننا سنقوم بتغيير الأمر كلّه».
أوضح البحث الأوليّ -الذي أجرته ليندكويست- الكيفية التي يبني بها الدماغ العواطف بشكلٍ فوري، وذلك عبر تصنيف «الشعور الأساسي»؛ ففي دراسة نُشرت عام 2008، طلبت ليندكويست من بعض المشاركين أن يحكوا قصة مرتبطة بالخوف، بينما يفكر آخرون في الغضب أو موضوع محايد. ووجدت ليندكويست أنه عندما استمع المشاركون الذين يحكون قصص الخوف إلى مزيجٍ صاخب من موسيقى هولست والكانتانا الموسيقية «كارمينا بورانا»، بغرض وضعهم في حالةٍ غير مريحة وشديدة الإثارة، فإنهم قد أظهروا لاحقًا نفورًا من المخاطرة -وهو علامة ضمنية على الخوف- أكثر كثيرًا من النفور الذي ظهر على الآخرين. ويبدو أنّ مفهوم الخوف، الذي تهيّأ بشكلٍ أكبر لعقول هؤلاء المشاركين، قد التصق بالشعور الأساسي السلبي الحُرّ بداخلهم وحوّله إلى خبرة خوفٍ حقيقية.
إذا كانت العواطف تعتمد على المفاهيم التي نطلقها على الحالات التي نشعر بها داخلنا، فإن الثقافة تلعب دورًا رئيسًا في حياتنا العاطفية، وذلك عبر تشكيل السيناريوهات العقلية المتصلة بكل عاطفة نشعر بها. في دراسةٍ أُجريت عام 2018، قام فريق من المختصين في علم النفس الثقافي، من بينهم مايكل بويجر وباتجا ميسكيتا (من جامعة لوفين)، باختيار عينات من خبرات الشعور بالعار من مئات المشاركين الأميركيين واليابانيين والبلجيكيين. حيث قام الباحثون بإدخال مجموعات البيانات التي جمعوها في خوارزمية تجميع بحثًا عن الأنماط. وأخرجت الخوارزمية ثلاثة أنواع مختلفة من العار، يسود نمط واحد منها في كل ثقافة من الثقافات الثلاث قيد الدراسة؛ حيث ظهر أنّ معظم الأميركيين المشاركين قد شعروا بالخجل عندما تمّ الكشف عن عيوبهم الشخصية، وهو نمط يتوافق مع الثقافة التي تولي أهمية كبيرة للفرد. وعلى النقيض من ذلك أظهر المشاركون اليابانيون أنّ المواقف التي فضحت إخفاقاتهم لم تسبب لهم العار، بل ولم تؤخذ على محمل الجد بالأساس. ولكن تماشيًا مع القيم الثقافية المترابطة في اليابان، كان فقدان ماء الوجه في الأماكن العامة هو ما أصاب غالبية المشاركين اليابانيين بالعار. (وأظهر البلجيكيون نوعًا من العار يقع في مكانٍ ما بين الاثنين الآخرين). ما تشير إليه هذه النتائج هو أنّ الثقافة لا تضفي على عاطفتنا التفاصيل المحلية فحسب، بل تشكّل محتوى حياتنا العاطفية بشكلٍ أعمق. وهكذا يرى بويجر وميسكيتا أنّ العواطف هي عمليات ديناميكية يتمّ إيجادها لتساعدنا على التعايش في البيئات الاجتماعية التي نعيش فيها، وليست مجرد أشياء ثابتة ومُعطاة «نملكها» أو «نختبرها» أو «نشعر بها».
نشأت يوليا تشينتسوفا-داتون (Yulia Chentsova-Dutton)، في بلدةٍ معزولة في جبال القوقاز، ما كان يُعرف آنذاك بالاتحاد السوفيتي. وعندما بلغت السادسة عشرة من عمرها، ذهبت إلى الولايات المتحدة في برنامج التبادل الثقافي بين الشعبَيْن كجزء من جهدٍ دبلوماسي لإعادة العلاقات بين البلدين بعد الحرب الباردة. وهي تقول في ذلك: إنّ «إحدى العبارات التي ظلّ الناس يرددونها عندما كانوا يحيّون وفدنا هي: “رغم كل شيء، يبتسم جميع الأطفال بنفس اللغة”. وأذكر أنني جلست هناك أسأل نفسي: ما الذي يتحدثون عنه؟»، وأدركت تشينتسوفا-داتون -في النهاية- أنّ مضيفيها الأميركيين كانوا أكثر حرصًا على التمسك بأيّ أوجه للتشابه بينهم وبين ضيوفهم السوفييت؛ لأنهم «أرادوا إضفاء الطابع الإنساني على أطفال العدوّ هؤلاء».
واصلت تشينتسوفا-داتون دراسة علم النفس الثقافي، وهو ما وفّر لها أداة للتحقق من حدسها بأننا في الواقع لسنا متشابهين، فقامت تعارض نموذجًا عن العواطف لم يتغير كثيرًا منذ سبعينيات القرن الماضي، نموذج يؤكد على أنّ «التطور هو الذي يرسم الخطوط بينما تضع الثقافة قليلًا من الألوان على السطح». لكن الأمور تتغير، فقد أظهرت لنا المناهج المتطورة على مدى العقديَنْ الماضيَيْن أنّ الثقافة والبيولوجيا تتفاعلان بطرق جوهرية ومعقدة، وهكذا أصبحت الاختلافات في العواطف واضحة المعالم الآن بعد أن ظلَّت خفيَّة في السابق.
يمكن أن تكون هذه الاختلافات مذهلة، فقد قالت لي: «أسألُ أفراد العينة من الأميركيين عمَّا يشعرون به، وأعطيهم قائمة بالعواطف، فينتهون من تلك القائمة في أقلّ من دقيقة»، ومع أفراد العينة الصينيين، يستغرق أداء نفس المهمة عدة دقائق، أمَّا في غانا، فقد كانت التجربة تقريبًا «كارثة»، إذ «كان الطالب يقضي مع هذه الصفحة الواحدة من مصطلحات العاطفة مدة 30-40 دقيقة، مع تلك الصفحة فقط. وعندما أسأله عمَّا يحدث، كان يقول: “حسنًا، أنا أفهم كل الكلمات… لكن كيف يفترض بي أن أعرف ما الذي أشعر به؟ وبصفتي باحثة في المشاعر والثقافة، كان ذلك يصدمني لأنني لم أشك أبدًا في حقيقة أنّ الناس يعرفون ما يشعرون به».
من الشائع في الغرب أن نفترض أنه إذا لم يكن الشخص على درايةٍ بحالته الداخلية، فلا بد أنّ شيئًا بداخله قد انحرف عن مساره، ومن المحتمل أن نشك في تعرّضه لقمعٍ عاطفي، ونوصّيه بالاستعانة بمعالجٍ لمساعدته على كشف المشاعر التي يكبتها بداخله. وعندما تحدثت مع بويجر، ذكرتُ له ملاحظات تشينتسوفا-داتون، فقال لي: إنّ تلك الملاحظات تذكِّره بدراسةٍ أجراها على أفراد يابانيين، حيث سألهم فيها عمَّا يشعرون به، وتسبَّب سؤاله في حيرة بعض المشاركين. قالوا: إنّ الأمر يعتمد على ما سيشعر به الشخص الآخر، «فلم يكن من المنطقي بالنسبة لهم أن يشعروا بشيء ما لأنفسهم… الأمر أشبه برقصة، والعاطفة تعتبر شيئًا يحدث بين شخصَيْن»,
يُعبّر الأميركيون عن الحزن بينما يذكر المشاركون الصينيون القشعريرة وتعرّق راحة اليد والآلام في العضلات
يمكن أن تعكس هذه النتائج اختلافات جزئية في ممارسات التنشئة الاجتماعية المبكرة، ففي العديد من الثقافات غير الغربية يستخدم الآباء مجموعة محدودة من كلمات العواطف مع أطفالهم؛ لأنهم يهتموا بالسلوكيات أو التغييرات الجسدية بدرجةٍ أكبر. وقد لاحظ قي وانغ (Qi Wang)، أستاذ التنمية البشرية بجامعة كورنيل في نيويورك، أنّ عندما يحكي الآباء الأميركيون المنحدرون من أصلٍ أوروبيّ ذكرياتهم لأطفالهم، فإنهم يميلون إلى التركيز على مشاعر الطفل الخاصة ودوره الفريد في الموقف. وعلى النقيض من ذلك، يُفضِّل الآباء الأميركيون القادمون من شرق آسيا التأكيد على علاقة أطفالهم بالآخرين فيستخدمون الذكريات المشتركة للتأكيد على الأعراف الاجتماعية وتعليم الأطفال دروسًا للسلوك المستقبلي. ويرى وانغ أنّ مثل هذه المحادثات تعمل على نقل القيم الثقافية، وتحديد ما يتمّ استيعابه وما يتمّ منعه أثناء التطور. وهكذا يقوم والدينا بتدعيم بيئاتنا الداخلية من خلال هيكلة بيئتنا الخارجية بطرقٍ معينة.
ونظرًا إلى أنّ الأماكن التي استكشفها الباحثون حتى الآن قد اكتسبت خصائص غربية بشكلٍ شبه حصريّ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن أن يعكس انشغالنا بالعواطف تحيزًا ثقافيًّا، ولو جزئيًّا؟ لقد قال لي تشينتسوفا-داتون: إنّ «محتويات عقولنا في أيّ وقت معين تنتج الكثير من التغييرات المختلفة التي يمكننا تتبعها والتركيز عليها». ولكي نفهم كل تلك «الومضات» التي تلمع في وعينا، نقوم بتقسيم العالم الذاتي إلى أفكار ومشاعر وتصورات وذكريات وأحلام يقظة وآلام وأوجاع مختلفة. ولكن اللافت للنظر هو أنّ هذا الفصل لا يبدو موجودًا في الدماغ، بل وقد وجد الباحثون تداخلًا كبيرًا بين أجزاء الدماغ التي تعالج الحالات المعرفية وتلك التي تعالج الحالات العاطفية، ولكن «في خيالنا الشعبي، نتصوّر شرائح متمايزة، وفي الثقافة الأميركية تُعتبر الشريحة التي تتماشى مع المشاعر شريحة مميزة، وقد افترضنا أنّ هذا الموقع المتميز في صدارة الوعي أمر طبيعي تمامًا».
إذا نظرنا قليلًا فيما يُسمَّى بـ «الجسدنة الصينية»، نرى أنّ الأبحاث التي أُجريت في ثمانينيات القرن العشرين قد وجدت أنّ المرضى الصينيين المصابين بالاكتئاب لا يعبّرون عن المرض بالطريقة «الصحيحة»، فبدلًا من ذكر الأعراض النفسية المتوقعة، كان المرضى يصفون آلامًا عديدة، ويشتكون من قلّة النوم والإرهاق، وهو ما حيّر العلماء والأطباء بشأن العواطف المفقودة. لكن بالنسبة إلى تشينتسوفا-داتون، فإن الشعور بالضيق كتعب جسدي (أيّ في الجسد باعتباره متمايزًا عن العقل) يمكن أن تكون جزءًا من نمطٍ أكثر عمومية لتكوين معنى خاصّ بالثقافة الصينية. ويمكن أن نجد الدعم الأوليّ لهذه الفرضية في الدراسات الحديثة التي تناولت استجابات أفراد الدراسة للموسيقى أو للأفلام الحزينة، فالمشاركون الأميركيون «يعبّرون عن الحزن ثمّ لا يذكرون شيئًا آخر، حتى لو سألتهم عنه». أمَّا المشاركون الصينيون فيميلون إلى ذكر مجموعة واسعة من التغيرات الفسيولوجية، ومنها القشعريرة وتَعرُّق راحة اليد وخفقان القلب وآلام في العضلات. وتقول تشينتسوفا-داتون: من منظورٍ ثقافي غربي، أطلقنا عليها اسم: «الجسدنة» لتوضيح أنّ هذا نمط غير عادي، ولكن إذا تخيّلت التعبير من وجهة نظر الثقافة الصينية، فيمكنك أيضًا تسميتها بـ (سكلجة / Psychologisation).
لقد اكتشفت أنه لا يمكنني تخيّل ذلك في الواقع، فمن الأسهل بالنسبة إليّ أن أتخيّل تِنكر بيل، وهي تكبس المفاتيح في رأسي بدلًا من التفكير في تعتيم عالمي العاطفي، ولو افتراضيًّا. إنّ أفكاري ومشاعري هي الكيفية التي أعرف بها نفسي وهي الأمور التي أقضي فيها معظم وقتي، ويستحيل عليَّ أن أفكر في العواطف كطريقة واحدة للفهم أو مجرد انشغال ذاتي أو سكلجة، بدلًا من التفكير فيها كحقيقة أساسية للوجود. ولكني ممتنة للعدالة الشِّعرية لهذه الاستحالة، حيث نجد ضربًا مغايرًا من الحرفية تتصادم فيه الطبيعة مع التنشئة وتندمج فيه البيولوجيا والثقافة معًا لخلق التنوع البشري الذي يفوق الخيال، والذي يصبح فيلم بيكسار أمامه مسرح هُواة.
في النهاية، أُقدِّم لمحة بسيطة من الرأي الصيني، الذي جاء في ورقةٍ بحثية نشرتها تشينتسوفا-داتون مؤخرًا، والتي تبدأ على النحو التالي:
يصف المصطلح (ليكسثيميا /lexithymia ) سِمة شخصية ذات أبعاد تتميز في النهاية بميل شديد وربما إشكالي إلى تفكير المرء في حالاته العاطفية ووصف هذه الحالات للآخرين… وغالبًا لا يستجيب المرضى بهذه الحالة بشكلٍ جيد للعلاجات الجسدية التقليدية، وقد تصيبهم بالإحباط. وعلى الرغم من أنّ الدراسات الوبائية المحلية تشير إلى أن المستويات العالية من ليكسثيميا نادرة نسبيًّا، إلا أن هناك بعض الاختلافات المثيرة للاهتمام في نسبة شيوع هذا المرض في الثقافات المختلفة؛ إذ تشير الأدلة باطراد إلى أنّ ليكسثيميا أكثر شيوعًا بين الأشخاص الذين يطلق عليهم (WEIRD) [غربيين ومتعلّمين وصناعيين وأثرياء وديمقراطيين]، الذين يميلون إلى العيش في مجتمعاتٍ يسود فيها نموذج مستقلّ من نقد الذات… فبدلًا من السعي إلى علاج ليكسثيميا طورت تلك المجتمعات العديد من الأساليب المحلية التي تشجع المرضى الذين يعانون من مشاكل صحية مختلفة على التحدث بإسهابٍ عن مشاعرهم.
في البداية، لم أفهم أنّ هذا الوصف كان من باب الدعابة، فقد ظهرت الفقرة في مقالٍ أكاديمي، لذلك تفاجأت بها في بادئ الأمر، وقبل أن ينطلق سهم النقد من قوسي، وصلت الرسالة في ومضة من الفهم. وعندما بدأت أفهم شعوري بالتفوق الغربي، شعرت بشعورٍ جديد غير مريح وجدت في نفسي دافعًا للحديث عنه بإسهاب.
الهوامش
إليتسا ديرمينجزيسكا: كاتبة في العلوم ورائدة أعمال تعمل في المجالات المشتركة بين التكنولوجيا والبحث والصحة العقلية. شاركت في إنشاء تطبيق Betwixt، وهو تطبيق تفاعلي للتأمل الذاتي يجمع بين سرد القصص وعلم النفس واللعب.
1- تنكر بيل (Tinker Bell)، هي الساحرة الصغيرة، في فيلم الرسوم المتحركة «بيتر بان». (المترجم).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.