يعتقد الفيلسوف الوجوديّ كارل ياسبرز أن الغموض ليس مدعاة للسخط، وحريّ بنا أن ندرك بأنه يحرر الإنسان من القيود
بقلم: كارمن لي ديج | Carmen Lea Dege
كان كارل ياسبرز (1883م-1969م) مهيب الجانب وكان ذا حضور طاغٍ يعبق المكان بالمعرفة والحكمة إلا أن هذا الانطباع القوي دارى صحة متردية؛ فقد عانى ياسبرز من داء عضال يصيب الرئتين يسمى توسّع القصبات.
توقع الأطباء أيام مراهقته في ألمانيا بأن المرض سيقضي عليه بعد سنوات معدودة. صرف النظر عن ميوله العملية ورغبته في أن يصبح معالجًا نفسيًا بسبب حالته الصحية المتردية واتجه إلى الحياة الفلسفية.
كما أنه رفض أن يتولّى منصب وزير للثقافة بدعوة من قوات التحالف عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية للسبب ذاته.
بدلًا من ذلك كرّس مجهوده لكتابة محاضرة بعنوان ” مسألة إحساس الألمان بالذنب” (1946م) والتي ستصبح نموذجًا للتعامل الألمان مع الماضي.
في جامعة هايدلبرغ التي افتتحت قريبًا.
لفهم فلسفة ياسبرز الوجودية الفريدة من المهم أن ننظر إلى معاناته وميله إلى الطب النفسي. إن مذهبه الوجوديّ يربط بين الأسئلة المجردة وتجارب الإنسان المحسوسة.
غذّت التجارب التي خاضها ياسبرز أعماله الفلسفية بالشكوك وتبنت تصريح سقراط الذي مفاده أن “كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا”.
نجا المراهق الذي نُبّئ بقرب أجله وعاش 86 سنة. لقد ألّف العديد من الأعمال العظيمة حول معنى الشك في عالم متزعزع ومتغير.
كان ياسبرز ذائع الصيت في زمانه، وبعد وفاته صارت أخباره في طي النسيان. كان غزير المعرفة وعتيق المظهر، وكان ملتزمًا بالليبرالية ولا يثير الضجة على نقيض من الفيلسوف الرائد والألمعيّ مارتن هايدغر الذي بدا أكثر جاذبية.
لم يُعرف ياسبرز بكتاباته وإنما نالت مؤلفاته عن المفكرين اهتمامًا أكبر، واشتهر كذلك بدوره التربويّ في ألمانيا بعد الحرب وقد شجّع الشعب على حسم أمورهم مع أحداث الماضي وتنمية الحس الوطني الدستوري في نطاق أوروبا وتاريخ العالم المتنوع.
حتى لو أننا أخذنا ثناء حنة آرنت مأخذ الجد ” بأنه الخلف الوحيد للفيلسوف كانط” فسنكون أهملنا بذلك جزءًا مهمًا من فلسفة ياسبرز.
على نقيض العديد من الفلاسفة الوجوديين لم يسعَ ياسبرز إلى الإحاطة بالغيب والحالات العابرة في حياة الإنسان ولم يحاول تطويعها ولا الاستيلاء عليها.
وإنما حاول أن يطوّر موقفًا إزاء الغموض وهي من سمات الحياة الجوهرية، وأن يتفاعل معها بطريقته. وكان يشدد بإصرار قائلًا “لا يد لي في حريتي، فلم أصنعها”
ولا أملك أسباب وجودي. “وإنما أعتمد على حريات الآخرين والمسببات المعقدة لهذا العالم الهش”. لولا أن حياتنا مشروطة بالآخرين، وسريعة التأثر لما استطعنا أن نجد المعنى في الحب والحرية والغاية.
إن أي محاولة لإثبات الحب أو إدامة لحظة جمال خاطفة ستفسد التجربة.
يجادل ياسبرز في عمله ” سيكولوجية النظرات في العالم” (1919م) ” بأن الغموض في جميع نواحي الحياة هو الطريق الذي سيفضي بالكائنات الفانية إلى الروحانية، والمعرفة والحيوية”.
في حين أن النظام والاستقرار ركنان أساسيان للوجود، بيد أنهما يحولان الإنسان إلى آلة مطواعة.
ما ندركه في لحظات السعادة، والفقدان والتراجيديا هو أننا عاجزون عن الظفر بمعنى الحياة، ولا نمتلك ذواتنا المتفردة ولسنا بقادرين على تحديد هوياتنا.
الغموض في نظر ياسبرز ليس شيئًا نتجاوزه، وإنما يمثّل الأساس الذي تستند عليه صفات من قبيل الحرية، والحقيقة، والعدل وهي لا تُعرف إلا بضدها، من خلال تحديد ما يخالفها، أو ما يمكن أن تكون.
لعلنا لن نتفق على تعريف لماهيتنا وماذا نود أن نكون، ولكن بوسعنا أن نتفق على الأمور التي نجهلها.
يوضّح مفهوم “المواقف الحتمية” وجهة النظر المعاكسة هذه. يجادل ياسبرز بأن مفهوم المواقف الحتمية يكشف عن الغموض الذي يحرر ويشكّل الوجود الإنساني وكان مقتنعًا بأن الحياة غير ممكنة دون المعاناة والصراع.
والموت حق كذلك. ولأنه من المحال أن نقف مكتوفي الأيدي إزاء هذه الحقيقة؛ يساورنا شعورٌ بالذنب. هناك طرائق مختلفة للتعامل مع هذه المواقف الحتمية.
يمكننا تجنبها أو إنكارها. قد نجد إجابة في التفسيرات العلمية، والأعراف الاجتماعية، والطقوس، والعادات.
وفي نهاية المطاف ندرك بأنها ثوابت ولا تتباين إلا في الظاهر. يقول ياسبرز بأن: “الأمر أشبه بجدار اصطدمنا به، جدار شيدناه بأنفسنا”.
يمكننا أن ننتفع من هذا العجز، أو ما يطلق عليه ياسبرز “الوعي المحدود” أو معرفة المجهول.
قد تنطوي هذه المعرفة على تناقضات، ولكنها مهمة لحياتنا ومتعارف عليها. يمكننا أن نخطط للذهاب إلى السينما، وشراء التذاكر ودعوة الأصدقاء، ولكن مشاعر الحماسة والفرح أمور مستعصية على التخطيط.
إذا أخذنا الأرق مثالًا على أحد الظروف الحتمية، سنحدد الاستجابات لمستويات مختلفة من الغموض. يمكننا التعامل مع الأرق ضمن علم الأمراض ونعالجها بحبوب النوم، أو تحسين عادات النوم، أو ممارسة تمارين الاسترخاء، أو العلاج النفسي.
وبالرغم من ذلك قد يعاودنا الأرق أو تتدهور حالتنا ولعل السبب عائد إلى طبيعة النوم نفسها.
على الرغم من أننا نبدد وقتًا هائلًا في النوم، ما زلنا نجهل لماذا أو ما الذي يحدث أثناء النوم إلا أن إدراكنا لجهلنا عن هذا الموضوع قد يكون خطوة جوهرية فيما يخص الأرق.
ومن ثم نتوصل إلى أننا كلما وجّهنا اهتمامنا إلى النوم، فقدنا الإحساس بالسلطة.
إجبار النفس على النوم قد يأتي بنتيجة عكسية لأنه ينطوي على مقاومة. قد تخلّصنا هذه المعرفة من الأرق وبدلًا من أن يكون النوم وظيفة من وظائف الجسد يصير هبة.
إن الإحاطة بالنوم بطريقة غير مباشرة تزيدنا إبداعًا وفضولًا وتفتّحًا. لم يشك ياسبرز قط في قيمة العلم ولم ينكر أهمية العلاج النفسي أو عادات النوم الصحية.
إلا أن العلم لن يكون نافعًا في الحالات الحتمية إلا إذا توقف عن النظر إلى تلك الحالات على أنها معضلة تتطلب حلًّا عاجلًا ويقرّ بأننا لا ندرك كل شيء.
انتقد ياسبرز التحليل النفسي نقدًا لاذعًا لأسباب مشابهة. رابَه أن المجال يحول الذات اللاواعية إلى مادة علمية زائفة
والعاجزة عن إدراك الأبعاد غير المُدركة للحياة،
يحلّ العلم محلّ الدين والأيديولوجيات في هذه الحالة، ويسعى إلى بثّ الاطمئنان إذ يمكن اختلاق ملجأ آمن ومستغرق في الذات ولا يمهّد للحرية.
سار ياسبرز على خطى معلمه وصديقه ماركس فيبر، وأصرّ على أن العلم قد ينتج معرفة شاملة ويحطّم المعتقدات السابقة شريطة أن ينسجم مع الوعي بقابلية الخطأ ولكنه لا يخلق معنى بشكل مستقل.
علينا أن نفسر الحقائق من خلال قيمنا ومعتقداتنا لتشكيل الواقع والتزامات الأفراد. لقد عارض ياسبرز ما ذاع عن الحقيقة النازية والحرب الباردة، وحذر من التأثير العكسي:
وهو تحول العلم إلى أيدولوجية أو أن يُجحد تمامًا. الحقائق مسيّسةُ، على عكس العلم البنى العلمية التي تقاوم التسييس. جادل كلاٌّ من ياسبرز وفيبر بأن العلاقة بين العلم والسياسة قلقة وحلها مستعصي.
في حين أن ياسبرس تنبأ بعالم مؤدلج ومفكّك ومخيّب، قد ترجم ياسبرز هذه النظرة التشاؤمية إلى حس تراجيدي مؤيد لقوى المنطق والعدل في التاريخ. كتب بأن “الحقيقة تجمعنا”.
ولكن على نقيض النماذج العملية أو الليبرالية للشمول، فإن فكرة الحقيقة هذه لا تدعو إلى إجماع متداخل بين وجهات نظر مختلفة إلى العالم. تظل الجهود النبيلة المبذولة في الحوارات بين الأديان مدفوعة بالقيم اليقينية والتي يمكن بكل يسر أن تعارض التغيير وتسيء استخدام السلطة.
لم يلمح ياسبرز إلى قيام ثورة سياسية خوفًا من العنف والإرهاب، وهي النتيجة المتوقعة للغضب في سبيل اليقين، وإنما اقترح حقيقة “توجد فيما هو نسبيّ”.
يشير انتقاء المصطلح “نسبي” إلى أن الإبهام قرب إلى الحقيقة وأن المعرفة تصبح علائقية عندما تعكس الحقيقة.
وكيف نوّفق في التفكير حول الحقيقة العلائقية والغموض؟ يعتقد ياسبرز بأننا قد لا نتفق على تعريف ماهيتنا وماذا نريد أن نكون، ولكننا قد نُجمِع على ما الذي نجهله وكيف نتصرف إزاء المجهول.
يولّد الغموض نهجًا متواضعًا وفي ذات الآن مقاوِمًا ويهدف إلى الاتصال مع العالم كما أن التعبير عنه ينطوي على احتواء.
توصل ياسبرز إلى أننا قد نحكم على جميع الأفكار من خلال هذا السؤال الجوهريّ، “هل الفكرة تعيق أم تحسّن التواصل”. عندما نلتفت إلى ياسبرس اليوم، يجدر بنا أن نتساءل كيف تتواصل مجتمعاتنا والكيانات السياسية مع غموض الحياة الإنسانية وضمان بقائها.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.