بقلم: راتشيل هينغ
يتطلَّب خلقُ الفنّ تخطّيَ قدرتِكَ على عدم التصديق، وتركيزَك على اللحظة الحالية، والانفتاحَ على حدوثِ أمورٍ غيرِ مُتوقَّعة. وكذلك الأمر عند تربيةِ إنسانٍ صغير.
تدور جميعُ القصص حول التحوّل والتغيير، حتى تلك التي تبدو غير ذلك. يجلبُ مرورُ الزمن معه التحوّلاتِ الصغيرةَ والكبيرة، والواضحةَ والخفيَّة.
باعتباري كاتبةً، أسعى خلف التغيير في قِصصي. وباعتباري أستاذةً جامعية، أحثُّ الطلابَ على الانتباه للتغيير. بالرغم من ترددي لسنوات بشأن إنجاب الأطفال، إلّا أن إغراء التحوّل هو الذي قادني في النهاية إلى أن أصبح أُمًّا. خلْفَ ترددي كنتُ دائمًا أشعر بالفضول حول الأُمومة. فرغم كل شيء، القليلُ من الأشياء في الحياة تُبَشِّر ومن ثمّ تُهدِّدُ بالتحوّل التام.
لكن مثل العديد من الفنانات، كنتُ خائفةً من أن يسلبني إنجابُ الأطفال قدرتي على التفكير، والإبداعِ والكتابة. لسنواتٍ فكرتُ في القصص العديدة المتعلَّقة بصعوبة التوفيق بين الإبداع والأُمومة، دون الأُبُوَّة. هنالك المسائل المادية المتعلقة بالوقت، والطاقة، والنوم، والمال. والأكثر رعبًا من ذلك كانت القضايا الوجودية: ما إذا كان الإيثار المتوقع من الأمهات يتناسب مع التركيز التام اللازمِ للكتابة، ما إذا كانت الأمومة بطبيعتها معارضةً للفن. فالتفكير الشائع الذي يجادل بعدم توافقهما مُنتَشِرٌ على نطاق واسع، بما في ذلك المقولة الشهيرة لـ Cyril Connolly: “ليس هناك عَدُوٌّ أكثرُ بؤسًا للفن الجيد من عربة الأطفال الموجودة في الردهة”. وما جاء في رواية Jenny Offill “قسم التوقعات” (Dept. of Speculation): “من الصعب جدًا أن تصبح الأمُّ وَحْشًا لا يعرف إلا الفن، لأن تلك الوحوش لا تكترث بالأمور العادية، لكن فقط بالفن”.
هل ذلك صحيح؟ هل يجب عليك ألا تكترثَ للأمور العادية لكي تصبحَ فنانًا؟ لطالما عارضتُ ذلك بشكلٍ بديهي. علَّمَتْني خبرتي أن الأمور العادية أرض خصبة لِنُمُوِّ المخيلة، أن ما نراه كأمرٍ عادي يخبرنا أكثر من الشيء الذي يُفترض أنه عادي في حدِّ ذاته. وفي الواقع كانت هناك أعمالٌ أحببتُها لكاتباتٍ كنتُ أعتبرهن قدوةً لي، واللاتي لم يشكّل إنجاب الأطفال سببًا لموت إبداعهن، بل كان مصدرًا لاتساع الأفق، والقدرات، وإثارة التساؤلات، مثل: Toni Morrison و Maggie Nelson و Sarah Manguso. كلمات سارة بشكلٍ خاص هي التي بقيت في ذاكرتي، حيث كتَبَتْ تقول: “قبل أن أُنجِبَ ابني كنتُ مقتنعةً أنّ الأمومةَ ستدمِّر كتابتي، وأنها ستُسَبِّبُ خسارةً فادحة لنفسي لا يمكن تعويضُها. ونفسي القديمة اختفت بالفعل، لكني أرى العالَمَ الآن بحَذَرٍ أشد، وحبٍّ أكبر من قبل؛ لأني أصبحت أدرك أثرَ الحبِّ والوقت المُعطى للفرد. وأصبحتُ على درايةٍ أكبر بحدود الحبّ والوقت”.
تعلّقْتُ بكلماتها كتعويذةِ حمايةٍ خلال حَمْلي. ثمّ جاء ابني إلى الدنيا، وهو يركل ويصرخ، قويًّ الإرادة والرئتين. وفورَ أن وضعوا جسدَه الصغيرَ فوق جسدي المُرهَق، بدأتُ بالبكاء. في ذلك الوقت لم أفهم سببَ بكائي. ولم تستطع قدراتي الذهنية، التي كانت مرشدي الأساسي المُعتمَد عليه حتى الآن، لم تستطع فهمَ فيضِ الحبِّ الشديد والذي يغمر كلَّ شيء، هذا الحب الذي يمكن أن يكسرني، والذي كسرني.
إذن، هذا هو التحوّل الذي أردتُه. بعد ذلك، جاءت الفترةُ الشبيهة بالأحلام الخيالية خلال الأشهر الأولى بعد الولادة. فقد كان زوجي يطبخ وينظف ويغيّر الحفاظات، ويروح ويجيئ حتى الساعات المبكرة من النهار، بينما كنت أرضع طفلي بما يصل إلى خمس عشرةَ مرّةٍ في اليوم. لم نتمكَّنْ من تهدئة ابننا –المصاب بالمغص، والمُفعَم بالحيوية، وصاحب الإرادة القوية. وكانت عائلاتنا في قارَّاتٍ مختلفة. كنت أُدرِّس ورشَ عملٍ في الأدب الخيالي عبر الإنترنت، محاولةً إنهاء الأسبوعين الأخيرين من الفصل الدراسي قبل عطلة الشتاء. كان الأمر صعبًا بكل الطرق التي يُقال إنها صعبة. لكنه كان أيضًا مثيرًا ومُفرحًا، كما يمكن أن يكون تحوّلُ الحياة العادية بالكامل. كان من الغريب أن أشعر بالتحرر التام، وأن أُجبر على العيش من دقيقة إلى دقيقة، وأن أعتقد أنني على صواب -سواء كان ذلك “الصواب” يتعلق بجدول تغذية أو روتينِ نوْمٍ- فقط لأجد نفسي محبطًة تمامًا في المنعطف التالي. مُنهَكَيْن، محطَّمَيْن، يغمرنا الخوفُ والدهشةُ في الوقت نفسه، أوه، مثل أي والِدَيْن حديثا، هكذا كنا نشعر في بعض الأوقات.
كانت المفاجأة الكبرى: كنتُ قد تصوّرت، حتى في أكثر تصوراتي تفاؤلا، أن تربية الأطفال ورعايتهم ليست إلا خدمة للإبداع. ولكن على خلاف ذلك، وجدتُ أنّ هذه الرعاية في حدّ ذاتها كانت عملاً إبداعيًا وهذا ما شَرَحَتْه Elizabeth Gilbert، في كتابها “السحر الكبير” (Big Magic)، حيث تقول: “عندما أشير إلى “الحياة الإبداعية”، فأنا أتحدث بشكلٍ عام؛ أنا أتحدث عن حياةٍ يحكمها الفضول أكثر ممَّا يحكمها الخوف”.
أولويةُ الفضول على الخوف. حالة ذهنية كنت على اطلاعٍ وثيق بها باعتباري روائية. إنّ كتابةَ وإعادةَ كتابةِ مئاتِ الآلاف من الكلمات الضرورية لإنتاج رواية يتطلَّبُ تخطّيَ قدرتِكَ على عدم التصديق، وتركيزَك على اللحظة الحالية، وتقبُّلَكَ لوقوع الأمور غير المتوقعة، وقبولَكَ للفشل المحتمل. وكذلك الأمر عند تربية إنسان صغير. كلاهما جلبا إليَّ ليالي بلا نوم، والشعورَ الغامرَ بالاستحالة، إلى جانب الشعور بالذعر بأنني لن أتمكن من فعل ذلك، والاقتناع العميق بوجوب أن أفعلَ ذلك.
تعتبر كتابةُ روايةٍ عملاً يتطلَّبُ الإيمان. خلال العملية التي تتطلَّبُ سنواتٍ، أجد نفسي محبطةً بسبب عدم كفاءتي، وكَسَلي، وعدمِ قدرتي على التفكير في المستقبل، وقِلّةِ عدد كلماتي. في بعض الأحيان كنت أشعر بفشلي في كل جملة. في أيامي الأولى من الكتابة كنت أظن أن ذلك يعني ارتكابي خطأً ما، وأنه يجب عليّ أن أتوقف عن الكتابة. الآن أعرف أنّ هذه المشاعر عادة ما تعني أنني أُوَسِّعُ حدودَ فهمي وقدرتي، مما يؤدي إلى عملٍ مثير للاهتمام. وكما كتب Joe Fassler، الذي أجرى عدة مقابلات مع أكثر من مائةٍ وخمسين روائيًا، حيث يقول: “الروائيون يُتقنون مهارةً واحدةً بشكلٍ رئيس. حيث تَكْمُنُ عبقريّتُهم في قدرتهم على تعليقِ شكوكهم على المدى الطويل، وذلك للتشبُّثِ بالاعتقاد بأنه مهما واجههم من صعوباتٍ، يبقى العملُ هادفًا وجديرًا بالاهتمام وبأنه سينجح في يومٍ ما”.
صحيح أنّ هذا الاعتقادَ العنيدَ قد ساعدني على تخطي أصعب لحظات مسيرتي الكتابية: المشاكل المادية، والسنوات المليئة بالرفض، ومُسْوَدَّاتٍ كاملة اضطُّرِرْتُ للتخلي عنها، وأسابيعَ من العزلة حيث لم أتكلم مع أيّ إنسان آخر غيرِ زوجي. وفي تلك الأيام الأولى المُرْبِكَةِ من تربية الأطفال، وجدت نفسي أرجع إلى ذلك الاعتقاد مرة تِلْوَ الأخرى. فـنحن كآباءَ نجد أننا نبحث، في كثيرٍ من الأوقات، عمَّن يؤكد صحةَ تصرُّفاتنا، وعن مرشدٍ موثوقٍ يُنقذنا من مخاوفنا ونحن نَتَلَمَّسُ طريقَنا. ولكنَّ النصائحَ بشأنِ المواضيعِ المتنوعة، مثل الرضاعة والنوم ومراحل النمو، متناقضةٌ وتختلف من شخصٍ لآخر. وينطبق الشيء نفسُه على الكتابة؛ أيُّ نصيحةٍ تتعلق بالحِرفة يثبت الشكُّ فيها بشكلٍ عام عندما تُطبَّقُ على روايات أو قصص معينة. عند التحاقي ببرنامج الدراسات العليا، غالبًا ما سألت مرشدتي إن كانت هذه الاستراتيجية أو تلك ستساعدني في كتابة روايتي، فقد كانت دائمًا ما ترد عليّ بِهَزِّ كتفيها وتقول: “ربما تساعدكِ! لن تعلمي حتى تُجرِّبي الكتابةَ باستخدامها”. خطَرَتْ كلماتها ببالي كثيرًا في تلك الشهور الأولى من تربية مولود جديد.
بالنسبة لتربية الأطفال والكتابة أيضًا، يختفي اليأس سريعًا كما ظهر سريعا، ليحلَّ محلَّه الابتهاج، كالشعور بالرياح في أشْرِعَةِ سفينتك بعد التجديف لساعات وهي تحمل السفينةَ بخفَّة فوق الأمواج. كذلك الشعور عندما أدركت أنّ بكاءَ ابني كان بسبب رغبته في النوم، لا بسبب أنه أراد أن يرضع، وعندما أدركتُ أنه يحبّ الذهاب إلى المقاهي ذات المراوح التي تدور ببطء فَوْقَنا، وأنه عندما بدأ في تناول الطعام أحبَّ بشكلٍ خاص الأطعمةَ الطويلةَ والمشابهة للخيوط (الهليون، والفاصوليا الخضراء، وأصابع البطاطس)، وأن أيّ شيء من الأشياء التي تجلب له السعادة –الأشياء ذات العجلات والكتب التي تعزف الموسيقى– قد تجعله يبكي أيضًا، لأنه ببساطة لم يستطع الحصولَ على ما يكفي منها. في هذه الملاحظات الصغيرة وجدت حقيقةً عاديةً وعميقةً على حدّ سواء: نكتب قصصنا كما نعيش الحياة، من لحظة إلى لحظة. فلا توجد طرق مختصرة، أو تعميماتٌ لنجتازَ بها العقبات، فقط الفرح والتحديات في كل لحظة. تتطلب الرواياتُ العنايةَ والاهتمام بأشكالها وصعابها الخاصة بها، فلا يمكن تقييدها بالأحكام الإبداعية المُعمَّمة أو الأحكام المُسبقة للكاتب. يقاوم الأطفال أيضًا التعميمَ بشدة، إذ لديهم القدرةُ على إرباكنا ومفاجأتنا، ولكن هل نريدهم بأيّ طريقة أخرى؟
قد يكون من السهل أن نفقدَ مسارَ السحرِ الساطع الذي يمرّ عبر الفوضى اليومية لتربية طفل صغير، تمامًا كما أنه من السهل أن ننسى أثناء تعمُّقِنا في عمليةِ كتابةِ الرواية الطويلة والمحبِطة في كثير من الأحيان، أن خَلْقَ الفن هو أحد أكبر امتيازات الحياة ومباهجها. فمن الطبيعي أن تتوقَ لشيء من السيطرة والسهولة عند مجابهة أيّ مسعى ضخمٍ ومُهم مثل تربية الأطفال أو خلق الفن. ولكنَّ التخلّي عن تلك الرغبة والاهتمام لما هو كائن بالفعل من الممكن أن يجلب لك التواضع، والحريّة، وحتى الجمال. لا توجد أيّ حقائق يقينية في أيّ عمل فني، سواءً كان كتابةُ رواية، أو تربيةُ طفل، أو بناءُ حياة. فهناك يكمن الرعب الهائل، وهناك يكمن الجمال الهائل أيضًا.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة ذا أتلانتيك).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.