«الّلي ظَلَم والّلي قسَى، عايش حياته بألف خِير. والّلي سَقَى نَخل الحسَا، ينام وفراشه حَصِير».*
خمسينيات/ستينيات القرن الماضي، شرق المملكة العربية السعودية، في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود -رحمة الله عليهم-، ازدهرت صناعة/تجارة «البشوت» محليَّة الصُنع في الأحساء، التي لجودتها ولمهارة حياكتها وتطريزها؛ أصبحت تتصدَّر المحافل والمناسبات الكبرى؛ حيث مِن لوازم الأناقة إكمالها بـ «البشت الحسَاوي».
وللحديث عن تلك الحقبة، التقينا نخبة من صُنَّاع الإنتاج الدرامي الأضخم للعام الجاري 2024، مسلسل: «خيوط المعازيب» -للكاتب حسن العبدي، بجانب ورشة النصّ التي ضمَّت كل من: هناء العمير، عباس الحايك، د. محمد البشير، أسامة القسّ، يونس البطاط، عبد المحسن الضبعان. وللمخرجين عبدالعزيز الشلاحي، ومناف عبدال. ومن إنتاج MBC ومؤسسة نون فن للإنتاج الفني-، الذي عُرض في الموسم الرمضاني لعام 2024، على قناة MBC1 ومنصة شاهد. وهُم: الفنان القدير عبد المحسن النمر، الفنان القدير إبراهيم الحساوي، الكاتبة والمخرجة هناء العمير، الفنَّان فيصل الدوخي، الكاتب والممثل العتيق حسن العبدي، والمخرج عبدالعزيز الشلاحي، حيث سعدنا وشرفنا باستقبالهم لإجراءِ هذا الحوار..
بدايةً بسؤالٍ عن أهمية الالتفات للتوثيق الدرامي للمراحل التاريخية والاجتماعية في المملكة؛ استنادًا إلى تجربة مسلسل: «خيوط المعازيب»، في توثيق الحقبة التاريخية والاجتماعية لصناعة/ تجارة البشوت في الأحساء، حيث أجاب الفنان القدير عبد المحسن النمر -المجسِّد لشخصية المعزّب بوعيسى- بأنّ «من أهمّ أدوار الدراما، محاولة التوثيق المُنتقى للتراث والتاريخ ومُجمل الحياة الاجتماعية؛ للمساهمة في تأسيس الذاكرة الجمعية والمكانية للأجيال. خاصةً إذا كان هذا التوثيق مرتبط بشيء مميز ومتفوّق ومتجذّر في الوجدان، مثل صناعة البشوت في الأحساء، وما نتج عنها من تركيبةٍ اجتماعية وثقافية، التي كلَّما كانت أقرب إلى الواقع بَدت أكثر أهمية».
أمَّا الكاتبة والمخرجة هناء العمير -المُشرفة العامة على ورشة نصّ مسلسل خيوط المعازيب- فقد أضافت بأنّ «التوثيق الدرامي شيء مهم حاليًا في أعمالنا الفنية؛ لأنه يحمي ذاكرتنا وتراثنا وقصصنا من النسيان». وباعتبار «البشت» أحد مكونات الهويَّة السعودية ذكرت أنّ «من المهم أن يعرِف السعوديّون خبايا هذه الصناعة وكيف كانت -أحيانًا- قاسية على مَن يعملون فيها». بجانب «تناول العمل للعلاقات الاجتماعية والإنسانية في تلك الحقبة ولطُرق العيش، وشيوع الحِرف اليدوية كـ: الزراعة والنجارة والحدادة، ومَن كان يقوم بكل تلك الحِرف هُم مِن أهل البلد في ذلك الوقت».
ولأنّ في المملكة الكثير من الحكايات والقصص التي تستند إلى حقبٍ زمنية يرى الفنان القدير إبراهيم الحساوي -المجسِّد لشخصية جاسم- «أهمية تسليط الضوء على بعض هذه الحكايات القابلة لأن تكون مادة درامية أو سينمائية أو حتى مسرحية، ولنا في الأعمال العربية والعالمية التي قُدِّمت فنيًّا خير مثال». وأشار في حديثه إلى أنّ قصة مسلسل خيوط المعازيب بشكلٍ غير مسبوق «انطلقت من الداخل المحلي، ولم يسبق أن تمّ تناولها في عملٍ فنيّ آخر».
عن مرحلة ما قبل الإنتاج، استنادًا إلى القصة الكاملة التي اُستهلم منها المسلسل، ما بين السيناريو الذكيّ والحكاية التراثية، وورشة النصّ المختارة بعناية، بجانب دور امتهان حياكة البشوت في نجاح النصّ من الأساس، يجيب الكاتب والفنان العتيق حسن العبدي بأنّ «مسلسل خيوط المعازيب كان نتيجة تراكمات مرّيت بها شخصيًا قبل أن أتجه إلى التلفزيون والمسرح، وذلك في مرحلةٍ مُبكرة من عُمري، إذ كنت لا أتجاوز الـ 12، والآن في الـ 80 من العُمر». ويضيف: «عايشت عدة مراحل لخياطة البشوت، وأكثر من معزّب في الحارات في ذلك الوقت، في الكوت وفي الرفعة وفي النعافل، الثلاث مناطق في الأحساء، التي تكثر فيها مجالس الخياطة، مرّيت بها جميعًا. في صغري كنت عنيدًا، وأواجه المعازيب بعنف؛ لذا ما استطعت التعلّم بشكلٍ صحيح».
وعن مراحل صناعة البشت ذكر أنّه «يمرّ على 7 أو 8 أشخاص حتى يكون بهذه الجودة، حيث يبدأ أوّلاً من القطابة، ثم الفراش، ثم الترتيب، ثم الصم، ثم الهيلة، ثم البروج، ثم المكسّر، ثم التنسيع، ثم القيطان، ثم التركيب.. كل هذه المراحل يقوم بها أشخاص معينة، من الحويذة إلى الحويذة، بحيث أن كل واحد منهم متخصص في جزءٍ منه بكل أشكال البشت من الزري أو القطن. ويسمَّى القطن الأحمر: البدرنق، والخيوط أساسيات البشت مكرات حمراء، فيما يستخدم الشمع في جميع مراحل خياطة البشت؛ لتليين الخيط حتى تستطيع الإبر أن تمرّ منه، ولتمشي النفذة في البشت بشكلٍ جيد».
ثمّ تحدث الكاتب العبدي عن قوة وجبروت المعازيب في ذلك الوقت، التي كانت نتيجة «ظروف الحياة الاقتصادية التي جعلت الآخرين يأتون بأبنائهم من أجل المعيشة». وأضاف: «وصلت الهيبة التي حظي بها المعازيب إلى درجة أن يخرج أحدهم من المجلس ويعمّ الصمت الرهيب ولا يُسمع سوى صوت الخيط والإبرة. وحين يتجرأ أحدهم ويسأل: “وش فيكم ساكتين؟”، يجيب الآخر: “اسكت -أعزَّكم الله- نعال المعزّب موجودة!”».
ومن خلال تجربته هذه مع المعازيب استخلص هذه القصة، حيث ذكر في حديثه أنّ «في عام 2000 جمعت هذه الأفكار في أوراق، وخرجت بنتيجة المسلسل. كتبت كل ما مررت به ومرّ به زملائي. كل ما كتبته شبه واقعي، يوجد جزء منه خيالي، لكن الواقعي أكثر من الخيالي. ومن ذلك: المرأة التي تخرج وتعمل في المنازل، قصة جاسم وعمله في أرامكو، موضوع سلطان الذي تسبَّب له في المشاكل.. كل هذه الأحداث عايشتها شخصيًا وجسّدتها في مسلسل خيوط المعازيب». لكن لصعوبة الحالات: «لم نستطع تصوير القصص بأكملها، لكن صوّرنا الجزء المتاح منها؛ لأننا لا نريد خدش مشاعر الآخرين؛ لذا ما رأيتموه هو الذي استطعنا عليه».
أمَّا الفنان القدير عبد المحسن النمر فيرى أنّ العمل، الذي كُتب قبل أكثر من 24 عامًا، على يد الأستاذ والممثل العتيق حسن العبدي، تأتي أهميته «من خلال اطلاع وخبرة الكاتب في تفاصيل تلك الحقبه الزمنية التي عاشها بنفسه؛ باعتباره أحد الممارسين لهذه المهنة منذ زمن بعيد؛ لذا جاءت التفاصيل غنية ودقيقة لدرجة اقترابها من التوثيق». لكن لأن النصّ كُتب منذ زمن بعيد «كنَّا بحاجةٍ ماسَّة إلى تطويره والدفع به إلى منطقةٍ مُتقدمة تقنيًا على مستوى الكتابة». ويضيف: «تمّ تشكيل ورشة عمل كبرى مؤمنة بأهمية هذا النصّ، عمَلت بحبٍّ وانتماءٍ كامل للمحتوى الخاصّ والمتفرد للحكاية. وجاءت النتيجة كما يراها الجمهور الآن؛ لذا أعتقد بأنّ العمل الفني الجماعي غالبًا ما يأتي بصورةٍ أنضج».
والكاتبة والمخرجة هناء العمير فقد ذكرت في حديثها بأنّ الكاتب حسن العبدي «أعطانا تفاصيل مهمة عن كل ما هو متعلّق بحرفة حياكة البشوت وخياطتها والصناعات الأخرى المتعلقة بها، وبحكم أنه شاهد عيان على تلك الفترة فقد كان مرجعًا رئيسًا إلى جانب مراجع أخرى أثناء الكتابة، ثم أصبح المرجع الرئيس أثناء التنفيذ». وأضافت أنّ مرحلة ما قبل الإنتاج «أخذت وقتًا أوّلاً في البحث عن مواقع التصوير، ثم البناء والتجهيز، ثم توفير كل الاكسسوارات المطلوبة، إلى جانب تدريب الممثلين على طريقة العمل في الخياطة ونحوه.. وكذلك على التمثيل بحكم أن الكثير منهم كان يمثل للمرّة الأولى أمام الكاميرا».
فيما تحدث الفنان القدير إبراهيم الحساوي عن مرحلة إعداد المسلسل، التي وصفها بأنها «طويلة جدًا تمتد إلى سنواتٍ من التحضير والقراءة والبحث في مراجع الكتب؛ للتعرّف على إيقاع حياة الناس والمجتمع في تلك الحقبة الزمنية. كنَّا شديديّ الحرص على التدفق في التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة؛ حتى ننتج عملاً فنيًّا يحترم ذائقة المشاهد، ويرفع من سقف الإنتاج التلفزيوني المحلي والخليجي». وأضاف بأنّ «شخصية (فرحان)، في خيوط المعازيب، مُستندة إلى الشخصية الواقعية لـ (حسن العبدي)».
عن أثر اختيار غالبية النجوم من الأحساء -ما بين الأسماء الواعدة والمُخضرمة- بجانب الإنتاج المحلّي القويّ في تعزيز جودة المسلسل، استنادًا إلى الدور الدرامي الفني بجانب التجربة الشخصية الخاصة الغير مرويّة أثناء إنتاج المسلسل، يجيب الفنان القدير إبراهيم الحساوي بأنّ «أرضية القصة الأساسية تدور جميع أحداثها في الأحساء، إضافةً إلى أنّ مسقط رأس “البشت” في الخياطة والحياكة الأحساء، حيث مِن المتعارف عليه أن بعض الأُسر الأحسائية امتهنت هذه الحرفة منذ القِدم وورّثتها للأبناء والأحفاد؛ لذا كان من الضروري أن ننطلق في إنتاجنا لهذا المسلسل من الداخل». ويضيف: «قمنا بعمل تجارب أداء أكثر من مرة وكان تركيزنا وخيارنا الأوّل بالنسبة للنجوم والممثلين والممثلات من الأحساء. ناهيكِ عن أنّ المنطقة تزخر بالطاقات الإبداعية في مجال التمثيل؛ لذا أردنا لهذا المسلسل أن يكون عملاً محليًّا أصيلًا في قصته وممثليه وإنتاجه».
أمَّا الفنان القدير عبد المحسن النمر فقد ذكر حرص صُنَّاع العمل على «المصداقية وما تتطلبه من ضرورة الحرص على انتقاء مفردات العمل من الحكاية إلى الديكور إلى أدقّ التفاصيل الأخرى. وجاء اختيار المشاركين أيضًا في العمل، فالمكان والزمان لهما خصوصية عالية، من ضمنها اللهجة الحسَاوية العريقة والمتفردة، لذا خوفًا من التصنّع أو الزّج بالعمل في زاوية “الكركتر” المفتعل؛ حرصنا على أن يكون لأبناء المنطقة الحظّ الأوفر للمشاركة؛ وانعكس ذلك إيجابًا في ظهور عددٍ كبير من الوجوه الشابَّة والمميزة للساحة الدرامية السعودية. وجاء ذلك في إطار التبنّي لهذه المواهب وتطويرها من خلال التدريب المكثّف، من خلال عدة ورش عمل».
وذكرت الكاتبة والمخرجة هناء العمير الحرص على «أن يكون معظم طاقم العمل من الأحساء للحفاظ على اللهجة ولإعطاء خصوصية ومصداقية للعمل، وكذلك للكشف عن مواهب جديدة من المنطقة، التي لطالما اشتهرت بوفرة المواهب فيها. وقد أخذ البحث عن الوجوه الشابَّة وقتًا في تجارب الآداء، كما كان هناك بعض التغييرات في الأدوار أثناء البروفات في مرحلة ما قبل الإنتاج لمناسبة كل موهبة مع الدور الأنسب لها. ولا شكّ أنّ العمل تطلب جهدًا كبيرًا لكثرة الشخصيات في العمل، ولا ننكر أنها مخاطرة كبيرة خاصةً في عملٍ كبير كهذا، ولكن ولله الحمد نجحت التجربة، وكانت الاختيارات في محلّها، حيث قدَّمت هذه الوجوه الشابَّة أداءات رائعة».
فيما شكر الفنَّان فيصل الدوخي -المجسِّد لشخصية رويشد- القائمين على العمل «لاختيار كامل الفريق من الأحساء، حتى الأقسام التي لا يوجد فيها خبرات من الأحساء اُستقطبت لها خبرات من الخارج وأُسند إليها معاون من الأحساء ليتعلَّم ويُعلِّم في الآن ذاته». ويستطرد إلى أنّ «وجود نجوم حسَاوية كبار ضمن فريق العمل؛ ساهم في الكثير، كـ الفنان عبد المحسن النمر، فادني كثيرًا في الملاحظة إذا أخطأت في كلمةٍ ما، ودور مدقق اللهجة والزملاء الذين ساعدوني في نقاط الذكريات التي عشناها أو تلك التي سمعنا عنها من كبار السِّن بسبب صُغر أعمارنا في تلك الفترة. وعلى الصعيد الشخصي أخذت الكثير من والدي -رحمة الله عليه- وأسقطه على شخصية رويشد بالرغم من أنه لا يشبه والدي إلاّ في نسفة الغترة مثلاً».
وأضاف: «بعض التفاصيل التي ناقشناها لتعميق ورشة النصّ لامست عائلتي كهروب الشخصيات من الأحساء. والدي بشكلٍ شخصي بسبب ضغط العمل وانتفاء الرزق في الأحساء؛ هرب إلى مكة والرياض بحثًا عن المعيشة، وكان يتهرَّب في حال تعرَّف عليه أحد من الأحساء. لذا كل واحد منَّا استخدم ذاكرته والمعلومات التي وصلت إليه، وسقيناها بعضنا لتخدم النصّ».
عن مرحلة الإنتاج، بناء لوكيشن متكامل، تصوير بدايات العمل في أرامكو، تعلّم اللغة، التطرّق للسينما، بجانب إحياء اللهجة الحساوية، التعليم.. إلخ، وعن كيف عكس الاعتناء بالتفاصيل الدقيقة تقديم تجربة درامية واقعية ملموسة ومُعاشة في المسلسل، أجابت الكاتبة والمخرجة هناء العمير أنّ ذلك انعكس في كون «أهالي الأحساء ضمن فريق الكتابة ثمّ بعد ذلك ضمن فريق الإنتاج ثم ضمن فريق التمثيل. حيث أن الكل ساهم في إضفاء هذه اللمسة الواقعية وتوفير إكسسوارات تنتمي لتلك الحقبة الزمنية، كان من الصعب الحصول عليها. وهذا كان العامل الأساسي لنجاح المسلسل لغياب أرشيف مصوّر كبير يتناول كافة الحِقب الزمنية في المملكة، والأصعب أنّ المجتمع كان يمرّ بطفراتٍ كبيرة تجعل كل سنة في بعض الأحيان مختلفة عن سابقتها». وأضافت: «لهذا أيضًا كان فريق ورشة النصّ كبيرًا للتأكد مِن كافة التفاصيل، بجانب مجموعة استشارية تدلي برأيها في كل التفاصيل الخاصة بالعمل».
أمَّا الفنان القدير عبد المحسن النمر فقد ذكر أنّ «كلَّما قربت من التفاصيل أضفت مرحلة مُتقدمة أكثر من المصداقية، وأعتقد أن تعلّق الناس بالعمل -كما هو واضح من خلال ردود الفعل- كان نتيجة لجهدٍ عظيم وميزانيات مالية عالية قدَّمتها MBC للوصول إلى هذا الهدف؛ وذلك حرصًا من الشيخ وليد البراهيم بشكلٍ شخصي، بجانب متابعته الدقيقة ووقوفه على أدقّ مجريات سير العمل -الذي استشعرته وزملائي-، كان له بالغ الأثر الإيجابي للوصول بالعمل إلى هذه المرحلة».
فيما ذكر المخرج عبدالعزيز الشلاحي في حديثه أنّ «الانعكاس بدأ على الممثلين أنفسهم فأهمّ ما يمكن عمله في مثل هذه الأعمال هو أن يصدّق الممثل المكان وحقيقة الأشياء ويظهر هذا الانعكاس على أدائهم، ومن ثمّ على الجمهور الذي يحبّ تلك الشخصيات ويشعر أنها حقيقية». ويضيف بأنّ «بناء القرية أو السوق كان يشبه الحقيقة في ملمسه، والتصوير في بيت المعزّب بوعيسى -الذي كان بيتًا حقيقيًا من الستينات تمّ ترميمه- كان له الأثر الكبير في تخيّلنا للقصة وفي اندماج الفرق بشكلٍ أسرع قبل البدء بالتصوير. حيث اعتمدنا الجزء الكبير من البروفات في البيوت والشوارع نفسها؛ لتكوين علاقة مع المكان بين الممثلين وحتى بين فريق العمل».
واستطرد: «ظهر ذلك أيضًا في مشاهد ميناء العقير والقطار فرغم أنّ هذه المواقع تحتاج إلى ترميمٍ وصيانةٍ وتعديلاتٍ إلاّ أنها ظهرت مُبهرة بحقيقتها. وإذا تحدثنا كذلك عن الاكسسوارات سنجد أنّ كلها حقيقية حتى جهاز الكاشير الذي استخدم في لوكيشن أرامكو، الذي ذُكر في جزءٍ من حوارٍ في المسلسل آنذاك، هو كاشير حقيقي كان يحتفظ به أحد المتقاعدين من أرامكو، وتمّ استخدامه في المشاهد رغم عدم ظهوره بشكلٍ رئيس.. هذا الاهتمام بالتفاصيل حتى وأنت تتحدث عنه أثناء التصوير مع الممثلين مرتبط ويشعرك بالمكان ويعطي أفضل ما لديه. أمَّا بالنسبة للمُشاهد فهو لمَّاح أحيانًا يتذكّرها ويتحدث عنها، وأحيانًا يصله شعورها دون أن يعبّر عن ذلك».
فيما ذكر الفنان القدير إبراهيم الحساوي أنّ الانعكاس بدأ من حيث أنها «المرّة الأولى في الإنتاج المحلي التي يتم فيها بناء مدينة تراثية خاصة بتصوير مسلسل تاريخي وتراثي ينطلق من هويّتنا وثقافتنا المحلية». وأضاف: «ولا أخفيكِ، لقد واجهتنا الكثير من الصعوبات أثناء بحثنا عن مواقع تصوير في البيوت القديمة التراثية المتبقية في الأحساء وهي قليلة جدًا، وأكثرها غير صالح للاستخدام ولا للتصوير لسبب أنها تقع في منطقةٍ سكنية حديثة وتجاورها بعض المحلات التجارية والأسواق. ثم ماذا نعمل مع (سوق القيصيرية) الحالي المبنيّ حديثًا؟ قصة المسلسل تدور ما بين الخمسينات والستينات. لذا كان من الضروري بناء مدينة تراثية تقارب تلك الحقبة الزمنية لمدينة الهفوف ولسوق القيصيرية التاريخي وهذا ما تمّ بالفعل؛ وذلك حرصًا منَّا على مصداقية الأحداث والمكان».
أمَّا الكاتب حسن العبدي فقد تحدث عن أهمّ التحديات التي واجهته في مرحلة التنفيذ، والتي «كانت في اللهجة، حيث تكمن الصعوبة في تدريب الشباب على لهجة فترةٍ زمنيةٍ طويلة»، وذلك باعتباره مشرفًا ومدققًا للهجة في المسلسل، بجانب كونه مدققًا للاكسسوارات الصغيرة والكبيرة «لأنّ الجيل الجديد لا يعرفون التريك أو فنر بو سنارة أو بعض التفاصيل في المطبخ والغرف كلها؛ لذا حاولت أن تكون قريبة مما عشته وشاهدته».
عن الاهتمام بمرحلة ما بعد الإنتاج، بدءًا من التصوير إلى التحرير، ودور الاحترافية في تصميم الإضاءة بجانب الإخراج الموازن بين عناصر اللغة البصرية في إثراء المشهد البصري للمسلسل، وأثر ذلك على سرعة تلقي المُشاهد للمسلسل، يجيب المخرج عبدالعزيز الشلاحي بقوله: «عند المعاينة لمواقع التصوير رأيت جمالًا حقيقيًّا وثراءً بصريًّا، رأيت الصور التي لا تحتاج إلى فلسفةٍ أو تحسين؛ حيث اللون الأخضر للمزارع، والبيوت الترابية الممزوجة بزخرفاتٍ فنيّة بسيطة، حتى الأثاث والسيارات. وهناك العين والبحر الذي أضاف لونًا آخر إلى هذه الصورة، التي تعاملت معها إخراجيًا بنفس الأسلوب: البساطة والغنى، إذ لا يوجد شيء يحتاج إلى تغطية؛ فالخلفية جميلة وثريَّة تزيد من متعة المشاهدة البصرية للتفاصيل دون الإخلال بالسرد والقصة، والإضاءة الطبيعية تسيطر على المكان وتنشر الحياة وتتحكم بمشاعر المشهد من خلال النوافذ والأبواب».
وأضاف: «بلقطاتٍ محدودة تعطي مساحه للممثلين وتدفع بالأحداث والخطوط إلى مزيدٍ من الترقب دون الخروج من الحكاية. وهنا أُشيد بالكتابة والدور المبذول فيها، حيث تمَّت مراعاة ذلك من الورق؛ من خلال “عَنوَنة” كل حلقة بعنوانٍ ونهايةٍ ثابتة موزونة؛ تجعلك تشعر برغبةٍ مُلحَّه لمعرفة ماذا سيحدث.. كل ذلك منح مساحة أخرى في المونتاج لسرد الحكاية بسلاسةٍ وراحةٍ تامَّة».
والفنان القدير عبد المحسن النمر يرى أنّ «العمل على خيوط المعازيب له طابع خاصّ حتى في طريقة تنفيذه؛ فهو من الأعمال القليلة التي تولَّى أكثر من مخرج تنفيذ حلقاتها». إذ أخرج الحلقات الـ 10 الأولى المخرج السعودي عبدالعزيز الشلاحي، فيما أخرج المخرج الكويتي مناف عبدال الحلقات الـ 15 الأخرى. ويضيف أنّ «ذلك لم يؤثّر في سياق التفاصيل؛ حيث استمرَّ على المستوى ذاته من المتعة البصرية وامتداد المحتوى، والحكاية وثبات الشخصيات؛ ما أضاف للعمل الكثير من الثراء حتى على المستوى المهني».
أمَّا الكاتبة والمخرجة هناء العمير فترى بانّ «الصورة هي فنّ الرسم بالإضاءة، ولها عامل رئيس في إضفاء الجماليات على الصورة؛ لذا رغبنا في خلق صورةٍ مختلفة للمسلسل، وكذلك حرصنا على أن تكون هناك مواقع مختلفة تدور فيها أحداث العمل؛ لنكسر الرتابة في المشاهد، ونغني العمل بصورٍ متعددة تظهر الجمال الجغرافي للمنطقة وتنوّعها. وقد كان هذا مدروسًا بدءًا من النصّ».
فيما يجيب الفنان القدير إبراهيم الحساوي بـ «نعم، كنَّا نهتم وندقق جيدًا في بقية العناصر الفنية، التي هي ضرورية في السرد بجانب تقديم لغة بصرية؛ لذا كان من الضروري اختيار المصورين المحترفين وفنيوّ الإضاءة والصوت والتحرير الذين لديهم خبرة طويلة في تصوير أهمّ الأعمال السينمائية والتلفزيونية في الوطن العربي، والحمدالله وفقنا في ذلك». وأضاف أنّ «هذا الاهتمام بدأ من أوّل أيام التحضير لتصوير الحلقة التجريبية في عام 2018، حيث تناوب على إخراج مسلسل “خيوط المعازيب” ثلاثة مخرجين: المخرج السينمائي والمنتج علي السمين، الذي أخرج الحلقة التجريبية (البايلوت)، وكان مدير الإضاءة والتصوير حسن سعيد. وبعد تصوير الحلقة التجريبية توقف المشروع بسبب جائحة كورونا. ثم استأنفنا العودة للتحضير والإعداد عام 2021، بعد اعتذار المخرج علي السمين؛ لارتباطه في حينه بعملٍ فنّي آخر».
ويستطرد: «تمّ اختيار المخرج عبدالعزيز الشلاحي، الذي بدأ معنا مبكرًا في تأسيس الديكور واختيار المواقع والمشاركة في ورشة النصّ وتجارب الأداء واختيار الممثلين والممثلات وبروفات القراءة للنصّ واختيار بقية العناصر الفنية كـ التصوير والإضاءة والتحرير. وكان من المفترض أن يخرج 10 حلقات من أصل 20 حلقة، قبل أن يتطور النصّ إلى 25 حلقة؛ بناءً على طلب إدارة الجهة المنتجة للمسلسل MBC. ولظروفٍ إنتاجية بجانب الفترة الطويلة التي مرَّت بخيوط المعازيب والتحديات التي واجهتنا توقفنا لفترةٍ قصيرة، لنستأنف بعدها العمل مع المخرج الكويتي مناف عبدال، وكان من المفترض أن يعرض المسلسل في الموسم الرمضاني للعام الماضي 2023. لكن أعتقد أنّ هذا التأخير أفاد المشروع؛ لكي يتمّ العمل على بقية العناصر الفنية في مرحلة ما بعد التصوير، من تحريرٍ وألوانٍ وموسيقى ومؤثرات على مهلٍ دون استعجال.. وهذا ما تمّ وكان لصالح المسلسل».
عن إمكانية القول بأنّ مسلسل: «خيوط المعازيب»، أسَّس لدراما موسمية رمضانية محلية جادة، وعن تلقي الانطباع النقديّ العام للمسلسل، بجانب المشاهدات الإيجابية العالية وتصدّر المسلسل لمنصة شاهد في فترةٍ قياسية، يجيب الفنان فيصل الدوخي بـ: «لا شك أننا نفتقد الأعمال الدرامية السعودية لموسم رمضان؛ بسبب التوجه الدائم إلى الكوميدي. وربما كمسلسل درامي لم نرَ سوى مسلسل “العاصوف” مؤخرًا. لذا نحتاج إلى رفع ثقة الجمهور بالأعمال الدرامية المختلفة. والحمدلله تجربة مسلسل: “خيوط المعازيب”، وتجربة مسلسل: “الشرار” قدمتا لهذا العام تجربة درامية مميزة، صحيح أنها تراثية أو تاريخية ولكنها باب إن شاء الله للأعمال الدرامية. وأتمنى أن نشاهد أعمالًا درامية رمضانية كل عام؛ لأن لها رواج كبير ومهتمين وتشد المشاهد، بجانب المتعة المرتبطة بالقصة والشخصيات والتفاصيل الوجدانية والجغرافية والمكانية. أتمنى رؤية أعمل درامية تعكس مناطقنا، وأتمنى أن تكون بنفس أسلوب مسلسل: “خيوط المعازيب”، أيّ ليس وثائقي ولكنه قصة نرى من خلالها توثيق بسيط للأحداث دون أن نشعر بذلك».
ويتحدث الفنان القدير إبراهيم الحساوي عن انطباعه الأوّل: «كنت واثقًا منذ قراءتي للنصّ أن هذه القصة قابلة للإنتاج، وأنها ستكون من الأعمال الناجحة والمؤثّرة التي ستبقى في ذاكرة المشاهد لسنين طويلة». وأضاف: «ولأننا أسَّسنا لدراما محلية -لن أحصرها بالأعمال الموسمية الرمضانية-؛ فإننا نفخر بذلك؛ لأن هذا ما يجب أن يكون في مَشهدنا الفني. لدينا طاقات إبداعية والكثير من الحكايات التي تشبهنا من هويّتنا وثقافتنا، ولدينا الدعم المادي الكبير».
أمَّا الكاتبة والمخرجة هناء العمير فتجيب بـ: «الحقيقة أنني في غاية السعادة بردود الفعل على المسلسل وتفاعل المشاهدين والتعبير عن استمتاعهم بأحداثه. حاولنا جاهدين أن نقدِّم شيئًا مميزًا رغم الصعوبات والتحديات العديدة التي واجهتنا. وبالتأكيد ستلهم هذه التجربة الآخرين والمنصات بصنع أعمالٍ تنتمي لحقبٍ تاريخية أخرى، وسيكون لهذا العمل أثره الإيجابي على الأعمال الرمضانية القادمة بإذن الله».
والكاتب حسن العبدي يرى بأنّ الأجمل «عودة الناس الكبار إلى الوراء للمشاهدة وتأثّرهم بالمسلسل، الذي يصلني من خلال الاتصالات، التي تأتيني من جميع أنحاء الدول العربية لا مِن الخليج فحسب».
فيما يجيب الفنان القدير عبد المحسن النمر بأن «تجربة خيوط المعازيب تعيد النظر في مفهوم العمل الرمضاني تحديدًا، وتصطدم مع فكرة أنّ العمل الرمضاني هو فقط العمل الكوميدي الخفيف، الذي يعتمد على الكثير من الارتجال والبهرجة اللونية بغضّ النظر عن أيّ محتوىً آخر؛ حيث أثبت أنّ المشاهد يستطيع الفرز والتقييم بعيدًا عن مقولة: “الجمهور عايز كده”».
وعن سؤالٍ عن المرحلة القادمة بعد مسلسل: «خيوط المعازيب»، تجيب الكاتبة والمخرجة هناء العمير بأنّ «هناك حديث عن أعمالٍ أخرى، تنتمي أيضًا لحقبٍ زمنية قديمة، يجري العمل على وضع خطٍّ زمنّي لها».
أمَّا المخرج عبدالعزيز الشلاحي فيجيب: «انتهيت من تصوير فيلم سينمائيّ طويل، يحمل عنوان: “هوبال”، من كتابة السيناريست: مفرّج المجفل، ويشارك في بطولته: الفنان إبراهيم الحساوي والفنان مشعل المطيري والفنانة ميلا الزهراني. يتحدث عن عائلةٍ بدويَّة تعيش في عزلةٍ تامَّة وسط الصحراء مطلع التسعينات، تحت سُلطة الجَد الذي يمنع عليهم الانتقال للمدينة، بعد ظهور علامات يزعم أنها تدلّ على قُرب القيامة.. وسيُعرض نهاية السنة الجارية 2024».
والفنان فيصل الدوخي يجيب: «بالنسبة لي كممثل بعد كل مشروع انتهي منه هناك آخر. فبعد الانتهاء من تصوير مسلسل: “خيوط المعازيب”، صوّرت مسلسل: “خن”، الذي يُعرض حاليًا على 4 قنوات خليجية و3 منصات. ولديّ مسلسل: “خريف في قلبي” -مسمَّى مبدأي-، سيُعرض على MBC قريبًا، حيث ما زلنا في مرحلة الإنتاج، وسنستأنف التصوير بعد شهر رمضان بإذن الله».
فيما يجيب الفنان القدير إبراهيم الحساوي بـ: «أولاد المعازيب.. لا أدري حقيقة ماذا بعد خيوط المعازيب، ولكن قصته لم تنتهِ بعد، هناك أولاد المعازيب وأحفاد المعازيب. لكننا سنقدّم الأعمال التلفزيونية/السينمائية بهذا المستوى. نعم، رفعنا سقف الإنتاج في الأعمال التلفزيونية، وسنستمر على هذا المستوى، ولن نتنازل عنه».
بأسلوبٍ دراميّ ولغة واعية غير مسبوقة، بخبراتٍ مُخضرمة وواعدة، بإمكانياتٍ عالية، في مدينة المعازيب السينمائية، وثَّق مسلسل: «خيوط المعازيب 2024» حقبة زمنية تاريخية لصناعة البشت الحسَاوي الحريري المُذهَّب، الأرقى عالميًا، والذي صُنع يدويًّا في بيئةٍ قاسية كان لسان حالها: «وجروحنا صَارت بشوت».*
الهوامش
* أغنية تتر مسلسل: «خيوط المعازيب 2024»، كلمات: خالد عوض، لحن وأداء: الفنَّان الحسَاوي: رابح صقر.