ترجمة: هاشم الهلال
الآلة تكتبُ في المُقابل قد يفسد الأدب الآليّ ذاقتنا، لكن حتى في عَصر الرومانسية مُعظم الكُتَّاب كانوا على ذاتِ الطريق.
طورَ مختبر الأبحاث أوبن أيه آي (Open AI)، منذ إنشائه عام ٢٠١٥، سلسلة من نماذج اللغة القوية التي تسعى لبناء ذكاءٍ اصطناعي صديق للإنسان وهو مبادرة يدعمها إيلون ماسك، وأخر هذه النماذج كان (GPT-3) (الجيل الثالث -محول مدرب مُسبقًا). نموذج اللغة هذا هو برنامج حاسوبي يحاكي لغة الإنسان. مثل عمليات المحاكاة الأخرى، إذ يتأرجح بين الاختزالي (الواقع أكثر فوضوية وغير قابل للتنبؤ به)، والتنبؤي (للنموذج هو إنشاء عالم موازٍ يمكنه أحيانًا تقديم تنبؤات دقيقة حول العالم الحقيقي). تكمن نماذج اللغة هذه وراء الاقتراحات التنبؤية لرسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية. يمكن للكتابة الذكية في (Gmail) إكمال “أتمنَّى أن …” مع ” … البريد الإلكتروني مكملًا العبارة تكون بخير”. تشهد حالات الصحافة الآلية (الأخبار الرياضية والتقارير المالية، على سبيل المثال) ارتفاعًا، بينما تعتمد تفسيرات الفوائد من شركات التأمين والنسخ التسويقية أيضًا على تقنية الكتابة الآلية. يمكننا تخيل مستقبلًا قريبًا تلعب فيه الآلات دورًا أكبر في أنواع الكتابة التقليدية وأيضًا دورًا أكثر إبداعًا في الأنواع الخيالية (الروايات والقصائد والمسرحيات) وحتى في ترميز الحاسوب نفسه.
تُعطى نماذج اللغة اليوم كميات هائلة من الكتابات الحالية لاستيعابها والتعلّم منها. دُرِبَ نموذج (GPT-3) على حوالي خمسمائة مليار كلمة. تستخدم هذه النماذج الذكاء الاصطناعي لمعرفة الكلمات التي ترافق في العادة مجموعة معينة من الكلمات وفي ذات الأثناء تلتقط المعلومات حول المعنى وبناء الجملة. إنهم يقدرون الاحتمالات (احتمالية ظهور كلمة بعد جُمَل أو كلمات مُعينة) لكل كلمة في مفرداتهم وهذا هو سبب تسميتها أحيانًا أخرى بنماذج اللغة الاحتمالية. بالنظر إلى السياق “كان الحساء …” يعرف نموذج اللغة أن “… لذيذ”، “… خرج” أو “… أفضل شيء في القائمة”، مُرجحة أكثر من “… مزاجي” أو “… قميص”.
وراء التكهنات الأخيرة مثل مقال ستيفن ماركي في (ذا نيويوركر) أن مقالات الطلاب لن تكون كما هي بعد نموذج (GPT-3)، أو أن البرنامج سيعالج بشكل نهائي عجز الكاتب مما يجعلها حقيقة أكثر تواضعًا. لا يتمثل الابتكار التقني الرئيسي لـ (GPT-3) في كونهِ كاتبًا رائعًا: إنه قابل للتكيف عبر مجموعة من المهام المحددة. نشرت أوبن أيه آي نتائج أداء (GPT-3) في مجموعة من الاختبارات لمعرفة مدى أدائها مقارنة بنماذج اللغات الأخرى المخصصة للمهام مثل تصحيح القواعد والإجابة على الأسئلة التافهة أو الترجمة. كنموذج لجميع الأغراض، يعمل (GPT-3) بشكل جيد أو أفضل من النماذج الأخرى، خاصةً عند المطالبة ببعض الأمثلة المفيدة. إذا كانت كلمة “قضاعة البحر” هي “loutre de mer”، و”نعناع” هي “menthe poivrée” فإن كلمة “جبن” بالفرنسية هي…؟ كونك متعدد الاستخدامات يساعد (GPT-3) على إنتاج كتابة متماسكة. يأخذ في حسبانه حتى الكلمات المختلقة التي لم ترها من قبل. حينَ نعرف “أن تصرخ بوجه شيء ما”، يعني “أن تؤرجح سيفك عليه”، وطلبنا استخدام هذه الكلمة في جملة، يؤلّف الكمبيوتر إجابة محترمة: “صرخنا على بعضنا البعض لعدة دقائق ثمّ خرجنا وأكلنا الآيس كريم”.
تم تداول ردود الفعل على (GPT-3) في الدوائر التقنية ووسائل الإعلام الرئيسة على حد سواء. هناك مخاوف بشأن مجموعات البيانات التي تم تدريب النموذج عليها. معظم النصف تريليون كلمة التي تضفي على نموذج (GPT-3) كفاءته هي عبارة عن كتابات الإنترنت “التي تُخزن” وتؤرشف بواسطة الروبوتات مع وجود قدر قليل منها من الكتب والنتيجة هي أن الآلات يمكنها إنشاء لغة بغيضة تكرر فيها الكتابة التي تعلمتها. يشير سطر آخر من النقد إلى أن مثل هذه النماذج ليس لديها معرفة فعلية بالعالم وهذا هو السبب في أن نموذج اللغة الذي يمتلك قدرًا كبيرًا من المعلومات حول احتمالية تسلسل الكلمات يمكنه كتابة جمل غير منطقية. قد يشير ذلك إلى أنه إذا كنت رجلًا وتحتاج إلى المثول أمام المحكمة لكن بدلتك متسخة يمكنك أن ترتدي بدلة السباحة بدلاً منها. أو بينما يعرف أن الجبن بالفرنسية هي من كلمة (fromage)، فإنه لا يعرف أن الجبن لا يذوب عادة في الثلاجة. هذا النوع من المعرفة الذي تُختبر نماذج اللغة على أساسه يسمّى “فيزياء الحسّ السليم”. يبدو هذا متناقضًا، ولكنه مناسب عندما تفكر في أن الأعمال الداخلية لهذه النماذج القائمة على التعلّم العميق على الرغم من كونها أساسية تبدو غامضة تمامًا أيضًا.
ثم هناك اختبار تورينج. إلى أيّ مدى يمكن أن تبدو الكتابة الآلية الآن مثل الكتابة البشرية بشكلٍ عام أو تقلد مؤلفًا معينًا أو نوعًا من الكتابة كما لو تم تجنيدها للعب لعبة مُلصقات الكتب؟ يتضح أن المُقَيمون لا يستطيعون تخمين ما إذا كانت بعض المقالات الإخبارية المفبركة على الكمبيوتر هي من عمل شخص أو آلة في أكثر من خمسين بالمائة من الوقت وهذا ليس بأفضل من الصدفة. وما يبدو أكثر إنسانية من تأرجح السيف في وجه شخص ما لـ “الصراخ” في وجهه قبل التفكير في تعويضها بجلسةِ آيس كريم فهناك احتمالية تلوح في الأفق بأن تُلتقط السيوف مرة أخرى وتُرفع الهدنة؟ عندما تقرأ هذا، ربما تفكر: بالتأكيد لغة الإنسان أكثر تعقيدًا من التوقعات الاحتمالية حول ترتيب الكلمات؟ ستتساءل عن الطريقة التي تُنظم بها الروايات العظيمة في التاريخ الواسع للغات والأدب والكلمات التي تجعلنا نندهش. لكن الكتابة متسلسلة بشكل لا مفرّ منه. وصفت زادي سميث ذات مرة عملية الكتابة الخاصة بها على النحو التالي: “أبدأ من الجملة الأولى من الرواية وأنتهي بآخرها”. الكلمات تتبع الكلمات ويمكن للنموذج الذي يحصل على تسلسل الكلمات بشكل صحيح أن يحصل على الكثير من الأمور الأخرى حول اللغة.
ولكن ماذا عن الأسلوب والكتابة الأدبية؟ إذا كان الكثير مما نقرأه ونكتبه يمكن التنبؤ به، ألا نقدر بشكل خاص تلك اللحظات سواء في المحادثة أو في الكتابة، عندما تكون العبارات غير متوقعة ومفاجئة ومناسبة تمامًا؟ في رواية إليف باتومان (الأحمق) ٢٠١٧ تلاحظ شخصيتها الرئيسية سيلين زملائها الناطقين باللغة الإنجليزية وهم يصحّحون لمتحدث هنغاري كان قد تأمل للتو: “إذا كنت تأكل بتأني، يمكنك أن تشعر بالطعام”. يُشير أصدقاء سيلين بأنه يمكن أن “تتذوق” أو “تستمتع ” أو “تتلذذ” أو “تستطيب” الطعام. لكن سيلين الكاتبة الناشئة تقدر ملاءمة الصياغة غير المحتملة وتفكر في نفسها: “لم أكن لأصحّح لأيّ شخص قال: ” يمكنك الشعور بالطعام”.
تجعل النماذج اللغوية حياتنا أسهل عندما نستخدم الإكمال التلقائي أو التدقيق الإملائي لكن مبدأها الأساسي يمكن أن يُفسد ذوقنا الأدبي. اللغة المحتملة للغاية لنسميها لغة محتملة لا يمكن ولا ينبغي تجنبها بالكامل. لكن الكثير منها يؤدي إلى رداءة الأسلوب كما نعلم من التقليد الأدبي المتمثّل في تكرار الكليشيهات. اشتكى جورج أورويل في مقالته “السياسة واللغة الإنجليزية” (١٩٤٦) من الكتابة التي تبدو وكأنها “تجمع معًا شرائط طويلة من الكلمات التي تم ترتيبها بالفعل من قبل شخص آخر”. ما الذي كان سيفكر فيه أورويل حولَ النصوص التي أُنشئت بواسطة الكمبيوتر والتي تلزم الكلمات معًا على وجه التحديد لأن الآخرين قد طلبوها على هذا النحو وتكرَّرت مرارًا وتكرارًا؟ في الآونة الأخيرة، قالت الكاتبة ليديا ديفيس في مناقشة “لماذا نكره الكليشيهات كثيرًا؟”، إنها “لا تعكس شخصيتك الفردية للغاية إنها أفكار مستعارة بلغة قديمة”. تطول قائمة الاعتراضات ولكن مرة أخرى إذا استمرت القائمة، فذلك لأن الاستهزاء بالأفكار المستعارة هو في حد ذاته ممارسة بالية. والتكرار والاعتياد والتقليد وحتى تلك التي تعتبر اعتراضات عليها هي بالضبط الأساليب الاحتمالية للغة التي لا تشوبها شائبة عند البدء.
بدون القدرة على التدوين، تمّ تخزين المعرفة وتعميمها من خلال هذه الصيغ الشفهية.
ومع ذلك، يوجهنا نفورنا المبتذل من الكليشيهات إلى اتجاه واعد. لفهم الفكرة المذهلة للكتابة الآلية وإخراج الجمل على أساس الاحتمالات فقط نحتاج إلى فهم نماذج اللغة مثل (GPT-3) ليس فقط كتطورات في الذكاء الاصطناعي واللغويات الحاسوبية، ولكن من منظور التواريخ المتشابكة من الكتابة والبلاغة والأسلوب والأدب أيضًا. كيف تبدو نماذج اللغة الاحتمالية على خلفية تاريخ اللغة المحتملة؟ وما الذي قد يقترحه لنا هذا المنظور التاريخي حول ما يعنيه النصّ التركيبي لمستقبل الكتابة الخيالية؟
في كتابي الحالة المُتصلة (٢٠١٩) (The Connected Condition)، الذي يستكشف كيفية استجابة الشعراء الرومانسيين البريطانيين لبدايات عصر المعلومات لعالم متصل حديثًا بتقنيات الاتصال، من النماذج الورقية الموحدة إلى التلغراف استلهمت من أعمال والتر جي. اونج (١٩١٢ – ٢٠٠٣) عالم الأدب والمنظّر الإعلامي الذي كان أيضًا كاهنًا يسوعيًا، حيث يقدم أونج إطارًا لا غنى عنه لفهم العلاقة بين اللغة والتكنولوجيا في العالم الغربي مما يمنحنا طريقة لفهم الكتابة التي تُنشئ بواسطة الكمبيوتر اليوم.
يذكرنا أونج بأننا اعتمدنا على اللغة المحتملة في معظم تاريخ البشرية. قبل ظهور الكتابة قبل أكثر من خمسة الآف عام، كانت السِّمة المميزة للثقافة الشفهية هي التفكير والتحدث بلغة جماعية وصيغية. “في الثقافة الشفهية،” يشرح أونج في البلاغة والرومانسية والتكنولوجيا (١٩٧١) “يجب أن تتكرر المعرفة بمجرد اكتسابها أو ستضيع: أنماط التفكير الثابتة والصيغية ضرورية للحكمة والإدارة الفعالة.” بدون القدرة على التدوين تم تخزين المعرفة وتعميمها من خلال هذه الصيغ الشفهية. تخيل لو اضطررنا إلى الإبحار في العالم دون أن نستفيد من الكتابة مُستخدمينَ فقط فن الإستذكار المعلوماتي أو الصيغ الشفهية مثل: “ثلاثون يومًا في سبتمبر و / أبريل ويونيو ونوفمبر … تتضمن هذه الصيغ دائمًا كليشيهات (كان الجنود “جنودًا شجعانًا”؛ وكانت شجرة البلوط “بلوطًا ثابتًا”)، وسِمات شعرية مألوفة مثل: “طريق الحوت” للمحيطات. اعتمد تذكُّر التراكيب وتوصيلها على هذه العبارات العادية: الشاعر الملحمي الشفهي هومر “جمع أجزاءً موجودة مُسبقًا”، ومن ثمّ كان أشبه “بعامل خط التجميع” أكثر من كونهِ مؤلفًا. كانت اللغة المحتملة في البداية عبارة عن تقنية شفهية وذكية لتخزين المعلومات ونقلها.
من خلال الثورات المتتالية في وسائل الإعلام والتكنولوجيا، بما في ذلك انتشار الكتابة واختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، استمرت العبارات المحتملة في التدريس والممارسة الخطابية ” كأفكار مُقلدة”، التي يمكن أن تشير إلى شيئين. كانت الأفكار المُقلدة”التحليلية” موضوعات أو عناوين تمّ تناولها جيدًا للمناقشة. في حالة مناقشة فرد ما فإن الأفكار المُقلدة تشمل مكان منشأ الشخص والوالدين والرذائل والفضائل؛ عند مناقشة ظاهرة ما، فإن الأفكار المُقلدة كانت أسبابًا وآثارًا وظواهر متشابهة ومعاكسة. النوع الثاني من الأفكار المُقلدة هوَ الأكثر ارتباطًا هنا وهو “الشائع التراكمي” أو العبارات أو الممرات الجاهزة. تتضمن هذه العبارات المستخدمة بشكل متكرر مثل “مجرب ومفيد”، “تغيير مفاجئ” أو حتى مقاطع سردية موحدة على سبيل المثال، “ذات مرة …” أو “كانت ليلة مظلمة وعاصفة …”.
أدى ظهور الكتابة والطباعة إلى تخفيف قبضة اللغة المحتملة: فكل منهما كوسيط فيزيائي يسمح بتوفير المعرفة بمرور الوقت ونشر المعرفة في الفضاء وهذا يحرر الفكر والتعبير البشري من الأخاديد العميقة للغة التقليدية ومع ذلك، من المفارقات أن هذه “بقايا” الثقافة الشفهية المستخدمة كثيرًا لم يتم إخمادها بالكتابة والطباعة بل تمّ تجميعها في مجموعات وملخصات تم استخدامها لتعليم الطلاب المناهج الخطابية من العصور القديمة مرورًا بعصر النهضة إلى انحدار هذا النوع من التعليم في القرن التاسع عشر.
كان ذلك فقط مع ظهور حركة فنية تُدعى بالحركة الفنية الرومانسية بتعبيرِ سرديٍ شامل لأونج، إذ بدءًا من منتصف القرن الثامن عشر تقريبًا، أصبحت تلك اللغة المحتملة تعتبر أقلّ لبنات البناء وأقرب لكونها مألوفة وقديمة ومملة بشكل أساسي، هي أقرب إلى كيفية تفكيرنا في عبارة “فكرة مُقلدة” اليوم. يجادل أونج أن “الذاتية الرومانسية موجودة،” بخلاف التعبير الوصفي. هذا لأننا في هذا الصدد أيضًا رومانسيون أو على الأقل ورثنا التقدير الرومانسي للأصالة الفنية.
كشف مثال للرفض الرومانسي للغة المحتملة في “مقدمة” لويليام وردزورث في ليركال بالادز أو القصائد الغنائية (١٨٠٠). كانت “المقدمة” بيانًا فنيًا من نوع ما ملحقًا بحجم القصائد التي كتبها بالتعاون مع صامويل تايلر كولدج. يقتبس وردزورث في “المقدمة” بالكامل سونيتة رثائية (“On the Death of Mr. Richard West”) لشاعر القرن الثامن عشر توماس جراي. في لفتة افتتاحية قاسية إلى حدّ ما، أعلن ووردزورث أن الأسطر الخمسة فقط التي كتبها مائلة هي “القيّمة”:
“عبثًا يضيء الصباح المبتسم،
واحمرار فويبوس يرفع ناره الذهبية:
تنضم الطيور عبثًا إلى ذريّتها الغرامية،
والحقول المبهجة تستأنف ملابسها الخضراء؛
هذه الآذان واحسرتاه! لملاحظاتٍ باقية؛
شيء مختلف تتطلبه هذه العيون؛
حزني الوحيد لا يذيب إلا قلبي؛
وفي صدري تنتهي الأفراح الناقصة.
لكن الصباح يبتسم ليُعبرَ عن فرحه،
ولذة المولود الجديد تجلب الرجال الأكثر سعادة؛
جميع الحقول تحمل الجزية المعتادة؛
لتدفئة حبّهم الصغير تشكو الطيور.
أحزن بلا جدوى على من لا يسمع
ويزداد البكاء لأنني أبكي عبثًا”.
كما يشير أونج رفض وردزورث وكوليردج تلك الأجزاء من السوناتة التي خانت بقايا الأفكار المُقلدة التراكمية والتي كانت لا تزال تحظى بشعبية في شعر القرن الثامن عشر. اعتقد الكتاب في الواقع أن مثل هذه الكليشيهات الفنية المسمّاة “الإلقاء الشعري” على سبيل المثال الممارسة المنتشرة لتسمية الطيور “أصدقاء الريش”، كانت سِمة أسلوبية مميزة للغة الأدبية. لكن بالنسبة للرومانسيين، فإن مثل هذه العبارات والعبارات المماثلة الموجودة في سونيت جراي مثل: “الصباح المبتسم”، و”احمرار فويبوس” (طريقة أخرى لوصف الصباح)، و”الحقول المبهجة” كانت عبارة عن عبارات يدوية أعيد تدويرها آليًا بواسطة الشعراء لمجرد أنّ “قواعد القرار الموضوعة مسبقًا” اعتبرتها لغة الشعر المناسبة.
هذه الصيغ أخذت الشعر بعيدًا جدًا عمَّا اعتقده وردزورث على وجه الخصوص بكونهِ لغة المحادثة اليومية. كان يعتقد أن الأدب يمكن التعبير عنه بلغة مألوفة (بمعنى اللغة المنطوقة العادية والنثر المكتوب) وليس من خلال الأفكار المُقلدة التراكمية. أصَّر وردزورث وكوليردج على أن الأسطر الواضحة نسبيًا التي تعبّر عن حزن الشاعر، والتي لم يتم اختراق عباراتها هي مادة الشعر الحقيقي: تعبير فنان فردي. بكلمات أونج كانت نظرة الشاعر الرومانسي أنه “كلَّما كان هو أو هي أفضل، كان أقل قابلية للتنبؤ بأيّ شيء وكل شيء في القصيدة.” لغة محتملة.
تكشف لنا نماذج اللغة المعاصرة أنّ أسلوبنا البسيط مليء بعباراتٍ محتملة للغاية.
بالطبع لم يكن الرومانسيون متحررونَ من التقاليد كما أعلنوا. وازنوا مثل كل الفنانين بين التقليد والابتكار. ومع ذلك، فإن تاريخ اللغة المحتملة يترك لنا الكثير من الأسئلة المعقدة حول نماذج اللغة الحالية، مثل نموذج (GPT-3)، الذي يمكن أن يبدو كما لو كانت لديه بعض القدرة على التفكير والتأليف. إذا كنّا نفكر ونلفظ ونكتب لغة محتملة في معظم تاريخنا فإن نماذج اللغة الاحتمالية تحاكي الإنسانية الأولى: الطريقة التي يمكن أن تكتب بها أجهزة الكمبيوتر الآن تشبه الطريقة التي تحدث بها البشر لأوّل مرة.
لجعل الأمور أكثر إثارة للاهتمام، اتبعت كتاباتنا اليوم الرومانسية في التخلص من التقاليد العميقة للأفكار المُقلدة التراكمية. الأسلوب الحديث والأكثر بساطة، الاختلافات التي نكتبها جميعًا هي وفقًا لمصطلحات أونج “أسلوب الناس المتطورين والمتعلّمين الذين جردوا لغتهم من بعض السِمات النموذجية والمزخرفة التي ورثتها عن أوقات بدائية أكثر. تمارس المُثُل الأسلوبية للوضوح والإيجاز ضغطًا أكبر بكثير على كتاباتنا من الحاجة إلى الالتزام بالأفكار المُقلدة التقليدية. ومع ذلك، فإن أحد التأثيرات الغريبة لنماذج اللغة المعاصرة هو أنها تكشف لنا أن أسلوبنا البسيط مليء بعبارات محتملة للغاية. ربما تكون أقل وضوحًا من عبارات مثل: “أصدقاء الريش” أو “صباح مبتسم”، لكنها ليست أقل احتمالية على سبيل المثال، “حتى الآن، جيد جدًا” أو “أوقات غير مسبوقة”. بعبارة أخرى، تمتلئ كتاباتنا اللاحقة الشائعة بالأفكار المُقلدة. وتحت الأفكار المُقلدة الأسلوبية الخاصة بنا توجد طبقات فوق طبقات من الأفكار المُقلدة السابقة التي قمنا من خلالها بتنظيم الكتابة والتنقل فيها.
يمكن للمرء أن يستنتج اعتمادًا على ما يعتقده عن الفن والسياسة بقلق، أن التقنيات مثل الكتابة الآلية تهدد الأصالة البشرية (فكرة تنبع من الرومانسيين) أو أن الكتابة الآلية تساعد في إسقاط هذا التركيز الشديد على المؤلف الفردي المبدع . لكن تفسير أونج يشير في الواقع إلى استنتاج مختلف أيضًا، بقدر ما لم تكن الرومانسية تتناقض مع تقنيات الكتابة ولكنها نتاج لها. حرّرت تقنيات الكتابة القديمة من الكتابة اليدوية إلى الطباعة العقل البشري من عبء تخزين المعلومات حتى نكون أكثر إبداعًا. وبالمثل فإن تقنيات النصوص الحالية التي يمكن أن تولد كتابة مفيدة لا تحتاج إلى القضاء على فكرة الأصالة البشرية بقدر ما تعيد تنشيط رومانسية جديدة. يمكن للمرء أن يلائم ويتلاعب ويسخر بل ويرفض أيًا كانت الكتابة الآلية. وإذا بدا أن المؤلفين البشريين لديهم الكلمة العُليا، فإن نموذجًا لغويًا أكبر وأفضل سيأتي حتمًا ويستهلك كل تلك الكتابة الجديدة. ثمّ يبتكر الكُتاب مرارًا وتكرارًا.
ماذا يعني التأليف باستخدام نماذج اللغة؟ الشراكة توتر اللغة نفسها. ومع ذلك، فإن الكتابة الآلية اليوم تشير بوضوح إلى مجموعة متنوعة من التجارب الفنية الحداثية واللاحقة مما يزيد من تعقيد الأفكار حول التأليف البشري الفردي والفن. ضع في اعتبارك فرض القيود التي فرضتها المجموعة الأدبية الفرنسية (Oulipo) على سبيل المثال، رواية جورج بيريك لا ديسباريشن (١٩٦٩) (La Disparition)، التي تستثني الحرف “e”، أو “قصائد المترو” لجاك جويت التي تم تأليفها على عجل بين التوقفات أو أساليبها الموسيقية، كما هو الحال في فيلم (١٩٦١) (Cent mille milliards de poèmes) لريموند كوند، حيث يمكن إعادة تجميع سطور من عشرةَ سوناتات لتكوين عشرةَ آلاف مليار سوناتة أخرى. تتبادر إلى الذهن أيضًا الخوارزمية التركيبية التعاونية لـلسريالية المعروفة باسم الجسد النفيس (Exquisite Corpse): حيث يساهم كل لاعب في جزءٍ من صورة أو نصّ بالتتابع دون رؤية ما حدث من قبل. موجه الإنسان متبوعًا باستجابة (GPT-3) متشابهة جدًا.
مقدمة رواية “لا ديسباريشن” لجورج بيريك (١٩٦٩)، التي تُرجمت إلى الإنجليزية على أنها فراغ (١٩٩٥) بقلم جيلبرت أدير. بإذنٍ من الإرشيف.
يريد بعض المعلقين تطبيع الشراكة بحجة أن النماذج اللغوية ليست أكثر من أدوات نفعية. تستخدم المدققات النحوية والإملائية التعلم الآلي منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والنصّ الذي أُنشئ بواسطة الكمبيوتر هو امتداد لمثل هذه الإمكانيات. إلى جانب ذلك، فإن تلميع المخرجات التقريبية للنص الاصطناعي يشبه العمل مع طالب يحتاج إلى محرّر بشري. كتاب ألادو ماكدويل (K Allado McDowell) الأخير (فارماكو أيه آي) (٢٠٢١)، Pharmako-AI، هو حوار فلسفي بين المؤلف والنصّ التركيبي لـ (GPT-3)، الذي يتضمن ألادو ماكدويل “مُهذِبًا [النموذج] مرة أخرى من أجل نحت مسار عبر اللغة” من المفترض أن هذا يعني الكثير من التحرير في شكل حذف نصّ أُنشئ بواسطة الكمبيوتر حتى ظهور تسلسل مناسب أو متماسك.
يركز البعض الآخر على غرابة هذا الحوار بين الإنسان والآلة: اقترحت الروائية إلفيا ويلك في (صحيفة ذا أتلانتك) مؤخرًا أن التعاون مع نموذج لغوي يشبه التفاعل مع وعيّ غير بشري مثل وعي الدلافين الذي نحاول تجسير الهُوة للتواصل. من وجهة النظر هذه، فإن الكتابة الآلية هي شكل من أشكال الإبداع غير المتمحور حول الإنسان (على الرغم من أنه من الجدير أن نتذكر أن النماذج اللغوية، على عكس الدلافين من صنع الإنسان). أظن أنه ليس من السهل تحديد طبيعة التعاون لأن المتعاون نفسه يصعب وصفه. أيًّا كان الأمر فهو تشابك بشري-غير بشري على كل المستويات: يستلزم الكتابة بنموذج لغوي التفاعل مع العقلية الحاسوبية اللغوية التي تدخل في نمذجة اللغة. باستخدام روبوتات من صنع الإنسان ولكنها غير بشرية، حيث تحصد الكتابة على الإنترنت؛ مع الكتلة المجهولة المصدر من الكتابة البشرية وغير البشرية التي تغرق الإنترنت، التي يتم تدريب النماذج عليها وهلم جرّا.
نتوق جميعًا إلى التقليد؛ هناك نسبة مراوغة بين ما هو مألوف وجديد.
من خلال البحث حول الكتابة التي أُنشئت آليًا والتفكير في آثارها الفنية، أتذكر مشروع (People’s Choice)، وهو مشروع للفنانين المرئيين الروسيّ المولد والمقيمين في نيويورك فيتالي كومار وألكسندر ميلاميد. ابتداءً من عام ١٩٩٣، استأجرت كومار وميلاميد، بالشراكة مع ناشونال انستوت المعروفة (الآن تايب ميديا سنتر)، شركة أبحاث للرأي العام أجرت استطلاعات الرأي عبر الهاتف مع ألف وواحد أمريكي حول تفضيلاتهم وعاداتهم الجمالية. كان هناك ما يقرب من مئة سؤال. ما هو اللون المفضل للمقابلة؟ ما مدى احتشام الأعمال الفنية التي تحبّها (عارية، جزئية، بكامل ملابسها، يعتمد، لست متأكدًا)؟ مشاهد داخلية أو خارجية؟ ما هو الحجم المناسب للوحة؟ ما رأيك في بيكاسو أو مونيه أو أوكيفي؟ كم مرة في السنة تزور المتاحف الفنية؟ بعد تحليل هذه البيانات باستخدام أجهزة الكمبيوتر، رسم كومار وميلاميد اللوحة الأمريكية الأكثر طلبًا واللوحة الأمريكية الأقل، التي تمّ الكشف عنها في عام ١٩٩٤. وأجروا في السنوات اللاحقة “استطلاعات” مماثلة في ثلاثة عشرَ دولة أخرى، بما في ذلك الصين والدنمارك وفنلندا وألمانيا وأيسلندا وكينيا، في كل مرة يتم رسم نفس الزوج من أكثر الأعمال المطلوبة وغير المرغوب فيها، وكلها تستند إلى ردود الاستطلاع التي تمّ جمعها.
أما بالنسبة إلى أكثر الأعمال المطلوبة، فهي رديئة ورخيصة باستثناء أعمال هولندا متشابهة بشكل لافت للنظر مع بعضها البعض. إنها أيضًا ساحرة ويبدو أنها خلاصة لما يريده الناس أكثر من الفن. سرعان ما يتضح أن الفنانين يأخذون الحرية التفسيرية مع الخصائص الجمالية الأكثر تفضيلًا من أجل ضمان أن جميع لوحاتهم “الأكثر طلبًا” تتشابه مع بعضها البعض وأنهم يكشفون بشكل جماعي عن “تشابه [الأغلبية]”. كما لاحظ ميلاميد: “اللون المفضّل في كل بلد هو الأزرق … في كل مكان يريد الناس مشاهد خارجية مع بعض الحيوانات البرية والمياه والأشجار والبشر”.
في مقابلة مع الصحفية الأمريكية جوان وايبجسكي في عام ١٩٩٧، في صحيفة بابينتنغ باي نومبرز Painting by Numbers، يفكر كومار وميلاميد في إبداعاتهما المستمدة من كميات هائلة من البيانات حول عادات الناس وتفضيلاتهم. قد يكون الفن قبيحًا عن عمد بشكل مؤذٍ لكنه يذكرنا بالأسئلة الكبرى المطروحة. ما هي الآثار المترتبة على أكثرها شيوعًا ومألوفة وشعبية بالنسبة للذوق والإبداع وحتى الديمقراطية؟ ما هي الحرية الفنية، ولمن أو ما هو الفن المسؤول؟ يؤكد اختيار الأشخاص على أننا نتوق بشكل جماعي إلى التقليد وأن هناك نسبة مراوغة بين ما هو مألوف وجديد. إنه يذكرنا بأن السعي وراء المثالية المتمثّلة في “التعاون الحقيقي مع الناس، وتعزيز [مفهوم] الإبداع الجماعي”، من خلال الأكثر احتمالًا هو أيضًا حتمًا “التعاون مع [الـ] ديكتاتور الأغلبية الجديد”.
في عصر الكتابة الآلية، قد ترسم الرومانسية الجديدة هذا الديكتاتور “الأغلبية”، كما فعل كومار وميلاميد، حيث تجمع بين العبارات الأكثر شيوعًا لدينا. أو ربما كما اقترح أونج عن وردزورث وكوليردج يستخدم الأفكار المُقلدة كنقطة انطلاق لشيء جديد. أو ربما يظهر شيء آخر تمامًا. لكن في قلب الموضوع السؤال الذي طرحه كومار: “هل تتوقع رؤية ما هو غير متوقع عندما تنظر إلى الفن؟”.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.