ترجمة: علي رضا – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
نحنُ نعيش في عالَمٍ يتمحوَر حول الاستيقاظ؛ مما يُقلِّل من قيمة الحُلم، ومع ذلك نحنُ بحاجةٍ إلى تجارُب الأحلام؛ حتى نكوّن ذواتنا الأصيلة.
حسبما ورد في العهد القديم، هرب يعقوب للنجاة بحياته من أخيه التوأم الذي خانه، أمضى الليل في البرّيَّة، وهناك حَلم بسُلَّمٍ يمتد بين السماء والأرض، تصعد عليه الملائكة وتهبط، وحَلم بالله وهو يعده بمستقبلٍ مبارك. بينما كانت رأسه مستندة إلى وسادةٍ من الأحجار -رمز المادة في أكثر أشكالها كثافة-، كان يعقوب يَحلُم ببناءٍ يَربِط بين العوالِم المادية والأثيرية. فيمكن القول: إنّ سُلَّم يعقوب هي قصة من النمط الأَوَّلِيِّ عن مَمرٍّ ينقلُنا من الصلادة إلى اللين: من المتاعب الأرضية إلى التعَالي المقدَّس؛ من الاستيقاظ إلى الأحلام؛ ومن الوعيّ إلى اللاوعيّ.
من منظور عِلم النوم، قد يُمثِّل سُلَّم يعقوب بنية نوم الرِّيم [حركة العين السريعة] REM – شبكة عصبية تربط المناطق العُلويّة والسفليّة من الدماغ. ويمكن أن ترمز حركة الملائكة إلى سيرورة الحلم ذاتها، بوصفها حوارًا مستمرًّا بين عالَم اليقظة وعالَم الأحلام. يُمثِّل نوم الرِّيم والأحلام تناولَيْنِ مختلفَيْنِ لنفس العملية: أحدهما فسيولوجي والآخر فينومينولوجي. أحدهما يحدث في الجسد والدماغ، والآخر في العقل. ومن أجل فهم نوم الرِّيم والأحلام بحقّ، يجب أن نَدمُج فَهمَنا المنفصل لهما في مفهومٍ جديد أعلى مرتبة سأسمّيه الرِّيم / الحلم (سأستمر في استخدام مصطلحات نوم الرِّيم والحلم بشكلٍ منفصل عند الإشارة إلى خصائصهما المميزة). يقظة جزئية ونوم جزئي، الرِّيم / الحلم هي حالة هجينة من الوعي، منطقة حدودية بين العالَم المادي والأثيري، بين الجسد والعقل.
بدأ البحث في الرِّيم / الحلم منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وتسارَع بشكلٍ كبير مع التقدّم في التصوير العصبي neuroimaging. نحن نعلم الآن أنّه بمعزلٍ عن تأثيرات النوم المعتادة -أيّ نوم غير الرِّيم- يلعب الرِّيم / الحلم دورًا أساسيًّا في التعلّم والذاكرة، والمزاج والمناعة، وكذلك في الإبداع والتعبير الفني. أيضًا يُمدِّد الرِّيم / الحلم، ويَبْسُط ويعيد تشكيل وَعيِنا. إنها عملية مشتقة من اسم مورفيوس Morpheus، إله الأحلام اليوناني، حيث يقوم الرِّيم / الحلم بتشكيل morphs إحساسنا الأساسي بالذات بصورةٍ فعّالة.
من منظورٍ متشدٍّد لعِلم الأعصاب، الحلم الذاتي ما هو إلاّ أثر جانبي عَرَضي لا معنى له لنوم الرِّيم. إنه مجرد حلم. ومع ذلك، فإن الدراسة الفينومينولوجية للأحلام، والتي تعود إلى آلاف السنين، قد كشفت عن تراثٍ واسع ومثير للاهتمام من الملاحظات النفسية، والثقافية، والأسطورية. ما الذي قد يكشفه تكامل العلم [الموضوعي]، والتجربة الذاتية في نوم الرِّيم والأحلام؟
يمضي العقل والجسد في طريقَيْنِ منفصلَيْنِ أثناء الرِّيم / الحلم. بشكلٍ أدقّ، تنفصل الوظائف التنفيذية القِشرية العُلويّة عن الوظائف الجسدية السفليّة الحوفية [الانفعالية]. يرتاح الجسد من إشراف العقل التَحَكُّمِيّ اليقظ الذي تُحرِّكه الأنا، ويَتحرَّر العقل من القيود المادية لشغل الجسد. من منظور العقل، فإنّ الرِّيم / الحلم هي تجربة خروج من الجسد. من منظور الجسد، إنها تجربة خروج من العقل.
عندما يغيب العقل، يصبح الجسم جامحًا، وغير منظَّم، بل وحتى شهوانيًّا. يَتميَّز نوم الرِّيم بـ “عواصف” الجهاز العصبي اللاإرادي – موجات قوية من خَلَل التنظيم الجسدي في مُخطَّطات الدماغ الكهربائية، وفي نشاط القلب والأوعية الدموية، وفي مُعدَّلات التنفس، وأكسجين الدم، ودرجة حرارة الجسم. نفقد الاتصال بعضلاتنا الإرادية، مما يفرض على الجسد نوعًا من العبودية العصبية، والذي، بصرف النظر عن تأثيرات سرديّات الأحلام، يُصبِح مستثارًا جنسيًّا. يمكن لهذا الخَلَل التنظيميّ الظاهر أن يكون في الحقيقة عملية إعادة تنظيم تعيد الجسم إلى حالته الأصلية عن طريق التخلُّص من التوتُّر المُتراكِم تحت مراقبة العقل اليقظ. وبشكلٍ أكثر تحديدًا، يساعد نوم الرِّيم على تنظيم إيقاعات الساعة البيولوجية، ودرجة حرارة الجسم، والهرمونات، والتمثيل الغذائي، والمناعة.
يبدو أنّ انحباس العقل في الجسد طوال الوقت يجعل العقل مُضطربًا ومُنزعجًا. من الناحية الذهنية، يُشبِه الحلم خلع زوج من الأحذية الضيقة في نهاية اليوم: لم يَعُد العقل المتحرِّر مقيَّدًا بالعمليّات الحسيّة والحركية للجسد. وهو ما يُذكِّرنا بالمفاهيم الشائعة عن الروح التي تترك الجسد أثناء النوم، فالأحلام تُحرِّر العقل من عالَم المادة؛ وبعد ترك الجسد، يكون للوعي حريّة التَّمَطِّي، والتأمُّل، واللعب. يَنبسِط العقل الحالم، ويتثاءب، ويستيقظ في مكانٍ مألوف بشكلٍ غريب، حيث يمكنه السفر عبر الزمن، والتحدث مع الشياطين، أو الوقوع في دورةٍ لانهائية من تحضير أطباق العشاء، أو التحليق مع الملائكة. مع وجود سُلَّم يعقوب في مكانه، فإنّ السماء حرفيًّا هي الحدّ الأقصى.
منذ اكتشاف ناقلات عصبية رئيسة في الدماغ تعمل في الجهاز الهضمي، أصبح من الطبيعي التحدُّث عن الأمعاء بوصفها دماغ ثانٍ. الهضم، في الأخير، هو عملية تتطلَّب اتخاذ قرارات ذكية حول استيعاب، أو إخراج ما استهلكه الجسم. لكن إذا كانت الأمعاء تعمل كدماغ ثانٍ أثناء عملية الهضم، فإنّ الدماغ يكون بمثابة القناة الهضمية الثانية أثناء الرِّيم / الحلم. يُغربِل هضم الأحلام الذكريات قصيرة المدى، التي تُشكِّلها تجارب اليقظة الأحدث، لتحديد ما سيتمّ نسيانه وما سيتمّ استيعابه في شبكات الذاكرة المستقرة الحاليّة حتى تصبح جزءًا من هويتنا. أثناء هذه العملية، يتمّ تخفيض المشاعر السلبية نظاميًّا بينما تُدمَج التجارب المعزِّزَة نفسيًّا في إحساسنا بالذات بشكلٍ رمزي. كما اقترحت سابقًا، يقوم الرِّيم / الحلم بتشكيل وَعيِنا. يُصوِّر أحد الرسوم الكرتونية المفضلة للعلاج النفسي مُعالِجًا يقول لمريضٍ: “مُرَّ بحُلمَيْنِ واتصل بي في الصباح”. اليوم، تشير الأبحاث إلى أنّ الحلم يعمل كشكل باطنيّ من أشكال العلاج النفسي.
تَكمُن إحدى أهمّ وظائف الرِّيم / الحلم في توسُّطها للنوم وهي الوظيفة التي عادة ما يتمّ تجاهلها. رأى سيغموند فرويد Sigmund Freud أنّ الأحلام هي الطريق المَلَكي إلى اللاوعي. لكن الأحلام، بشكلٍ أدقّ، هي الطريق المَلَكي إلى النوم. الرِّيم / الحلم هو الجسر من وإلى النوم. النوم الصحيّ عادةً ما يبدأ، ويمرّ، وينتهي، بحالات الحلم المختلفة. ندخل مرحلة النوم عبر حلم نُعاسيّ قصير يتميز بإطلاق صور مُتَلَوِّنة سريعة ومتغيرة، مثل: دوامة من الوجوه والأنماط الهندسية، وكذلك أصوات غريبة، وذلك الإحساس المألوف بالسقوط. تَنسُج دورات الرِّيم / الأحلام السردية طريقها خلال الليل، وتبلغ ذروتها في الصباح في أحلام الرِّيم / النوم المتقلِّبة الاستفاقية التي تقودنا إلى الاستيقاظ. إنّ القدرة على التحول من الاستيقاظ العادي إلى حالات الوعي الحالِم هي مفتاح بوابات النوم.
في كتابه الأول عن الطب البديل، العقل الطبيعي The Natural Mind (1972)، حاجَج أندرو ويل بأنّ البشر لديهم احتياج فطريّ لتمديد الوعي، وإذا لم يتمّ إشباعه طبيعيًّا فستزيد احتمالية اعتمادنا على المواد والعقاقير لتحقيق ذلك. الحلم يُمدِّد الوعي طبيعيًّا. أيضًا كتب كارلوس كاستانيدا Carlos Castaneda أنّ “الحلم يمنحنا السيولة المطلوبة لدخول عوالم أخرى من خلال تدمير إحساسنا بمعرفة هذا العالَم”. الرِّيم / الحلم هو طريقة للإدراك، فهي تكشف عن فضاء الأحلام الذي أطلق عليه عالِم الأساطير مايكل ميد Michael J Meade، “العالَم وراء العالَم”. على النقيض من المنظور القصدي لوعي اليقظة العادي، فإنّ الأحلام طريقة لطيفة ومتقبَّلة للرؤية. اعتمادًا على عمق رؤيتنا، يمكن أن يكون الحلم شخصيًّا أو عابرًا للشخصانية، فيكشف عن العالَم وراء عالَمي، أو العالَم وراء العالَم.
مثل هذه الاكتشافات ليست جذابة في كثيرٍ من الأحيان. يفتح الحلم علينا العوالم الأخرى من خلال تدمير إحساسنا بمعرفة هذا العالَم، وهي العملية الأكثر تجلّيًا في الأحلام المظلمة والكابوسية. إذا هضمت الأحلام / الرِّيم العادية أحداث اليقظة واستوعبتها في هويّتنا، فإن الأحلام المظلمة تستوعب تجارب الحياتية الأصعب عن طريق تغيير إحساسنا بالعالَم وموقعنا فيه. إذا سمحنا بحدوث ذلك، فإنّ الحلم يقضي تدريجيًّا على مركزية اليقظة، ذلك الوعي اليقظ الذي يرتبط به الغربيون على وجه الخصوص بشكلٍ مُفرِط. بإمكانك تصوّر مركزية اليقظة بوصفها نظرة ما قبل كوبرنيكية للعالَم تَفترِض أنّ اليقظة هي مركز عالَم الوعي، بينما يشغل النوم والأحلام إلى مواقع ثانوية تدور حول هذا المركز. إنها مصفوفة Matrix، محاكاة ثقافية تطورت لدعم التكيُّف، لكنها تحدُّ من وعينا بشكلٍ غير مقصود. مركزية اليقظة هي اعتماد مُفرِط بشكلٍ خفيّ، لاإراديّ، ولصيق، وإدمانيّ على الطرق العادية للإدراك والتي تتعارض مع تجربتنا الشخصية المباشرة أثناء الأحلام. إذا وَضعتُ مركزيّة اليقظة محلَّ الإيمان في العبارة الشهيرة لرجل الدين البريطاني روبرت بولتون Robert Bolton، في القرن السادس عشر، سأقول: إنها ليست مُجرّد فكرة يمتلكها العقل، ولكنها فكرة تمتلك العقل. مركزية اليقظة هي وعيّ بعالَم مُسطَّح. فهي تحذرنا من أن نقترب من الحوافِّ، وأن نمتنع عن التحاور مع الأحلام واللاوعي.
تكون معظم الأحلام تعبيرات عن اللاوعي الشخصي، وتَتَضمَّن قصصًا عن الهُويّة، والطموح، والعُصاب، والحبّ، والفقد. تُشبِه هذه الأحلام الشخصية المرايا المُضحكة في مدن الملاهي، تلك التي تعكس صورًا كاريكاتورية لحياتنا اليقظة. لكن عند الانخراط في التجربة بعمقٍ أكبر، تتحول هذه المرايا إلى مداخل تجذبنا عبرها إلى عالَم آخر [إشارة إلى رواية لويس كارول الشهيرة Through the Looking Glass]. نحن لم نَعُد في كنساس Kansas [إشارة إلى التعبير الشهير في فيلم ساحر أوز wizard of oz]. هنا يمكننا أن نبتعد أكثر عن أذهاننا العادية ونقترب من اللاوعي الجمعي، مكان الأحلام العابرة للشخصانية. على عكس المقاربَات الفرويدية الكلاسيكية التي تفترض أنّ كل الأحلام شخصية وتابعة للاستفاقة، فإن مقاربة يونغ Carl Jung، أو مقاربة الأنماط الأَوَّلِيّة archetypal، تتماشى بشكلٍ أكبر مع التراث الثقافي للأحلام مثل ذلك الموجود لدى الشعوب الأصلية في أستراليا، وقبائل الأشوار Achuar في الأمازون، الذين ينظرون إلى الحلم بوصفه حالة وعيٍّ مُفرِط.
تتفاوت درجات السِمات الشخصية والعابرة للشخصانية لمعظم الأحلام. لكن من المرجَّح أن تُحطِّم السِمات العابرة للشخصانية إطار مركزية اليقظة وتفتح علينا عوالمَ غامضةً. في الجوّ النقي لفضاء الأحلام، يكون العقل فضوليًّا أكثر من كونه قصديًّا، ومتعاطفًا أكثر من كونه حاكمًا، وحاضرًا أكثر من حضوره في أثناء اليقظة. ليس من المستغرَب أنّ الحلم يُعترف به منذ فترة طويلة بوصفه ينبوعًا للإبداع. فقد لعبت الأحلام دورًا أساسيًّا في تطوير نظرية النسبية لألبرت أينشتاين Albert Einstein، وهيكل الحمض النووي لفرانسيس كريك Francis Crick، وآلة الخياطة إلياس هاو Elias Howe. جاءت أغنية البيتلز Beatles “الأمس Yesterday” (1965)، لبول مكارتني Paul McCartney في حلم. ربما اكتشف أوغست كيكوله August Kekulé البنية الدائرية للبنزين وهو يحلم بثعبانٍ يبتلع ذيله Ouroboros. الخوارزمية الأصلية لعمليّات بحث الويب في جوجل Google، مستوحاة من أحد أحلام لاري بيج Larry Page.
الأحلام ليست مجرَّد قصص أو أفلام ذهنية أو مرايا لأحداث مختلفة. بغضِّ النظر عن اعتقاداتنا تجاهها، نحن نمرّ بتجارب أحلامنا بوصفها ذات معنى. وسواء تذكرناها أم لا، فإنّ أحلامنا تؤثِّر على أجسادنا وعقولنا تمامًا مثل تجارب اليقظة. وحتى لو صرفناها عند الاستيقاظ بوصفها “مجرد أحلام”، فإنها ستكون قد تركت علامة. لا يتطلَّب الانفتاح على الأحلام الاعتقاد بأنّ الأحلام خارقة للطبيعة، لكن أن تكون ذات معنى فحسب.
قد يجذبنا عمق معناها إلى ما هو خارق للطبيعة. استخدم كارل يونغ مصطلح “الأحلام الكبيرة big dreams”، لوصف الأحلام الحيويّة للغاية التي رغم نُدرَتها، لها تأثير دائم على الوعي. تشمل الأمثلة البارزة حلم الفراشة الشهير لشوانج تسو Zhuang Zhou (حيث حلم أنه فراشة، وشكّ أنّه فراشة تحلم بأنها إنسان)، وأحلام زيارة الأحِبّاء المتوفين المعتادة، وبالطبع سُلَّم يعقوب. لعبت هذه الأحلام التي لا تُنسى أدوارًا حاسمة في تطور التقاليد الدينية الرئيسة، ومفاهيم المسّ الشيطاني، والنبوة، والمعافاة، والممارسات الروحيّة عبر التاريخ. ليس من المستغرَب أنّ كثيرًا ما يُشار إلى الأحلام بوصفها لغة الله.
اليوم، هناك أدلة علمية لا جدال فيها، مدعومة بتقارير سردية من الأطباء، للإشارة إلى أننا في خِضَمّ وباء صامت يحرمنا من الرِّيم / الحلم ومن النوم أيضًا؛ لأنّ العديد من أنماط الحياة العصرية والعوامل الطبية تُثبِّط، أو تؤذي، أو على الأقلّ تتداخل مع الرِّيم / الحلم. المشروبات الكحولية هي الجاني المعتاد. فعند تناولها بالقرب من وقت النوم، يمكن لها أن تُعزِّز بداية النوم، لكنه عادة ما تعطّل النوم المتأخر والرِّيم / الحلم. اعتمادًا على الجرعة والتوقيت، يمكن أن يؤثر الكحول أيضًا على بداية الرِّيم / الحلم. حتى تناوُلُ مشروبٍ واحدٍ قبل النوم يمكن أن يؤثِّر سَلبًا على الرِّيم / الحلم. بإمكان المرء تصوّر هذا عندما يدرك أن حوالي %30 من الأمريكيين يتناولون بشكلٍ روتيني كأسًا من النبيذ مع العشاء، و20% يستهلكون حوالي كأسين، وأنّ أعلى 10% من الأمريكيين الذين يشربون الكحول، حوالي 25 مليون بالغ، يتناولون أكثر من 10 مشروبات يوميًّا.
هناك أيضًا المواد التي تُستخدَم بشكلٍ مُتكرِّر كأدوات مساعدة على النوم، مثل CBD (كانابيديول cannabidiol)، و THC (رباعي هيدروكانابينول tetrahydrocannabinol)، والتي من المعروف أنّ عند استخدامها لمدى طويل، تَضعُف جودة النوم وتعطّل الرِّيم / الحلم. تختلف تقديرات تعاطي القنب cannabis في الولايات المتحدة على نِطاقٍ واسع ولكن هناك إجماع على تزايد نتيجة لتقنينه واستخدامه طبيًّا. أفاد المسح الوطني حول الصحة وتعاطي المخدرات (2019) أنّ 35 مليون شخص في سن 12 عامًا أو أكثر قد تعاطوا الماريجوانا في الشهر السابق. أيضًا يُعَدّ اضطراب الرِّيم / الحلم أحد الآثار الجانبية الشائعة للعديد من الأدوية، سواءً التي تحتاج إلى وصفة طبية أو لا، بما في ذلك المواد الأفيونية، ومضادات الهيستامين، ومضادات الكولين. نظرًا للدور الذي يلعبه الرِّيم / الحلم في دعم الحالة المزاجية الصحية، فمن المثير للسخرية أنّ جميع مضادات الاكتئاب ومضادات القلق تقريبًا، بالإضافة إلى بعض الأدوية المنوِّمة التي يتم وصفها بشكلٍ روتينيّ على أنها حبوب منوِّمة، تتعارض مع الرِّيم / الحلم. لكن الاعتماد على هذه الأدوية يظلّ يزداد في الولايات المتحدة.
نظرًا لأنّ معظم اضطرابات النوم المزعومة هي أيضًا اضطرابات الرِّيم / الحلم، فإنّ الكثير مما نعتبره فِقدان الرغبة في النوم هو أيضًا فِقدان الرِّيم / الحلم. الملايين من الأمريكيين الذين يعانون من الأرَق، ومن متلازمة انقطاع النفَس الانسدادي خلال النوم، يعانون أيضًا من اضطرابات في نوم الرِّيم / الحلم.
ومع ذلك، كما توحي مناجاة هاملت: “أن ننام، قد نَحلُم [وتلك هي العقبة]”، فإن فِقدان الرِّيم / الحلم مُتجذِّر أيضًا في الخوف الضارّ من الأحلام، خاصةً الأحلام السيئة والكوابيس. وصف عالِم النفس جيمس هيلمان James Hillman هذا الخوف من الأحلام ومقاومتها بمفردات طقوس وقت النوم الشائعة التي نستخدمها لتجنب الأحلام:
نحتاج إلى تعاويذ لاستدعاء هيبنوس Hypnos أو هرمس Hermes [آلهة النوم عند الإغريق] لمساعدتنا على النوم، مثل طقوس الصلاة، وتنظيف الأسنان، واحتضان الدمى، والاستمناء، وحشو البطن بالطعام، ومشاهدة متأخرة للتلفاز، والمشروب الكحولي الأخير، وتناول الحبوب المنوِّمة. إنّ قصة ما قبل النوم الرئيسة في ثقافتنا هي أنّ النوم يعني أن تَحلُم، والحلم هو أن تدخل إلى بيت ربِّ الموتى، حيث تنتظرنا عُقَدنا. “إنّ المرء منّا لا يمضي طائعًا في ذلك الليل العذب” [قصيدة ديلان توماس الشهيرة].
يُمكِن للأحلام والكوابيس التي توقظنا مفزوعين في منتصف الليل أن تُثبِّط عزائمنا أيضًا عن العودة إلى النوم، مما يزيد من فِقداننا للأحلام؛ لأنه إذا كنت تعجز عن النوم، فلا يمكنك أن تَحلُم. علاوة على ذلك، تشير الأدلة الحديثة إلى أنّ معظم حالات أرَق منتصف الليل، الذي يتم تصوُّره على أنّه “الاستيقاظ بعد بداية النوم” (WASO)، تَنجُم عن حلول الرِّيم / الحلم. في الأخير، يرتكز وباء فِقدان الرِّيم / الحلم على موقف غافِل ومتمحوِر حول مركزية اليقظة من جانب الجمهور وكذلك العاملين بالقطاع الصحيّ. وهو ما يظهر بوضوح في كون أحد الاستخدامات الأكثر شيوعًا لمصطلح الحلم تختزله في منزل، كما هو حال “الحلم الأمريكي“. إنه يقوِّض الأثيري ويختزله في المادي، ملقيًا سُلَّم يعقوب على جانبه. بدلًا من التطلّع إلى صعود سلاَلم الأحلام، يتمّ تشجيعنا على تسلّق السلاَلم الاجتماعية والمهنية، ذات المسَار الجانبي، فتُبقينا مُقيّدين بالعالَم المادي.
لقد نسي الطب الغربي الحديث جذوره في الممارَسات الإغريقية المنسوبة للإله أسكليبيوس [إله الشفاء وصاحب العصا التي تلتفّ حولها الأفعى]، التي اعتَبرَت عمل الأحلام تدخلًا علاجيًّا فعالًا. اليوم، يتجاهل معظم الأطباء الدور الحاسم الذي يلعبه نوم الرِّيم في الصحة العامة والنفسية، وصحة النوم. يهتم اختصاصيوّ طب النوم بمجموعة محدَّدة وغير شائعة من اضطرابات نوم الرِّيم، ولكن ليس من ضمنها تأثير فِقدان الأحلام المنتشر حاليًّا، ولا الدور الرئيس للحلم في حالات الأرَق. نظرًا لأنّ طب النوم يضع نوم الرِّيم تحت العنوان العامّ للنوم؛ فإنه يُخفي حقيقة أنّ الكثير مما نعتبره فِقدانًا للنوم هو في الحقيقة فِقدان للأحلام.
على الرغم من أنّه من المستحيل إثبات قضايا سلبية، إلا أنّ المتخصصين في النوم يفترضون عمومًا أنّ الأحلام لا معنى لها، ويَنقلُون ذلك بشكلٍ سلبي إلى مرضاهم وإلى الجمهور. إنّ اختزال الأحلام الذاتية في كونها ظاهرة عرضية لنوم الرِّيم يَحُدُّ من تجربتنا الشخصية. على الرغم من أنّ الدماغ يتوسط لنوم الرِّيم، إلا أنّه لا يَحلُم. نحن الذين نَحلُم.
ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة من الناحية المهنية هو حقيقة أنّ المعالجين النفسيين فقدوا الاهتمام بالأحلام خلال العقود الأخيرة. بل إنّ ما يثير القلق هو انتشار هذا الأمر بين المعالجين النفسيين الذين يعالجون اضطرابات النوم وبين الأطباء النفسيين الذين يكاد ينعدم تدريبهم على أعمال الأحلام. ليس من المستغرَب أنّ المعالجين النفسيين الذين يهتمون بأحلامهم هم أكثر عرضة لبدء عمل الأحلام مع مرضاهم.
بالنظر إلى كون المواد، والأدوية، واضطرابات النوم، لها تأثير ضارّ بوضوحٍ على الرِّيم / الحلم، فمن الغريب أنّ وباء فِقدان الرِّيم / حلم هو وباء صامت. هذا الصمت تحديدًا هو سِمة من سِمات علاقتنا مع اللاوعي. إذا كان الحلم حوارًا مع اللاوعي، فإننا لسنا على علاقة جيدة به. نحن ثقافة تخاف من أحلامها morphephobic، من لاوعيها، من اللاوعي ذاته. لدى الغرب تاريخ طويل في تثبيط الثقة في اللاوعي من خلال افتراض أنه لاعقلاني، وأناني، وعدواني، وحتى شرير. فعبارات مثل: “اضربه حتّى تخرج الشيطان منه”، نشأت كخرافة مسيحية تقول بأنّ الأطفال يُولدون بميولٍ شيطانية. حددت المفاهيم الفرويدية الأكثر حداثة جوهر اللاوعي البشري على أنّه “الشيء das es“. في وقتٍ لاحق استخدم الطب النفسي الأمريكي اسمًا أنقى: “الهُويّة id” [الكلمة اللاتينية التي استخدمها الطبيب البريطاني جيمس ستراتشي في ترجمة أعمال فرويد]، لكن اللاوعي ظلّ مستودعًا مليئًا بالدوافع الأنانية والعدوانية التي يلزم كبحُها. هذا النموذج المظلِم للنفسية البشرية سيطر على الفكر الغربي لعقودٍ عدة.
في كتابه “البشرية Humankind” (2019) -وهو استكشاف حديث للميول البشرية الفطرية ومُدعَّم بالأدلة-، يتحدى المؤرخ راتجر بريغمان Rutger Bregman، عدم ثقتنا في اللاوعي. فيفضح زيف الأساطير الساخرة الشائعة بأنّ البشر بطبيعتهم سيّئون وأنانيون، ويقدم صورة أكثر دقة وجذرية للطبيعة البشرية والتي تشير إلى أنّ معظم الناس طيبون – “ودودون، ومسالمون، وصحيون”. على الرغم من أنّ هذا قد يكون مريحًا، إلاّ أنّ مسألة ما إذا كان بإمكاننا الوثوق في اللاوعي تظلّ مسألة شخصية للغاية. يلزم أن نجيب عليه من أجل أنفسنا وعن أنفسنا إذا أردنا أن تنفتِح حياتنا على الرِّيم / الحلم.
بمقدور العاملين بالقطاع الصحي والمعالجين النفسيين، واختصاصيييّ طب النوم على وجه الخصوص، إعانة معالجة هذا السؤال المهم بدلًا من إعاقته، من خلال الاعتراف بمدى انتشار فِقدان الرِّيم / الحلم، وخطورة ذلك. على المستوى العملي، سيكون من الصواب أن يضعوا مسمَّىً تشخيصيًّا جديدًا لفِقدان الرِّيم / الأحلام، ومن ثمّ فتح سُبل العلاج، وتشجيع المجال البحثي، وتوفير الدعم اللازم لتثقيف الجمهور صحيًّا.
ليس من المستغرب أن يرتبط فِقدان الرِّيم / الحلم بمجموعةٍ من مُشكلِات الصحة العقلية والجسدية، مثل: ضعف المناعة، وزيادة الالتهابات، ومُعدَّلات السمنة لدى الأطفال والمراهقين، ومعدلات الحساسية تجاه الألم. أيضًا تعتبر أضرار الرِّيم / الحلم سِمة من سِمات أمراض الزهايمر، والخرف، واضطراب نوم الرِّيم (RBD)، مما يزيد بشكلٍ كبير من خطر الإصابة بمتلازمة باركنسون [الشَّلل الرُّعاشي] وأمراض عصبية أخرى. توصلت الأبحاث الحديثة إلى أنّ اضطرابات الرِّيم / الحلم ترتبط أيضًا بزيادة معدل الوفيات. ولأنّ الرِّيم / الحلم يدعَم تنظيم الحالة المزاجية، فإن اختلالها يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب السريري. يبدو أنّ رؤية التحليل النفسي الكلاسيكية للاكتئاب بوصفه “فِقدان المرء لأحلامه” لها دلالة حرفية.
في الواقع، تبدو بنية النوم والأحلام عند معظم الأشخاص المصابين بالاكتئاب مشابهة إلى حدٍّ كبير لتلك التي لوحظت لدى أفراد العيّنة البحثية المحرومة من نوم الرِّيم انتقائيًّا. بينما في حالة نوم الرِّيم / الحلم المعتاد، ينفصل العقل والجسم لبعض الوقت، لكن في حالة الأفراد المكتئبين، تُظهِر أدمغتهم وظائف تنفيذية متزايدة، مما يشير إلى أنّ العقل اليقظ، أو الأنا، لا يزال حاضرًا وهو من يدير العرض. من الناحية النفسية، قد يعكس هذا نوعًا من الاستفاقة الدالة على مركزية اليقظة. ولكن يمكن أيضًا للاكتئاب إعاقة التنظيم الذاتي الطبيعي للرِّيم / الحلم وتعطيل الاستيعاب النفسي للتجارب الصعبة. من وجهة نظر الرِّيم / الحلم، الاكتئاب هو شكل من أشكال الإمساك العاطفي. فليس من المستغرَب أن تكون أحلام الأفراد المكتئبين أقل روعة وعاطفية، وأكثر سلبية، وفقرًا، ودنيوية، وعرضة للنسيان.
ترتبط علاقتنا بالرِّيم / الحلم بعلاقتنا بهذا المكان الأثيري: فضاء الأحلام. الحلم هو مكان، حالة من الوعي، مكان يمكننا، بالتدريب، اختيار زيارته والمكوث فيه. قد نبدأ بتصحيح وضع سُلَّم يعقوب والانخراط في عمل الأحلام. الجسد والعقل والروح يريدون ويحتاجون إلى الأحلام. لا نحتاج إلى تغيير مجرى النهر، لكننا بحاجةٍ إلى هدّ السدود القائمة. أولًا، لتحسين الرِّيم، يجب علينا تحسين النوم.
نظرًا لأن الدماغ يعطي الأولوية للنوم على نوم الرِّيم، فإنّ النوم الجيد هو شرط أساسي للرِّيم / الحلم الصحي. على الرغم من توفُّر الكثير من الإرشادات القيمة حول صحة النوم، إلاّ أنّ معظمها متجذِّر في مركزية اليقظة. بإخبارنا كيف ينبغي أن نفكر ونتصرف في حياة اليقظة لتحسين حياة النوم، فإن الكثير من هذه الإرشادات تُحاوِل بفاعلية الاستفادة من اليقظة للوصول إلى النوم ومن ثمّ تفشل في توجيهنا إلى الجسر الحقيقي بين اليقظة والنوم. بشكلٍ أكثر تحديدًا، إنها تفشل في إدراك الحاجة إلى تجاوز اليقظة عن طريق الاستسلام للحلم.
عندما نتذكّر أنّ الرِّيم / الحلم هو الجسر الطبيعي للنوم، فإننا ندرك أنه من أجل النوم جيدًا، يجب علينا أيضًا أن نَحلُم جيدًا. ونظرًا لكون الكحول، والقنب، والعديد من الأدوية النفسية والأدوية المنوِّمة غير فعالة على المدى الطويل، بل تؤثِّر أيضًا على الرِّيم / الحلم، فإنه يلزم التفكير في البدائل. يوصي المجال الناشئ للصحة العقلية التكاملية ببدائل طبيعية مُستنِدة للأدلة والتي تكون أكثر رفقًا بالحالمين. بالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعة متنوعة من المواد المُوَلِّدةُ للأَحْلاَم oneirogens – مثل بعض النباتات، والمغذّيات، والأدوية المتاحة دون وصفات طبية. حتى الميلاتونين، الذي يُستخدَم عادة لدعم النوم وتنظيم إيقاعات الساعة البيولوجية، هو أحد المواد الآمنة لتوليد الأحلام.
تُعَدّ مخدرات الهلوسة أيضًا من المواد القويّة المُوَلِّدةُ للأَحْلاَم. يُلخِّص لي آدمز Lee Adams، الباحث في الأحلام وأحد أنصار الأحلام الواعية Lucid dream، وجهة النظر هذه في مقالةٍ بعنوان “هل الأحلام هي مخدر الهلوسة الأصلي؟ Are Dreams the Original Psychedelic?” (2009)، ويذكرنا أنّ الغدد الصنوبرية والرئتين تنتج موادًا مخدِّرة أثناء نوم الرِّيم، التي تساهم في الشعور بالانفصال أو التعالي. لوجهة النظر هذه معنى خاصّ بالنسبة إليّ؛ لأنّ اهتمامي الشخصي بعلم النفس والأحلام كان مدفوعًا بتجارب فترة المراهقة مع مُخدِّرات الهلوسة. مثل الأحلام الكبيرة عند يونغ، تُمدِّد مُخدِّرات الهلوسة الوعي إلى ما وراء مصفوفةِ مركزيةِ اليقظة للكشف عن العالَم وراء العالَم. آمُل أن تساعد الصحوة المعاصرة للبحوث السريرية والروحية في مُخدِّرات الهلوسة التي شملها، على سبيل المثال، كتاب مايكل بولان Michael Pollan “كيف تُغيِّر عقلك How to Change Your Mind (2018)، في استعادة احترامنا للرِّيم / الحلم.
أستخدم مصطلح “عمل الأحلام dreamwork“، للإشارة إلى ممارسة الانخِراط الاعتيادي في الأحلام، أحلامنا وأحلام الآخرين. لا تتعلَّق دلالة عمل الأحلام بالمعنى العادي لكلمة عمل، وإنما تتعلَّق أكثر بالسماح للحلم بأن يعمل بنا. إنها تتضمَّن ممارسات تدعم التذكر، والتسجيل، والمشاركة، والتفسير، بالإضافة إلى طرق للتعامل مع الكوابيس. بالنسبة إلى أولئك الذين نادرًا ما يتذكرون الأحلام، أو لا يتذكرونها أبدًا، فإن الانْتِواء المُسبَّق للقيام بذلك يُعَدّ خطوة أولى مفيدة لتحقيقه. سرعان ما نجد اللاوعي جاهزًا مستعدًا للحوار. ونحن ندخل في هذا الحوار عبر الانتظار للحظات في قاعات السُّكْر grogginess الصباحية. استخدم تلك الكلمة المشتقة من مشروب الروم الإنجليزي grog، للإشارة إلى كون الاستيقاظ قائم على الاستفاقة من السُّكْر. ونظرًا لأننا حينها نكون نائمين جزئيًّا ونَحلُم، فإنّ هذا الموقف المتمركز حول اليقظة يخرجنا بسرعةٍ من فضاء الأحلام. إنّ المكوث في حالة السُّكْر -وهو حالة هجينة رائعة من النوم والأحلام واليقظة- يجعلنا على حافّة فضاء الأحلام، حيث سنبدأ أخيرًا في مراقبة مشَاهد الأحلام إذا تحلّينا بالصبر الكافي.
بمجرد الانتهاء من ذلك، حتى لو كان كل ما شاهدناه هو مجرد لمحات، فمن المفيد نقل ملاحظاتنا إلى عالم اليقظة عبر تسجيلها. يمكننا القيام بذلك شفويًا -أو بالكتابة والرسم- مع شخص قريب يحترم الأحلام، لا يتعلّق تسجيل الأحلام بترجمتها إلى مصطلحات عالم اليقظة، بل يتعلَّق بتعلُّم لهجة الأحلام. يتعلَّق الأمر بفهمٍ أفضل لثقافة فضاء الأحلام.
للأسف نحن لا نسمح لأحلامنا بتمديد وتوسيع إحساسنا بالذات، وإنما نميل إلى تقليص حجمها وتحجيمها، وإقحامها داخل أُطُر عمل مألوفة ومتمحورة حول اليقظة. نحن مُغرمون بقواميس الأحلام التي تُقدِّم تفسيرات غير شخصية سريعة وذكية، والتي كتبها خبراء الأحلام الذين يحاولون أيضًا تقليص الأحلام لتُلائم مجموعة واسعة من الأُطُر السريرية المتموضعة. تشترك هذه الأساليب في أساسٍ ماديّ، هَدّام روحيًّا، ومتمحور حول اليقظة.
على النقيض من المفهوم اليهودي المسيحي: “كما هو موجود في الأعلى، سيكون في الأسفل” [مبدأ هرمسي]، تمّ تأسيس هذه الأفكار على المفهوم المعاكس: “كما هو موجود في الأسفل، سيكون في الأعلى”. فهي تسلّم عمليًّا بالافتراض المسبَق القائل بأنّ حياة اليقظة المعتادة هي المرجع النهائي لتحديد معنى الأحلام، ولهذا تُقدَّم تفسيرات جاهزة بدلًا من التجارب الجديدة. تحجب هذه الأساليب الشائعة العملية الهامة الخاصة بارتباطنا بأحلامنا بوصفها تجارب عضوية، وذكية، وذات دلالة شخصية.
إنّ مشاهدة الأحلام بعيون عالَم اليقظة تشبه مشاهدة سماء الليل العظيمة عبر النظارات الشمسية. يدعونا عمل الأحلام إلى ممارسة طُرقٍ جديدة لإدراك اللغز والتعامل معه. يتطلّب تنمية الراحة في وجود الحيرة، والإبهام، والارتباك. غنّى بوب ديلان Bob Dylan: “أنا لست خائفًا من الارتباك، بغضّ النظر عن مدى قوّته”. يدعو عمل الأحلام إلى الاقتراب من الأحلام بعقلٍ مبتدئ – وليس إغراقُهم مُسبَقًا بالمعرفة. على الرغم من خبرته الواسعة في عمل الأحلام، ينصحنا كارل يونغ: “من الأفضل أن يتعامل المرء مع كل حلم كما لو كان كائنًا مجهولًا تمامًا”. فالأحلام مثل الأسماك، بدلًا من سحبها إلى عالَم اليقظة الجافّ لتحليلها، يمكننا فهمها أفضل من خلال تعلُّم السباحة. ومن المعروف أنّ لدى الأطفال الرضَّع غريزة حبس الأنفاس تحت الماء. وبالمثل، أعتقد أننا جميعًا لدينا غريزة خاصة بعمل الأحلام. عمل الأحلام مهارة فطريّة. إنها نفس المهارة التي نتعامل بها مع القصص في الأدب، والسينما، والشِّعر، والموسيقى، والرقص، والفن.
في نهاية المطاف، لا يتعلَّق عمل الأحلام بتقديم تحليل ذكيّ لسرديّات الأحلام، وإنما بالرغبة في مشاهدة الحلم وتجربته. قد يكون تفسير أحلام معينة أمرًا مثيرًا للاهتمام، ولكن الأهمّ من ذلك هو مجرَّد معرفة أن للحلم دلالة ومعنى. يمكن أن يساعدنا هذا الفهم على أن نكون أكثر سماحًا للأحلام بأن تعمل بنا، أن تُمدِّد إحساسنا بالعالَم وبذواتنا.
حسبما ورد في العهد القديم، ظهر سُلَّم يعقوب في لحظةٍ كان يعقوب فيها في ورطةٍ خطيرة؛ لأنّ الأخّ الذي خانه يعقوب يريد قتله. لم يفعل يعقوب شيئًا مُميَّزًا ليستحقّ حلمه الكبير. لم يكن صائمًا أو يمارس كارما يوجا أو يشارك في معتكفٍ لتأمُّل الانتباه التام mindfulness. لقد كان رجلًا عاديًّا في وقتٍ عصيب، والأحلام، وخاصة الأحلام الكبيرة، هي طريقة طبيعية وفعّالة للتباحث مع الأوقات العصيبة. اليوم نحن نعيش في أوقاتٍ عصيبة. في هذا العصر العظيم من العولمة -الاحتباس الحراري، واقتصاديّات الجشع، والأوبئة- تعكس أحلامنا بسهولة امتداد اللاوعي الجماعي، والآمال المشتركة، ونُذُر الشؤم. ونحن في الحقيقة نرى تقارير عن زيادة الأحلام والكوابيس في هذه الأوقات.
بدلًا من طرح تلك الكوابيس والأوهام جانبًا، قد ننخرط فيما أسمَاه يونغ “عمل الظلّ shadow work” – وهي عملية تحاوُر مع مشاهد الأحلام المخيفة. يمكن القيام بذلك في أثناء الأحلام الواعية أو بعد الاستيقاظ من خلال استحضار الحلم. يتمثّل جوهر عمل الظلّ في العثور على الألماس في الفحم، بعبارةٍ أخرى، اكتشاف شيء ثمين مدفون في مكانٍ يبدو أنه مظلم وقذر. كيفية التباحث مع الأحلام المظلمة توازي كيفية تعاملنا مع التحدّيات المماثلة في حياة اليقظة. لا تكشف هذه الأحلام عن نهجنا فحسب، بل توفر أيضًا فرصًا لتطويرها بوعيّ.
نحن نحلم طوال الوقت. على الرغم من اعتقادنا أنّ الأحلام مثل النجوم تظهر ليلًا فقط، إلاّ أننا نعلم أنّ النجوم موجودة دائمًا، حتى عندما يَحجُبها ضوء النهار. وبالمثل، فإنّ الأحلام موجودة دائمًا كتيّار سفليّ في الوعي، حتى عندما تحجبه اليقظة الاعتيادية. أشار يونغ إلى هذا التيّار السفلى بوصفه أحلام الاستفاقة. على النقيض من أحلام اليقظة التي تدور حول الهروب من التجارب الحالية، فإنّ أحلام الاستفاقة تدعونا للتعمق في تلك التجارب والتيّارات السفلي. أحلام الاستفاقة هي حالة طبيعية من حالات الوعي المرتبطة بالفن، واللعب، والخيال، والحميمية، والممارسات الروحية، وحدود النوم. إنها أيضًا تقنية علاج نفسي قوية مستخدمة في تحليلات مدرسة يونغ.
يمكن أن يصبح الحلم، إذا انتبهت إلى ذلك، أسلوبًا للحياة، أو على الأقلّ ممارسة منتظمة. تدور أحلام الاستفاقة حول استخدام عيون أحلامنا، تلك التي نراها في الرِّيم / الأحلام، في وضحٍ النهار. يمكن لها أن تُخفِّف من قبضة مركزية اليقظة، وأن تُقدِّم لمحات من العالَم وراء العالَم. وبهذه الطريقة، فإنها تكشف عن إحساسٍ أعمق بمَن نكون، عبر الاستفادة من الخلفية الأسطورية لحياتنا.
الهوامش
1- روبين نيمان، طبيب نفسي متخصِّص في طب النوم والأحلام، وأستاذ مساعد إكلينيكي للطب في مركز أندرو ويل للطب التكامليّ بجامعة أريزونا. أحدث كتاب له هو “اصمت: كتاب تأملات وقت النوم” Hush: A Book of Bedtime Contemplations (2014).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.