ترجمة: كمال المصري – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
«ليس صحيحًا أنَّنا نأتي إلى هذه الأرض لنحيَا؛ فنحن لا نأتي إلاّ لننام ونحلم». – قصيدة من تراث الأزتيك
ينام البالغون أقلَّ من الأطفال، وتنام حيتان العنبر أقلَّ من الإنسان البالغ: نظرية رياضية جديدة تكشف ألغاز النوم.
لطالما تساءل البشر عن السبب الذي يجعلنا ننام؟ وربما تفكَّر العقل الإنساني المترَف خلال فترة ما قبل التاريخ في السؤال ذاته وقبل وقت طويل من تفكير جاليليو في طريقة للتنبؤ بالمدة اللازمة لتوقف البندول أو محاولته لفهم آلية سرعة سقوط الأشياء، فلماذا ينبغي للمرء أن يدخل في هذه الحالة التي تنطوي على خطرٍ محتمل، الحالة التي تستغرق حوالي ثلث حياته بعد البلوغ بل وتستغرق حتى أكثر من ثلث طفولته؟ ونحن لا ننام مجبَرين، فلماذا نستمتع بالنوم، شأننا شأن الكلاب والأسود وجميع الحيوانات الأخرى تقريبًا؟ على خلاف المدة القصيرة نسبيًّا التي استغرقها جاليليو في التنبؤ بالمدة اللازمة لتوقف البندول، سيتعين على العلماء الانتظار لفترة أطول للتوصل إلى إجابات موثوقة بشأن النوم، نظرًا إلى أنه ليس من السهل على المرء أن ينام بينما يراقب الغرباء نومه، كما سيستلزم الأمر إقامة عيادات لاضطرابات النوم لدى البشر وبناء هياكل معقدة مثل حضانات حيوان «خلد الماء» لمراقبة مرحلة النوم العميق لدى هذا الحيوان (مرحلة حركة العين السريعة/REM).
على مدى العقود القليلة الماضية، جمع العلماء كميات هائلة من البيانات حول مُدد النوم في مختلف الأنواع، وكذلك مدد نوم البشر من الولادة وحتى البلوغ، كما تمّ فرز نتائج هذه البيانات إحصائيًّا مع غيرها من القرائن المحتملة مثل مستوى هرمون الميلاتونين وحجم الدماغ ومعدل الأيض والعُمر والجينات والخلايا العصبية المعززة للنوم. ومع ذلك كنَّا نفتقر –حتى وقت قريب جدًّا– إلى نظرية كمية يمكنها أن تفسّر مثلاً: لماذا تنام الفئران يوميًّا فترة تزيد عن عشرة أضعاف فترة نوم الحيتان؟ ولماذا ينام أطفال البشر مدد تقترب من ضعف مدد نوم البالغين؟ ولماذا تتغير مدة النوم العميق وإجمالي أوقات النوم مع نموّ الطفل في الحجم بشكلٍ أسرع مقارنةً بما يماثله من اختلافات في الحجم في الأنواع الأخرى غير الإنسان؟ ولماذا تؤثر درجة الحرارة على أوقات النوم عند الحيوانات ذوات الدم البارد مثل ذباب الفاكهة؟ وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي تم إحرازه في تطوير نماذج معقدة لتفسير ظواهر مثل إيقاع الساعة البيولوجية والاضطراب الناجم عن الرحلات الجوية الطويلة (Jet Lag) وتفاصيل تسجيلات مخطط كهربية الدماغ النائم، فإن صعوبة تطوير نظرية كمية عامة عن سبب النوم تُبدّد كل هذه الإنجازات.
ولقد بدأنا العمل لسد هذه الفجوة في المعلومات، حيث طوّرنا إطار بحث يعتمد على نهج رياضي جديد لتناول مسألة سبب النوم، ويقودنا هذا الإطار إلى طرق جديدة تمامًا في فهم البيانات الخاصة بالنوم والإجابة على الأسئلة الأساسية فيها. ربما يكون السبب في تعثّر العديد من الدراسات السابقة هو أنها انشغلت بشكل أكبر بتصنيف جوانب النوم وخصائصه التي لا تعد ولا تحصى بدلًا من تحديد الغرض منه. لذلك فقد ركّزنا في المقابل على تحديد الوظيفة الأساسية للنوم، ومن ثَمّ فقد طورنا معادلات تتنبأ بأنماط منتظمة للنوم تدعمها البيانات التجريبية. ولأننا قد جمعنا معلومات دقيقة حول دور الأيض (التمثيل الغذائي) والوضع الخاص للدماغ فيه، فقد اكتشفنا تغيرًا مفاجئًا ومدهشًا في وظيفة النوم من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، وتوقعنا حدوثه في معظم أنواع مملكة الحيوان، وهو تحول طوري سريع يماثِل تجمّد المياه لتصبح جليدًا.
في عام 1894، نشرت «ماري دي ماناسين»، وهي واحدة من أوائل الطبيبات في روسيا، ورقة بحثية مهمة تُوضِّح أنه عندما يتم حرمان الجِراء تمامًا من النوم فإنها تموت بعد أيام قليلة، إذ أجرت تجاربها على 10 جراء، تتراوح أعمارهم بين شهرَيْن وأربعة أشهر يرضعون من أمهاتهم ويتلقون رعاية جيدة. وكإجراء ضابط، حرمت عدة جراء أخرى من الطعام ولكن لم تحرمها من النوم. وبعد انتهاء التجربة استطاعت الجراء التي تم تجويعها لمدة تتراوح من 20 إلى 25 يومًا من استعادة صحتها، في حين أن تلك الجراء التي تم حرمانها من النوم فقد «فُقدت تمامًا» بعد أربعة إلى ستة أيام فقط، وكان الاستنتاج الواضح من هذا هو أن: «الغياب التام للنوم أكثر فتكًا بالحيوانات من الغياب التام للطعام».
وعلى الرغم من أن المنهجية التي اتبعتها «ماري دي ماناسين» في تجربتها لا تستوفي المعايير الأخلاقية أو التجريبية السائدة اليوم، إلا أن نتائج تلك التجربة قد تأكدت بإجراء تجارب أخرى لمراقبة الحيوانات والقيام بدراسات أكثر دقة في الفترة منذ نشر ورقتها حتى اليوم، لتكون النتيجة النهائية هي أن: الحرمان من النوم لفترات طويلة يمكن أن يؤدي إلى الموت ليس في الكلاب وحدها ولكن أيضًا في الفئران وذباب الفاكهة بل وربما حتى في البشر فيما يعرف بمرض «الأرق القاتل»، وهو متلازمة مرعبة تتمثّل في حالة من الأرق تزداد سوءًا بشكلٍ تدريجي مما يؤدي إلى الوفاة في غضون عام أو عامَيْن. وهذه المتلازمة تحدث نتيجة لطفرة في جين تشفير بروتين البريون على غرار «مرض جنون البقر» المعروف، وليس لها علاج معروف حتى الآن.
الشخص الذي ينام أقل من سِتّ ساعات كل ليلة معرض لخطر الوفاة بنسبة 13% أعلى من غيره.
وحسب ما ذكرت ماناسين في الفقرة الافتتاحية من ورقتها البحثية فإن «الوقائع من هذا النوع تُظهر بوضوح أن الحرمان من النوم ينتج عنه أثر ضار للغاية»، فبعيدًا عن الأرق القاتل، يؤدي الحرمان من النوم دائمًا إلى تغيُّر في حالة الوعي يتجلّى في اختلالات وظيفية مثل فقدان الذاكرة والارتباك والعصبية والهلوسة والاكتئاب وحتى الخرف. ويُظهر فحص الجراء التي ماتت بسبب الحرمان من النوم أنها عانت من تلف شديد في أنسجة المخ بما في ذلك النزيف الموضعي في المخ وتنكس العقدة الدماغية. ومع ذلك، لا يزال الحرمان من النوم مستخدمًا الآن كأداة لاستجواب المتهمين حيث يدعي مؤيدوه أنه لا يُعد «تعذيبًا».
لقد تأخرت العديد من المجتمعات في تبنّي الفكرة القائلة بأن الحصول على قسط كافٍ من النوم هو عامل مهم في جودة الصحة، بل وفي مثل أهمية التغذية الجيدة، ومن المؤكد أن الضغوط وسرعة أنماط الحياة الحديثة لا تشجِّع على ممارسات النوم الصحية، سواء كان ذلك من ضغوط العمل أم تزايد الأرق الناجم عن القلق. وربما تكون إحدى الإيجابيات القليلة التي ظهرت من جائحة كوفيد-19 (COVID-19) هي أنّ الأطباء وخبراء الصحة أصبحوا يحثون الناس علنًا على الحصول على قسط كافٍ من النوم من أجل الحفاظ على قوة النظام المناعي وتعزيزه.
يرفض الكثيرون الاعتراف بأهمية النوم للصحة على المدى الطويل، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أم الجماعي. ولكن في المتوسط، الشخص الذي ينام أقل من سِتّ ساعات كل ليلة يكون معرضًا لخطر الموت بنسبة 13٪ أعلى من الشخص الذي ينام ما بين سبع إلى تسع ساعات. وتشير التقديرات إلى أن حالة الحرمان من النوم المنتشرة بين الناس تكلف الاقتصاد الأمريكي أكثر من 400 مليار دولار سنويًّا نتيجة لارتفاع معدل الوفيات وانخفاض الإنتاجية. وفي ضوء هذه الآثار، من المستغرب ألا يخصص أيّ من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية الثمانية والعشرين بشكلٍ صريح لدراسة النوم، حيث تم الاكتفاء بتقديم بعض الدعم المهم من مركز وطني واحد مخصص لأبحاث اضطرابات النوم تابع للمعهد الوطني الأمريكي للقلب والرئة والدم. يعكس هذا الأمر الدور الصغير نسبيًّا الذي تلعبه أبحاث النوم في الأوساط الأكاديمية والطبية، على الأقل حتى وقت قريب. ولكن على الرغم من عدم وجود “المعهد الوطني للنوم”، فإن أبحاث النوم قد بدأت على الأقل تحظى بدعم ومتابعة بشكلٍ أكبر في جميع أنحاء العالم.
في السنوات الأخيرة، كشفت الأبحاث في مجال البيولوجيا العصبية عن العديد من الآليات الأساسية التي تتدخل في عملية النوم، حيث تم تحديد الهرمونات والخلايا والإنزيمات التي تختلف مستويات إفرازها ونشاطها في أثناء النوم وبين حالات النوم واليقظة، ولقد تعلّمنا منها الكثير عن فسيولوجيا النوم وتشريحية الجسم والكيمياء الحيوية له في أثناء النوم. ومن هذا المنطلق، عندما نقول إننا نفهم سبب نومنا، فإن ما نعنيه حقًّا هو أننا نفهم ما يجعلنا نشعر بالنعاس، وكيف ننام، وماهية الاختلالات التي يسببها عدم النوم.
لكن كل هذا لا يجيب على السؤال الأهم بشأن سبب حاجة الإنسان إلى النوم بالأساس: ما وظيفة النوم فعلًا؟ نحن نقضي ما يقرب من ثلث حياتنا في النوم، لكننا لا نعرف لماذا نحتاج إلى النوم، وإذا حاولنا ألا ننام تكون عواقب ذلك علينا وخيمة. لماذا نحتاج إلى ما يقرب من ثماني ساعات من النوم كل ليلة، ولا نستطيع الاكتفاء بثلاث إلى أربع ساعات فقط مثل الفيل، أو بأقل من ساعتين مثل حوت العنبر؟ وعندما ننتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، لماذا تنخفض حاجتنا إلى النوم من 16 ساعة أو نحو ذلك في اليوم ونحن رُضَّع (وهو ما يماثل نوم فأر أو ذبابة وهي كائنات أصغر كثيرًا من أطفال البشر) لتصل إلى مدة الثماني ساعات المتعارف عليها لدى البالغين؟ كيف يحدث هذا التفاوت في مُدد النوم؟ ولماذا؟
ويُعَدّ فهم أُسس النوم أمرًا محيرًا جدًّا حيث لا يبدو أن النوم يعطي للكائن الحي أي ميزة تطورية، بل على العكس من ذلك تمامًا: ما الذي يجعل الكائن الحيّ يدخل في حالة من الضعف وانعدام الوعي لعدة ساعات إذا لم يكن بحاجة إلى ذلك؟ هناك كائنات لديها مشكلة في التكيف مع الليل، لذلك ربما يكون النوم قد تطور فقط للتكيف مع مشاكل الظلام. ولكن في المقابل نجد أن العديد من الحيوانات لا تنشط إلا ليلًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الثدييات مثل الفئران والذباب تنام لفترة أطول كثيرًا من مدة الليل، في حين أن هناك ثدييات أخرى، مثل الفيلة والحيتان، تنام مددًا أقصر كثيرًا من مدة الليل. وبالأخير نجد أن طول الليل يختلف اختلافًا كبيرًا بتغير المواسم وباختلاف خطوط العرض، فلماذا ينبغي الاتفاق على قيمة «عالمية» لوقت نوم الإنسان تبلغ حوالي ثماني ساعات؟
أحد التفسيرات البديهية للنوم هو أنه ضروري للحفاظ على الطاقة وراحة الجسم وترميمه، وهو تفسير يسهل رفضه، إذ إن متوسط معدل الأيض لدى الإنسان ينخفض أثناء النوم بنسبة 15% فقط، بمقدار 100 سعر حراريّ من الطعام في الليلة، أيّ ما يعادل شريحة من الخبز والزبدة. لذلك فإن هذا التفسير يبدو غير كافٍ لتبرير تعقيدات النوم وتحدياته وحالات الضعف التي يُدخل الإنسان فيها.
يجب أن تكون هناك فترة توقف مقصود، إذ أنه من التهور أن تُجري إصلاحات في سيارتك أثناء قيادتها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك اعتقادًا عامًّا بأن إحدى الوظيفتين الرئيستَيْن للنوم هي إصلاح البلي الناتج عن أنشطة الحياة، وهو الضرر الذي يحدث كناتج عن عمليات التمثيل الغذائي التي تبقينا على قيد الحياة. من البشر إلى السلطعون الناسك، يتم الحفاظ على الحياة من خلال الشبكات -مثل نظام القلب والأوعية الدموية- التي تنقل الطاقة الأيضية عبر جميع مستويات الجسم، والخلايا الخدمية والمغذية، والميتوكوندريا، والجينومات، وغيرها من الوحدات الأدق داخل الخلايا. ومثلما يؤدي الاحتكاك من السيارات والشاحنات على الطرق السريعة أو حركة المياه عبر الأنابيب إلى ضرر وتلف مستمر، يحدث الشيء ذاته مع الدم وموارد الجسم والخلايا والطاقة التي تتدفق عبر الشبكات الموجودة في أجسامنا؛ حيث إنه بالإضافة إلى نظام الدورة الدموية المألوف، ثمَّة شبكات مماثلة من التفاعلات الكيميائية الحيوية تحدث في الميتوكوندريا (وهي المصدر الأساسي للطاقة) ومن شأنها أن تضر الجسم؛ لأنها تنتج الجذور الحرة. والجذور الحرة هي الذرات أو الجزيئات ذات الإلكترونات المفردة والتي يمكن أن تسبب المرض وتلف الخلايا بسبب تلك الإلكترونات الضارة. وتعمل مضادات الأكسدة مثل الشوكولاتة الداكنة والتوت على حماية الجسم من هذا النوع من الضرر. لذا فإن الضرر الذي يساعد النوم في إصلاحه ينتج من جريان الدم والقوى البيوكيميائية. بل ومن المهم أن ندرك أن نفس أجهزة الجسم التي تحفظ بقاءنا تتسبب أيضًا في إضعاف الجسم باستمرار.
ومن الوظائف الرئيسة الأخرى للنوم إعادة تنظيم وإعادة تكوين الروابط العصبية في أدمغتنا لكي تستجيب لعدد لا يحصى من المُدخَلات الحسية التي نتلقاها باستمرار. وتأتي هذه المُدخَلات من البيئة الخارجية وكذلك من المنبهات داخل أجسامنا، مثل نبضات القلب والإشارات من الأمعاء. وهذه العملية اليومية المستمرة عنصر أساسي في التعلم والتذكر. ولكي يحافظ الجسم على كفاءته وفعاليته، فإن تلك العملية تتضمن أيضًا تشذيب الوصلات العصبية قليلة الاستخدام، وإعادة ترتيب المسارات والوصلات القديمة والتخلص من التالف منها وبناء مسارات جديدة. ومن ثمّ فإن كل خاطرة عابرة وكل حلم وكل فكرة جديدة هي إعادة تشكيل محتملة للدماغ يمكن أن تحدث فقط باستخدام الطاقة الناتجة عن الأيض.
وعلى الرغم من أن هاتَيْن الوظيفتين –إصلاح الدماغ وإعادة تنظيمه– تعكسان أسبابًا مختلفة لحاجة الإنسان إلى النوم، إلا أنهما تشتركان في خاصيتَيْن رئيستَيْن، أولاهما أن كلتا الوظيفتَيْن ترتبطان ارتباطًا مباشرًا بعملية التمثيل الغذائي، نظرًا لأن الطاقة الناتجة عن الأيض هي مصدر الطاقة اللازمة لإعادة تنظيم الشبكات العصبية وكذلك اللازمة لإصلاح الضرر الناجم عن الآثار الجانبية لإنتاج الطاقة وتوصيلها إلى مواضع استخدامها. أمَّا الخاصية المشتركة الثانية فهي أنهما تحدثان في دماغ لا يستبدل الخلايا العصبية أبدًا (على عكس معظم الأعضاء والأنسجة الأخرى التي تُستبدل خلاياها وتتجدد باستمرار). ونظرًا إلى أنه لا يتم استبدال الخلايا العصبية التالفة أبدًا، فلا بد من إصلاحها بعناية، من أجل تقوية الذاكرة والحفاظ عليها ودعم عملية التعلّم مع الحفاظ على سلامة الدماغ بمختلف مكوناته.
ولهذه الأسباب لا يمكن أن يتم الإصلاح الفعّال للخلايا العصبية في الدماغ وإعادة تنظيمها دون تعطيل الوظائف الطبيعية في الكائن الحي. ومن ثمّ، يجب أن تكون هناك فترة توقف مقصود، إذ إنه من التهور بل ومن الخطورة بمكان أن تُجري إصلاحات في سيارتك أثناء قيادتها. لهذا السبب توقف محرك السيارة وتأخذها إلى الميكانيكي. وبالمثل، فإن الإصلاحات الرئيسة لطرق وسط المدينة أو خطوط مترو الأنفاق، وتنظيف نفايات المدينة، ورفع كفاءة أنظمة وشبكات الكمبيوتر عادةً ما يتم القيام بها أثناء الليل أو خلال عطلة نهاية الأسبوع عندما يكون عدد مستخدميّ هذه المرافق أقل ما يمكن. وعلى ما يبدو فإن هذا المبرر هو السبب وراء «إغلاق» الدماغ والجسم عند تنفيذ أغلب الإصلاحات الضرورية وإعادة تنظيم الخلايا، وهو ما يقلل فرص حدوث التضارب والاضطرابات المحتملة بين العمليات الحيوية اليومية داخل الجسم، ولهذا نحتاج إلى وقت للنوم.
فيما يتعلّق بالدماغ، تظل أنت «أنت» معظم حياتك، ولكن لا يمكن ضمان هذا ما لم يتم إصلاح أيّ تلف يحدث لخلايا الدماغ بعناية للحفاظ على سلامة الدماغ وهويته على المدى الطويل. وإذا لم يتم ذلك، فسوف تبدأ “أنت” في التحول إلى شخصٍ أو شيء آخر، كما يحدث لك بالفعل وبسرعة كبيرة إذا تمّ حرمانك من النوم بشكلٍ كبير. في المقابل، ليس من المهم إصلاح أعضائنا وأنسجتنا الأخرى بنفس الدرجة من العناية. بل إن نزيف الدماغ والضرر الذي يحدث فيه، والذي أظهرته الدراسات الأولية التي أجرتها ماناسين وغيرها، كانت هي الأعراض التي أعطتنا الإشارات الأولى إلى أن النوم مهم للدماغ بالدرجة الأولى. وما يدعم هذا بقوة هو أن الدماغ يمتص أكثر من 20% من كل الطاقة التي يستخدمها الجسم بأكمله، على الرغم من أنه يشكّل حوالي 2% فقط من كتلة الجسم. يأخذ الدماغ أكثر من حصته النسبية لأنه يحتاج إلى معالجة المعلومات الحسية وتشغيل الجسم، وكذلك يقوم بإصلاح وإعادة تنظيم تلك الشبكات العصبية أثناء النوم.
وتمثّل الحاجة إلى إصلاح الخلايا وإعادة التنظيم العصبي بعناية نقطة انطلاق قوية نحو وضع نظرية كمية عن النوم بسبب ارتباط تلك الوظائف بمعدل التمثيل الغذائي. ولقد أدَّى الاهتمام المتزايد بالنوم والاعتراف بدوره المركزي في تحسين الصحة إلى إجراء العديد من الدراسات التي سلّطت الضوء على كيفية النوم وأسبابه. ولكن تأخر كثيرًا ظهور إطار نظري شامل لفهم سبب حاجتنا إلى النوم يتصف بأنه كمّي وتنبؤي في الآن ذاته. فما الذي يحدد المقاييس الزمنية للنوم التي تفسّر سبب حاجة الإنسان إلى ثماني ساعات من النوم، بينما يحتاج الفيل إلى ثلاث ساعات فقط؟ وما الأدوار النسبية لإصلاح الخلايا وإعادة التنظيم العصبي؟ وكيف تتغير تلك الأدوار عندما ينمو الإنسان من الطفولة إلى البلوغ؟ نحن بحاجة إلى إطار عمل يُمكنّنا من التخلص من هذه الألغاز.
يعتمد الأيض على الأكسجين الذي ينتقل من الرئتين إلى خلايا الجسم عبر الجهاز القلبي الوعائي. وهناك سِمات مشتركة في الجهاز القلبي الوعائي في مختلف الحيوانات من الفئران إلى الأفيال، وكذلك في مراحل التطور من الطفولة إلى البلوغ في الإنسان، وتلك السِمات تجعل من الممكن وصف هذا الجهاز وفهمه في إطار عام، فهذه السِمات هي نتيجة للخصائص البيولوجية الأساسية؛ مثل تقليل قوة ضخ الدم، والحاجة إلى شبكات متفرعة منتشرة في كل أنحاء الجسم لتغذية جميع الخلايا، ووجود شعيرات دموية ذات حجم وبنية متشابهة تتدفق من خلالها خلايا الدم الحمراء لتوصيل الأكسجين إلى الخلايا. وتتضافر هذه الخصائص معًا لبناء أحد أكثر الأنماط انتشارًا في علم الأحياء كله وهو ما يُعرف باسم «قانون التغاير النسبي أو التناسب البيولوجي».
تحتاج الحيوانات كبيرة الحجم إلى النوم لفتراتٍ أقصر مما تحتاج إليه الحيوانات صغيرة الحجم، ويحتاج البشر البالغون إلى النوم لفتراتٍ أقصر مما يحتاج إليه الأطفال.
ويعني هذا باختصار أن أغلب المعدلات والمدد الفسيولوجية –مثل معدل العُمر ومعدل النمو السكاني ومعدل تجدد الخلايا ومدد الحمل– تتغير مع تغير وزن الجسم بطريقةٍ منهجية قابلة للتنبؤ، يشار إليها رياضيًّا باسم قانون «التناسب مع القوة سالبة الرُّبع» أو «الأُس السالب للرُّبع»؛ فعلى سبيل المثال، الفيل أثقل 100 ألف مرة من السنجاب، لذلك وفقًا لهذا القانون يعيش الفيل حوالي 10 أضعاف حياة السنجاب، وينمو أبطأ بنحو 10 مرات، ويتم استبدال الخلايا التالفة في جسمه بمعدل يبلغ 1/10 ما يحدث في جسم السنجاب، وتستغرق مدة حمل أنثى الفيل حوالي 10 أضعاف مدة حمل السنجاب. وقد تبدو الحيتان والزرافات والبشر والقطط مختلفة تمامًا عن بعضها البعض وتعيش في بيئاتٍ مختلفة تمامًا، لكننا جميعًا نتبع نفس القواعد والقيود والمفاضلات الأساسية فيما يتعلّق بالأحجام، وذلك بسبب عملية الانتقاء الطبيعي المستمرة والأصل المشترك. ومن ثمّ كلّما كبر حجم الثدييات، كانت وتيرة حياتها أبطأ: تزداد المدد وتتباطأ المعدلات مع زيادة حجم الجسم بطريقةٍ منهجية ويمكن التنبؤ بها.
وعلى الرغم من الانتشار المطلق لعلاقات التناسب هذه بين الكائنات، يظل النوم استثناءً ملحوظًا منها، والحقّ أن هذا الأمر هو أول ما دفعنا إلى تبنّي فرضيات جديدة حول وظيفة النوم ولفت نظرنا إلى الحاجة إلى تحليل البيانات بطرقٍ جديدة، ولا سيّما أنه على الرغم من أن وقت النوم الإجمالي يختلف مع تغير أحجام أجسام الحيوانات المختلفة أو مع نمو الأطفال، إلا أن هذا التغير لا يتبع النمط أعلاه: فأوقات النوم لا تزيد مع حجم الجسم، بل تتناقص! على سبيل المثال، قد يقودنا الاستقراء السطحي لقوانين التناسب لأن نتوقع أن ينام الفيل عشرة أضعاف مدة نوم السنجاب، ولكن الواقع هو أن الأفيال تنام مددًا أقل كثيرًا من السناجب، كما أن معامل الفرق في مُدد النوم يبلغ حوالي أربعة أو خمسة أضعاف وليس عشرة أضعاف. وبالمثل ينام الطفل الصغير مددًا أقصر من مدد نوم المولود الجديد، وليست أطول منه.
هذه النتيجة المحيرة للغاية تسير في الاتجاه المعاكس لجميع المدد البيولوجية التي درسناها نحن وآخرون على مدى عقود، وبمعدلٍ مختلف عنها أيضًا. وبعد الكثير من الحيرة توصلنا إلى فرضيتَيْن لإمكانية تفسير هذه المعضلة من شأنهما أن تغيرا بارادايم التفكير في مسألة النوم برمتها.
أوّلًا، يكون وجود علاقة عكسية بين حجم الكائن الحي ووقت النوم منطقيًّا إذا تذكرنا كيف يرتبط النوم بعملية التمثيل الغذائي، حيث يعمل النوم على مكافحة الضرر الناجم عن إنتاج الطاقة، كما أن النوم هو رد فعل على المنبهات عبر إعادة التنظيم العصبي اللازمة لتشفير المعلومات التي تتم معالجتها من البيئة المحيطة بالجسم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإصلاح وإعادة التنظيم يحدثان بمعدلات تحددها عملية التمثيل الغذائي. وعلى الرغم من أن معدل التمثيل الغذائي للجسم كله يزيد مع زيادة حجم الحيوان –سواء لاختلاف الأحجام باختلاف الأنواع أو مع زيادة الحجم مع تقدم الإنسان في العُمر– وفقًا لعلاقات «التناسب مع القوة سالبة الرُّبع»، فإن ذلك يتم بحيث ينخفض معدل التمثيل الغذائي لكل جرام من الأنسجة مع تزايد حجم الجسم. وبالتالي عندما يكون الحيوان أكبر حجمًا، فإن الضرر الذي يحدث لأيّ جزء ثابت من أنسجة أو خلايا جسمه يكون أقلّ، ومن ثَمّ يستلزم طاقة أقلّ ومن ثمّ وقت نوم أقلّ للقيام بالإصلاح اللازم.
ثانيًا، يمكن تفسير حقيقة أن معدل التغير لا يتبع نمط «التناسب مع القوة سالبة الرُّبع»، إذا لم يتحدد معدل الأيض بالجسم كله بل بجزء من الجسم يتناسب مع حجم الجسم على نحوٍ غير معتاد. وهذا يعيدنا إلى الدماغ: فعلى عكس معظم الأعضاء والأنسجة الأخرى مثل القلب، فقد لاحظ العلماء منذ فترة طويلة أن حجم الدماغ يختلف بشكلٍ غير خطي مع اختلاف حجم الجسم في الكائنات الحيَّة، كما يختلف بشكلٍ غير منتظم مع نمو الأطفال. وهذا يعني مثلًا أن حجم دماغ الفيل يبلغ حوالي 1000 ضعف حجم دماغ السنجاب، وليس 30 ألف ضعف دماغ السنجاب حسبما يمكن أن نتوقعه من التناسب الخطي لوزنيّ جسميهما، كما هو ملاحظ بالنسبة للأعضاء والأنسجة الأخرى مثل القلب.
بهاتَيْن الفرضيتَيْن، قمنا بحسابات تقريبية لمعرفة ما إذا كانت عمليات إصلاح الخلايا وإعادة تنظيم الروابط العصبية التي هي رد فعل لعمليات الأيض في الدماغ (والتي تسير بشكلٍ أبطأ من الجسم كله)، يمكن أن تفسّر لنا ذلك اللغز المزمن حول كيفية تغير أوقات النوم، لماذا تحتاج الحيوانات كبيرة الحجم إلى النوم لفتراتٍ أقصر مما تحتاج إليه الحيوانات صغيرة الحجم؟ ولماذا يحتاج البشر البالغون إلى النوم لفتراتٍ أقصر مما يحتاج إليه الأطفال؟ أسعدنا أن جاءت النتائج في الجانب الصحيح، وعندئذٍ بدأنا في أخذ هذه الأفكار على محمل الجد لاشتقاق نظرية دقيقة وكميَّة وتنبؤية عن النوم.
ونتيجة للأبحاث التي قمنا بها في السابق، كنا في وضع يسمح لنا بتطوير المعادلات بحيث تعبّر عن دور الأيض في إصلاح الخلايا وإعادة تنظيم الروابط العصبية أثناء النوم، ففي أثناء العمل على نظريات الشيخوخة والعُمر في السابق، قمنا بحسابات تقديرية لمقدار الضرر الناجم عن الأيض، وجاءت نظريتنا الجديدة عن النوم ثمرة لتلك الحسابات لتقول إن: أيّ ضرر يحدث للخلايا أثناء اليقظة يجب تعويضه بالطاقة اللازمة لإصلاح هذا الضرر أثناء النوم. وهكذا وضعنا هذه الفرضية في سياقها عبر النظر إلى كل من الدماغ والجسم، من أجل معرفة ما كشفت عنه علاقات القياس التي لعبت الدور المهيمن في حساب النوم.
سمح لنا هذا باستنتاج المعادلة الأساسية التي تربط مدة النوم بمدة الاستيقاظ. ومن هذه النقطة، قادتنا بعض الحسابات الجبرية البسيطة إلى أن نكتشف أن أفضل طريقة للتعبير عن النظرية الجديدة واختبارها هي التركيز على كيفية تغيّر «نسبة إجمالي مدة النوم إلى إجمالي مدة الاستيقاظ»، مع تغير حجم الدماغ (أو الجسم). يمثّل هذا تحولًا كبيرًا، حيث كانت الأبحاث السابقة تركز فقط على مدة النوم أو مدة الاستيقاظ بشكلٍ مطلق لا نسبي. علاوة على ذلك، فإن المعادلات التي طورناها تستلزم أيضًا عند اختبار نظريتنا أن يكون المجال المناسب لرسم البيانات مجالًا لوغاريتميًّا، مجال تكون فيه المسافة من واحد إلى 10 هي نفس المسافة من 10 إلى 100 أو المسافة من 100 إلى 1000. وكانت هذه الحسابات والتحويلات الرياضية البسيطة – نسب مدد النوم ولوغاريتمات المتغيرات– تعني أنَّنا سنرسم البيانات بطريقةٍ مختلفة تمامًا عمَّا كان يفعله الباحثون قبلنا.
لكي نختبر نظريتنا، بدأنا بتحليل أكبر مجموعة موجودة من البيانات عن مدد نوم الثدييات البالغة، التي تراوحت من الفئران إلى الأفيال، وعندما تمّ رسم مخطط لهذه البيانات وفقًا لنظريتنا، سُرِرنا أن وجدنا أنها تتناسب تمامًا حسب ما توقعنا في الفرضية القائلة بأن وظيفة النوم الأساسية هي عملية الإصلاح في الدماغ. ولم يصدق ذلك على إجمالي مدة النوم فقط، بل أصبح من الممكن أيضًا التنبؤ بفترة النوم العميق والتناسب في مدة دورة النوم؛ أيّ حساب المدة التي تستغرقها الدورة بين النوم العميق (نوم حركة العين السريعة)، والنوم غير العميق (نوم حركة العين غير السريعة). كانت هذه النتائج مُرضية للغاية وجعلتنا نثق بأننا وجدنا الآلية السليمة والنظرية الصحيحة عن سبب حاجتنا إلى النوم. بل استنتجنا معادلة رياضية لحساب طول مدة نوم الحيوانات البالغة.
وكاختبار إضافي، تساءلنا لاحقًا عمَّا إذا كانت النظرية ستنطبق أيضًا على كيفية تغير مدة النوم مع نمو الفرد، فنحن جميعًا نعلم أن حديثيّ الولادة والأطفال ينامون فترات أطول بكثير من فترات نوم البالغين، ولكن هل يتماشى هذا مع معدلات ومقادير التغيرات التي نراها في الأنواع الأخرى؟ وهل يعتبر تقلص مدد النوم مع النمو انعكاسًا لتقلص مدد النوم في الثدييات مع تزايد أحجامها؟ بعد أن طورنا النظرية، ظهرت بيانات جديدة عن إجمالي فترات النوم ومدد النوم العميق وحجم الدماغ وغيرها من الخصائص البشرية من الولادة حتى البلوغ، حيث ازداد الاهتمام بفهم النوم في الأوساط العلمية والشعبية.
الغرض من النوم يتحوّل من «إعادة التنظيم العصبي» عند الأطفال إلى «إصلاح الخلايا» بمجرد أن نكبر.
بترقبٍ كبير، قمنا نحن والباحثون المتعاونون معنا بتحليل البيانات الجديدة، وشعرنا بخيبة أمل عندما اكتشفنا أن تغير فترات نوم الأطفال يختلف اختلافًا كبيرًا عن النتائج التي وجدناها في الأنواع الأخرى. وهكذا اتضح لنا عند تطبيق نظريتنا على الأطفال في طور النمو أنها لم تكن صحيحة. وازدادت حيرتنا عندما لاحظنا أن مقدار النوم العميق يتغير بشكلٍ كبير مع نمو الإنسان، فهذا تناقض ملحوظ مع ثبوت فترة النمو العميق في بقية الأنواع. أمَّا المفاجأة الأخيرة فهي أننا وجدنا أيضًا أن معدلات الأيض في الدماغ ومعدلات تكوين المشابك العصبية (أيّ الروابط بين الخلايا العصبية) تختلف اختلافًا جذريًّا عمَّا كنَّا نتوقعه.
عزَّزت هذه النتائج إعجابنا بمدى غرابة وتفرد عملية النوم من الناحية البيولوجية، بيد أنها قد أوضحت أيضًا –بل وتقريبًا «أثبت»– أن سبب حاجة الإنسان إلى النوم في فترة النمو يختلف اختلافًا جوهريًّا عن سبب حاجته إلى النوم بعد البلوغ، كما أوضحت سبب اختلاف النوم باختلاف الأنواع. ولذلك، وبالعمل مع خبراء النوم والإحصاءات المتعاونين معنا وهُم (جونيو تساو) Junyu Cao، و(أليكس هرمان) Alex Herman، و(جينا بو) Gina Poe، عدنا إلى نسخة بديلة من النظرية تستند إلى فكرة أن الغرض الأساسي للنوم هو إعادة التنظيم العصبي لمعالجة المعلومات التي ترد إلى الدماغ خلال اليوم. ومن هذا المنظور أيضًا، يظل النوم متصلًا بالدماغ والنشاط الأيضي فيه، كما هو الحال في نظرية الإصلاح في الحيوانات البالغة. أمَّا التباين الكبير الذي يظهر خلال الطفولة المبكرة فهو أن الطريقة التي ينمو بها الدماغ البشري في السنوات الأولى تختلف للغاية عن العمليات التي تحدث في دماغ الإنسان البالغ. وعلى وجه الخصوص، يزداد تكوين المشابك العصبية ومعدل الأيض في الدماغ بسرعة مذهلة في مراحل الطفولة المبكرة: إذ ينتج عن تضاعف حجم المخ تزايد كثافة المشابك وتضاعف معدل الأيض في الدماغ بمقدار أربعة أضعاف تقريبًا.
وبناءً على هذه الفرضيات، غيَّرنا نظريتنا بحيث تكون الوظيفة الأساسية للنوم أثناء الفترة المبكرة من حياة الإنسان هي إعادة التنظيم العصبي وليس مجرد إصلاح الخلايا، وبذلك تمكننا من تعليل العلاقات التي لاحظناها بين كيفية تغير إجمالي مدة النوم ومدة النوم العميق من ناحية وحجم الدماغ، ومعدل الأيض أثناء النمو المبكر من ناحيةٍ أخرى.
أدَّت مقارنة النتائج التي توصلنا إليها في الأنواع الأخرى مع النتائج المتعلقة بالنوم خلال مرحلة النمو إلى ظهور سؤال أخير، وهو: إذا كان الغرض من النوم يتحول من كونه يتعلق بإعادة التنظيم العصبي في الأطفال إلى كونه يتعلق بإصلاح الخلايا بمجرد البلوغ، فمتى يحدث هذا الانتقال بالضبط؟ وما مدى مفاجأته؟ الآن، وبعد أن توصّلنا إلى نظريتنا الجديدة وبالاستعانة بالبيانات الخاصة بالنمو البشري، يمكننا الإجابة على هذا السؤال بدقةٍ مدهشة: يحدث هذا الانتقال في فترةٍ مبكرة للغاية من طفولة الإنسان –في عُمر عامَيْن ونصف تقريبًا– ويحدث بشكلٍ مفاجئ تمامًا مثل تجمد المياه عند درجة صفر مئوية مثلًا.
ولقد أسعدتنا هذه النتيجة المذهلة، أوّلًا؛ لأنها لفتت انتباهنا كثيرًا إلى أهمية النوم الحيويَّة، وهكذا لن نقلّل أبدًا من أهمية النوم لأطفالنا، لا سيما في السنوات الأولى من حياتهم حيث يحقق لهم النوم شيئًا مختلفًا تمامًا وفي غاية الأهمية، وهو على ما يبدو شيء لا يمكن تعويضه في أيّ وقتٍ لاحق في الحياة. وثانيًا؛ لأننا اكتشفنا أن حالتَيْ النوم هاتَيْن، وإن بدتا متشابهتَيْن جدًّا من الخارج، تعبّران في الواقع عن حالتَيْن ماديتَيْن مختلفتَيْن تمامًا قبل وبعد الخط الفاصل الحاد وهو سِن عامين ونصف، حيث إنه قبل بلوغ الطفل سِن عامَيْن ونصف تكون الدماغ أكثر مرونة وليونة وهو ما يمكنه من التعلم والتكيف بسرعة، على غرار تدفق المياه بانسيابية بين العوائق. ولكن بعد بلوغ الطفل سِن عامَيْن ونصف، يكون الدماغ أكثر بلوريَّة وتجمدًا، فيظل قادرًا على التعلّم والتكيف، ولكنه أشبه بالنهر الجليدي الذي يتحرك ببطءٍ عبر الطبيعة.
هناك أسئلة كثيرة لا تزال قائمة، منها مثلًا: إلى أيّ مدى يختلف النوم بين البشر والأنواع الأخرى؟ وهل يمكن إطالة فترات النوم في المرحلة المبكرة من العُمر؟ وهل تطول هذه الفترات أو تقصر بالفعل لدى بعض الأفراد، وما التكلفة أو الفائدة المرتبطة بذلك؟ وما وظائف النوم الأخرى التي تتحقق إلى جانب وظائفه الأساسية كإصلاح الأنسجة وإعادة التنظيم العصبي؟ وكيف تتنافس الأسباب المختلفة للنوم على وقت النوم أو تتقاسم فيه سواء خلال عُمر الكائن أو حتى خلال الليلة الواحدة؟ سوف يتطلب الأمر المزيد من العمل لكشف ألغاز النوم بشكلٍ كامل، لكن رؤانا الأخيرة حول التغيرات في الغرض من النوم بالتقدم في العُمر والنظريات الرياضية والتنبؤية التي تحدد تلك التغيرات كميًّا، هذه الرؤى تمثّل أداة أساسية لسبر هذه الأعماق بشكلٍ أكبر.
الهوامش
1- ڤان ساڤاج، أستاذ في علم البيئة والبيولوجيا التطورية والطب الحاسوبي، في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس، وهو أيضًا عضو هيئة تدريس خارجي في معهد سانتا في.
2- جيفري ويست، عالم في الفيزياء النظرية، وهو «أستاذ كرسي شنان» والرئيس السابق لمعهد سانتا في، كما يشغل منصب أستاذ زائر في جامعة أكسفورد، وكتابه الأخير هو: «الميزان: القوانين الكلية للحياة والموت في الكائنات والمدن والشركات»، الصادر عام 2017.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.