ترجمة: فادي حنَّا – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
مِن الانفجار العظيم إلى دِقّةِ قلبٍ في الرَّحِمِ. الأصواتُ مَنْجَاةٌ للفِكْرِ عندما يُخاتِلُنا المَنْطِقُ والمِخْيَالُ.
لمَّا سُئل جون لينون عام ١٩٧٥، عن لِمَ يمقت كثير مِن البالغين موسيقى الروك أند رول، ويسمّونها: «موسيقى الشيطان»، أجاب: «دائمًا ما اعتقدتُ أنَّ سبب ذلك أنها خرجت مِن موسيقى السُّود». كثيرًا ما أتساءل -بالنظر إلى تاريخ ٤٠٠ عامًا مِن تفوق العِرق الأبيض في الولايات المُتحدة الأمريكية حتى المحاولةِ الأخيرة لاقتحام مبنى الكابيتول في يناير ٢٠٢١- ما عسى أن يقول لينون عنَّا اليوم. أسيقول: «تخيّل أنْ ليس ثمَّة جنة»، أم سيغنّي: «قِف إلى جواري»؟ أسيصرخ: «أُمَّاه»، أم سيذكّرنا بأن الحُبَّ هو «الجواب»؟
إنني أستاذة في الفلسفة، ودائمًا ما فكرت في الصوت. اسمح لي أنْ أدقق على طريقتي الخاصة. ليست إحدى السِمات التي تُميّز إدراكي أنني لا أفكر بالصوت والموسيقى فحسب؛ إذ إنني لا أفكر في الصور خلال ساعات يقظتي (رغم أنني أحلم بصورٍ مرئية حيويَّة في الليل). يُعرف ذلك الافتقارُ إلى التخيُّل المرئيّ باللّافانتازية (aphantasia)، وهو افتقارٌ جزئيّ في حالتي. إلى جانب حالة أخرى تُعرَف باضطراب المعالجة السمعية المعتدل، وقد أفضت اختلافاتي في التعلُّم إلى صعوبةٍ بالغة، وضروب عدم اتّساق في القراءة والكتابة، وحتى التحدث -مع الأسف- في بعض الأحيان. إنني متخصصة في فكر فيلسوف القرن السابع عشر باروخ سبينوزا، وأتساءل كثيرًا كيف كان سينظر إلى اللّافانتازيين، إذ قد فهم أنَّ عمل المُخيّلة –التي عادةً ما كان يُعتقد أنها مصدر التخيُّل العقليّ– إما أنه يمكنه إثراء سعة المرء على النَّماء أو إفقارها، وذلك تبعًا للأفكار العقلية التي ترتبط بها. في الواقع، قد أكملت أطروحتي للدكتوراة فقط بفضل تحمُّل أساتذتي الذين أَولوا اهتمامًا بالغًا.
إنه لشيء غريب أن تُحاول أن تصف للآخرين معنى أن يكون عقلك خاويًا في أوقات اليقظة، ويسمَّي خبراء اللّافانتازية ذلك بِخَلَلٍ ينتابُ «عينَ عقلِ» المَرْءِ. ولا أرى ذلك. ذلك ليس لأنَّ الوعي لا يمكنُ ردّه إلى مُجرد مادة المُخّ فحسب، بل لأنّ أفكارنا ليست موضوعات فعليّة يمكن أن أضعها بين يديك، لكنَّ خصوصيّتي العصبية قد تفسّر أيضًا علاقات تفكيري في الصّوت. فنحن البشر لسنا مجرد ألفاظ، كما يُبيّنُ تيد جيويا (Ted Gioia) المُؤرخُ الموسيقيّ المولعُ بموسيقى الجاز وطالِبُ الفلسفة السابق في كتابه: “الموسيقى: تأريخ تخريبيّ” (٢٠١٩م). لقد نظّمَ كتابُ جيويا إيقاعَ تأمُّلاتي في الموسيقى والصّوت. المسألة أنه، إذا كنت أستطيع أن أدرّسَ أنساقًا فلسفية صعبة، والاشتغال بها، دون استعمال تخيُّلات عين عقلي، ناهيك عن تعثُّري مع الكلمات، لكانت الصور التخيلية -حتى تخيُّل اللُّغة- ليست بالأهمية التي يسبغها عليه البعض بالنسبة للفِكر. قد يتفق سبينوزا على ذلك، فالأفكار العقلية تتبع قوانين طبيعتها الخاصة.
لا يمكنني التلفُّظ أو اتّباع قواعد نحويَّة صحيحة، سَل عن ذلك مُحرِّري. لكنني مع ذلك يُمكنني التقاط أصوات أيِّ لغة بسهولة تقريبًا والتعرّف إليها، حتى إذا كان تذكّر الكلمات هو المشكلة. تتعلّق هذه القدرة بالذاكرة، لكنَّ الحال كان كذلك مُذ أن اضطر دماغي إلى ترتيب الكلمات التي أسمعها في لغة تواصل شبه مقبولة، ثمّ بعد ذلك إلى لُغة تواصل مقبولة إلى حدّ بعيد. يدركُ خبراء الذاكرة أنَّ الأغنية والقصة معًا يمكنهما أن يعززا الذاكرة. يكتب جيويا داعمًا تلك الروافد السمعيّة، مشيرًا إلى التاريخ الثقافيّ لاستعمال الإيقاع والصوت منذ نشأة الجنس البشري. لا أستطيع قراءة الموسيقى، أو إجراء عمليات رياضيّة مُعقدة، لكن من المؤكد أنَّ الموسيقى قد أعانتني على تعلُّمِ إيتيقا سبينوزا -أحد أعقد الأنساق المنطقية التي شيّدتها الفلسفة الغربية على الإطلاق– وهو نسق انجلى أمام ناظريّ في تمامِ جماله المنطقيّ، وطاقاته المُبدعة الثّابتة.
حتى إذا مثَّلت اللغة عائقًا لي، فإنَّ الموسيقى والصوت يمكنهما المُساعدة. إني مولِعة بالموسيقى، ولديّ مغامرات صوتية، وأحبّ تقريبًا أنواع الموسيقى كافة. ورغم ذلك، فإنني أكرر -كحالنا جميعًا- بعض الأغاني والأصوات المُفضلة. وقد قربتني الجائِحةُ من أولئك الذين أهتم بهم كثيرًا، وهُم يشغلون الآن فِكري وقلبي. كما هي الحال مع أسماء الموسيقيين المذكورة هنا، وأغانيهم تمثّل لي عناقًا، ووصالًا، ورسالة حُبٍّ موسيقيّة أبعثها إلى صديقٍ عزيزٍ بعيد للغاية.
عندما كنتُ طفلة، كنتُ أحدّق في مفاتيح بيانو جدتي، وأعلِّمُ نفسي الصّوتَ والفِكرَ، وإن لم أجد كلمات مُناسبة للتعبير عن نفسي أو توضيح خبرتي، استمعتُ إلى مقاطع الكلمات مقلوبة عندما كنت يافعة جدًّا. ربما ليس من المُستغرب إذن أنني كنت أتحدث لغةً خاصّةً عندما كنت أتعلّم كيف أتحدث. قد صحّحت هذه «المشكلة» نفسها في سِني حياتي المبكرة لكن حتى الآن لا تزال جدتي التي تبلغ من العمر ٩٢ عامًا توقِّع بعض رسائلها «كلّ الحُبّ، تكجد». [مقلوب مقطعي كلمة «جدتك»]
وفي الدرس الثاني للبيانو أوائل العشرينات -بعد تخرجي ومنحي درجة في علم النفس مُباشرة، وبضع فصول دراسية في تخصُّص الفلسفة- قال لي مُعلّم البيانو: «إنك لموهبة طبيعيّة. هل تريدين بيانو؟»، كان يعرِضُ عليَّ بيانو قائمًا صغيرًا من بلدة ترِجع إلى الستينيات. كان كل ما عليّ هو نقله (مُلاحظة مفيدة: لك أن تجرّ بيانو كبيرًا بسهولةٍ على الأرضِ بوضعِهِ على وسائِدَ). الآن وقد صار عندي بيانو خاصّ، حاولت تعلُّم اللعب عليه بأُذُني، لكن حتى الآن ما زلت لا أقرأ المُدوّنة الموسيقيّة، ومُعظم مُعلّميّ البيانو لن يعلّموك إذا لم تكن تتقن «قراءة الموسيقى».
لا يُمكِنُ تسميةُ كلّ الأصوات، ومع ذلك فإنَّنا نَخْبُرُها، ونتعلَّم منها.
إنَّ ذلك التركيز على التّدوين الموسيقيّ ربما يرجع إلى فيثاغورس الفيلسوف اليونانيّ القديم والرياضيّ الذي حاول أن يستنبط ميزانًا موسيقيًّا موزونًا بوساطة سِحر وقوة الأصوات التي سمعها، أيّ: صوت الحدّاد في السُّوق، وأصوات الرفقة الطيّبة ومحادثاتهم، وأصوات الحصى المُتساقطة. ويلحظُ جيويا أنه -قبل فيثاغورس- «مثّلت المرأة دورًا محوريًّا في الموسيقى، لا سيّما في قَرْعِ الطُّبولِ، وهو ما صرنا نربطه بحالاتِ الغشيةِ (trance states). (يُقال: إنَّ فيثاغورس التقط مرّة حجرًا أمام أحد تلامذته، وصاح: «هذه موسيقى مُتحجِّرة». ورغم ذلك، فمع ظهور فيثاغورس على مسرح الفكر-؛ أصبح كل شيء مُتعلقًا بمجالات الذّكرِ -الريّاضيّات واللوغوس (العقل)– أيّ: بالميزان واللغة، عوضًا عن النّاي (aulos) (مِصفارٌ مصنوعٌ من القصبِ) والأغنية. يقولُ جيويا:
«ما إن يعتلى [اللُّوغوس]، حتى يُعاقب ويفرض رقابةً من جهته، لذا فإنَّ أكثر السّرديات اللاحقة المقبولة عن الموسيقى -تاريخها وأُسسها النظريّة- قد حرّفتها إلى درجةٍ كبيرةٍ التحيُّزاتُ الفيثاغوريّة… أو قل: إنَّ مُمارسة التقنين بحدّ ذاته لَهي عملٌ تحريفيٌّ».
ولا يزال ذلك التدخُّل في تلقائية الموسيقى والصوت وقوتهما يتردد صداه إلى اليوم. يتابعُ جيويا حديثَهُ، ويحكي قصةً على لسان مؤلف موسيقيّ كلاسيكيّ مُتخصص في الموسيقى الطليعيّة، وقد روى للكاتب أنه قد تعرَّض للهجوم في مُؤتمرٍ حديثٍ لتركيزه على كيفية الـ «استماع» للعمل؛ «فقد كان زملاؤه يقولون له مرارًا وتكرارًا: إنَّ عليه تجاهلَ مثل هذه الاعتبارات التافهة، والتركيز -عوضًا عن ذلك- على خطط التأليف المُطبَّقة».
ومع ذلك، فقد لاحظ المتصوّف إيكهارت تول (Eckhart Tolle) أيضًا أنَّ بعض أكثر خبراتنا أصالة هي تلك التي نخبرها دون وَصْفٍ، ومثال ذلك: أيّ خبرة (إيجابيّة) جديدة في مكانٍ لم يسبق لنا زيارته، أو وجبة لذيذة لم نتذوّقها من قبل، أو أصوات وآلات جميلة لم نسمعها. إنَّ ما لا يمكن تسميته، ويصعب فهمه، يمكن أن يدهشنا، ويؤثّر بنا.
لا يُمكِنُ تسميةُ كلّ الأصوات، ومع ذلك فإننا نَخْبُرُها، ونتعلَّم منها. والأبحاث الموسيقية الجديدة ذات الوحدات الإيقاعيّة المُزدوجة (binaural) –حيث يختلف تردد الصّوت اختلافًا ضئيلًا في كلا الأُذُنَينِ– تذهب إلى أنَّ مثل تلك الضوضاء يمكنها أن تحسّن موجات المُخّ، والسيرورات العقلية. يقول جيويا: “إنَّ الجسيمات «في قلب الذّرة» تتحرّك بسرعة غير عادية قد تصل إلى ١٠٠ تريليون في الثانية الواحدة، «وهذا يخلقُ نغمةً تقع فوق نطاق سماعنا قرابة عشرين أوكتافًا».
تُعد حاسّة السمع -إلى جانب حاسة اللّمس- من أوائل الحواس التي تتطور قبل حاستَي الإبصار أو الشَّم بوقت طويل. إنَّ الجنين البشريّ النامي يمكن أن يسمع دقات قلب أمه، وأصواتًا داخل الرّحم. إننا نسمع -ونحن نُنشَأُ في أرحام أمهاتنا- أصواتًا رقيقة، رغم أنها مكتومة، ثمّ نسمع أصواتًا أقل كتمانًا وأكثر حدّة حين نولد، ونسمع كل أنواع الأصوات -الغليظ منها والحاد- أثناء حياتنا. ووفق كثير من التقاليد الروحية، فإننا قد نسمع أكمل موسيقَى عندما نموت. ربما يكون لذلك سبب آخر لكون الصوت والإيقاع ظاهرتين عالميتين؛ ذلك أنهما إحدى الخبرات التأسيسيّة لكل البشر. يستهلّ جيويا كتابه في الموسيقى بالإشارة إلى أنَّ الرسوم الدينية الهندوسية تصوّر شيفا ممسكًا بطبلةٍ في لحظة الخَلْقِ، ويا لَها من صورةٍ مُلائمة؛ نظرًا لأنَّ العِلمَ المُعاصِرَ يطلقُ على لحظة بداية الكون لقب: «الانفجار العظيم».
وقد احتفظتُ بذلك البيانو عدّة سنوات، ثمّ تلاها بضع سنوات أخرى مُخزَّنًا. لقد ساعدني أن أحلم بتلك الأيام عندما كان شريكي -في إحدى أعظم قصص الحبّ في حياتي- يعزف لي على البيانو. كنَّا ندلف إلى قاعة الاحتفالات بجامعتنا في مُنتصف الليل، ونَعتلي خشبة المسرح. ومع مصباح وحيد مُعلّق في العارضة الخشبية يتدلى فوق رؤوسنا، كنت أستلقي أسفل مفاتيح البيانو، وأُغلق عينيّ، وأشعر باهتزازاته وطاقته تتخلَّل جسدي وعقلي بينما كان يلعب على هذه المفاتيح طوال الليل، أيّ شيء للبيتلز، أو بيلي جويل من الذاكرة.
فَهِمَ سبينوزا قُدرةَ المُخيّلة إذا ما قُورنتْ بقوّة الأفكار العقليّة؛ فإنهما يُشكِّلان معًا ما يمكن أن نسمّيه نوعًا من الموسيقى، أيّ: شيء يتعالى فوق أيّ سرديّة، أو وصف، أو استعمال صوريّ أحاديّ للغة بصورة كليّة. يتميز العقل عند سبينوزا عن المعرفة التّخيُّليّة، بيد أنَّ اللغة تكمن في المخيلة. ومع ذلك، بينما يعتقد البعض أنَّ الموسيقى والصوت إنما يوجدان خارج نطاق العقل، فإنني أزعم أنهما مع ذلك قد يُعزِّزان الفكر العميق، والتفكير التأمليّ. لعلّ الأهم من ذلك أنَّ الصوت والموسيقى كليهما يمكن الشُّعور بهما. إنَّ الإحساساتِ كلّها عند سبينوزا جزئيّةٌ وتخيُّليّةٌ، ولا بد من تحويلها إلى معرفة. وكما يلاحظ جيويا فإنَّ الغناء يطلق الأوكسيتوسين في المخّ والجسم، فيخلق شعورًا بالوحْدَةِ، والتشارك، والتعاون مع مَن حولنا.
إنَّ ذلك البُعد الشعوريّ للمعرفة قد يمثّلُ إشكالًا لأولئك الذين يفضّلون القياس والتتبُّع.؛إذ ليس بوسعك أن تشعر بما يشعر الآخر. وغالبًا ما تمرُّ الطرق الوحيدة لقياس خبرة الآخر عبر اللُّغة والاستدلال المنطقيّ، وربّما عبر أشكال تقنية مُتنوعة، لكنَّ هذه ليست الدروب الوحيدة. هب أنني أفكّر في الصّوت، وإن كنت أستطيع أن أرسل عناقًا افتراضيًّا لأذنيك في أغنيّة، وإذا كانت الأصوات تعمل عمل الغراء الذي يلصِق ذكرياتي، أو ببساطة تحدُّ من قلقي إزاء اللُّغة بحد ذاتها، إذن، فإنَّ ثمَّة أكثر مما يُمكن قياسه. ربّما يمكن اختباره ضمن النطاق الشعوريّ أوّلًا ثمّ تقنينه لاحقًا.
«تقع مُدّة الاستنشاق ومجموع الأنفاس في الدقيقة، في أَسْرِ تناظُرٍ مُخيف».
إذا كان الصّوت والموسيقى يتعاليان على اللُّغة والمنطق، فكيف لهما أن يساعدا أحدهم على الاشتغال بمجالٍ مُعقّد كالفلسفة؟ ربّما فطن أفلاطون لهذه المفارقة، ولكن بطريقةٍ مُستترة؛ فربما أَسَرَّ جمهوريته باستعمال أفكار فيثاغوريّة من أجل أن يخفي نظريّته في مدى النفوذ الذي تمارسه الموسيقى والصّوت في الواقع على حياة البشر (وهو أمرٌ دائمًا ما فهمته بعض الثقافات المحليّة). يكتب جيويا نقلًا عن بحثٍ للموسيقولوجيّ ج. ب. كينيدي (J B Kennedy):
«إذا ما قسّمت الاثني عشر ألف سطر من جمهورية أفلاطون إلى اثنتي عشرة فقرة تتألف كل واحدة منها من ألف سطر، وتُكافؤ كلُّ واحدة منها نغمةً على سُلَّمٍ موسيقيٍّ، فإنك ستجدُ إشارات صريحة للهارموني والموسيقى وطبقة الصّوت والأغنية، وهي تتكرر بدقة على أكثر المسافات توافقًا، وتنبثق ألحان أكثر سوداويَّة تتعلّق بالحرب والموت على مسافاتٍ مُتنافرة».
حتى إنَّ سقراط -معلّم أفلاطون- قد أدرك -فيما يلاحظ جيويا- قيمة المعاني الخفيّة وطمس نُوع المعلومة التي قد تودي بحياة المرء، رغم أنني أشك في مدى نجاحه في تطبيق هذه المُمارسة في النهاية؛ إذ إنه قد أُعدم ظلمًا لإثباته أنَّ حريَّة الفكر هي خاصيّة تميز الإنسان، وأنها من الممكن أن ترتبط بأرواحنا حتى في حياتها المُمكنة بعد الموت. إنَّ فكرة الصوت والإيقاع -لا سيَّما من جهة ارتباطهما بالتّنفُّسِ والصّحة- لهي صلة ذات مغزى أقوى مما يعتقد البعض الآن. يؤكد الصحفي جيمس نستور في كتابه التنفُّس (٢٠٢٠م) على أنَّ العلم الطبيّ الحيويّ الحديث قد بدأ يتحقق من صحة مُمارسات إيقاعية شرقية قديمة مُعينة في التنفُّس تؤدي إلى صحة أفضل بكثير «إنَّ الإيقاع الأمثل يحدث عندما تقع مدة التنشق ومجموع الأنفاس في الدقيقة في أَسْرِ تناظُرٍ مُخيف– شهيق مدته ٥,٥ ثانية، يتبعه زفير لمدة ٥,٥ ثانية. وهو ما يصل إلى ٥,٥ نفسًا في الدقيقة تقريبًا». يلاحظ نستو علاوة على ذلك أنَّ إيقاعات هذه التقنيات هي عين إيقاعات الصلاة، فيقول:
«حين يرتل الرهبان البوذيّون تراتيلهم الشعبية Om Mani Padme Hum، فإنَّ كل عبارة ترتل إنما تستغرق سِت ثوانٍ.. تستغرق ترتيلة Om التقليدية حوالي سِت ثوانٍ في ترتيلها، مع وقفة حوالي سِت ثوان للشهيق، تستغرق أيضًا ترتيلة sa ta na ma -وهي أحد أشهر التقنيات في يوجا كونداليني- حوالي سِت ثوانٍ لأدائها، يتبعها سِت ثوانٍ للاستنشاق. لقد طورت بطريقة ما كل الثقافات والديانات اليابانية والإفريقية والهاوايية والأمريكية الأصلية والبوذية والطاوية والمسيحية، تقنيات الصلاة عينها، وهي تتطلب أنماط التنفس عينها. ومن المرجّح أنَّها كلها استفادت من الأثر المريح نفسه».
لقد أَولى الفلاسفة اهتمامًا بالغة لِفكرتَي الهارموني والإِيقَاع، من الجهتين الموسيقيّة والفيزيقيّة. يُميّز أفلاطون في الكتاب الثالث من جمهوريته تمييزًا دقيقًا بين مَفهوم اللُّغة من ناحية، ومفهومَي الهارموني والإيقاع من الناحية الأخرى، رغم أنه قد لجأ إليهما لِسَبر أغوار روح الإنسان بصورة أفضل. زعم أفلاطون أنَّ ثمَّة إيقاعًا، وفضيلةً، واِنسجامًا طبيعيين في الأشياء كافة؛ إذ يقول: «فهي تدخل في الحياكة والتطريز والبناء وكل أنواع الصنائع، بل في طبائع الحيوانات والنبات إمَّا أن توجد الفضيلة وإمَّا أن تعدم». ويشمل ذلك الأعمال التي تخدم المجتمع. عادةً ما كنت أعتقد أنَّ أفلاطون لا ينال فضلًا وفيرًا بسبب فكره الذي يقصد المجتمع. لكن أكرر: لعلّه تأثر في ذلك بالثقافات القديمة التي كانت تسبقه. رأى أفلاطون أنَّ الشباب يتوجب عليهم أن يجعلوا من الانسجام والفضيلة «مرماهم الأساسي» إذا أرادوا القيام بما يبرعون فيه، أيّ: إضفاء مواهبهم الفردية والطبيعية إلى المجتمع. ومع ذلك، فلا يمكنهم الاستغراق في التراتيل الصوفية، أو الأغاني الحزينة. رأى أرسطو أنَّ الناي يصدر صوتًا كريهًا، وقد مقته سقراط وأفلاطون أيضًا. لنا أن نتجادل حول ما عَنَاه أفلاطون وغيره منذ آلاف السنين بمفهوم الفضيلة. بيدَ أنه محقّ تمامًا في تعيين دور الانسجام في تقوية الأواصر، والتّعاون –الانسجام الصوتيّ، أو الموسيقيّ، أو على الأقل في الغِناء- كما يوضّح جيويا، فإنَّ الغناء كان مُمارسة جماعية حيويَّة مارسها البشر الأوائل. وقد بقي مُذ ذاك الحين مسلكًا لكثير من الثقافات الشامانية لقرون، وحتى يومنا هذا.
كان ما يشغل أفلاطون هُم أولئك المساكين عازفيّ الناي، ذلك أنهم لا يستطيعون الحديث وهم يعزفون، ثمّ إنَّ الناي كان يعزف عليه أولئك الذين كان يعتبرهم أفلاطون أقل تهذيبًا. لكنه ربما قد تدارك خطأه على فراش الموت، وهذه لحظة ساخرة نعهدها في حياة الفلاسفة، فبعد أن كتب، ونطق بكلماتٍ كثيرة، طلب أفلاطون عازفًا للناي للتخفيف عنه حتى الممات، وربّما في حياته القادمة أيضًا.
يُوجِّه نوعُ الموسيقى الصحيحُ المريضَ ويثبّته بينما يتلاشَى كل شيءٍ آخر.
إنصافًا لأفلاطون، فإنَّ ارتيابه نحو الموسيقى مبعثه فكرة أنَّنا لا يمكننا أن نقع في الوَجْدِ طوال اليوم – ليس إذا كنَّا سننجز أعمالًا لأنفسنا وجيراننا في ظلّ مُجتمع يتسم بالديمقراطيّة والحرّية والتعلّم والإبداع. فطن أفلاطون إلى أنَّ الموسيقى والصّوت يمكنهما تغيير طباع البشر، واستثارة أعمق العواطف. فقد أراد من الشعراء والفنانين العظام أن يؤلفوا إيقاعات وأصواتًا مُعينة في أوقات الحرب، وأغاني أخرى لأوقات السِّلم. إنني أيضًا أمارس حُبًّا لا حربًا، ولكنَّ كثيرين لم يسمعوني حقًّا. ربما لم يكن ذلك خطؤهم بالنظر إلى اضطراب المعالجة السمعية المعتدل، وغير ذلك. ذلكم هو تحدي تعلّم الاختلافات. إني لدي قدرات تعمل بصورة مُختلفة؛ فكلَّما كثرت الموسيقى كان ذلك أفضل جدًّا.
يمكن أن تكون الموسيقى إذن، شكلًا من أشكال العلاج. درس عالِم الأعصاب الراحل أوليفر ساكس (Oliver Sacks) ظاهرة الموسيقى والصوت، إذ كان يستطيع استرجاع ذكريات لمرضاه، ويبدو أنَّ هذه الذكريات كانت مفقودة. كتب ساكس في كتابه: “نزعة إلى الموسيقى” (٢٠٠٧) أنَّ العلاج بالموسيقى مع المصابين بمرض الخرف «ممكن؛ لأنَّ الإدراك والحساسية والعاطفة والذاكرة الموسيقية يمكن أن تبقى كلّها أمدًا طويلًا بعد تهافت صور الذاكرة الأخرى. لذا يمكن أن يوجّه نوع الموسيقى الصحيحُ المريضَ، ويثبته بينما يتلاشى كل شيء آخر».
تنطبق تلك السِمات العلاجية على أجسادنا أيضًا بالمثل. عادة ما كان يُسمِعُ الجراحُ بيرني سِيجل مرضاه الموسيقى في غرفة العمليات، فكان يهمسُ سِيجل في آذانهم أثناء تخديرهم قائلًا: “إنَّ لهم الاسترخاء، والاستمتاع بموسيقاهِم أو أصواتهِم المُفضّلة”، وبينما يفعلون ذلك، سيكون ممتنًا لهم جدًّا إذا نزفوا قليلًا أثناء الجراحة.
وقد لاحظت طوال الجائحة العالمية كم كنَّا بحاجةٍ إلى أصواتنا المُفضلة –الأصوات التي تجلب الراحة، والأصوات التي تُداوي، كأصوات جماهير الرياضة، وأصوات العاشقين، والأصدقاء، والعائلة، وأصوات حيواناتنا الأليفة، وأصوات الطبيعة، فتلك أيضًا إحدى الطرق التي يُداوي بها الصوت. إنها أصوات فردية وجماعية على حدٍّ سواء، مجموعة من الأصوات المُفردة. يتضمّن الصّوتُ الإيقاعَ كما أشرنا من قبل، ويتعلّق الإيقاع بالزمن. لقد طوّر الفيلسوف توماس نيل (Thomas Nail) أنطولوجيا فلسفية جديدة –نظريّةٌ في ماذا يعني «أن توجد»– وهو شيء يندر أن نجده في عالم التفلسف. في عمله الوجود والحركة (Being and Motion) (٢٠١٨م) حيث يبني على فلسفة لوكريتيوس الذي ذهب إلى أنَّ كل ما في الطبيعة حتى المكان والزمان يتكوّن من سيالات وثنايا وحقول – وهي الاستعدادات الإنتروبيّة والسيرورات التي لا تلبث أن تتكشّف في الحركة. تحتاج حتى تقيس أيّ شيء إلى المكان والزمان. ولكن كما قال نيل بصورةٍ مُقنعة فإنَّ هذه المُمارسات لم تكن ممكنة لولا عمل التدفقات والثنايا وحقول الحركة والحركة ذاتها. فالوعي لا يتوقف عن الحركة.
وإذا كانت بعض الكلمات تضيع في نفسي، فإنَّ الحركة والإيقاع يبقيان. إذا كانت الحركة تأتي أوّلًا من جهة نظر بعض الفلاسفة، فإنَّ أجسادناعلى الأقل -في نظر جيويا ونيل- كانت أولى الآلات الموسيقيّة التي عرفها البشر الأوائل منذ مئات الآلاف من السنين. يقول نيل: «فالأصوات المُتحركة لم تنبجس من الجسم النّاطق من لا شيء؛ بل جُمِّعَت من أنحاء أخرى، ذلك أنَّ الفونيمات البشرية كلّها قد وُجدت قبل أن تنصت لها أُذن بشريّة في الأصوات الطبيعية والحيوانية».
إنَّ كلَّ مُنعطفٍ تكنولوجيٍّ كبيرٍ يُغيّرُ الكيفيّة التي يُغني بها الناس.
إننا نحتاج بالتأكيد إلى كثير من التداوي في وقتنا الحاضر. ويحوز المُعالجين بالفن، بالإضافة إلى الموسيقيين والمُعالجين بالموسيقى، فهمًا دقيقًا للكيفية التي تُلطّفُ، وتجدِّدُ بها الموسيقى والأصوات الجسدَ والعقلَ. تذكرْ أنَّ العقلَ في الفلسفة ليس هو الدّماغ. والصّوت يستطيع استحثاث الحواس الأخرى أيضًا حتى إثارة صور، وإحساسات لروائح أو ألوان معينة، كما في حال أولئك الذين يعانون من التراكب الحسي (synaesthesia)، ويتعلّق الصوت أيضًا بالاهتزاز، والموسيقى تتعلّق بالطاقة. وكما قال المُخترع نيكولا تسلا في الأربعينيات من القرن الماضي: «إذا أردت فهم الكون، ففَكّرْ في الطاقة والتردُّد والاهتزاز».
إني أتساءل، كيف ستبدو الأصوات الجديدة في عالمنا؟ يقول جيويا: «إنَّ كلَّ مُنعطفٍ تكنولوجيٍّ كبيرٍ يُغيّرُ الكيفيّة التي يُغني بها الناس». لعلّ الأهم من ذلك أنه يتنبأ بأنَّ الموسيقى في حال عدم تدخُّل السلطات «ستنزع نحو توسيع نطاق الاستقلال الشخصيّ، والحريَّة الإنسانية». إنني سأغادر الأكاديميا قريبًا بعد ١٥ عامًا أو نحو ذلك من التدريس الناجح. سأفتقد الطلبة وقاعة المحاضرة افتقادًا عظيمًا. لكني بحاجة إلى استراحة من الرقابة على الكلمات، ورموز السلطة الخلفيّة. لقد فاتهم بعض النّغمات، ويمكنني الغناء حيثما أكون. كنت بالجامعة بشكلٍ متقطع منذ عام ١٩٩٤. تحسّنت كتابتي بصعوبة. ما زالت القراءة أمرًا صعبًا رغم أنني مداومتي القراءة يوميًّا. أمَّا عن التحدُّث، فإنَّ ذلك يعتمدُ على من أتحدث معهم، وبما أشعر وأنا معهم. لديّ الآن نغمات جديدة لعزفها. لقد وضعت إسهامي الصغير في تاريخ الفلسفة، وذلك غالبًا بسبب الدفء والأفكار التي شاركتها مع الآخرين.
باعتبارنا رفقاء رحلة إيجاد التوازن لروحنا، فإنه يسعى البشر إلى الحفاظ على وصايتهم الفنيّة والعِلميّة على قِيم الحقيقة والجمال والخير. بيد أنَّ الطبيعةَ أعظم بكثيرٍ مما يقدر البشر على وصايته أو تسميته أو تعريفه. وكما يُنشد جيويا: «إنَّ الموسيقى دائمًا أكثر من مُجرد نغمات. إنها أصوات. والخلط بين هذه وتلك ليس أمرًا يسيرًا. لا تحدث الموسيقى في المُخّ، بل تحدثُ في العالَم. وما زال للأغاني سِحرٌ، حتى عند الذين فقدوا القدرةَ على الاتصال بها». بريستو (2).
الهوامش
* كريستينا رولز، أستاذة الفلسفة بجامعة روجر ويليامز في بريستول، برود آيلاند. وهي المُحرّر المُشارك لِمجموعة مقالات الفلسفة والفيلم (٢٠١٩)، وكاتبة منتظمة في مدونة American Philosophical Association، وصاحبة سلسلة مُقابلات حول فلسفة الزمن.
1- للشاعر الألماني جوته قول مماثل، في سياق تشبيه الموسيقى بالعمارة، إذ يقول عن فَنِّ العمارة: “إنّه موسيقى مُتجمدة أو مُتحجّرة. يُمكن القول أيضًا: إنَّ الموسيقى عمارة مُتحركة أو سائلة [تسيل في الزمن]”. (المترجم).
2- بريستو كلمة إيطالية تعني: «شديد السُّرعة»، وهي إشارة من إشارات الأداء التي تكتب أعلى المدونة الموسيقيّة لتحديد سرعة أداء المقطوعة. (المترجم).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.