وجدت نفسي مؤخرًا في مكتب عالم الأعصاب روبرت ديسيمون، مدير معهد ماكجوفرن لأبحاث الدماغ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نتناقش في التنبؤ بوقوع شخصين في الحب.
جلسنا بجوار خزانة زجاجية كبيرة تحتوي على مقتنيات تاريخية وغرائب علم الدماغ: صندوق خشبي مليء بالأقطاب والأسلاك المستخدمة لتوليد التيارات الكهربائية والصدمات للدماغ، جهاز “مزامنة” لموجات الدماغ يحتوي على أنبوب مفرغ وامض، ومسمار معدني مخيف يعود تاريخه إلى الأربعينيات ويُستخدم لإجراء عمليات جراحية في فصوص الدماغ.
سألت ديسيمون إذا كان يظنُّ أن علماء الدماغ في المستقبل قد يكونون قادرين على توقع ما إذا كان شخصان سيقعان في الحب يومًا ما بناءً على قراءة كاملة لأعصابهما، أجاب ديسيمون بابتسامة صبيانية: “نعم، فأنا اختزالي”، قال لي وأقر بأن نماذجنا في الوقت الحالي تعتمد فقط على الاحتمالات، فتقول النماذج: “هناك احتمال بنسبة 70٪ أنك ستقع في حب ماري، واحتمال بنسبة 40٪ أنك ستقع في حب آليس”.
ولكن وفقًا لديسيمون، ستتجه الاحتمالات التنبؤية في المستقبل نحو الوصول إلى 100٪، أنا عالم، ولكنني أجد أن الأمر مزعجٌ قليلًا أن يتنبأ عالم دماغ أو جهاز كمبيوتر بمن سأقع في الحب، في الوقت نفسه، أنا أكن إعجابًا كبيرًا للتقدم المذهل في العلم في فهم البشر ووضعنا بالنسبة للخطة الكبرى للأمور.
كان سؤالي عن الحب مجرد واحد من عديدٍ من الأسئلة التي طرحتها على العلماء والفلاسفة والأخلاقيين وزعماء الديانات في أثناء عملي في السنوات الأخيرة على سلسلة تلفزيونية عامّة تحمل عنوان “البحث: سعينا للمعنى في عصر العلم” والذي عُرِض أول مرة في بداية يناير 2023م، أردت أن أعرف ماذا يعني أن نكون بشرًا في عالم يشهد تزايدًا في العلم والتكنولوجيا؟ كيف تنشأ تجارب الإنسان المعقدة مثل الوقوع في الحب أو الشعور بالارتباط بالطبيعة أو تقدير الجمال من الدماغ المادي، وهو عبارة عن مجموعة من الذرات والجزيئات؟
كعالم، أطلق على نفسي مصطلح “المادي الروحي” فأنا مادي ولكن ليس في معنى السعي إلى السعادة من خلال السيارات والملابس الجميلة، ولكن في المعنى الحرفي للكلمة، وهو الاعتقاد بأن كل شيء مصنوع من الذرات والجزيئات، ولا شيء أكثر. علاوة على ذلك، أظنُّ أن المادة الكونية تخضع إلى عدد قليل من القوانين الأساسية، ومع ذلك، عشت تجارب تجاوزت الحدود، تواصلت بصريًّا مع الحيوانات البرية، وعندما نظرت إلى النجوم في إحدى ليالي الصيف، فقدت الاتصال بجسدي وشعرت أنني اندمجت مع أشياء أكبر مني بكثير، أشعر بالارتباط بالآخرين وبعالم الكائنات الحية وأقدّر الجمال، وقد عشت الرهبة، وبالتأكيد فإن لدينا جميعًا تجارب ولحظات مماثلة، مثل ولادة طفل أو مشاهدة كسوف الشمس، وعلى الرغم من تنوع هذه التجارب، إلا أنها تتشابه بشكل كافٍ حيث يمكنني تجميعها تحت عنوان “الروحانية”، لذلك أطلق على نفسي مسمى المادي الروحي.
يربط كثيرٌ من الناس الروحانية بإله قادر على كل شيء وقائم بذاته وخارق للطبيعة، أحترم مثل هذه الاعتقادات، لكنني لا أؤمن بوجودها، بل أظنُّ أن تجارب الإنسان جميعها متوافقة مع رؤية علمية شاملة للعالم بما في ذلك الروحانية، حتى وإن لم يكن بالإمكان اختزال بعضها إلى صفر وواحد، لا أظنُّ أن جذور هذه التجارب فقط في الذرات والجزيئات المادية، بل من الممكن شرحها بالقوى التي يتحكم بها التطور الدارويني.
في حين أصبحت أمتنا وعالمنا أكثر تفرُّقًا في السنوات الأخيرة، اكتسب الحوار بين العلم والروحانية أهمية أكبر، فالأمران لا يستبعد أحدهما الآخر، ومع ذلك يتصرف كثيرون كما لو أنهم كذلك، نحن البشر قادرون على اختراع أدوية المضادات الحيوية والهواتف الذكية، كما أننا قادرون على تأليف السمفونيات أو أن نذهل من حُمرة غروب الشمس، فنحن نستكشف ونعيش التجارب في الوقت ذاته.
من بين هذه التجارب “الروحانية” هناك الشعور الأساسي بالارتباط بالطبيعة وبالآخرين وبالكون ككل، في مقال سابق، وصفت الأساس التطوري لشعورنا بالارتباط بالطبيعة، فبما أننا نحن البشر قضينا أكثر من 99٪ من تاريخنا الممتد لمليوني عام في الهواء الطلق، لذا فانتباهنا إلى الطبيعة ستكون له فائدة كبيرة للعيش، مثل اختيار الهوايات المناسبة والبحث عن الطعام وقراءة علامات العاصفة القادمة.
مثلما شكلت القوى التطورية شعورنا بالاتصال العميق بالطبيعة، فإنها أيضًا ربما شكلت حاجتنا إلى الاتصال بالبشر الآخرين، والذي بدوره مرتبط بشعورنا بأننا جزء من شيء أكبر منا. في مجموعات الصيد وجامعي الطعام في بداية التاريخ البشري التي شكلت معظم تاريخ البشر، كان أعضاء المجموعة يعتمدون بشكل كبير على بعضهم في العيش، فقد كان الخطر قريبًا دائمًا، خرج الصيادون للحصول على الطعام، في حين قام البالغون الآخرون بحماية الأطفال والحفاظ على النار وتحصين الكهف بشكل جماعي، وكان من المحتمل أن يؤدي النبذ أو الانفصال عن المجموعة إلى الموت بشكلٍ سريع، تقول عالمة النفس الاجتماعية سيندي فرانتز من كلية أوبرلين أن هناك أوجه تشابه نفسية واضحة بين العلاقات التي نقيمها مع الطبيعة وتلك التي نقيمها مع الناس، فقد قالت لي: “إحدى استراتيجيات التكيف التي يمتلكها البشر هي أننا نعيش في هذه المجموعات الاجتماعية التعاونية، بالنسبة لأسلافنا، ألا تكون عضوًا في المجموعة كان يعني زيادة كبيرة في احتمالات الموت وعدم نقل جيناتهم… لقد أنشأنا هذه الدوافع الاجتماعية الأساسية لأنها ساعدت في الحفاظ على حياة الناس، وأقوى هذه الدوافع هو الحاجة إلى الانتماء”.
وإحدى أكثر المحادثات التي أثارت تفكيري هي التي أجريتها مؤخرًا وكانت في مأوى لافيراسي في جنوب فرنسا، أخبرني عالم الأنثروبولوجيا المحلي برونو موريل أن الهياكل العظمية التي عُثر عليها هناك أظهرت أن البشر الأوائل منذ ٤٠ ألف سنة، كانوا يدفنون أعضاء مجموعتهم بعناية طقوسية، ونرى كثيرًا من عناصر الطبيعة جميلة لأننا جزء من الطبيعة، كالسحب النحاسية، ولفافة من الصدفة الملتوية، وألوان قوس قزح، وانعكاس النجوم على سطح بركة هادئة في الليل، فقد نشأنا في الطبيعة من الناحية التطورية. وبالتأكيد، هناك أيضًا عنصر ثقافي في مفهوم الجمال، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجمال الجسدي للأشخاص، فقد كان الماساي يعدُّون الأذنين الطويلة جميلة في كينيا، وعلى مر القرون، ربط الصينيون أقدام الفتيات، معتقدين أن الأقدام الصغيرة جميلة وأنثوية وعلامة على الرقة، ولكن يبدو أن بعض مفاهيم الجمال عالمية.
ليس من الصعب القول إن تقدير اللون والشكل وجوانب أخرى من الجمال كانت له فائدة في البقاء على قيد الحياة فيما يتعلق بالانجذاب الجنسي، حيث إن القوة البدائية والتطورية وراء الجاذبية الجنسية هي التكاثر بالتأكيد، والتكاثر يكون ناجحًا أكثر عندما يتمتع كلا الشريكين بصحة جيدة وقوة، وترتبط الصحة والقوة بتشكيل الجسم والجلد الناعم واللون الجيد وملامح الوجه المميزة وعناصر أخرى من الجمال الجسدي، في الواقع، تؤدي ردود الفعل العصبية على الجمال إلى تنشيط بعض مراكز المتعة نفسها في الدماغ مثل الأكل والجنس والمخدرات، وعبَّر كلٌّ من داروين وفرويد عن الارتباط بين تقدير الجمال والدافع الجنسي.
إيمي فرند
وفي طبيعة الحال، فإن معظم تجارب الجمال لا تنطوي على الجاذبية الجنسية، ولكن الإعجاب العام بالجمال يمكن أن يكون نتيجة فرعية لصفة مثل الانجذاب الجنسي، التي كانت ولا تزال لها فائدة للبقاء على قيد الحياة، ويطلق علماء الأحياء التطورية على مثل هذه النتائج الفرعية في التطور البيولوجي “النتائج العرضية”. كتب عالم النبات والوراثة هوغو إلتيس أن “حب الإنسان للألوان الطبيعية والأنماط والتناغمات، لا بد أن يكون نتيجة للانتقاء الطبيعي عبر آلاف سنين من تطور الثدييات وأشباه البشر”.
إن حساسيتنا للجمال في جانب قرابتنا مع العالم الطبيعي، لديها بعض المظاهر الجمالية والترابطات المدهشة، دعونا نأخذ “النسبة الذهبية” مثالًا، لاحظ علماء الأحياء والمهندسون المعماريون وعلماء النفس وعلماء الأنثروبولوجيا منذ مدة طويلة أننا نجد المستطيلات التي تكون نسبة الضلع الطويل إلى الضلع القصير فيها تقريبًا 3 إلى 2 جميلة، إذ تقترب هذه النسبة مما يُسمى “النسبة الذهبية”، وتُسمى أحيانًا “المتوسط الذهبي”، حيث يكون العددان ضمن النسبة الذهبية إذا كانت نسبة العدد الأكبر إلى العدد الأصغر هي النسبة نفسها بين مجموعهما والعدد الأكبر، من خلال هذا التعريف البسيط، يمكننا تحديد أن النسبة الذهبية هي 1.61803.
والآن ندخل مملكة السحر، فقد اكتشف عالم الرياضيات الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي في القرن الثاني عشر سلسلة من الأرقام المثيرة للاهتمام، يُطلق عليها “تسلسل فيبوناتشي”:
0، 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21، 34، 55…
كل عدد في التسلسل بعد الصفر هو مجموع العددين السابقين، كما يمكنك اختبار ذلك بنفسك، فإن نسبة العدد في التسلسل إلى العدد الذي قبله تقترب من النسبة الذهبية عندما ننتقل نحو أعداد أكبر وأكبر، على سبيل المثال، 21/13 = 1.615، 34/21 = 1.619، 55/34 = 1.6176. لذا فإن هذه السلسلة الخاصة من الأرقام مرتبطة بشكل وثيق بالنسبة الذهبية، حتى في هذه النقطة، يمكن لأي شخص لديه تقدير للرياضيات أن يرى كثيرًا من الجمال في النسبة الذهبية وعلاقتها بسلسلة أرقام فيبوناتشي.
ولكن هناك كثيرٌ من السحر الطبيعي في ذلك، لننظر إلى الشكل الحلزوني الذي تم إنشاؤه من الأرباع المتصلة التي تربط الزوايا المتضادة لسلسلة من المربعات الأكبر حجمًا والتي تمثل أضلاعها الأرقام في سلسلة فيبوناتشي، كما هو موضح في الرسم التوضيحي أدناه:
وهناك عديدٌ من الكائنات التي قد تجسّد هذه الدوامة غير الحلزون، مثل الأصداف البحرية وصبّار البوليفيلا:
ومع انتشارها في الطبيعة، ليس من المستغرب أن تكون النسبة الذهبية ممتعة للعين البشرية، فقد قام المهندسون القدماء والحديثون بتطبيق هذه النسبة في مبانيهم وأحيانًا دون وعي، على سبيل المثال، الهرم الأكبر في الجيزة (2560 قبل الميلاد) له ارتفاع مائل يبلغ 186.3 مترًا وطول قاعدته يبلغ 115.2 مترًا مع نسبة تساوي 1.6172، وهي تقريبًا تساوي النسبة الذهبية.
قدم المهندس الميكانيكي أدريان بيجان في جامعة دوك تفسيرًا تطوريًّا يعتمد على العين والدماغ، مناقشًا أسباب انجذابنا إلى النسبة الذهبية، يقول بيجان إن العين والدماغ تطورا لتحقيق أقصى قدر من السهولة لتدفق المعلومات من مستوى الرؤية إلى الدماغ، وإذا فكرنا في مستطيل، فإن الوقت الذي تستغرقه العين لفحص مساحة المستطيل يكون أقل عندما تستطيع العين فحص الطول الأفقي في الوقت نفسه الذي تستغرقه لفحص الطول العمودي، بعد إجراء تحليل لهندسة العين، وجد بيجان أن العين تفحص في الاتجاه الأفقي بمعدل 1.5 مرة أسرع من الاتجاه العمودي، وبالتالي، فإن القيمة المثلى للنسبة التي تقلل من الوقت اللازم لفحص المستطيل بأكمله هي حوالي 3/2، وليست بعيدة عن النسبة الذهبية.
ويمكننا من تحليل بيجان القول إنه نظرًا إلى أن عديدًا من الكائنات في الطبيعة تظهر النسبة الذهبية في بنيتها، فإن عيوننا تطورت لتحسين تدفق المعلومات إلى الدماغ للكائنات التي تحتوي على هذه النسبة، ومن هناك يمكننا مناقشة سبب كون هذه النسبة ممتعة للعين، فالنسبة الذهبية متغلغلة فينا، تمامًا كما هي متغلغلة في قواقع البحر ونباتات الصبار، وإدراكنا الجمال هو في الواقع تعبير عن وحدتنا مع الطبيعة.
إن فهم هذه التفسيرات العلمية لسبب تقديرنا الأشياء الجميلة لا يقلل بأي حال من متعتي وسعادتي في تأمل السحب النحاسية أو قواقع البحر الملتفة أو انعكاس النجوم في الماء، بل تعزز متعتي وتؤكد ارتباطي بالعالم الطبيعي. بالنسبة لي، جمال الرياضيات المتمثل في سلسلة فيبوناتشي، ووجود تلك الجمالية الخاصة في قواقع البحر والنباتات، وانجذابي البيولوجي لهذا الجمال، كلها تشكل جزءًا واحدًا، وتعبيرًا عن ارتباط عميق بين الكائنات الحية جميعها.
إن أساس التجارب العقلية البشرية جميعها، بما في ذلك تلك التي قمت بتجميعها تحت عنوان الروحانية، هو الوعي: المشاركة الشخصية في العالم، ووعي الذات، والشعور “بالأنا”، والشعور بأنك كيان منفصل في العالم، والاستقبال والرؤية المتزامنة للصور البصرية والصوت واللمس والذاكرة والفكر، والقدرة على تصور المستقبل والتخطيط له.
ومن المؤكد أن الوعي موجود في نطاق واسع، بدءًا من الاستجابات التلقائية للبيئة المحيطة في الطرف السفلي إلى الوعي الذاتي والأنا والقدرة على التخطيط للمستقبل في الطرف العلوي، وقد لا تكون الأميبا واعية بطريقة ذات معنى، في حين أن الغربان والدلافين والكلاب على الأرجح واعية بشكل مؤكد.
إن أعلى مستوى من الوعي، وهو التجربة البشرية الأساسية، فريد جدًّا وصعب الوصف، ومختلف جدًّا عن التجارب مع العالم خارج أجسادنا حيث قد لا نتمكن أبدًا من توضيح الوعي بالكامل من خلال البحوث الدماغية، مثل البروفيسور ديسيمون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومعظم علماء الأحياء وعلماء الأعصاب، أظنُّ بثبات أن الوعي والتجارب العقلية جميعها ليست سوى أحاسيس تحدثها المواد الكيميائية والتيارات الكهربائية في الدماغ.، ولكن قد لا نتمكن أبدًا من معرفة كيف يظهر هذا المستوى الأعلى من الوعي تدريجيًّا من خلال الخلايا والمشابك العصبية في الدماغ المادي.
في ورقته البحثية الشهيرة عام 1972م بعنوان What Is It Like to Be a Bat? يعرّف الفيلسوف الأمريكي توماس ناجل الوعي بطريقة تؤكد على صعوبة تجاوز الانقسام الذاتي/الموضوعي: “يتمتع الكائن الحي بحالات عقلية واعية فقط إذا كان يحمل صفات الكائن الحي ذاته… يمكننا أن نسمي هذا الصفة الذاتية للتجربة”، فكيف يمكننا أن نشعر بما يشعر به الخفاش أو الكلب أو حتى إنسان آخر؟
على الرغم من أنه قد لا يكون لدينا تفسير كامل لذلك الإحساس الغامض الذي نسميه الوعي، إلا أن هناك كثيرًا من الأدلة التي تشير إلى أنه ينشأ في الدماغ المادي، كالعلاقة بين “الوعي” والخلايا العصبية في الدماغ، واتصال المظاهر السلوكية للوعي بهياكل الدماغ المادي إذ يظهر هذا الاتصال بشكل واضح خاصةً عند تلف الدماغ، والمظاهر الملحوظة للمستويات المختلفة من الوعي في عالم الحيوان.
الاسم الآخر للوعي هو “الانتباه”، في الملايين من الصور البصرية والأصوات والروائح والمدخلات الحسية الأخرى التي تقتحم الدماغ كل ثانية، ما هي الآلية التي تسمح لنا بالانتباه إلى بعض الأمور وتجاهل الأمور الأخرى؟ ما الذي يحدث في الدماغ ويمكننا من تجاهل تسرب الصنبور والانتباه إلى طرقة على الباب؟ عام 1990م، اقترح عالم الأعصاب كريستوف كوخ وعالم الأحياء الجزيئي فرانسيس كريك أن الانتباه إلى مشهد أو صوت ما يرتبط بتفعيل متزامن للخلايا العصبية، والانتباه ليس الوعي، ولكنه على الأرجح شرط ضروري للوعي، وميكانيكياته العصبية جزء من فهم الأساس المادي للوعي.
تم دعم اقتراح الانتباه في عام 2014م من قبل عالمي الأعصاب ديسيمون ودانييل بالدوف، فقد قدما سلسلة مكونة من نوعين من الصور، وجوه ومنازل للمشاركين بشكل متتالٍ وبسرعة مثل إطارات الفيلم، وطلبوا منهم التركيز على الوجوه وتجاهل المنازل (أو العكس)، حيث تم “وضع علامات” على الصور عن طريق عرضها على فترات مختلفة -صورة وجه جديدة كل ثلث ثانية وصورة منزل جديدة كل نصف ثانية- ثم وضع الباحثون عبوة تشبه الخوذة على رأس المشارك يمكنها اكتشاف حقول مغناطيسية محلية صغيرة داخل الدماغ وبالتالي نشاط الدماغ المحلي، ومن خلال مراقبة تكرارات النشاط المغناطيسي والكهربائي في دماغ المشارك، استطاع ديسيمون وبالدوف تحديد المناطق التي يتم فيها توجيه ومعالجة صور الوجوه والمنازل في الدماغ.
اكتشف العلماء أنه عندما طُلب من المشاركين التركيز على الوجوه وتجاهل المنازل، تنشط الخلايا العصبية في منطقة التعرف على الوجوه بتزامن، مثل مجموعة من الأشخاص الذين يغنون بصوت واحد، في حين تنشط الخلايا العصبية في موقع المنازل كمجموعة من الأشخاص الذين يغنون بشكل غير متزامن، إذ يبدأ كل شخص منهم في جزء عشوائي من الأغنية، وعندما يركز المشاركون على المنازل ويتجاهلون الوجوه، يحدث العكس، من الواضح أنه عندما نتصور بأننا “ننتبه” إلى شيء ما ينشأ في التفعيل المتزامن لمجموعة من الخلايا العصبية على المستوى الخلوي، إذ يرتفع النشاط الكهربائي الإيقاعي لهذه المجموعة فوق الضجيج الخلفي للجموع العصبية الهائلة.
يرتبط عديدٌ من مظاهر الوعي الأخرى بالدماغ المادي، حيث قام الأطباء النفسيُّون وعلماء النفس وعلماء الأعصاب بإعداد استبانات للمرضى الذين يعانون من أضرار في الدماغ لقياس درجة وعيهم الذاتي وقدراتهم الوظيفية، وتم توزيع الاستبانات على ثلاث مجموعات: المريض، وعائلة المريض، والطبيب المراقب، إحدى هذه الاستبانات التي طورها مارك شيرير في كلية بايلور للطب وكلية الطب في جامعة تكساس في هيوستن، يطرح هذه الأسئلة من بين أسئلة أخرى:
ما مدى أداء المريض في اختبارات قياس مهارات التفكير والذاكرة الآن مقارنةً بما كان عليه قبل الإصابة؟ ما مدى إجادة المريض متابعة الوقت والتاريخ ومكانه الحالي مقارنةً بما كان عليه قبل الإصابة؟ ما مدى تذكر المريض الأحداث الأخيرة الآن مقارنةً بما كان عليه قبل الإصابة؟ ما مدى قدرة المريض في التخطيط للأمور الآن مقارنةً بما كان عليه قبل الإصابة؟
ليس من المفاجئ أن تظهر نتائج مثل هذه الدراسات درجات منخفضة عند قياسها من قبل أفراد الأسرة والأطباء المراقبين، ولكنها ليست منخفضة عند قياسها من قبل المرضى أنفسهم، يبدو أنه عندما يفقد الشخص الوعي الذاتي، فإن ذلك لا يكون واضحًا جدًّا للشخص نفسه، مثل هذا الوعي بافتقار المرء إلى الوعي سيتطلب وجود جزء آخر من الوعي “المشرف” غير المتأثر بإصابة الدماغ، كما أنه من الممكن أن يكون لدى الأشخاص الذين يعانون من إصابة في الدماغ تصوُّرٌ دفاعيٌّ بشأن فقدان قدراتهم وقد يبالغون في تقدير قدراتهم العقلية، فدائمًا من الصعب إعطاء تقارير ذاتية، وبالتالي، فإن تقارير أفراد الأسرة والأطباء هي الأوثق هنا.
تعد ذاكرة السيرة الذاتية ميزة مهمة للهوية والوعي الذاتي، تخيل الذهاب إلى حفلة كوكتيل مع غرباء بقيود تمنعك من الحديث عن تاريخك. أظهرت عديدٌ من الدراسات أن الذاكرة الذاتية تتضاءل بسبب تلف الدماغ والخرف، لنأخذ على سبيل المثال مرض الزهايمر، وهو مرض يدمر الذاكرة والقدرة على التفكير، يكشف تشريح أدمغة مرضى الزهايمر عن ترسبات لبروتين يسمى الأميلويد حول خلايا الدماغ، وبقع من بروتين آخر يسمى التاو، والذي يسبب تشابكًا لخلايا الدماغ، وقد وجد الباحثون أيضًا أنه مع تأثر خلايا الدماغ في مرض الزهايمر، يحدث انخفاض في الناقلات العصبية الكيميائية، كالأستيل كولين، التي ترسل الإشارات بين الخلايا العصبية، لا تظهر هذه النتائج فقط العلاقة الواضحة بين الذاكرة (بالإضافة إلى الوعي المرتبط بها) والدماغ المادي، بل تؤكد أيضًا على أهمية التواصل بين الخلايا العصبية كجزء مهم من الوعي والذكاء العالي بشكل عام.
إحدى الطرق لاستكشاف ظهور الوعي في الدماغ البشري هي دراسة الارتباطات السلوكية للوعي لدى الحيوانات الأخرى ورسم تدرج للوعي مع زيادة قدرات الدماغ، فقد أظهرت الدلافين التي لديها عدد من الخلايا العصبية القشرية تقريبًا مثل البشر (تحتوي الحيتان النفقية ذات الزعانف الطويلة في الواقع على عدد خلايا أكبر من البشر) علامات واضحة للوعي الذاتي واللعب. في تجربة مشهورة توضح التعرف على الذات، يتم وضع مرآة في بركة مع الدلافين، فتسبح الدلافين نحو المرآة، وتنظر إليها بضع لحظات ثم تبتعد، ثم توضع علامات على أجساد الدلافين فيقضي الدلافين وقتًا أطول وهم يتأملون أنفسهم في المرآة، ما يوضح أنهم لاحظوا تغيرًا في أجسادهم، أما في المحيط المفتوح، تتوقف الدلافين عما تفعله عندما يقترب قارب كبير، وتركب موجة القارب. قبل سنوات عديدة، ذهبتُ في رحلة شراعية في بحر إيجة، لم يسبح الدولفين بجانبي فحسب، بل قفز بقوة فوق الجزء الخلفي من القارب وقد بدا مستمتعًا.
القرود تلعب، والقطط تطارد بعضها بعضًا وتمسك خيطًا مُعلَّقًا، وتلقي الأسود البحرية عصيًّا على بعضها، ومن بين الحيوانات التي تتمتع بمستويات وعي أكبر كالتي يتمتع بها البشر، يمكننا رؤية تشابهات بارزة، ومع ذلك، يمكننا التعرف على جوانب من الإدراك البشري حتى عند الطرف الأدنى من طيف الوعي.
وعلى الرغم من أننا لا نفهم بالتفصيل كيف ينشأ الوعي والتجارب البشرية المعقدة من الدماغ المادي، إلا أن هناك عديدًا من الظواهر الأخرى المعروفة التي غالبًا ما يكون فيها سلوك الأنظمة المعقدة ليس ظاهرًا أو مفهومًا في الأجزاء المادية الفردية لهذه الأنظمة.
تُسمى هذه السلوكيات “الظواهر الناشئة”، ومن الأمثلة على ذلك سلوك أنواع معينة من اليراعات، فعندما تتجمع مجموعة من هذه الحشرات في أحد الحقول ليلًا، تومض في البداية بشكل عشوائي مثل الأضواء الوامضة لشجرة عيد الميلاد، ولكن بعد بضع لحظات، تبدأ اليراعات في الوميض بتناغم، حيث لا يمكن التنبؤ بهذا السلوك من خلال دراسة اليراعات بشكل فردي، ولكن يمكن رؤيته بوضوح في المجموعات، ومثال آخر هو الهياكل الكبيرة والمعقدة التي يبنيها النمل الأبيض وتُسمى “كاتدرائيات النمل الأبيض”، تحتوي الكاتدرائيات في بعض الأحيان على ممرات ومداخن مُفصلة للتحكم في تدفق الهواء ودرجة الحرارة والرطوبة.
قد يتطلب بناء هيكل معقد كهذا نوعًا من الخطة الرئيسية التي يتم تنفيذها بوساطة مئات الآلاف من النمل في المستعمرة، ولكن النمل الأبيض وهو أعمى، لا يستطيع تصور الكومة بشكل عام، ولا يمكنه توجيه تصميمها، وبطريقةٍ ما، تنشأ الكومة المعقدة من سلوك المجموعة الكاملة للنمل. يظنُّ الباحثون أن النمل يتبادل إشارات كيميائية مع بعضه ويستجيب أيضًا للإشارات من تدفق الهواء ودرجة الحرارة، والتي تتأثر بشكل الكومة.
فلنأخذ في الاعتبار أن الدماغ البشري يحتوي على 100 مليار خلية عصبية مثل التي يمتلكها اليراع، يمكننا أن نفهم كل شيء عن كيفية عمل الخلايا العصبية الفردية، مثل كيفية تبادل الأيونات الكهربائية عبر غشاء الخلية العصبية، وكيفية تمرير التيار الكهربائي على طول الخلية العصبية، وكيفية اتصال الخلية العصبية مع خلية عصبية أخرى بوساطة الاتصال الكيميائي، ولكن لا تزال هناك عدة فجوات لدينا في فهم كيفية توليد مجموعة الخلايا العصبية الإحساس الذي نسميه الوعي، ومع ذلك، يشير علم الأعصاب بأن ظهور الوعي في أدمغة متطورة مثل الدماغ البشري، على الرغم من كونه أكثر تعقيدًا بكثير من وعي اليراعات أو الكاتدرائيات إلا أنه ليس مختلفًا في النوع. وعلى وجه الخصوص، وفقًا لقوانين الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا المعروفة يمكن للوعي أن ينشأ من التفاعل الجماعي لمليارات الخلايا العصبية دون تدخل قوى غامضة أو “نفسية” إضافية.
سأنهي الموضوع بتوضيح نهائي للمادية الروحية كما أراها، هناك أدلة علمية جيدة تشير إلى أن الذرات جميعها في أجسامنا، باستثناء أصغر الذرات وهي ذرات الهيدروجين والهيليوم، تم تصنيعها في مراكز النجوم. إذا كنت تستطيع وضع علامة على كل ذرة في جسدك وتتبعها إلى الوراء في الزمن، من خلال الهواء الذي تتنفسه خلال حياتك، ومن خلال الطعام الذي تأكله، وعبر التاريخ الجيولوجي للأرض، ومن خلال البحار والتربة القديمة، وحتى تشكل الأرض من الغيمة الشمسية، ثم إلى الفضاء بين النجوم، يمكنك تتبع أثر كل ذرة من ذراتك، تلك الذرات المحددة، إلى نجوم ضخمة معينة في ماضي مجرتنا، في نهاية حياتها، تنفجر تلك النجوم وتبعث بذراتها المولدة حديثًا في الفضاء، لتتكثف لاحقًا في الكواكب والمحيطات والنباتات وجسمك في هذه اللحظة، وقد رأينا مثل هذه الانفجارات النجمية بوساطة التلسكوبات ونعلم أنها تحدث.
إذًا بدلًا من العودة بالزمن إلى الوراء، لو ذهبت بالزمن إلى وفاتي وما بعدها، فإن الذرات في جسدي ستبقى لكنها ستتناثر، تلك الذرات لن تعرف من أين جاءت لكنها ستكون لي، بعضها كان يشكل جزءًا من تذكري أمي وهي ترقص البوسا نوفا، بعضها كان يشكل جزءًا من ذاكرة رائحة شقتي الأولى المُخلّلة، وبعضها كان جزءًا من يدي. إذا كنت أستطيع وضع علامة على كل ذرة في جسمي في هذه اللحظة ونقش كل منها برقم الضمان الاجتماعي الخاص بي، فيمكن أن يتبع أثرها شخصٌ ما طوال الألف سنة القادمة وهي تطفو في الهواء وتمتزج مع التربة وتصبح أجزاءً من نباتات وأشجار معينة، وتذوب في المحيط، ثم تعود لتطفو في الهواء مرة أخرى، وبعضها بالتأكيد سيصبح جزءًا من أشخاص آخرين، أشخاص محددين، لذلك، نحن مرتبطون تمامًا بالنجوم، ومرتبطون تمامًا بأجيال المستقبل من البشر، بهذه الطريقة، حتى في الكون المادي، نحن مرتبطون بالأشياء كلِّها في المستقبل والماضي، أنا لا أؤمن بالمعجزات، ولكنني أؤمن بخوارق الطبيعة.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة ذا أتلانتيك).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.