نَهمنا الذي لا ينضب تجاه الأدب، والافتتان تجاه من يخلقونه، يزيد بقوة في أمسية جائزة البوكر. وفقًا لجمعية الناشرين في المملكة المتحدة في عام 2012 فإن مبيعات الروايات الورقية ارتفعت بنسبة 3% إلى أن حققت 502 مليون باوندًا، بينما ارتفعت مبيعات الروايات الإلكترونية بشكل مذهل بنسبة 150% تقريبًا إلى أن حققت 172 مليون باوندًا. فما السحر الذي يحيط بالقراءة والكتابة؟
لم تزل القصص تُحكى مذ أن كانت لدينا القدرة على الكلام؛ من أدبيات القرون الوسطى حتى آخر فيلم مرعب ثلاثي الأبعاد، حيث إنّ تأليف الحكايات وتداولها جانبٌ أساسي من كوننا بشرًا. كما قد عُززت الجاذبية المستمرّة للرواية -التي تأخذ القارئ إلى عالم آخر- بظهور القراء الرقميين، فقد برهنتْ أنها طيّعة في وجه مشتتات عديدة تحيد بنا؛ بالإضافة إلى أن نوادي الكتاب قد ازدهرت، ومقررات الكتابة الإبداعية لم تكن ذات شعبية كما هي الآن.
سألنا أربعة أشخاص عن القراءة وكتابة الروايات، وهم: الدكتورة سارة بيرتن، المسؤولة عن مقررات الكتابة الإبداعية لمرحلة الماجستير في جامعة كيمبرج وهو برنامج جديد يديره معهد التعليم المستمر في نفس الجامعة. آخر مؤلفاتها الكتاب القصير The Complete and Utter History of the World According to Samuel Stewart Aged 9 الذي نُشر في سبتمبر من عام 2013. تريڤر بيرن وهو مؤلف رواية Ghosts and Lighting بالإضافة إلى مقالات وقصص قصيرة أخرى. كما أن بيرن مؤسس لشركة هايلند وبيرن للتحرير بالاشتراك مع المؤلفة م.ج. هايلند. والدكتور مالاكاي ماكينتاش وهو عضو في إدارة كلية الملك في لندن، ومهتم في تمثيلات واقع المهاجرين والأقليّات في الآداب الأمريكية والبريطانية والكاريبية. وهيلين تيلر وهي مستشارة في الكتابة الأدبية.
كيف شكّلت القراءة والكتابة طفولتك؟
سارة بيرتن: علمتني أمي القراءة والكتابة عندما كنت في الرابعة؛ فهي كانت تقرأ طوال الوقت ولهذا فالقراءة بدت لي نشاطًا طبيعيًا ببساطة؛ هذا بالإضافة إلى الكتب الكثيرة التي تملأ منزلنا، وإلى مسألة ترددنا المستمر على المكتبة. -أيضًا- كان لدي جدّة روحية رائعة حيث عدَلَتني عن القراءة للكاتبة إيند بلايتن بأنْ أقرأ كتّابًا مثل كلايڤ كنگ ونينا باودن. أتذكر -إلى الآن- مدى دهشتي بالقراءة عن أطفال «حقيقيين»، وليسوا شخصيات من قصص The Famous Five أو Secret Seven لا يشبهونني ولا يتحدثون أو يتصرفون مثلي. بعدها اكتشفتُ كيرت ڤونيگت فتغيّرت أفكاري ومعاييري تجاه الكتابة الحقيقية؛ حيث كان لڤونيگت طريقة مدهشة في الكتابة ومألوفة في نفس الوقت؛ وذلك في كونها كتابةً انسانية واستهتاريّة لدرجة أنني التهمتُ ما استطعت من مؤلفاته. لقد كانت أول مرة يعرّفني ويقرّبني كاتبٌ ما إلى فكرة أن الكتابة شيءٌ أستطيع احترافه؛ كما صادف في تلك الفترة أنْ طلَب منّا المعلّم كتابة ما نتوقعه بعد نهاية رواية Watership Down التي كنّا نقرأها في الصف؛ فملأتُ كرّاستين آنذاك! وأنا الآن محررة جيّدة.
تريڤر بيرن: عندما كنتُ طفلًا لم يكن حولي الكثير من الكتب؛ بالرغم من أن أمي كانت تقرأ لنا -مما أظنه- كتابًا أو كتابين من مؤلفات إيند بلايتن. كانت الشخصية الوحيدة التي أتذكرها دميةً مشاكسة تدعى إيملي جين؛ حيث كانت القصص مملة للغاية حتى أن أمي كانت تُطعِّم حواراتها بشيء من الوقاحة؛ على سبيل المثال، تقول شخصية رقيقة: «إيميلي، أنتِ أنانية جدًا!» (هكذا كانت حوارات بلايتن)، فكانت ترد إيميلي: «اغرب، وانشغل بشيءٍ آخر!».
سرقت الهوبيت من المدرسة عندما كنتُ في العاشرة تقريبًا، فكانت هي أول رواية أقرأها من اختياري؛ أيضًا من تجاربي الرائعة المبكرة مع الكتب قراءة سلسلة Fighting Fantasy التفاعليّة[1]؛ فقد كنتُ في العليّة قبل عدة سنوات فنظرت إليهم مجددًا وقلت: “جميعها مكتوبة من منظور شخص ثانٍ!”. هذا ما تفعله الدراسة الجامعية في المرء.
كتبتُ في ذلك الوقت قصتي الأولى واستلهمت شخصيتها من فريق المنتخب الأيرلندي لكرة القدم؛ بحيث فصّلتُ فيها عن مغامرات الفريق في الوصول إلى إيطاليا أثناء كأس العالم عام 1990، ولسببٍ ما لم تكن هناك طائرات أو سفن. البروليتاريا الأيرلندية في نهاية القصة صنعت منجنيقًا هائلًا وأطلقته على الفريق في جميع أنحاء أوروبا. لقد كانت نهايةً غير متوقعة[2].
مالاكاي ماكينتاش: ربما من الغرابة القول بأن هذا السؤال لم يُطرح علي أبدًا حتى أنني لم أسأله نفسي. عندما كنتُ طفلًا أفترض أنني قرأت كمًّا لا بأس به؛ لأنني كنتُ وحيد والدَيّ بالإضافة إلى قضائي لوقت طويل في المستشفيات لسبب أو لآخر؛ كما أن أمي كانت قارئة نهمة كأم سارة، وجزء من أجمل ذكرياتي كان صوتها وهي تمثّل شخصيات سلسلة سجلّات نارنيا الروائيّة. اكتشفتُ القصص المصورة عندما كنت في التاسعة تقريبًا وقضيت الثلاث عشرة سنة التي تليها آملًا أن أتعرض لحادث مرير يهبني إما قوة خارقة أم شعاع ليزر في مكانٍ ما، وقد بدأتُ الكتابة في تلك الفترة، ربما متأثرًا بالقصص المصورة، أو متّبعًا سير من قرؤوا في سنٍ مبكرة.
كتبتُ روايتي الأولى عندما كنت في التاسعة أو العاشرة وأعطيتها لمعلم لم يرجعها لي أبدًا، ثم كتبتُ قصصًا مصورة؛ كانت تلك القصص مليئة بأبطال خارقين اختيرت أسماؤهم عشوائيًا من المعجم، مثل «ترايلوبايت وإينرڤيت». كما أن أمي كانت ترتاد الكنيسة على الدوام، حيث كنا نرتاد واحدة من الكنائس التي كان الجميع فيها يساهمون بشيء ما، فكنتُ أنا أكتب وأتحدث وأفسر الإنجيل أيضًا؛ لقد كانت تجربة أهّبتني جيدًا لمستقبل في التحليل الأدبي والمحاضرات الجامعية عن الأدب بعد تركي للكنيسة منذ زمن. كانت ولم تزل الكتابة طريقة لفهم أفكاري الخاصة، حيث لم أكن أفهم ما أفكر بهِ غالبًا إلا عندما أرى أفكاري تتشكل على أرض الواقع.
هيلين تيلر: كانت القراءة في طفولتي ملجأً ومهْربًا من الضجر في أيام الآحاد، وفي الساعات الطويلة التي قضيناها أنا وأختي بعد الذهاب إلى السرير، حينما كنّا نسمع الحياة ونرى الأضواء تأتي من الشارع؛ حيث كنا نمتلك القليل من الكتب الكلاسيكيّة مثل آن في المرتفعات الخضراء وهايدي. لكنني، مثل سارة، اكتشفتُ إيند بلايتن وسلسلتها القصصية Malory Towers والتي دلّتني على كتب نارنيا فأصبحتُ قارئةً نهمة. واحدة من الأشياء المميزة عندما أصبحت في سن الثانية عشر هي السماح لي باستعارة ستة مجلدات من المكتبة، والقدرة على الاختيار من مجموعة متنوعة من الكتب أسبوعيًا. إن اكتشاف روايات آلان گارنر ودراسة أدب د. هـ. لورانس في المدرسة كان مدخلًا للقراءة بشكل موسّع، والتفكير بشأن الكتابة الواقعية من مجرد تقليب صفحات ورقية. كما أعطاني التعليم الإسكوتلندي الابتدائي حبّ الكتابة، سواءً كانت لتلخيصات الكتب أو لتأليف القصص وكتابة المقالات.
أين تكمن قوّة الأدب؟
سارة بيرتن: تظهر قوة الأدب بالنسبة لي إذا توفر شرطان؛ أولًا يجب على الكتّاب تطويعنا، أو اغوائنا، أو خداعنا لندخل عوالمهم؛ إذا نجحوا، وثَقنا بهم ليأخذونا كامل الرحلة. إذ تفشل الكتب التي نضعها بعد قراءة بضع صفحات في خلق هذه العلاقة (الكتّابُ المختلفون يربطون قراء مختلفين). ثم بعد ذلك ستظهر تلك القوة بوضوح في رحلتنا القرائية ذاتها؛ ففيها يكون الارتباط بين الكاتب والقارئ مُحكمًا، وفيها يكونان متّفقين حول أمرٍ ما، وفيها ينقلب الذوق العام على نفسه.
تريڤر بيرن: هذا السؤال ليس محسومًا حتى يجيب عليه عالمُ أعصابٍ ما. لقد جبلنا التطوّر على البحث عن أنماط، عن معنى ما؛ وعليه فإننا نتوق إلى القصص. إنه عائق، أعني الأدب، طالما لم يُكتشف بعد، ولكنه هدية عظيمة أيضًا. فالأدب يأخذك إلى أماكن عاطفية وإبداعية لم تحلم بزيارتها أبدًا. فقد تساءل عالم النفس ستيڤن بينكر مرةً في احتمالية أن الأدب أداة تعاطفية؛ يعجبني هذا التصور، فإنني أظن بأن الأدب حلمٌ بارع، وأن القصة التي نخلقها من هذا الحلم أطروحة متقنة في مجموعة من الشخصيات تحت ظروف معينة. إذ إن محاولة الكاتب حول فهم جانب من جوانب الجوهر الإنساني ليس بالمهمة البسيطة، بل هي محاولة جريئة ملفتة للنظر؛ فإذا كنت مهتمًا في سماع القصة كاملةً فإنك على الأرجح ستؤيدني وتعتقد بظنّك: «صحيح، هكذا هو الأمر، لقد أخبرتني بالحقيقة.» وإنَّ الحقيقةَ لَغالبة.
مالاكاي ماكينتاش: من المؤكد أن عدد الإجابات على هذا السؤال مثل عدد الناس التي تستطيع الإجابة عليه لكثرتها. إن إجابتي المفضلة هي ما قاله ألبير كامو في كتابه الإنسان المتمرد. حيث يقول كامو بأن: جميع الأعمال الفنية مطلب للوحدة: «تلاؤم الفريد والعالمي»، وفَرضُ النظام على تجاربنا المغلقة والمحدودة والفوضوية مع هذا العالم. فكرته الرئيسية تتمثّل في أن السرد القصصي ينظّم الحياة من حيث إنه يخوّلنا في: رؤية أنفسنا فيه، وتجربته من جديد، ورفض الطبيعة الزائلة لحياتنا اليومية. إنني أعتقد، مثل كامو، في أن الأدب يدعنا أن نضغط على زر الإيقاف، والإعادة، والتكبير أو التصغير؛ إنه يخلق مساحة لنا لنفكّر بأنفسنا وبعالمنا بطريقة روائيّة: أن يثيرنا، ويخيفنا، ويقززنا، ويبهرنا، ويدهشنا، في معظم الوقت من أنفسنا. إن عالم التلفاز والأفلام يتحكم بتجربتنا مع القصص بشكل مقصود وواضح. أن نتماشى مع المؤلف وألا يتحكّم بنا المؤلف.
هيلين تيلر: إنني أتفق مع إجابة مالاكاي وكامو. أخبرني شخص مرةً بأنه من السهل التعرف على الناس الذين لا يقرؤون الأدب بسبب ضيق نظرتهم وافتقارهم للخيال؛ بالإضافة إلى صعوبة وضع أنفسهم تحت ظروف الآخرين؛ ربما يكون هذا تعميمًا، لكنه حقيقة. فقوة الأدب تبتدئ مع الحكايات الخيالية، وترنيمات الأطفال، والكتب المصورة في إعطاء الأطفال نظرة على العالم وخارج أنفسهم. إذ عندما نكبر، فإن الارتباط والتماشي مع المؤلف يصبحان تجربة قوية، شخصية ومشتركة. وهنا أُشير للشاعر بيلي كولنز الذي يجيد التعبير في قراءة الأدب، بقوله: «أرى بأننا نقرأ أنفسنا بعيدًا عن أنفسنا، زاهقين أرواحنا تحت دوائر من نور لنبحث عن المزيد منه، حتى لَيصبح سطر الكلمات طريقًا من الفتات، ساعين في إثره صفحةً جديدة بيضاء.»
هل يجب على القراء والكتّاب قراءة الكتب الكلاسيكيّة؟
سارة بيرتن: ما هي الكتب الكلاسيكيّة؟ أعتقد أنه من المفترض أن يكون الوصول إلى شيكسبير، وهيمنگوي، وگولدنگ.. وغيرهم حقًا انسانيًا (وكل انسان يمتلك قائمة خاصة دلالة على أنه لا يوجد مكرّس[3] متفق عليه)، ولكنهم لن يموتوا إن لم يمتلكوا واحدة؛ فليس من الضروري الحصول على موافقة الذائقة الأدبية طالما يتوفر لهم الأدب الرفيع، إذ تتخلف الذائقة الأدبية على العادة، أو تتقدم، أو تتكلم بظرافة عن القارئ العام، وكأنه لم يكن نفسه القارئ الذي أقرّ بالأخوات برونتي، وأوستن، ودكنز، وگاسكل، وغيرهم. كما يوجد كتّاب متميزون عفا عليهم الزمن، مثل ماري إ. مان (1848 – 1929)، فإن قصتها القصيرة Little Brother مذهلة حقًا.
تريڤر بيرن: لا يهم مهما كان نوع الكتاب الذي تريد تأليفه، وليس عليك -كقارئ- الشعور بمزيد من الضغط على إنهاء قراءة دون كيخوته من إنهاء قراءة ‘Salem’s Lot، إذا لم تجذبك الرواية بعد قراءة خمسين صفحة منها. إن كنا نعني الكتاب الروس، وبروست، وهاردي بالـ«الكلاسيكيّات» فإن قراءاتي ليست منظّمة. غالبًا فإني أحب قصص تشيخوف، ولكنني لن أنهي عقل وعاطفة، حتى مع معرفة أن أوستن ستكون في ورقة العشرة باوندات قريبًا. يقول مارتن أميس بأن الطريقة الوحيدة للحكم على كتابٍ ما هي محافظته على قُرّاءه. أظن بأن كلامه صحيح إلى حد ما، ولكنه ليس دقيقًا مثل كل الأشياء الأدبية (تذكر سارة في إجابتها على نفس السؤال، الكاتبة ماري إ. مان، ولكنني لم أسمع بها قط) فهو بالكاد قرأ كازوو إيشيگورو وهو صغير؛ ثم أصبح يلتهم كتبًا كلاسيكية كما يلتهم باباي السبانخ، ثم فاز بجائزة البوكر بسرعة. إن للكلاسيكيّات أنواعًا كما يشير الآخرون، فقصة «نداء كثولو» كلاسيكية، مع أنها تتكلم عن كائن فضائي جبار، ومؤلفها شخص مضطرب ومعادٍ للساميّة، ثم تزوج يهودية وأخفى آراءه الغريبة. أيضًا قصة السيدة صاحبة الكلب، والذي ألفها طبيب قضى عمره يكتب مقالات قصيرة للصحف الروسية قبل أن يتطور، كأنه بوكيمون أدبي، إلى أن أصبح من نخبة النخبة. بالنسبة لي فكلتا القصتين ملهمتان. لا شيء بسيط، كـ: لڤكرافت وتشيخوف، كالكتابة عينها.
مالاكاي ماكينتاش: إجابتي تقتصر حتمًا على اهتمامي، ولأعيد صياغة سارة، أعتقد بأن السؤالين «كلاسيكيّات من؟» و«كلاسيكيّات أي حقبة زمنية؟» مهمّان. ينغمس الكتّاب كما يبدو بشكلٍ واضح تقريبًا في «الكلاسيكيّات» كما فُهموا في زمنهم ومكانهم، ولكن كلاسيكيّات دكنز لم تكن كلاسيكيّات إيليوت، وكلاسيكيّات إيليوت ليست نفسها كلاسيكيّات كُلٍ من ديڤد فوستر والاس، أو شاني موتو، أو تشينوا أتشيبي -ومع هذا يحصل تشابهٌ مثيرٌ للاهتمام؛ ومن المفيد دائمًا، في جميع المجالات، معرفة ما يراه الناس جيدًا مع السبب- ولكننا يجب ألا نخلط بين الحسنِ والأحسن. إن الكِتاب الذي أنصح الناس بقراءته دائمًا كتابٌ فاز بجائزة البوكر حياة وزمن مايكل ك، ولكن زملائي يبغضونه بشدة. أعدّه كلاسيكيًا بسبب ما يقول لي عن الوحدة وصعوبة العيش، ولكنه عند الآخرين ممل، ولا تتكلم شخصيته الرئيسية بشكل كاف؛ فكما تقول سارة: نحن نصنع قوائمنا.
هيلين تيلر: أؤيد مالاكاي وسارة: «كلاسيكيّات مَن ومن أي حقبة؟» لكن المرء لا ينفك عن الحاجة لتجربة قرائية ومراجع مشتركة. إنه لمن المفيد والممتع أن نربط ونعرف إن كان شيء ما دكنزيًّا، أو وولفيًّا، أو تشاندلريًّا.. إلى آخره. يضع أبنائي الإنجيل في قسم الكلاسيكيّات؛ ولأنهم ارتادوا مدارسًا حكوميةً، فهم لم يدرسوا الإنجيل ما عدا بضع مسرحيات عن مولد المسيح، وقصة عيد الفصح، وغناء ترانيم الميلاد، فإن قراءة الأرض الخراب لـ ت. س. إيليوت، أو مؤلفات گراهام گرين بالنسبة لهم -كبالغين- تجربة باهتة. كتاب الأطفال الكلاسيكي الذي أخبرُ الصغار بقراءته كتاب Tom’s Midnight Garden للمؤلفة فيليبا بيرس، وبالنسبة للبالغين يختلف الأمر، ولكنني في الوقت الحالي سأقول كتاب إلى الفنار للكاتبة ڤيرجينيا وولف، وهو الكتاب الذي تركته عندما كنتُ في سن الثانية والعشرين بعد قراءة فصله الأول.
هل بعض الأدب أفضل من بعضه، وما يجعله كذلك؟
سارة بيرتن: هل رواية قلب الظلام أفضل من رواية خمسون درجة من گراي؟ إن كنت تبحث عن تحفة أدبية فمن دون شك. لكنها ليست «أفضل» إن كنت تبحث عن مهرب ما. فما يجعل النثر يستحق أن يُسمى أدبًا وليس نوعًا مختلفًا هو تحليلٌ نقدي لتوظيف الكاتب للتقنيات الأدبية. إذ إن العنصر الأهم مع ذلك شيءٌ لا يُوصف: الفكرة الأصلية والمدهشة، بل الحكمة التي ما إن كتبتْ على ورق تبدو وكأنها الطريقة الوحيدة لقول شيء ما.
تريڤر بيرن: إنه لمن الصعب، بل من المستحيل أن نثبت موضوعيًا بأن كتابًا ما أفضل من آخر. مع ذلك فلي الأحقية بالحكم على شيء ما بأنه ذميم، لكنه من الممكن أن يكون أفضل حتى على طريقته الخاصة (على سبيل المثال رواية رومانسية أفضل، وأكثر سحرًا، وتشويقًا، وإفجاعًا، وبعثًا للإغماء مما كانت عليه مسودتها السابقة). يتكلم الآن المحرر الذي فيّ، إذ جميع الكتابات يمكن أن تُصقل بطريقةٍ تجعل تجربة القارئ أحسن، وهذه الحقيقة تقول شيئًا ما عن الإمكانية النظرية (إن لم تكن العملية) في أفضليّة شيء من شيء آخر. بالنسبة إلى كتاب ضد كتاب (ليس مسودة ضد مسودة من نفس الكتاب، وهذه مسألة حول قوة تحسين الكتابة) فنحن الآن نخبط في المقر البيروقراطي المجنون لنسبيّة التجربة. هنا أدعُ غروري العلمي على الباب: بينما لا يسعني إثبات أن نسخة واحدة من كتاب All That Rises Must Converge هدية أفضل للعالم من مليون نسخة من كتب دار ميلز آند بون للنشر[4](أو توم ويتس واحد يثري بشدة الحالة الإنسانية أكثر مما يفعلونه مليون جستن بيبر). سأقولها ولن أبالي: اللعنة على بيبر وميلز آند بون.
مالاكاي ماكينتاش: أعتقد أيضًا بأننا لا نستطيع التأكيد أكثر بأنه لا توجد فئات مثل الروائع الأدبية أو حتى الأدب بمعزل عن مقيّميهم. هؤلاء المقيّمون محكومون في حقبة زمنية وينظرون جزئيًا في العمل بأعين تلك الحقبة. كما قالت سارة من قبل، إنّ النظام التعليمي يضع حدودًا ويقولب التوقعات في ماهيّة الأدب، ولكن هذه الحدود تُكسر مع الوقت، فإنه لمن الصعب ألا أتذكر مقالة توماس ماكولي ‘Minute on Indian Education’ المنشورة عام 1835، فقد كان ماكولي مؤرخًا ومسؤولًا استعماريًا حيث أعلن فيها: «إن رفًا واحدًا من مكتبة أوروبية جيدة تعادل جميع آداب الهند والجزيرة العربية.»، أو لنستذكر الكتب الممنوعة والتي تؤكد أحقيتها بتسميتها أدبًا وليست مادة إباحية، مثل قصيدة عواء للشاعر آلن گنزبيرگ. لهذه الأسباب فإنه من المستحيل الحكم على عمل بأنه أحسن من نظيره. أستطيع أن أشرح عن سبب تفضيلي له، أو لماذا يستحق أن يُدرَس، ولكن هذا كل ما أستطيع فعله.
هيلين تيلر: هذا سؤال تستحيل الإجابة عليه بسبب الأمور التي قالها كلٌ من سارة ومالاكاي. بالإضافة إلى أنه يلغي تجربة القراءة واختلافها من قارئ لآخر، اعتمادًا على وقت، ومكان، ومزاج، وهدف القارئ. لنرجع إلى كلام سارة حول ثنيها عن القراءة لإيند بلايتن، أنا لست ممن يؤيد ثني الأطفال عن القراءة لكتّابٍ معينين. هذا لا بأس به إن كانوا يريدون قراءة Famous Five أو هاري بوتر طالما يمتلكون الفرصة لقراءة كتب منوعة خلال حياتهم وأن يصادقوا كتبهم القديمة كما يفعلون مع كتبهم الجديدة. تأتي هذه الفرص من أفراد العائلة، والمعلمين، والأصدقاء، والمكتبات، والذين يستطيعون خلق خلفية قرائية وتشجيع الأطفال والبالغين بتوسعة مدى نظرهم.
ماذا تقرأ حاليًا، وماذا ستقرأ مستقبلًا؟
سارة بيرتن: أقرأ حاليًا آخر كتبي، وكأنه نُشر للتو، وما زلت أحاول أن أحبه ككتاب حقيقي أستطيع الإمساك به بين يدي والنظر إليه من زوايا مختلفة (بالإضافة إلى كونه مضحكًا جدًا). للأسف هذا لا يستمر إلا لساعة من الزمن، بسبب أنني أقرأ وأراجع الكتب التي اختيرت من قائمة القراءة من أول مجموعة من الطلاب في برنامج الماجستير في الكتابة الإبداعية. هذا الأمر بحد ذاته متعة لا حصر لها.
تريڤر بيرن: لقد أنهيت للتو كتاب Abominable Science! للعالم الجيولوجي دونالد بروثيرو والكاتب دانيال لوكستن، وهو نظرة تشكيكية ومجنونة لعلم دراسة الحيوانات الخفيّة[5] المذهل. كنتُ أقرأ في الشهرين الماضيين الكتاب الضخم قصائد مختارة من أشعار تيد هيوز (أنا ملحد، ولكن هذا الكتاب يعطيني نظرةً حول ما يعنيه كتاب مقدس لإنسان مؤمن). أنا أمر بحالات: أحيانًا لا أرغب لعدة شهور بقراءة الأدب، فأكتفي بقراءة كتبٍ غير قصصية ومشاهدة الكثير من الوثائقيات، والآن بدأتُ أتخلص من هذه الحالة؛ فقد قررتُ قراءة كتاب The First Fossil Hunters: Dinosaurs, Mammoths, and Myth in Greek and Roman Times للمؤرخة أدريان مايور، ولكنني قرأتُ بَدَلَهُ القصة القاسية والمضحكة المبكية Knockemstiff للكاتب دونالد رَي؛ ووجدتُ نفسي هذا الصباح أقلب صفحاتها مجددًا قبل أن أذهب لكتابة قصة من تأليفي. أنا مدمنٌ مجددًا.
مالاكاي ماكينتاش: بدأتُ بقراءة رواية Memories of Rain للروائية سونيترا گوبتا لورقة بحثية أعمل عليها. تحكي القصة عن امرأة هندية شابة تتزوج رجلًا بريطانيًا يقوم بخيانتها مباشرة ولكنها تبقى مخلصة له. إنها قصة ممتازة لحد الآن؛ فالأسلوب التي كُتبت به وعي الشخصية يذيبُ ويحوّر الجُمَل، ويَدخل ويخرج من المشهد بطريقة تدفعني إلى الاستمرار بقراءتها. إن النص الذي أتطلّع إلى مراجعته هو رواية NW للكاتبة زادي سميث. الكتاب الذي يتمحور في وسطه حول شخصية نتالي؛ كما لو أنني أقرأ مرآةً.
هيلين تيلر: لقد أنهيتُ قراءة رواية ستونر: «الرائعة المجهولة»؛ لأنني كنت أشعر بأنه من الواجب علي قراءتها؛ وهذا ليس شعورًا جيدًا عندما تبدأ بقراءة كتاب ما. كما وصلتُ إلى منتصف رواية الفهد للكاتب جوزيبه دي لامبيدوزا في قراءتي الثانية، بسبب أنني عدتُ للتو من إيطاليا وأردتُ استرجاع دهشتي عندما قرأتها للمرة الأولى لمّا كنتُ في العشرينيّات. هذا بالإضافة إلى أنني أعيد قراءة أشعار شَيمِس هيني، «أنظمُ قافيةً فأراني، لأجعل من العتمة صدىً»، وأقرأ المحاضرات التي ألقاها في جامعة أوكسفورد بعنوان سلطة اللسان. في الحقيقة أني أتطلع لقراءة رواية NW ؛ لأنني أحب أسلوب كتابة زادي سميث، وآخر كتاب للكاتبة دونا ليون لمجرد أن أحداثه تدور في البندقية التي أعرفها جيدًا؛ أحب حبكاتها، وتعجبني شخصيتها الرئيسية، والتفاصيل المحلية التي من خلالها أتعرف على المدينة عندما أقرأ.
[1] نوع من الكتب يُدعى گيمبوك، وهو سلسلة من الكتب حيث يستطيع القارئ اختيار سير القصة بناءً على الخيارات المتوفرة له وتسمى في العادة: اختر مغامرتك.
[2] خسر المنتخب الأيرلندي أمام المنتخب الإيطالي في كأس العالم عام 1990
[3] المكرّس هو مجموعة من الكتب التأسيسية لأدبٍ ما. على سبيل المثال: شيكسبير من ضمن المكرّس للأدب الإنجليزي.
[4] دار نشر بريطانية تبيع روايات رومانسية رخيصة.
[5] علم زائف يدرس الأدلة التي ترجح وجود مخلوقات أسطورية