العقل الممارس: توماس ستيرنر حول تنمية الانضباط في حياتك
ترجمة: غالية الجبرتي – مراجعة: أروى الفهد

يوجد فن للممارسة، ومن أجلِ تحقيق أي نوع من النجاحات مهما كان المجال، فمن الضروري ألّا تكتفي بوضع ساعات للممارسة فقط وإنّما أن تتعلم كيف تمارس بالطريقة الصحيحة.
مستوحى من الفلسفة الشرقية؛ كتاب توماس ستيرنر (العقل الممارس – The Practicing Mind) يساعد الفرد أن يفهم كيفية المضي قدمًا نحو النجاح أو كيفية إتقان نشاط أو مهارة معينة بينما يستمتع برحلة أو عملية الوصول لها.
أهمية الانضباط الذاتي ( Self-Discipline):
كلنا قد سمعنا حكمة أن الانضباط الذاتي ضروري إذا ما كنا نريد تحقيق أي شيء ذو معنى في حياتنا.
فمع الانضباط الذاتي نحن على تحكّمٍ بطاقاتنا، قادرين على تركيزها على أهدافٍ محددة لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، وبدونه نُصبح ضحايا لبيئتنا المحيطة، ويصبح انتباهنا مهددًا بكل المشتتات التي تحيط بنا في اليوم الحديث.
«من بين كل الثروات المسخرة لنا في الحياة، فإن الانضباط الذاتي هو أحدها-إذا ماكان- أكثرها قيمة. فكل الأشياء التي تستحق الإنجاز يُمكن تحقيقها مع قوة الانضباط الذاتي، بها نكون متسيّدين على الطاقة التي نُنفقها في هذه الحياة، وبدونها نصبح ضحايا لجهودنا، رغباتنا، و إتجاهاتنا غير المركزة والمتغيرة باستمرار.» [العقل الممارس، توماس ستيرنر.]
هناك العديد من النظريات والتجارب التي حاولت حل السؤال الأزلي «لماذا لدى بعض البشر انضباط ذاتي أكثر من غيرهم، وما الذي يمكننا فعله في حياتنا لزيادته؟»
هناك فكرة شائقة لم تخطر لي قبل قراءة كتاب العقل الممارس تقول إنّ افتقاد الانضباط الذاتي يحدث بسبب الفشل في فهم وتنفيذ الأساسات الجوهرية لفن الممارسة.
إذن، ما فن الممارسة؟ وأين نخطئ حين نحاول تعلم أو إتقان أي شيء جديد؟
فن الممارسة
هل ركزت كل جهدك على نشاطٍ معين، حتى أصبح لديك دافعٌ فائق لأنْ تصبح ماهرًا فيه؟ وبعد هذه الحماسة الابتدائية، هل جربت أن يتضاءل حماسك مع مرور الأسابيع والشهور حتى تتخلى عن النشاط بالكامل؟
هذا شيء عانينا منه كلنا مرات عديدة طوال حياتنا، إذ تلتزم بشيء ما، فتشعر بالحماسة وتعقد العزم على ممارسة «س» عدد من المرات خلال الأسبوع، ولكنك تتوقف عن الممارسة بعد أسابيع أو أشهر قليلة.
ما هو أصل هذا الداء العالمي الذي يصيبنا كلنا، والذي يمنعنا من تحقيق إتقان ماهر، وتجربة متعة أن تصبح جيدًا في شيء ما؟
كما ذكرنا سابقًا، فكرة مثيرة للاهتمام تلك التي تقول إنّ افتقاد الانضباط الذاتي يتجلى في الفشل في فهم وتنفيذ ما أسماه توماس ستيرنر «الميكانيكا الصحيحة للممارسة». العقل الممارس هو العقل الملتزم بمكيانيكا صحيحة للممارسة، في سلامٍ مع اللحظة وانغماسٍ كلي في النشاط الذي بين يديه، ليس في جزعٍ أو في قلق يجعله يتساءل ما إذا كان قد أحرز تقدّمًا. فالعقل الممارس هو في حالة شبه زن (Zen-Like) حالة من السلام والهدوء. ومن المفارقات، أنه عندما لا تكون مهتمًا بتحقيقك أي تقدم تصل قدرتك على تعلم وصقل حِرفتك إلى قمتها.
«إنها مفارقة، عندما تركز على العملية فإن الناتج المراد تحقيقه سيحقق نفسه مع انسيابية العملية. عندما تركز على ناتج مجهودك، سرعان ما تبدأ بمحاربة نفسك، وتشعر بالملل، الأرق، الإحباط، ونفاذ الصبر.» [العقل الممارس، توماس ستيرينر.]
إذن، كيف نحقق مثل حالة شبه زن (Zen-like state) حالة السلام والاسترخاء؟
ركز على العملية، لا على النتيجة
فكر في شيءٍ تستمتع بممارسته، مثل الخروج مع الأصدقاء، لعب رياضة ما، القراءة، كتابة قصص قصيرة، أو لعب ألعاب الفيديو، أيًا كان، فكر في نمط تفكيرك عندما تقوم بشيءٍ تستمتع به.
هل تقضي كل لحظة في القلق في ما إذا كنت قد طورت مهاراتك، أو أن تحبط لأنك لم تحقق مستوى مهارة معين تريد الوصول إليه؟
على الأغلب لا، عندما تفعل شيئًا تستمتع به حقًا، في كل لحظة أنت تستمتع بالعملية، منغمس في اللحظة، فالعملية هي الهدف لا أن تصبح بارعًا، ومثل ما أشار ستيرنر، من المفارقات، عندما نجعل العملية هي الهدف، ستقوم النتيجة النهائية بتحقيق نفسها.
قارن هذا مع السلوك الذي نتخذه في كثير من الأحيان عندما نحاول تعلم مهارة جديدة لم نحبها بعد، نقوم بجعل النتيجة النهائية هي الهدف.
نتخيل أنفسنا كخبراء في المستقبل وحتى نصل إلى هذه النقطة نصبح غير راضين. وكذلك عندما نمارس فإننا نتوتّر عند كل خطأٍ صغير، حيث نصبح قساةً على أنفسنا، ونقضي وقتًا ثمينًا نتساءل بقلق ما إذا كنا سنحقق هدفنا النهائي. فعندما نركز على الناتج سيأتي معه الشك، والقلق، والإحباط.
«في كل لحظة من كفاحك، وبالنظر لهدفك ومراقبة موضعك بالنسبة له، فأنت تؤكد لنفسك بأنك لم تحققه، ما عليك سوى أن تعرّف نفسك بالهدف بين حين وآخر، واستخدامه كموجّه يبقيك نحو الاتجاه الصحيح.» [العقل الممارس، توماس ستيرنير.]
التركيز على العملية يسهل تحقيق الأهداف الكبيرة
لنقُل إنك تريد أن تبدأ عملاً، ولكنك لا تملك المهارات المطلوبة أو معرفة كيف أن تكون ناجحًا. فإذا وضعت الكثير من طاقتك وركزت على تحقيق عمل مربح، فإنه سيصعب تسخير حافزك كل يوم لكي تتعلم المهارات المطلوبة للنجاح، وعندما ترى نفسك تتحرك نحو هدفك ببطء.
لكن عندما تركز على عملية تعلم المهارات المطلوبة لبدء عمل ناجح، وجعل العملية هي الهدف، سيكون أسهل بكثير بذل الوقت والجهد المطلوب لبدء عمل مربح. حيث ستستمتع بكل يوم حتى وإن بدا ظاهرًا عدم إحراز أي تقدم.
ستكون في سلامٍ مع العملية، وستتعلم فن الممارسة.
«عندما تترك التعلق بالهدف الذي ترغب به، وتجعل رغبتك هي الاستمرار في التركيز على العمل نحو هدفك، فأنت تحقق رغبتك في كل دقيقة، وتكون صبورًا مع الظروف المحيطة، حيث لا يوجد أي سبب أن لا تكون كذلك، لا يوجد أي جهد «لمحاولة التحلي بالصبر» هنا، إنها مجرد استجابة طبيعية لمنظورك. وهذه الإزاحة في المنظور صغيرة جداً ودقيقة، ولكن لها قوة تحرير هائلة، فلا يوجد أي هدف صعب القيام به، ثقتك تزداد كما يزداد صبرك مع ذاتك. كما أنك تحقق دائمًا هدفك ولا يوجد أي أخطاء أو حدود زمنية لخلق التوتر.» العقل الممارس- توماس ستيرنر.
ثقافة الإشباع اللحظي
نحن نعيش في ثقافة الإشباع اللحظي، أيًّا كان الذي نريده، نريده الآن سواء كان أحدث جهاز آيفون، أحدث الملابس، أو محض التفوق في نشاطٍ معين. لكن يلاحظ ستيرنر أن الإشباع اللحظي يعطي رضًا قصيرَ الأجل، إذ لا بد أن ندرك بأنَّ أي شيء نستطيع شراءه أو تحقيقه بسهولة، لن يجلب لنا الكثير في الطريق إلى تحقيقه. يأتي الرضا طويل المدى من العمل بجد على نشاط، مهارة، أو حرفة ما. فعند إيجاد المتعة في عملية الممارسة، سنصبح مع الزمن بارعين في مجالنا الذي اخترناه.
«نريد النتيجة ونريدها الآن، تخطّى العملية كليًا واذهب إلى النتيجة، لقد أصبحنا مهووسين بالحصول على كل شيء الآن، ارتفعت ديون بطاقات الائتمان ودمرت الكثير من الناس في هذه البلاد؛ لأنها تقوم على تغذية سلوك «احصل عليه الآن وادفع لاحقاً». بطاقات الائتمان تقوم على مبدأ المنتج قبل العملية، بدلاً عن العملية أولاً. حيث تقود هذه العقلية إلى إحساسٍ عام بالفراغ وعدم الإنجاز. يمكنك أن تتذكر كل شيء عملت عليه بجد وصبر في حياتك، لكن كم شيء حققته تستطيع تذكره بقليل من الجهد أو حتى بدون جهد؟ عندما نركز طاقتنا على عملية تحقيق شيءٍ ما سواء كان شيئًا أو مهارة معينة، ونحققه من خلال الانضباط والصبر، سنشعر بمتعة لا نشعر بها عندما يأتي الشيء بسرعة وسهولة. في الحقيقة، عندما نتذكر أي شيء كنا نحاول الحصول عليه، فإن العملية هي التي تتبادر إلى أذهاننا وليس الهدف ذاته. نتذكر التحكم بطبيعتنا غير المنضبطة، الصبر والمثابرة اللذان وصلنا إليهم، السعادة والرضا الذي شعرنا به بعد ذلك.» [العقل الممارس، توماس ستيرنر.]
نفاذ الصبر: علامة على أنك لا تركز على العملية
من المعايير الجيدة لقياس ما إذا كنت تركز على العملية أو على النتيجة النهائية، أن تدرك مستوى نفاذ الصبر لديك. إذا كنت تشعر بالصبر وفي سلام مع اللحظة، فأنت تركز على العملية، إذا كنت تشعر بالقلق ونفاذ الصبر فأنت في كل الاحتمالات تركز على الهدف النهائي.
«الشعور بنفاذ الصبر هو أحد أول الأعراض لعدم العيش في اللحظة، لا تعمل ما تقوم بعمله، لا تبقى مركزاً على العملية.» [العقل الممارس توماس ستيرنر].
تطبيق الفكرة
إن كتابَ العقل الممارس سيكون قراءةً عظيمة لأي فردٍ يريد أن يصقل مهارته في نشاطٍ أو حرفة ما. إذ إنه يشارك الأفكار القابلة للتطبيق على أرض الواقع والتي يمكنك أن تضمها لحياتك لتساعدك على إتقان فن الممارسة.
«باختصار، ينصب الأمر على القليل من القواعد البسيطة، أبقِ نفسك مركزاً نحو تحقيق العملية، أبق في الحاضر، واجعل العملية هي الهدف، أما الهدف العام فانظر له كموّجهٍ يوجه جهودك، كن مدركاً، ولديك الدراية بما تريد تحقيقه، وعلى وعي كامل لهذه العزيمة. فإن عمل هذه الأشياء سيقضي على الأحكام والعواطف التي تأتي من التركيز على تحقيق النتيجة أو ذهنية تحقيق النتيجة.» [العقل الممارس، توماس ستيرنر].
المصطلحات :
العقل الممارس The Practicing Mind –
الانضباط الذاتي – Self-Discipline
حالة شبه زن Zen-like State -، أصل كلمة زن ياباني تعني التأمل النهائي.