يميل النّاس إلى تقييم العالم والأحداث فيه، وفقًا لثلاثة مجالات رئيسة للقيمة: القيمة الإبيستيمولوجيّة (الصّدق، الكذب)، القيمة الأخلاقيّة (الصواب والخطأ، الخير والشّرّ، يستحقّ الثّناء أو الازْدِراء)، والقيم الجماليّة (جميل، قبيح، حسن، ظريف، لطيف، إلخ…). يتطوّر تقدير المرء لقيمتيّ الصّدق والصّواب في وقت متأخر نسبيًا من نضوجه، مقارنةً بتقديره قيم الجمال والقبح؛ يتعلّم الأطفال بسرعة كبيرة تصنيف التّجارب السّارة على أنّها تجاربُ جيّدةٌ، أمّا غير السارّة على أنّها سيّئةٌ. وبالسّهولة نفسها، سيحدّد الأطفال ما يروْنه جميلًا على أنّه مرغوبٌ، وما هو قبيحٌ على أنّه غير مرغوبٍ. إنّه لمن المتعارف عليه تقريبًا كحقيقة مطلقة، أنّه في المراحل المبكرة من التّربية، يتمّ تصويب سلوك الأطفال من خلال إخبارهم بأنه “ليس من اللّطيف” القيام بفعل ما، وقد يتمّ تحديد بعض السّلوكيات والمواقف – بلغات معيّنةٍ – باعتبارها سلوكيّات “غير مقبولة”. علاوةً على ذلك، يتقبّل الطّفل البالغ من العمر عامين، هذا النّوع من الانتقادات، في حين أنّنا ندرك، من خلال الحسّ المشترك، أنّه سيكون ضربًا من العبث أن نشرح لشخص يبلغ من العمر عامين سبب عدم صوابيّة بعض التّصرّفات.
إنّ التجارب السّارة وغير السّارة، هما وسيلتان أساسيّتان يستخدمهما الأطفال الصّغار لتحديد القيمة. تتحدّد السّمات الأوليّة للقيمة، على مقياس وحيد ألا وهو تجربتنا الحسّيّة للعالم، إلى أن يصل المرء إلى عمر معيّن، حين يصبح من الصّعب أن نفهم لماذا يختار الإنسان أن يكون صادقًا، فيما هذا المنحى لا يشعره بالرّضا. حتى بالنّسبة إلى الفكر النّاضج، فإنّه من السّهل دائمًا مقاومة الخيار الجذّاب والذّهاب نحو غير الجذّاب، تحت ذريعة ما هو صائبٌ أو صحيحٌ. وبالرّغم من ذلك، فنحن كبشر لدينا القدرة على إدراك القيمة الواقعة خارج مجال اهتمامنا، حتى تلك المعارضة لاهتماماتنا الخاصّة.
وقد يعزى هذا الأمر إلى أنّ تقييمنا الأوّل مرتبطٌ بتجاربَ حسيّة، وفي كثير من الأحيان تختلط التقييمات المعنويّة والجماليّة. في الواقع، إذا أولينا اهتمامًا لعمليّة التقييم، فسوف نلحظ بأنّنا نشيد بالإنجازات الجماليّة كقيم أخلاقيّة، أو نصنّف ما نعتبره غير جذّاب جماليًّا، إخفاقًا على المستوى الأخلاقيّ. على حدّ معرفتي أستطيع أن أقول: “في العديد من اللّغات، تُستخدم كلمتا “جميل” أو “لطيف” أو ما يعادلهما، للدلالة على التّقييم الأخلاقيّ للأفعال، ولكنّها لا تستعمل للتّقييم الأخلاقيّ للأشخاص. في المقابل، لا يتمّ استخدام كلمة “لطيف” في اللّغة الإنجليزيّة، لوصف مظهر شخص ما وحسب، إنّما أيضًا لوصف ما هو عليه هذا الشّخص؛ وفقًا لـلقاموس الحضريّ (Urban Dictionary)، إنّ وصف الآخر باللّطف، هو الإقرار بأنّه طيّب القلب أو حريصٌ على الاعتناء بالآخرين، حتى أنه يعرض خدماته لهم دون منّة. أنا لا أقرّ بأنّ القاموس الحضريّ، هو مرجع في الدراسة الأخلاقيّة الأكاديميّة. ومع ذلك – على حدّ علمي- ليست كلمة “لطيف” قيمة أخلاقية تناولها الفلاسفة الأخلاقيّون. وعلى أيّة حال، أرى أنّ كيفيّة استخدامنا لهذه القيمة في تقييمنا اليوميّ للآخرين ولأنفسنا، هو معطى يعكسه فهمنا لنوع التّقييم الأخلاقيّ، الّذي ينشغل به معظمنا بشكل اعتياديّ.
وجدير بالذّكر، أنّ الادّعاء بأنّ شخصًا ما عاش حياةً “جميلة”، يدلّ على المكوّن الأخلاقيّ لتلك الحياة؛ يبدو لي أنّ وصف الحياة بأنّها جميلة، هو تأكيد على علاقات المرء مع الآخرين، وليس تعبيرًا عن شعور هذا الشّخص تجاه ذاته طوال حياته. من ناحية أخرى، فإنّ القول بأنّ شخصًا ما كان يتمتّع بحياة “لطيفة”، هو التّأكيد على الجودة المحسوسة لتلك الحياة؛ على سبيل المثال، اختبار الإنسان للمتعة والرّاحة. ومن المرجّح أن تكون لفظة “جميلة”، في عبارة “حياة جميلة”، مرادفة للغيريّة، الكرم، الحكمة، الفضيلة، والتّناغم، من دون استبعاد أنّ الحياة كانت سارّة ومريحة ومليئة بالتّجارب المسليّة.
تستخدم لفظة “لطيف” في عبارة “حياة لطيفة”، كمرادف للتجارب السّارة، المريحة والمسليّة، من دون استبعاد أنّ الشّخص هو أيضًا كريم، ذو فضيلة ومتناغمٌ وما إلى ذلك. وما أريد التّأكيد عليه هنا، هو أنّنا إذا انتبهنا إلى كيفيّة استخدام هذه الكلمات، يتبيّن أنّ كلمة “جميل” – في سياق أخلاقيّ – تصف سمات شخصيّة المرء. في المقابل، إنّ لفظة “لطيف”، عندما تستخدم لوصف وحدة الحياة، لا تحمل دلالات أخلاقية من جهة، بل تصف نوع التّجارب الّتي تكتنف الحياة، وخصوصًا الجانب النّوعيّ المحسوس منها، كما أنّها لا تستعمل لوصف السّمات الشّخصيّة للإنسان من جهة ثانية. نحن نصف الأشخاص بأنّهم يمتلكون “أرواحًا جميلة”، ما يدلّ على الإنجاز الأخلاقيّ، لكنّنا لا نصف الأشخاص بأن لهم “أرواحًا لطيفة”. وفي حال تمّ استخدام هذا التوصيف، فإنّه يشير في الأرجح إلى قصور أخلاقيّ.
على أيّة حال، أرى أنّ لفظة “لطيف”، بحسب استعمالها اليوميّ، تُفهم بشكل خاطئ على أنّها تقييم أخلاقيّ لإنجاز أخلاقيّ.” ويمكن للمرء أن يلاحظ أنّه، على الأقلّ في الولايات المتّحدة، وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ وتحديدًا في المجموعات الّتي أتواصل معها، يوصف الأشخاص أو يتوقّع بأنّهم سيكونون لطفاء، أكثر ممّا يتمّ وصفهم أو يتوقّع منهم أن يكونوا صالحين. تستخدم لفظة “لطيف” لوصف أسلوب الشّخص في أفعاله، لا لوصف الدّافع الدّاخليّ أو الهدف من هذه الأفعال. وصف شخص ما بأنّه لطيف، هو وصف مظهر سلوكه. إنّ لفظة “لطيف” مع مترادفاتها: “مقبول، أو ممتع…” هي أوصاف مستخدمة لتقييم التّجارب السّارة. بعبارة أخرى، أصف شخصًا ما باللّطف، عندما أجد موقفه أو سلوكه لطيفًا.
بالنّسبة إلى الشّخص الّذي لديه الحافز للقيام بالفعل الصّحيح، بالنّسبة إلى الأهل المدفوعين إلى توجيه أطفالهم نحو ما هو جيّد لهم، وبالنّسبة إلى الصّديق الّذي يؤمن بالأمانة على أنّها مؤشّر على الصّداقة الحقيقيّة، أن يكون المرء “لطيفًا”، في هذا السّياق، هو مجرّد أمر ثانويّ. أنا لا أقصد أنّه لا أهميّة في أن يكون المرء طيّب القلب ويراعي الآخر، ولكن في ما يتعلّق بالصّالح والصّواب، تبدو القيم المذكورة أوّلًا مجرّد قيم ذرائعيّة. كما أنّي لا أنتقد السّلوك اللّطيف الأصيل، وهو ما يعادل طيبة القلب والكرم (بالنّسبة إلى شخص طيّب القلب وكريم، فإنّ وصفه “باللّطيف” سيقلّل من قيمة تلك الصّفات). لذا أزعم أنّ الصّدق والاستقامة، هما قيمتان جوهريّتان في سلّم القيم وموقعهما من هذا السّلم، أعلى من طيبة القلب والكرم. في هذا المقال، أتساءل عمّا أعرّفه على أنّه اتّجاه سائد لقيم التّبعيّة مثل الصّدق والصّواب (الاستقامة) بالنّسبة إلى قيمة اللّطف. وكما أنّ الدّوافع الجيّدة والأهداف الصّحيحة كامنة في لفظة “لطيف”، كذلك هي الدّوافع المشكوك بأمرها والشرّيرة أيضًا. وهذه حقيقة يمكن التوصّل إليها عن طريق الحسّ المشترك؛ فإذا كان الأطفال باستطاعتهم تمييز السّلوك المخادع، فكيف يعقل أن نصف الآخر بأنّه لطيف، إلى حدّ نكون فيه مستعدّين لتجاهل نواياه الكامنة وراء سلوكه ؟ ربّما يكون هذا التغاضي، سببه أنّ تصرّف الآخر معنا بلطف، هو بمنزلة اعتراف بذواتنا.
إنّ الحكم على سلوك الآخر بأنّه لطيف، يكشف عن ذواتنا أكثر مّما هو عليه هذا الشّخص الّذي يوصف باللّطف. أن أصف شخصًا باللّطف، هو اعتراف بموقعي. لقد أصبحت أكثر تمسّكًا بصورتي الذاتيّة، الّتي حفّزت الآخر على أن يكون لطيفًا معي. لم تعد شخصيّة الآخرين ودوافعهم الأصيلة ذات أهمية أساسيّة. إنّ محاولة إلقاء نظرة خاطفة على الصّورة الّتي نشأت بحسب معاييري، والّتي جعلت الآخر يبدو كأنّه أفضل من المعتاد، هو تهديد مزدوج؛ إذ يشكلّ أوّلًا، خطرًا يحطّ من مقام الآخر، وقد يؤّدي إلى فقدان الانعكاس الإيجابيّ لذاتي. يبدو أنّ النّظر إلى الصّور الجميلة، أكثر إمتاعًا وإثارةً من التّفكير أو بذل الجهد في تتبّع ما هو صادق وصحيح. من ناحية أخرى، إنّ التعلّم أو معرفة الحدود الّتي تمنع الإنسان من التّعامل مع الحقائق على أنّها ستكون إيجابيّة بشكل دائم، هو جزءٌ من عمليّة نضوج هذا الأخير.
غالبًا ما يوصف الشّخص غير اللّطيف، بأنّه لئيم؛ فالسّبب الأكثر شيوعًا الّذي يجعلنا نقرّ بأن شخصًا ما ليس لطيفًا، هو عدم تصرّفه وفقًا لرغبتنا، أو عدم انسجامه مع طرق تفكيرنا؛ الشّخص الّذي يقتصر سلّم القيم لديه واهتماماته على تفضيلات ورغبات شخصيّة، يخاطر بفقدان ذاته كلّما تغيّرت الاتّجاهات السّائدة الّتي تحدّد له ما يفضّله. حين لا يكون المجتمع مدفوعًا بالسّعي الفرديّ نحو الحقيقة والعدالة، بل بجهدي لأجعلك تحبّني، وبجهدك للحصول على اعترافي بك، بصرف النّظر عن احتمال تشويه الواقع، ضغوطٌ كثيرة تظهر لتثقل كاهل الفرد. إذا لم يكن الدّافع وراء التّضامن هو الأفكار الّتي تتجاوز كلينا، فعندئذ سنكون أنت وأنا على المحكّ. لا ينبغي أن يكون المجتمع مدفوعًا، بالصّراع من أجل المصالح الخاصّة، ولكن من أجل ما هو صائب وعادل وصالح.
في الوقت عينه، إذا تمّ الحكم في المقام الأوّل على أعمالنا من حيث اللّطف، فقد نتساءل عمّا إذا كنّا جميعًا نحظى بالفرصة نفسها الّتي تسمح أن نتصرّف بلطافة؛ منّا من هو أفضل من غيره، وليس لدينا كلّنا ميزات جسديّة توضّح مسعانا في أن نكون لطفاء. يبدو البعض منّا لطيفًا حتّى قبل محاولته الأولى في إظهار ذلك، في حين يتعيّن على الآخرين العمل كثيرًا لتغيير الانطباع الأوّليّ، الّذي يَحكم عليهم بأنّهم غير لطفاء في حين أنّهم يعكسون وجودهم البسيط.
أن تصف إنسانًا بأنّه جيّد، هو إشارة إلى دوافعه وسماته المستمرّة. إنّ ميل البشر لتوقّع اللّطف من الآخرين بدلًا من الخير- كما يؤكّد الإحصاء – لا يعني بالضرورة أنّ سلّم القيم لدى البشر مشوّه. إنّ التأويل التّفاؤليّ الّذي أطرحه، هو أنّ النّاس يدركون ضمنيًا، أنّ “الخير” ليس من السّهل إظهاره مثل اللّطف، كما أنّه قليل التمظهر في الحياة العادية مقارنةً “باللّطف”. الخير هو سمة ما هو ممتازٌ حقًّا، ومعظمنا يكتفي بأن يكون لطيفًا.