لو اِفترضنا وجودَ شيءٍ واحدٍ تجيده الفلسفة، لكان هذا الشيء هو قدرة الفلسفة على الإشارة إلى أشياء تبدو اعتياديةً جدًا، بل وفي غاية الوضوح، لدرجة أنك لا تكاد تعيرها انتباهًا، ثم جعلها فجأةً تبدو غريبةً بطريقة مزعجة. إليك مثالًا على ذلك، أيهما تُفضّل: أنْ يكون غدُك أجملُ من أمسِك؟ أم العكس؟
لعل الإجابة واضحة ومباشرة لدى العديد من الناس، فجميعنا قطعًا يؤْثر غدَه على أمسه، يفضّل مستقبلًا أجمل من ماضيه، فلا أحد يريد أن يطمئن إلى كونه بلغ الذروة وانتهى. قد يبدو هذا منطقيًا تمامًا، ففي نهاية المطاف، مستقبلٌ أجملُ من ماضٍ يعني حياةً تزخر بالكثير، حياةً ترجحُ فيها كفّةُ صافي جودتها مقارنةً بما سيحدث لو مضت الأمور برتابة مفرطة أو أخذت في الانحدار.
ولكن هنا يكمن دورُ التمارين العقلية (Thought-experiments) ذات الطابع الصوْريّ والغريب (والتي راجت بها فلسفة بعينها). فمثلاً، لنتخيل مع فيلسوفِ اكسفورد ديريك بارفيت (Derek Parfit) المثالَ التالي: أنتَ بحاجةٍ إلى إجراء عمليةٍ جراحية، والعملية فظيعةٌ جدًا ومؤلمة، وليس بمقدورك تسكين الألم بالمخدر، ولكن نسبة نجاح العملية عالٍ جدًا، وحالما تنتهي من هذه العملية، تحصلُ مباشرة على دواءٍ فعّال يمسح بالكامل ذكرى العملية بالإضافة إلى الساعات التي سبقتها، تفيق فجأةً في سرير المستشفى وأنت لا تتذكر البتة حتى الطريقة التي أُدخلتَ بها إلى غرفة العمليات، وكل ما تبقى لك هو سؤالك الممرضة: “هل خضعتُ إلى العملية أم لا”؟ تخبرك الممرضة بأنها تعلم يقينًا بأمر مريضَيْن، أحدهما خضع للعملية ليلة البارحة لمدة عشر ساعات فظيعة، والآخر سيخضع يوم غد لعملية مدتها ساعتين فقط. المشكلة أن الممرضة لا تدري أيُّ المريضين أنت! الآن: ما هو موقفك؟ بعبارةٍ أخرى: أيّ المريضين تتمنى أن تكون؟
كل من سبق وطرحتُ عليه هذا السؤال (وهم قلة بالمناسبة، ولعل هذا سبب كوني لا أُدعى إلى المناسبات الاجتماعية كثيرًا)، كلهم يتمنون أن يكونوا ذاك المريضَ الذي خضع للعملية بالأمس. ولكن فكر في الأمر قليلًا، الممرضة لا تعرف أي المريضيْن أنت، وفي الوقت الذي ذهبت فيه لتأتيك بالخبر اليقين، تتمنى أنت أن تكون كمية الألم في حياتك أكثر بثمان ساعات من حياة ذلك الشخص الذي سيخضع للعملية يوم غد!
نعم.. يمكنك القول: “طبعاً! والسبب هو أن هذه الجرعة الإضافية من الألم قد ولّت وأصبحت في عِداد الماضي!”. ولكن ما هو وجه المنطق هنا؟ لماذا تتضاءل قيمة الألم عندما يكون في الماضي بدلَ المستقبل؟ جميعنا متفقون على أن قيمته تتضاءل، ولكنْ يصعب العثور على مبرر منطقي لهذه “التخفيضات الزمنية”. لدغةُ النحلة – مثلا – هي ذاتها، ذات الألم في يوم الثلاثاء أو الخميس! سواءً أكان اليومُ هو الأربعاء أم الجمعة! فلماذا نؤْثر لدغةَ الأمسِ على الغد؟
يكشف هذا التمرين العقلي لـ بارفيت عن حقيقة مقلقة، وهي انحيازُ البشر إلى المستقبل، وتحيزنا هذا في غاية العمق إلى درجة أننا لا نكاد نلاحظه، وهو تحيز له القدرة على دفعنا – نظريًا على الأقل – إلى الوقوف ضد مجموع مصلحتنا. والأغرب من ذلك هو أن درجة التحيز تختلفُ باختلاف المعنيّ بالأمر: أهو نحن أم الآخر! وفي هذا الصدد، برعَ ـ حسبما أرى – الفيلسوف كاسبار هير (Caspar Hare) في تبيان حقيقة هذا التحيز الذي يختلف بحسب المسافة التي تفصلنا عن الشخص الذي نفكر في مصلحته، فإنْ كانت المسافة بعيدة بيني وبينك، وتناهى إلى سمعي خبر إجراء العملية؛ فإني آمل أن تكون العملية الجراحية “الأقصر” هي من نصيبك، أمّا في حال كنتُ بجوارك ممسكًا بيدك في سرير المستشفى فإني أتمنى لك عمليةَ الأمس؛ “الأطول” زمنيًا.
قد يكون بارفيت واحدًا من الذين سعوا إلى إيضاح هذا التباين الغريب، لكنه لم يكن أول من أدرك وجود اعتلال في الطريقة التي نتعاطى بها مع المستقبل، فهناك جدلٌ يعود – على أقل تقدير – إلى فيلسوف الشعراء في القرن الأول قبل الميلاد: لوكريتيوس. فقد احتذى لوكريتيوس بتعاليم أبيقور التي استثمرت هذه الفكرة استثمارًا أصيلًا، فبالنسبة إلى الأبيقوريين، الخوف من الموت هو أكثر المسائل إلحاحًا لأنه يفسد الوجود، والتغلب عليه يصبّ في مصلحة حياة الإنسان، وبما أن الأبيقوريين لم يؤمنوا بأي شكلٍ من أشكال الحياة بعد الموت، فإن الموت بكل بساطةٍ هو العدم، نحن لم نوجد قبل ولادتنا، ومع ذلك ليس في الأمر ما هو مؤسف أو مأساوي، تتردد دائمًا على ألسنتنا مقولة: “مات قبل أوانه”، لكننا لا نتحسر البته لأن شخصًا ما “وُلد بعد فوات الأوان”، إلا في سياقٍ محددٍ كأن نقصد بأنه سيتفوق لو كُتب له أن يوجد في هذا العصر أو ذاك. فإذا كان الزمان الذي لم أكن فيه موجودًا ليس يعنيني؛ فلماذا كل هذا الاهتمام بزمانٍ لن أكون فيه موجودًا بعد وفاتي؟ العدم هو العدم، مثلما أن الألم هو الألم، فإذا كان من غير المنطقي أن ننزعج من العدم قبل ولادتنا، فإنه لا ينبغي أن يكون من المنطقي أن ننزعج من العدم بعد الموت أيضًا.
هل تصالحتَ الآن مع الموت؟ بالطبع لم تتصالح؛ ولا أنا أيضًا. كم هو صعبٌ تفسيرُ اهتمامنا بالمستقبل على حساب الماضي، والأصعب من ذلك هو تبريره، ولكنه متأصلٌ فينا بطريقة يصعب معها تصور العكس.
لو تسنّى لنا اختلاس نظرة خارج نطاق الزمن، ثم تفحّصنا مجمل حياتنا بكليتها، لكان من المنطقي أن نفضل الحياة التي تتمتع بأعلى مستوى من مستويات “جودة الحياة” (أيا كان معنى ذلك)، لكن حالما نَبلغُ منتصف الطريق (إن جاز التعبير) فإن اهتمامنا بما ولّى وانصرم يقل بالمقارنة بما هو قادم. مشوبةٌ حياتنا في خضم الزمن بالكثير من التناقضات: التوجس من جرعة الألم التي تنتظرنا، الراحة بعد زوال الألم، والحنين.
لقد سعى بعض الفلاسفة إلى إيجاد مبرر لهذا التحيز، ربما كان الفقد هو سبب اهتمامنا بالموت بدلَ المرحلة التي تسبق ولادتنا، لأن الموت ينطوي على فقْد شيءٍ كان موجودًا؛ أو ربما فاق اهتمامنا بالمستقبل بدل الماضي لأن المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، مما يجعله أكثر إلحاحًا من ماضينا الذي لا يقبل التغيير؛ أو لعله كان جزءًا من بقايا التطور: الحيوان الذي يهتم بتأمين مستقبله أكثر من التوغل في الماضي هو أبقى من الحيوان الذي لا يبالي لا بماضيه ولا مستقبله، ولكن من منظور هذا التفسير؛ فإن مجرّد اهتمامنا بالماضي -أيًا كان مقدار هذا الاهتمام- يُعد أمرًا مفاجئًا بذاته.
يدل انحيازنا إلى المستقبل على وجود انقسامٍ عميق في ماهيتنا؛ فكل واحد منا هو حيوان بشري، يعيش حياة متشظية عبر الزمن، وكل واحد منا هو أيضًا فاعلٌ حاضرٌ في التجربة، يعيش الآن وهنا، بينما هو متعلق بالأحداث التي ولّت، والأحداث التي يحملها له الغد. قد تتعارض في بعض الأحيان المصالحُ بين هذين المنظورين، ولعل هذا هو السبب الذي قد يدفعك إلى اختيار حياة أسوأ لو علمت أن الألم وراءك.
New Philosopher: Issue #15: the future