قد يبدو العنوان مستغربًا بالنسبة لقارئه؛ إذ لو عرفنا أن هناك فلسفة للموسيقى، فماذا عساها تكون موسيقى الفلسفة؟ في الحقيقة كي نفهم معنى “موسيقى الفلسفة” علينا أولاً أن نستفتح بمعنى فلسفة الموسيقى. وفلسفة الموسيقى فرع من الميتافيزيقا، أو الأنطولوجيا (فلسفة الوجود بما هو وجود)، وهي في هذا تختلف عن النقد الموسيقي وعن الفلسفة الجمالية للموسيقى كليهما. فإذا كان النقد الموسيقي يُعنَى بدراسة الأعمال الموسيقية نقديًا اعتمادًا على نظرية الموسيقى، وأساليب التأليف، وتاريخ الموسيقى، وتقنيات استعمال الآلات، والمضامين التي تقدمها الأعمال، وغيرها من الجوانب الأساسية في العمل الفني الموسيقيّ، فإن الفلسفة الجمالية للموسيقى تدرس فن الموسيقى عمومًا من وجهة فلسفة الفن وعلم الجمال، وليس عملًا موسيقيًا معينًا، وحيث تكون القضية الأساسية هي تحليل الخبرة الجمالية التي نمر بها مع الموسيقى، لفهم قيمة الجمال في ذلك الفن، من مبدأ المحاكاة لدى الإغريق، إلى التعبير الرومانسي، إلى الفن الحديث، وغيرها من النظريات العامة في هذا الشأن. وكما رأينا فإن كلا المجالين لا ينفكّان ينظران إلى الموسيقى كفنّ، وهي نقطة التمييز الأساسية في هذا المقام؛ ذلك أن فلسفة الموسيقى لا تنظر إلى الموسيقى كفن بالضرورة، إلا في جانب واحد من جوانبها. وبينما يهتم علم الجمال Aesthetics بقيمة الجمال في فن الموسيقى، وتهتم فلسفة الفن Philosophy of art بطبيعة فن الموسيقى وعلاقته بالذات والمجتمع والفنون الأخرى وموضوعات العالَم.. إلخ، فإن فلسفة الموسيقى تنشغل بشكل أساسي بطبيعة الموسيقى كموجود من موجودات العالَم، أو بشكل أدقّ: وجود الموسيقى.
وحين تتساءل الفلسفة عن طبيعة موجود ما، فإنها تعني ماهيته، وعلاقته بالزمان والمكان، والفرق بين وجوده ووجود الموجودات الأخرى كالإنسان، والجمادات، وعلاقته كموجود بهذه الموجودات، بل وهل هو موجود واقعي أصلاً أم أنه مجرد تصور عقلي صرف، وغيرها من المباحث الميتافيزيقية. وعلى وجه أكثر تحديدًا فهي –فلسفة الموسيقى- علم وجود “مناطقي” regional ontology، بتعبير إدموند هوسَرْل، الذي فرق بين علم الوجود العام أو الصوري formal، أو الفلسفة الأولى بتعبير أرسطو في الكتاب الرابع من “ما بعد الطبيعة”، وبين علم وجود مناطقي، يهتم بدراسة وجود ظاهرة محددة، كالموسيقى.
وإذا كانت هذه –باختصار شديد- فلسفة الموسيقى، فإن موسيقى الفلسفة تستثمر نتائج فلسفة الموسيقى في خطوة أبعَد، هي استخلاص أنماط صورية، تجريدية، من الموسيقى، بحيث قد تنطبق على تأويلنا للظواهر، أو تخلق تأويلات جديدة كليةً. وهو ما أسميناه بالـ “تأويل الموسيقيّ للعالَم”[*]. ومثالًا على هذا التأويل فقد قدَّم هيجل صياغته للمنهج الجدلي المثالي ليكون نمطًا عامًا لتطور الظواهر الإنسانية، وهو الذي يتكون من قضيتين متضادتين ومركّب جامع بينهما، بحيث تنشأ لهذا المركّب قضية نقيضة بدوره، وهكذا. ومثال ذلك القضيتين المتضادتين لليمين واليسار مثلاً في الحرب الباردة، فقد نشأت محاولات عديدة للجمع بينهما في أنظمة اقتصادية وسيطة، تم تطبيق بعضها فعلاً، كما هي الحال في ألمانيا اليوم مثلاً، لكننا نقرأ عن نقد لهذه السياسات الوسيطة حاليًا، وهكذا يسير التاريخ الإنساني في مجراه الطبيعي. هذا النمط في شكله المجرد هو ما نجده في أسلوب بيتهوفن في التأليف، خاصة في معالجته لِلّحن، بحيث تتولد عنه نقائض دومًا، وبحيث يكون جوهر العمل هو التغير الداخل على الجمل الأولى التي يبدأ بها العمل، لا تلك الجمل نفسها التي تكوّن الألحان. وربما هي ليست مصادفة أن يولَد كل من بيتهوفن وهيجل في السنة نفسها 1770 وفي البلد نفسه. ولكننا إذا استبصرنا (تشابهًا) بين نمط هيجل في تطور التاريخ، ونمط بيتهوفن في إنماء الألحان، فإن هذا يبقينا إلى حد ما في دائرة فلسفة الموسيقى. أما ما يعبُر بنا إلى موسيقى الفلسفة فهو استمداد أنماط صورية جديدة من الموسيقى، كأن نستلهم نمط معالجة الألحان عند رحمانينوف مثلاً ونحاول تطبيقه في نظرية جديدة في التاريخ أو الطبيعة. وباختصار: إذا كانت فلسفة الموسيقى تبدأ من الفلسفة وصولاً إلى الموسيقى، فإن موسيقى الفلسفة تنطلق من الموسيقى مستهدِفةً الفلسفة.
ولكن ما الذي يربط الفلسفة بالموسيقى على التحديد؟ لماذا لا تُستمَد هذه الأنماط الصورية من العمارة أو الأدب مثلاً؟ إن العلاقة الرابطة بين الموسيقى والفلسفة هي التجريد في كل منهما؛ فالموسيقى كيان مجرّد بطبيعته، أي أنه لا يحمل بالضرورة مضمونًا محددًا كالذي يقدمه الأدب، كما أنه غير متحيّز مكانيًا كالعمارة، وبالتالي هو أقرب إلى وجود زماني بحت، أو –إذا كنّا مثاليين لهذه الدرجة- وجود عقلي خالص. والتجريد يحمل في ذاته قدرة تفسيرية كبرَى؛ لأنه أقبَلُ للانطباق على أكثر من كيان متزمّن متحيّز. ولكن تساؤلنا يتجاوز ذلك بطبيعة الحال إلى العلاقة بين فلسفة الموسيقى وموسيقى الفلسفة في عنوان المقال؛ فهل تتوقف موسيقى الفلسفة على فلسفة الموسيقى أم العكس؟ أيهما ضرورية لفِعل الأخرَى وتطورها؟ وكي نجيب عن السؤال الأخير علينا أولاً أن نعطي نبذة أكثر تفصيلاً في حدود المقام بصدد كل من شقي العنوان.
إن الموسيقى ككيان في العالم، وليس بالضبط كفنّ، تتحدد ماهيتها –بشكل أساسي وليس حصرًا- في النظام order؛ فهي كل نظام داخل على الأشياء، ولهذا نقول مثلاً عن ألوان الزهور في الحديقة أنها (متناغمة)، ولهذا كذلك قال فيثاغورَس مقولته الشهيرة “السماء عدد ونغم”، فأما العدد فهو معروف، هو العلاقات الرياضية التي تنتظم الأفلاك طبقًا لها في هيئة مداراتها الهندسية، وأما النغم فهو التناسب، والتناظر، والانتظام، تلك العناصر التي نتبينها في تلك العلاقات. ولكن بينما لا نطلِق عادة اسم الموسيقى على ألوان الزهور، فقد أطلقه فيثاغورس ضمنًا على الأفلاك في مداراتها، والفارق هنا هو الحركة. إن ألوان الزهور استاتيكية في مظهرها، لا تتحرك في المكان، ولا تحدِث في النفس شعورًا بالحركة أو إرهاصًا بفكرتها، عكس الأفلاك دائمة السير. لذلك فماهية الموسيقى الأساسية ليست فقط في النظام، أو التناغم، بل فيهما في حال الحركة. هي إذن نظام حركي في جوهرها. إنها لا تني تولِّد في النفس شعورًا بالحركة؛ إذ لا تلبث أجزاؤها إلا أن تتلاشى في الزمن تباعًا، لتحل محلها أجزاء أخرى في بؤرة الانتباه، وبحيث لا يمكن لنا النظر إلى العمل الموسيقي في لحظة واحدة بشكل كلّي. وفي مقالات تالية سنتعرض لعلاقة الموسيقى بالزمان والمكان بشكل أكثر تركيزًا، ولكن يكفي هنا أن نبيّن أنّ ماهية الموسيقى هي في كونها أنماطًا مختلفة للحركة، وتلاعبًا بهذه الأنماط، بما يخلق فنًا بما هو تلاعب حرّ. ولكننا عادة لا نتبين الموسيقى في دقات الساعة أو دقات القلب شبه المنتظمة، والسبب أننا ننظر إلى الموسيقى في الأغلب باعتبارها فنًا، عليه أن يكون صنيعة إنسانية، لا طبيعية، أوّلاً، وعليه أن يكون غير رتيب في انتظامه من جهة أخرى.
ولكننا حتى إذا أدخلنا هاتين الصفتين الأخيرتين في ماهية الموسيقى لأمكن لنا بحثها فلسفيًا دون أن نعتبرها فنًا طيلة الوقت؛ ذلك إذا قمنا بتجريد نمط الحركة الذي تقدمه الموسيقى إلى أقصى حد، بحيث يكون نظامًا من الحركة، إنساني الصنع، وغير رتيب؛ فإن كونه مجردًا، مكتوبًا، أو مرئيًا، لا مسموعًا بالضرورة، يخرج به عن أن يكون (فنَّ الموسيقى) الذي هو مسموع بالضرورة. وهنا تقترب الموسيقى، من خلال استخلاصنا لهذا النمط الحركي في مستواه المجرد، من أن تكون فلسفة للصيَغ العامة.
ومن هذا المنطلَق الأخير وحده يمكن لنا أن نطبّق تلك الأنماط المستخلَصة من فلسفة الموسيقى في مجال تأويل الظواهر الإنسانية أي مجال موسيقى الفلسفة. وهكذا تظهر العلاقة بين فلسفة الموسيقى وموسيقى الفلسفة علاقة النظرية بالتطبيق على الترتيب؛ فبدون فلسفة للموسيقى لا يمكن لنا بدءًا أن نصل إلى تلك النتيجة أعلاه المتعلقة بماهية الموسيقى كنمط للحركة، أو أن نحاول من خلال ذلك إعادة فهم رؤيتنا لمنطق التطور. صحيح أنه يمكن لنا دائمًا –بفلسفة الموسيقى أو بدونها- أن نشتقّ أنماط الحركة من الموسيقى للوصول إلى صيغ مجردة عامة صالحة للتطبيق على تطور الكائنات الحية مثلاً أو حركة التاريخ، لكننا بدون تأسيس مواضع أقدامنا في فلسفة الموسيقى لن يمكن لنا أن نصف ما نقدمه بأنه “موسيقى الفلسفة”، إذ سيبرز السؤال من جديد: وما الموسيقى؟ ولماذا أطلقنا على ما نقوم به اسم “موسيقى الفلسفة” على التحديد؟
وتتسع موسيقى الفلسفة لأكثر من مجرد استكشاف منطق تطور الظواهر؛ فإن ماهية الموسيقى كما ألمحنا آنفًا لا تقتصر على نمط الحركة المنظَّم، بل تشمل كذلك فكرتنا عن الآلة أو الآلية؛ نظرًا لأن الموسيقى مرتبطة في وجودها دائمًا بآلة معينة تعمل باستمرار حتى نهاية القطعة الموسيقية، عكس النحت أو التصوير مثلاً. ومن الظاهر كذلك أن بعض الفنون الزمانية، كالفيلم مثلاً أو الرقصة، مرتبطة بآلة عاملة، لكن الفيلم، أو فن التمثيل عمومًا، قد يؤدَّى ويُشاهَد على المسرح، أو في الاستديو، عن طريق مادة بشرية، هي الممثلون أنفسهم، وكذلك الرقصة عن طريق الراقصين والراقصات، أما أداء الموسيقى فهو قاصر حصرًا على آلة أو مجموع آلات غير بشرية. ومن الصحيح كذلك أن الأداء الأوبرالي مثلاً يستعمل عناصر بشرية، ولكنه يعمد إلى استغلال أجهزتهم الصوتية كآلات موسيقية، وهو ما يتسبب في الفارق بين الغناء الغربي الكلاسيكي والغناء العربي؛ فالغناء العربي بشري، والغربي آلي. هذه الفكرة عن الآلة تدفع بنا إلى التفكير في ماهية الموسيقى كحركة معتمِدة في دوامها على آلة معينة أو مجموع آلات. وهو ما قد يؤثر على تصورنا عن الإنسان والتاريخ، ويستحق تفصيلاً في مقام آخر.
[*] انظر مثلاً دراستنا المسهبة في هذا الموضوع: التأويل الموسيقيّ للعالَم، وكذلك: فيزياء الكون الموسيقيّ.