كهف أفلاطون – مارك دوغان وكريستوف لابي – ترجمة: د.سعيد بنگراد

” ستكون ظلال الأشياء عند هؤلاء الرجال المكبلين هي الحقيقة ذاتها، ولن يروها إلا من خلال الظلال”. لقد بسط الفيلسوف اليوناني أفلاطون منذ 2500 سنة في كتابه الجمهورية مصير هؤلاء الرجال الذين وُضعوا في كهف منذ ولادتهم. فقد كان كل أسير منهم تحت مراقبة حارس يوهمه أن الظلال المنعكسة على جدار الكهف هي الواقع، وبذلك يحول بينه وبين وعي وجوده. إن الحراس في هذه ” الاستعارة المجازية” هم أيضا خالقو الوهم، فهم يضعون سجناءهم في حالة سلبية وحالة تبعية للواقع المنعكس على الجدار. يُخدر هذا السيل الدائم من الصور المعتقلين إلى درجة أنه يسلبهم كل رغبة في الانفلات والهرب بحثًا عن الحرية. وها هي نبوءة أفلاطون تتحقق الآن. فنحن مكبلون بالأوهام في العالم الذي تريده البيغ داتا، كما لم نكن أبدًا من قبل.
إننا نتصرف كما لو أنهم وضعونا في كبسولات في مرآة مشوهة هي في الوقت ذاته زجاج بلا طلاء خلفي. لقد أصبح انعكاس الواقع في أذهاننا أهم من الواقع ذاته. فأحد أعراض الداء الذي أصابنا هو ميلنا الشديد إلى الصورة /ذكرى. يتعلق الأمر بسعار بصري شجعت عليه السمارتفون التي تمكن من تصوير وتخزين عدد لا يُحصى من الصور يتقاسمها الناس في كل أرجاء المعمور. لقد تبادل الناس فيما بينهم 80 مليون صورة وفيديو على أنستغرام، ويشتمل التطبيق تقاسم الصور والفيديوهات على فايسبوك على 400 مليون مستعمل. فما هو أساسي ليس اللحظة، بل وجهها الرقمي، إن الحاضر لا يستقيم إلا في شكل ذكرى مكبسلة. فما قيمة أن يتسلق المرء قمة الكالماندجارو إذا لم ينشر ذلك في الفايسبوك أو التويتر؟ عندما شغَّل المختبر الأوروبي لفيزياء الجزيئات في جنيف LHC، أكبر مسرع للجزيئات تم تصوره لحد الآن، توقعت بعض الأذهان التخيلية أن التجربة ستخلق ثقبا أسود سيدمر الأرض كلها. ولم يحدث شيء من هذا من حسن الحظ. ولكن، ودون أن نعي ذلك، فإن رقمنة العالم ستعلن من جانبها عن الخروج من الواقع. يتعلق الأمر بظاهرة غير خاضعة للمراقبة ستبتلع الواقع المحسوس، كما يفعل ذلك الثقب الأسود مع الأرض.
في سنوات الخمسينات، عندما بدأ تعميم التلفزة، كان الفيلسوف الألماني غانتر أنديرس قد أحس، وهو يتأمل هذه النوافذ المضيئة، بالخطر الآتي، وهو السلطة الجذابة للصور. وقد حذر الناس قائلاً :” عندما يصبح الشبح واقعيًا، فإن الواقع هو الذي سيصبح شبحا”. إننا نلتقط صورة لمحتوى الصحن ذاته، ضدًّا على الطباخين. هناك وباء أصاب العالم أجمع، الزبائن الذين عندما يوضع الصحن أمامهم يخرجون سمارتفون لكي يؤبدونه وينشرونه في الشبكات الاجتماعية. يتعلق الأمر بتقاسم وهمي يجعل من الصحن مجرد خدعة، لأن الأساسي، أي الانفعال الذي أحس به المصور وهو أمام الصحن، لا يمكن رقمنته، دون أن نتحدث عن روح الصداقة التي تجمع بين الناس حول الطاولة. فما هو أساسي هو هولوغرام الحياة. إن صورة الواقعي أقوى من المعيش. تحيل موضة السيلفي بطريقة جذابة على الظلال المنعكسة على جدران كهف أفلاطون.
يشبه أسرى الداتا عصافير تلتقط، بهوس يصل حد الألم، فتات الزمن مدفوعة بوهم القدرة على إيقاف الكرونونس. يعتقد الناس أنهم يعيشون الحياة بكل عنفوانها، والحال أنهم لا يوجدون في أي مكان. لقد أصبحنا، وقد استحوذت علينا دقة الافتراضي، نكره الواقعي ونكره تعقيداته وعيوبه ولا توقعيته المصنوعة من حظ مضلل. فلماذا سنضيع الوقت في طابور للدخول إلى متحف مادام آرت بروجي غوغل يقترح علينا بنقرة واحدة رؤية ما يقارب 40000 عمل مرقمن بجودة عالية. ولقد زار أكثر من 30 مليون من المبحرين هذا المركز الافتراضي من 150 متحفًا حيث بإمكاننا التوغل إلى أدق تفاصيل اللوحات التي أعيد بناؤها بصورة صيغت ب 7 ملايير بيكسيل. فماذا يعني آر بروجيكت، إن لم يكن ذلك وهماً؟ إنه متحف مزيف يعج بالنسخ. يوهمنا غوغل بحميمية غير مسبوقة مع الأعمال الفنية، في حين أننا نحن الآن أشد ما نكون بعدًا عنها. تحاصرنا الرمال المتحركة للتفاصيل من كل جانب. إن درجة الدقة اللاإنسانية هاته التي ننتشي بها ليست في واقع الأمر سوى أثر عبثي. وقد تأسف رئيس تحرير مجلة الفنون الجميلة، فابريس بوستو، الذي يُعتبر من الشخصيات الفرنسية النافذة في الأوساط الفنية قائلاً: ” عندما نهتم بتفاصيل عمل فني ما، فلن نكون أمام بيكسيلات قائمة على 0 و1. فلا وجود للوحات حقيقية في المتحف الافتراضي الذي يقدمه غوغل، يمكن بالتأكيد تكبير هذه اللوحات إلى ما يقارب 150 لطخة ريشة، ولكن لا وجود لأي انسجام في كل هذا”. ويضيف: “وبالمثل يمكن الاطلاع على عدد كبير من الأعمال الفنية دون أن نغادر البيت، ولكننا سنظل بعيدين عنها، فما ينقص هو رد الفعل الكيميائي بين اللوحة والمتفرج، ذلك اللقاء الذي نكون فيه على يقين أننا أمام الأصل، لا أمام نظيره الرقمي، وهذا أمر يغير كل شيء”. إن التجربة سطحية، إنها منتزعة من الجسد، ولكنها مع ذلك جذابة. وقد تساءل أفلاطون في الجمهورية بصدد أسير الكهف الذي لا يرى سوى الظلال: ” ألا يصيب عينيه أذى إذا نحن أجبرناه على النظر إلى النار في حقيقتها، حينها سيحاول أن يرتد بطرفه عنها لكي يستعيد طاقة الإدراك عنده؟ وألا يعتقد أن ما يراه مباشرة هو أكثر وضوحًا مما نحاول أن نقدمه إليه؟”.
إن الواقع المسنن الذي قدموه لنا ليس هو الواقع. ذلك أن البيغ داتا عندما تسنن العالم، إنما تضع شاشة بيننا وبين الواقع تقوم بغربلة انفعالاتنا، تلك الإفرازات الإنسانية غير الخاضعة للنمذجة التي تجعل سلوك الإنسان، في السراء والضراء، غير متوقع، على عكس ما يحدث في الحاسوب. ها هي مقولة الأصالة تتبخر، هي التي كانت قيمة أساسية عند اليونان القدامى، فالأصالة عندهم هي أن يعرف المرء نفسه، وأن يقبل بوعي الوجود كما هو. وها هو الزيف يحل محل هذه الأصالة، إنه زمن الـمُزيف حيث لا شيء أصيل، لا الديكور ولا الذات. ومن أعراض هذا الانحراف ولدت في 21 ماي 2011 في مصر فتاة أطلقوا عليها فايسبوك.
إن إغراق المجتمع في الافتراضي يقلص من حجم الواقع. فربط المرء اليوم علاقة في مواقع اللقاءات مع عشيقته أو عشيقها دون أي لقاء جسدي يمكن أن يقع تحت طائلة القانون، ويُنظر إليه باعتباره زنى في حالات الطلاق. وقد يكون فك الارتباط مع الواقع أشد وقعًا مع انتشار السماعات الموجهة إلى الجمهور العريض. فكل الصناعة التكنولوجية التي ترغب في الاستحواذ على سوق الفيديو تبحث عما يغرقنا في عوالم مصطنعة يكون من الصعب تمييزها عن العالم الواقعي. وقد أنفق فايسبوك مليارين من الدولارات من أجل تطوير سماعته الخاصة أطلق عليها أوكولوس ف ر. ففي الفيلم الاستباقي ماتريكس Matrix الذي عُرض في القاعات سنة 1999 يكتشف البطل، وهو شاب متخصص في المعلوميات، أنه يعيش ضمن “مصفوفة”، ويتعلق الأمر بكون افتراضي تصورته الحواسيب. ” إن الواقع وهم، إنه ليس ما هو موجود، بل ما يلتقطه الذهن”، بذلك شرح القضية في مارس 2015 منسق برنامج أوكولوس لمصممين محليين. فالغاية المعلن عنها لهؤلاء المبتكرين هي أن يجعلونا نعيش في “مصفوفة”. فهل يُعد الواقع الافتراضي شكلاً من أشكال الاستلاب؟ فعندما ننفصل عن الواقع، وهو العالم الذي تدركه حواسنا كما يحدده الإغريق، فإننا ننفصل عن أنفسنا. إن ضياع مادة الواقع الذي قادت إليه الرقمية يشكك في مفهوم الشخصية ذاتها. وذاك ما يعيشه بعض المدمنين على الألعاب الإلكترونية الذين يُسقطون ذواتهم الرقمية في شكل بديل في أكوان ثلاثية الأبعاد، فهم لا يعرفون بالضبط من هم. إنهم يتنازلون عن اختيارهم الحر عندما يفقدون فرادتهم، ومع ذلك يفقدون كل إرادة على الإفلات منها. إنهم شبيهون بأسرى الكهف الذين كانوا مستعدين لقتل كل من يحاول تخليصهم من أوهامهم. وأكثر الأوهام نعومة هي تلك التي تأتي من المجانية.
فجريًا وراء الوعد الزائف القائل: “بإمكاننا الحصول على كل شيء في الانترنت بالمجان”، فإننا نندفع نحو الكهف حيث ننتهي محاصرين كما كان حال الأطفال الذين سحرهم صاحب الناي في حكاية الإخوة جريم. والحال أنك ” إن لم تدفع ثمن شيء ما، فأنت لست زبونًا بل أنت منتَج”، كما يقول المثل. إنه الثمن الذي يجب دفعه. فعندما ندخل الشبكة، نعقد، دون علمنا، ميثاقًا مع الشيطان: هويتنا الرقمية مقابل خدمات الولوج المجاني الذي يكشف عن كل شيء فينا. ويجب القول إن القيمة التجارية للشخص 2. 0 والآن 3 . 0، لا تكمن في قوة عمله، بل في هويته الرقمية التي تُباع عدة مرات، كما كان يفعل ذلك الناس في سوق النخاسة. وقد أعلن ذلك صراحة إيريك شميدت، رئيس المجلس الإداري لغوغل في كتاب عنوانه: نحن من سيكتب المستقبل: “ستكون الهوية عند مواطن الغد هي أغلى المنتجات، ولن يكون لها وجود سوى في الشبكة. إن سلطة ثورة المعطيات هي: مقابل كل مظهر من مظاهرها السلبية هناك خير كثير”. بعبارة أخرى، إن المبحرين المنتجين الطوعيين للمعطيات مستغلون، ولكنهم سعداء بهذا الاستغلال.
فعندما نتصل نعتقد أننا مستقلون وأحرار، في حين أننا خاضعون للآلة، ذلك أن التواصل داخلها يخضع لقواعد، والإرساليات موجهة والعلاقات الاجتماعية مبرمجة. فما يرسم لنا حدود هوياتنا الرقمية هو اللوغاريتم. وهكذا عندما نفتح حسابا في الفايسبوك نقوم بملأ مطبوع عام يصف شخصيتنا. يتم تبسيط نظيرنا الرقمي، إنهم يُخضعونه لعملية تقليص لكي تستطيع المصفوفة ابتلاعه وهضمه. وقد كَبَب مجلس الدولة مؤخرا على هذه القضية في تقرير مخصص للرقمية والحقوق الأساسية. وقد كتب قضاة بالي روايال في سبتمبر 2014 : “لا يرى المبحر اليوم نفس نتائج البحث التي يراها مبحر آخر. ولا يرى الإشهارَ ذاته ولا المقالات المودعة في بوابة للإبحار، ولا يتوفر على العروض التجارية نفسها التي يتوفر عليها جاره. وهو ما يستثير الكثير من القضايا الخاصة بالحصول على المعلومة”. فعندما لا يقترح اللوغاريتم على المبحر سوى مقالات وفيديوهات أو مواقع تتناسب مع ذوقه، فإنه قد يُغلق عليه في دائرة ضيقة. يتعلق الأمر بنتائج مناهضة كليا للروح الأصلية للشبكة، التي كان من المفترض، وهي تمد لنا خطوطا متشابكة، أنها ستوسع من معارفنا… وهكذا سينهار وهم وجود شبكة محايدة، تلك التي هلّل لها عمالقة النت. وقد جرب لانتانا سويبرLantana Sweeper الحياد المزعوم للحسابات المحايدة. فعندما كتب هذا الأستاذ في هارفارد اسمه ولقبه في غوغل ظهر إشهار خاص بالمقاضاة يقترح عليه الاطلاع على سجله الجنائي. لماذا أوحت هذه النتيجة بأنه قد يكون موضع مساءلة قانونية؟ لسبب بسيط هو أن اللوغاريتم اعتقد أن الاسم لامرأة إفريقية أمريكية، واستنتج بأنها من المحتمل أن تكون لديها مشاكل مع العدالة. فاللوغاريتمات ليست فقط غير محايدة، إنها تتضمن أحكاما عنصرية أيضًا. إن الحياد المعلن عنه أمر مستحيل في واقع الأمر، ذلك أن هذا الكون الرقمي مسنن لصالح البيغ داتا. وقد دعا مجلس الدولة في ختام تقريره، إلى” خلق حق في اللوغاريتمات”.
لقد وُضعت المفاتيح بين أيدي الشركات الكبرى لكي يتم تسنين العالم الذي نتحرك داخله. يتعلق الأمر بسلطة لا حدود لها، فداخل هذا الفضاء الرقمي يعد السنن هو القانون. وقد عبر لورانس ليسينغ في يناير 2000، وهو أستاذ مرموق، على صفحات مجلة هارفارد قائلا: ” إن السنن يولد نوعًا من القيم. إنه قد يكون ضمانة على بعض الحريات، أو صادًا عنها. إنه قد يحمي الحياة الخاصة، ولكنه قد يكرس الرقابة. إن السؤال الوحيد هو معرفة هل يمكن أن نقوم بدور موحد، أم سنترك المجال للمسننين يختارون لنا قيمنا”. إن الوهم الكبير هو الاعتقاد، كما يوهم بذلك أسياد المعطيات، أن الحرية يضمنها السنن، لذلك لسنا في حاجة إلى قوانين تحميها.
لقد باعونا وهْمًا كبيرا لكي نظل دائمًا داخل الكهف: هو أننا لن نكون أبدًا وحدنا، لأن الشبكة ستجمعنا بآخرين. إلا أن العكس هو الذي حصل. وقد عبر الأنتروبولوجي الأمريكي شيري تورك عن ذلك قائلاً في كتابه: “وحيدا ضمن المجموع”:” يعطينا الغُلو في الاتصال إحساسا أننا متصلين خارج الحدود والثقافات واللغات… والحال أننا منغلقين على أنفسنا كل في كون افتراضي منفصل عن العالم”. نحن بالفعل جميعًا، ولكننا وحدنا. وعلى عكس المظاهر، فإن الاتصال لم يكن وراء ميلاد تضامن جديد. فعدا بعض الاستثناءات، سيظل كل واحد في قارورته، وحيدًا. وقد لوحظ في اليابان منذ سنوات ظهور نوع من المرض الاجتماعي. هناك مراهقون أو شباب يمكثون في منازلهم متصلين باستمرار بحواسيبهم ويطلق عليهم “هيكيكوموري” (المتخندقون). ويتحدث السوسيولوجي دومينيك فولتون Dominique Volton وهو صاحب كتاب “العولمة الأخرى” عن ” استلاب الاتصال”، ذلك أن هؤلاء الأشخاص عاجزون عن العيش خارج هذا العالم الافتراضي، والحال، كما يذكر بذلك، أن الأساسي عند الإنسان ليس هو الصورة بل الإحساس بالواقع”.
Marc Dugain – Christophe Labé : L’homme nu