حاوره طامي السميري
- هل تؤمن بالشاعر الفيلسوف ومتى تشعر بأن الفلسفة تفسد الشعر؟
الشعر هو ضربٌ من ضروب (الفلسفة الذاتية) الخاصة بالشاعر وموقفه من الوجود كله. لذلك، رغم أنّ الخطاب الشعري يقوم على الإيحاء، بخلاف الخطاب الفلسفي الذي يقوم على المباشرة، إلَّا أنَّ التيَّار التأويلي للفلسفة قد كانت له نظرة عالية تجاه الشعر، وعلى رأس هؤلاء الفيلسوف فريدريك نيتشه في كتابه (هكذا تكلَّم زرادشت)، أو كتابه (ما وراء الخير والشر) الذي تطغى عليه الشذرات الشعرية العميقة التي تفتح آفاقا واسعة على التأويل. أما السؤال هل الفلسفة تفسد الشعر؟! أنا أعتقد أنّ حضور الفلسفة أو الثقافة – على وجه العموم- في القصيدة لا يفسدها إلا إذا كان هذا الحضور منطقيًّا بحيث تطغى الجرعة الثقافية أو الفلسفية العلمية على الحسّ الشاعري.
- ما هي الصورة البصرية التي تلح عليك دوما ولم تستطع بعد أن تكتبها في قصيدتك؟
هناك صور بصرية عديدة تطاردني دون أن أستطيع القبض عليها بالحبر والورق كما تستحقّ.. ولكنَّ الأكثر إلحاحا من بين تلك الصور هي صورة أبي رحمه الله تعالى وهو ممدد على سرير الموت. كان المشهد أليمًا، وكانت اللحظة فاصلة في حياتي، فقد شعرتُ بأنني كبرتُ قرنا من الزمن خلال لحظة من الوقت، ليس بسبب الحزن الكبير الذي كنت أحسُّه، وإنما بسبب المسؤولية التي شعرتُ بها تنتقل من أكتافه وتحطّ على أكتافي وكأنها جبلٌ هائل.
- هل في قصائدك ألوان وإن كانت موجودة فما سر اللون الذي تجده أكثر حضورا؟
الألوان في الشعر تعطي إحساسا بالشعور داخل الإنسان، وربما إحساسا بالمكان أيضا كما في اللوحة بالضبط. بالنسبة لي، نعم، توجد ألوان كثيرة في قصائدي، وربما يطغى عليها لونان هما اللون الأخضر واللون الأسود. أمَّا حضور الأخضر فهو رمز للسلام الداخلي الذي أبحث عنه دائما، إضافة إلى الحلم المتواصل الذي أعيشه بأنْ يعمّ السلامُ هذا العالم المشتعل بالحروب، وينعكس ذلك في كثير من قصائدي. أما حضور اللون الأسود فهو انعكاس لحجم الحزن الذي يكبر معي بين حين وآخر بسبب مآسي البشرية أوَّلا; وثانيا.. بسبب الفقد الذي لا ينقطع للأصدقاء والأحبة الذين يختطفهم الموت من يديَّ في ظل عجزي المطلق في حضرته.
- ماذا يريد منك الشعر؟ وعندما بدأت كتابته ماذا كنت تريد منه وماذا تريد منه الآن؟
في الحقيقة، هذا سؤال كبير جدا إذْ إنني في البداية، كتبت الشعر عبر ممارسة شغفي به، فما كان عندي هدف غير أن أستمتع بالكتابة مدفوعا بهذا الشغف الفطري الذي كان يتحلَّب له ريقي حِبرًا، ويسيل على الورق. لكن من طبيعة الكتابة أن تُفَتِّح الحواسّ وتوسِّع المدارك على الحياة، فما أريده الآن من الشعر هو أنْ أمارس إنسانيتي من خلاله وليس شغفي فقط. فالشعر هو حجم آدميَّة الإنسان، وعزاؤه في مأتم الحياة، وحريَّته مقابل الظلم الذي يفرضه العالم.. إذن، أريد من الشعر كل هذا الخليط من الحرية والقيم والعزاء والحياة كل الحياة.
- ما هو البيت الشعري الذي تستعين به عندما تتأزم علاقتك بأحد ما، ليحدث الانفراج مع ذلك الشخص؟
هو قول بشار بن برد:
إذا كنتَ في كُلِّ الأمور معاتبًا..
صديقَكَ؛ لم تَلْقَ الَّذي لا تُعاتِبُهْ!
- هل الشعر يعلم الشاعر الدقة والنظام أم الفوضى؟
الشعر يقوم بتنظيم الأفكار في العقل الفوضوي، وترتيب المشاعر في الحواسّ المضطربة، ثم يزاوج المشاعر والأفكار فتنتجَ القصيدة ثمرة في شجرة هذا الزواج. لكنّ الشعر في الوقت ذاته يمثِّل صورة من صور العبث الجميل والنبيل، فهو يربط المفردات التي لا يمكن ربطها إلا بالشعر، ويقيم بينها علاقات دافئة وحميمة لا يمكن أن تتحقق إلا في القصيدة.
- ما هي المفردة التي بودك أن تمحوها من قصائدك؟
مفردة (الموت).. هذه هي الكلمة القاسية التي لا تأتي وحدها، وإنما في موكبٍ من الآلام والوحشة والدموع والمعاناة.
- ما هو إحساسك عندما يلعب شعرك دور مرسال الغرام، ويتبادل العشاق أبياتا من قصائدك؟
لا شكّ أنّ ذلك يسعدني جدا، فأسمى ما يمكن أن يسمو إليه الشعر هو أن يكون رسولَ محبَّة بين القلوب. وهنيئا للقصائد التي تشدُّ الشريان إلى الشريان عبر تدفُّق دماء الغزل بينهما. ويا طالما أخبرني الشباب أنهم يبعثون بعض أشعاري إلى حبيباتهم دون أن ينسبوها لي، وجوابي الدائم أنَّ قصائدي (حلالٌ عليكم) ما دامت هي (ساعيات بريد العشق) التي تقرِّب العشاق إلى الحبيبات.
- في صخب السوشل ميديا، بين الأجناس الإبداعية ما هو ترتيب الشعر الآن؟
الشعر الجميل لم يفقد مكانته، فهو دائما في صدارة الأجناس الأدبية سواء كان في السوشيال ميديا أو غيرها، ولكنَّ وجود هذا الجميل نادر جدا. يبقى الشعر هو التجلِّي الأسمى للغة، ويبقى كذلك هو المترجِم الأبلغ لمشاعر الإنسان، ولكنَّ وجود الحقيقي منه قليل، ولا يتناسب مع عدد الشعراء الذي يتنامى في هذا العصر. إلا أنّ الناس تبقى في (ظمأٍ أنطولوجيّ) إلى الشعر الذي يروي الروح الإنسانية المتعطشة إليه.
- كيف تفاعلك وبماذا تشعر عندما تقرأ الشعر المترجم؟
الشعر المترجَم يعتمد على المترجِم، فهو الذي يستطيع بأسلوبه أن يحبّبنا في القصيدة التي يترجمها، وهو الذي يستطيع أن يجعلنا نتجاهلها. أنا أعتقد أنّ كل مترجِم هو مشارِك في كتابة القصيدة، وليس مجرد ناقل للشعر من لغة إلى أخرى. لذلك، لم يكن الشاعر الأمريكي (روبرت فروست) مخطئا حين قال: (الشعر هو ما يضيع في الترجمة)، فقد تجور الترجمة على الشعر إذا كان المترجِم غير متمكن. لقد قرأتُ ترجمة (سعدي يوسف) لديوان (أوراق العشب) للشاعر الأمريكي (والت ويتمان)، فلم أجد فيها عظمة هذا الشاعر الكبير الذي انطلقت على يديه الحداثة الشعرية في أمريكا. كما أنني قرأتُ ترجمة الدكتور (عبد الله أبو شميس) لديوان (شعر النساء الأفغانيات)، فوجدته مفعما بالشاعرية العذبة. الأمر هنا لا يعود إلى طبيعة الشعر في الديوانَين، وإنما إلى ما يضيفه المترجم من روحه إلى ترجمته. وتبقى الترجمة كما قال عنها المفكر والمترجم المغربي (عبد السلام بنعبد العالي): هي حلبةُ صراع بين اللغات.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.