بعد أن خرج أوسكار وايلد من سجنه، لم يكتب أي عمل أدبي، إذ فقدَ القوة الدافعة للكتابة الأدبية. لكن، هناك استثناء وحيد: المعاناة التي تمثلت له في السجن والتي أوحت له بكتابة قصيدة تحت اسم “ريدنج جاول”. قصيدة طويلة مقسمة على ست مقطوعات تحدث فيها عن موتٍ قادم. هي أجمل ما كتب من قصائد.
يقص بلغته العظيمة قصة رجل أمن قتل زوجته التي يحب، وحكم عليه بالإعدام، ويصف اللحظات والاختلاجات التي يشعر بها السجين الذي يعيش ليلته الأخيرة في السجن. أوسكار وايلد وجد في هذا الموضوع القصصي منفذًا إلى أن يعبر عن نفسه وهو في سجن ريدنج جاول. إذ ما إن ينتهي من قصة الرجل المحكوم بالإعدام حتى يصف الحياة في السجن، المبنى الذي صنع من القهر والعذاب، والزمن الذي يدور في تكرارٍ أبدي مهلك. لكن، هناك نغمة واحدة في القصيدة تتكرر في كل القصيدة:
لم أرَ أبداً رجلاً ينظرُ
بمثلِ هذه النظرةِ الحزينة
يتطلعُ ناحيةَ الخيمةَ الزرقاء الصغيرة
التي يدعوها المساجينُ السماء.
يتطلعُ في كلِ سحابةٍ عابرةٍ
تمرُ بأشرعتها الفضيّة
السجين في القصيدة حزين للغاية. لكن، ما الذي يجعله يتطلع إلى السماء بمثل هذه الصورة؟ هل هي المكان الوحيد الذي يستطيع من خلاله أن يطلق عقله وفكره وروحه؟ هل يناجي الله بأن يرحمه ويخفف عنه ألم الموت؟ هل تحمل السماء فكرة جمالية لانهائية تبقيه بعيداً عن كل المهازل والكوارث التي تحدث على الأرض؟ ما إن انتهيت من قراءة هذه القصيدة الرائعة حتى تساءلت: لماذا هذا التكرار لمفردة السماء وما تمثل في القصيدة؟ تجاوزت السؤال، إذ بدأت تظهر لي صور كثيرة أحملها في الذاكرة عن السماء. فكثيرًا ما ترد مفردة السماء في النصوص الأدبية، لكن هذه السماء، ما هي أهميتها في النص الأدبي؟ كيف ينظر إليها الروائي في كتاباته؟
هنالك صور بديعة للسماء في الأدب ، بدلاً عن أن تكون السماء محصورة في جانبها العلوي وكشكلٍ لا نهائي، أضحت صورة جمالية تعبر عن المكنون البشري، وعن رغباته وآماله ، وبعض النصوص الأدبية لا تكاد تذكر كلمة السماء أو تشير إليها، لكن بعض التصرفات البشرية من حيث هي أرضية فهي تشير وتتجه إلى السماء وتعبر عنها بشكل غير مباشر.
الروائي تولستوي في عمله الملحمي كتب مشهدين عن السماء، وكل مشهدً منهما له ظروفه الخاصة وطبيعته. المشهد الأول كان في حالة حرب، من خلال شخصية الأمير آندرية بولكونسكي. والثاني في حالة سلام، من خلال شخصية الكونت بيير بيزوخوف.
الأمير آندريه واحد من أكثر شخصيات تولستوي تجهماً وكآبة. ملحد عتيد كغالبية شخصيات تولستوي في كبرى أعماله. يترك زوجته الحامل في قصر أبيه العجوز ويذهب إلى الحرب من أجل المجد. كان يتتبع خطوط فوزه وخطى انتصاراته. وضع بمفرده خطة المعركة المقبلة: معركة أوسترليتز. ما يؤمن به شيء واحد: المجد، والشهرة. الموت والجرح وفقد الأسرة: كل هذه المصائب لا تخيفه. كيف يمكن أن تقنع شخص لا يرى إلا المجد من خلال المعارك وأن يكون مثل نابليون بجمال الحياة ومباهجها؟
تولستوي لم يقم بأي شيء سحري ليغير من هذه الفكرة، لكن أعطاه إشارات واتجاهات منها الإشارة الخاصة بمشهد السماء الخالدة. وهو أحد أشهر مشاهد الحرب والسلام، ولا تكاد دراسة نقدية تتناول الحرب والسلام إلا وتناولت هذا المشهد العظيم. في تلك الدقيقة من معركة أوسترليتز، أو ما تسمى بحرب الأباطرة الثلاثة، حين تأكد للجنرال الروسي كوتوزف أن هزيمة الجيش الروسي والنمساوي قد وقعت من قبل نابليون وجنوده، تسلم الراية ذلك البطل الذي ليس له وجود في التاريخ، وقام تولستوي بخلقه وأعطى له وجوداً تاريخياً في تلك الرقعة، الأمير آندريه بولكونسكي. تسلم الراية صارخًا بأنه لا يمكن أن تحل هزيمة وهو موجود، واندفع رافعاً الراية باتجاه تلك القوات، وانضم له الجنود الذين كانوا قبل دقائق يفرون من أرض المعركة، متأثرين بصرخات ذلك الأمير الذي يقوم بعملية هي أشبه بعملية انتحارية. لماذا كتب تولستوي هذا المشهد؟ هل هناك نزعة رومانتيكية عند تولستوي؟ لا. ليست نزعة رومانتيكية ولا بطولة من بطولات الفرسان. ها هو آندريه الذي يحلم بالمجد اندفع ليعانق ذلك المجد. وسقط سقوطاً عظيماً، أو كما عبر عنها نابليون: إنها ميتة عظيمة. أن يموت وهو ممسكاً الراية.
قال يحدث نفسه: ما هذا؟ أأسقط؟ أتخونني ساقاي؟ وسقط منقلباً على ظهره. وفتح عينيه آملاً أن يرى نهاية الصراع بين الفرنسيين ورجال المدفعية، لكنه لم يعد يرى شيئاً. لم يكن فوق رأسه إلا السماء، سماء غائمة، شديدة الارتفاع والتسامي تخفق على أديمها غيوم رمادية. فكر في نفسه: يا للهدوء، يا للجلال، يا للسلام، يا له من فرق شاسع بين جرينا المجنون وسط الهتافات والمعركة، والغضبة السحيقة التي كانت مستولية على رجلين يتنازعان حول المدفع، وبين مشية الغيوم البطيئة على أديم هذه السماء العالية اللامتناهية! كيف لم ألاحظ هذا حتى اليوم؟ كم أنا سعيد لأنني اكتشفت ذلك أخيراً! نعم، إن كل شيء غرور وعدم، باستثناء هذه السماء اللانهائية. لا يوجد أي شيء لانهائي، أي شيء، باستثناء هذه السماء. لكن؛ لعل هذا المشهد ومضة خداعة، لعله لا يوجد شيء مطلقاً، باستثناء السكون والراحة. الحمد لله!
ها هنا فن تولستوي القائم على الجدل العنيف في الروح، حين كان آندريه مستلقياً وبيده العلم شاهد تلك السماء الخالدة، تلك السماء التي لم يتطلع إليها أبداً بمثل ذلك البهاء والجمال. ها هو يتطلع إلى أكثر الأشياء تناسقاً وجمالاً وسلاماً، وأين شاهد كل ذلك؟ في معركة الأباطرة الثلاث! كان آندريه معلقاً بين تلك الأرض المستعرة بحرب غير معقولة وغير طبيعية وتمثل قمة الإجرام في الجنس البشري، وبين تلك السماء العظيمة الخالدة. ها هنا تعارض وجدل عنيف في روح آندريه، وكأن تولستوي يريد أن يري آندريه أن في تلك الرقعة من أرض أوسترليتز هناك سلام خالد وسام، تطلع إليه وأنعم به: ها هو هنا فوقك وفوق كل محارب في تلك الأرض التي لا يوجد فيها أي سلام. فكرة السماء الخالدة هي إدانة الفنان لتلك الحرب وكل الحروب التي جرت وستجري، وكم هو أمر عظيم أن تختصر السماء الشعور السام بالسلام والحب والصفاء.
من الغريب أن ينهي تولستوي الجزء الأول من كتابه – في ذروة الحرب بمشهد السماء، وفي نفس الوقت ينهي الجزء الثاني – في زمن السلام – بمشهد السماء كذلك، ولكن هذه المرة بشخصية الكونت بيير بيزوخوف. نفس التأثير، ونفس التطلعات، باستثناء أن بيير هو من ذلك النوع من أبطال الملاحم الذين لا يترددون في التعبير عما يجيش في نفوسهم، لا يخجل من التعبير عن نفسه بالبكاء بعكس آندريه الكئيب.
كان وقت صقيع جميل، والسماء الساكنة المزروعة بالنجوم تنبسط فوق الشوارع القذرة نصف المعتمة وفوق السقوف المظلمة. ما كان غير تأمل هذ البهاء ينسي بيير دناءة الأشياء البشرية إذا قورنت بالسمو الذي بلغته روحه. وعندما وصل إلى ساحة آربات انحسر أمام عينيه فراغ كبير من القبة المنجمة. وفي كبد السماء، فوق جادة بريتشيشتنكي تماماً، وسط موكب من النجوم ظهر المذنب الكبير اللامع، مذنب عام 1812، الذي زعموا أنه ينبئ بالأهوال الكثيرة، بل وبانتهاء العالم. لكن، تلك النجمة الهائلة المشعة، لم توقظ في نفس بيير أي رعب. بل على العكس، راح يتأملها فرحاً بعينيه المخضلتين بالدموع؛ بدت كأنها بعد أن قطعت مسافة يستحيل قياسها بسرعة لا حد لها حسب خط المجاز، انغرست فجأة في المكان الذي انتقته في تلك السماء المعتمة كما يغرز السهم في الأرض. وظلت هناك تنفش وتذبذب أضواء نورها الأبيض بين نجوم متألقة لا تحصى. فكان بيير يجد علاقة غامضة بين بهاء هذا الكوكب وبعث روحه العطوفة المتفتحة لحياة جديدة.
يشير الناقد جورج ستاينر في كتاب تولستوي أو دوستويفسكي عن هذه المشاهد: اتخذ الشكل الفني صورة قوس كبير متحرك. حركة متصاعدة إلى الخارج من مركزٍ واعٍ (عين الشخصية التي يرى المشهد من خلالها)، ثم انتهت الحركة بالرجوع إلى الأرض، وهي حركة لها دلالة رمزية لأنها تعبر عن الأحداث الفعلية المرئية، وإن كان لها مفهوم مجازي أيضاً للتعريف بحركة الروح. فثمة إيماءتان تعكس كل منهما الأخرى: الرؤيا الصاعدة للعين، والتجمع النازل للوعي الإنساني. عودة العين إلى الداخل، لكي تكشف استيعاب الروح للفضاءات الخارجية. السماء والسحب الرمادية فوق أوسترليتز تعرف الأمير آندريه أن كل شيء زائل، وتصرخ أحاسيسه المتبلدة بصوت يذكره بالأحداث التي تتردد في القداس. لقد أنقذ الليل وجلاله بيير من تفاهات المجتمع الدنيوي وشروره. وفي هذا الكشف لتولستوي هناك آثار اجتماعية وأخلاقية. كشف هدوء السماء بعد انقشاع الغيوم والصفاء المنعش لليل والانبساط الرائع للحقول والغابات عن خسة الدنيويات وابتعادها عن الواقع. كشفت عن قسوة الحرب وغباءها، وعن التفاهة الجوفاء للأعراف الاجتماعية التي أشعلت نار الأسى في فؤاد الكونتيسة ناتاشا. أفصحت هذه الكشوف على نحو دارمي مستحدث عن معنى عريق في الأخلاق: ليس بمقدور أي إنسان أن يكون أسيراً لإنسان آخر، وستستمر الغابات في هفيفها ودمدمتها حتى بعد أن يُوارى الغزاة التراب.
فكرة السماء عند الروائي الفرنسي فيكتور هيجو تتمحور حول العدالة الإلهية، والفردوس. هيجو لا يشير إلى السماء مباشرة، لكن كل ما في النص الأدبي من أحداث يتجه مباشرة إلى السماء. لن أبتعد كثيراً عن نابليون، بل ويبدو أن نابليون ارتبط في التراث الأدبي الإنساني بمشاهد مع السماء. في معركة واترلو، كل القياسات والخطط الحربية تبشر بنصر مدوي لنابليون، لكن حدث شيء ما غير من طبيعة أرض المعركة وجعلها صعبة على نابليون، ذلك أن سحابة ممطرة هائلة –في غير أوانها-غطت أرض المعركة. بضع قطرات فقط كانت كافية لأن تغير المعادلة. يطرح هيجو السؤال: أكان من الممكن أن يكسب نابليون معركة واترلو؟ يجيب مباشرة: كلا، بسبب الله. آن للعدالة العليا النزيهة أن تتدبر الأمر. المبادئ والعناصر التي تقوم عليها الجاذبيات القياسية في النظام الأخلاقي وفي النظام المادي جميعاً قد بدأت تتذمر. فالدماء التي يتصاعد منها البخار، والمدافن المزدحمة بسكانها، والأمهات السافحات الدمع، كل أولئك محامون مخيفون، حين تشكو الأرض ضيقاً شديداً، تسمعها السماء، لقد شُكي نابليون إلى اللانهاية، وكان سقوطه مقرراً. إن معركة واترلو أكثر من سحابة، إن فيها شهباً: لقد مر الله من فوقها!
في رواية الرجل الذي يضحك تكون السماء ذات حضور في الفصل الأول والفصل الأخير من العمل الأدبي. لكن حضورها مرتبط بخاصية تتميز بها نصوص فيكتور هيجو الأدبية: البحر. البحر كان شاهداً على جريمة كبرى، وحاملاً لشهادة هذه الجريمة لعقود: استودعها البحر في أسراره وقذف بها إلى الأعالي. لقد حمل البحر الخطايا إلى الأسفل، بقوة هائلة. وقذف البحر النور إلى الأعلى. كان البحر مجرماً وشاهداً وقاضياً وحاكماً. بصورة غامضة: جماعة من خاطفي الأطفال يتركون صبياً في جزيرة ويغادرون بسفينتهم إلى جهة غير معلومة. من جهة هناك الطفل: وحيداً، صغيراً، في الظلام والبرد والجوع والوحدة والعاصفة. ومن جهة أخرى هناك السفينة الصغيرة التي أشرعت شراعها للرياح، في جو كان يبدو عليه أنه هادئ، وسيقود الركاب إلى بر الأمان. البحر هنا ليس سلطة اجتماعية يجب أن يقوم البطل بقهره، وليس محارباً، بحيث أن البطل يجب أن يغرس سيفه في عبابه. البحر هنا صورة جديدة: معركة وقاعة محكمة. فصل الأوركة في البحر هو واحد من روائع النصوص الأدبية التي كُتبت عن البحر، بل هي أشبه بالملحمة، ملحمة أبطالها أفراد قاموا بعمل خاطئ، تركوا طفلاً لا حول له ولا قوة في جزيرة، بتعليمات من شخصية أو شخصيات كبيرة! عمق هذا الفصل وبراعته كانت في الصورة والحركة، الطريق الذي يؤدي للنهاية، الموت. غير أن المؤلف يستحضر اللانهاية هنا، السماء التي تغطي المجرمين في عرض البحر. هنا يصرخ زعيم السفينة: ألا يزال هناك شيء يمكن إلقاؤه في البحر؟ لم يكن هناك شيء، كل ما تحمله السفينة قد ألقي في البحر حتى لا تغرق. لكن السفينة كانت تنوء تحت حمل ثقيل لم يتم إلقاؤه بعد؛ إنه شيء غير مرئي، ثقيل للغاية. ما هو هذا الشيء الغير مرئي الثقيل للغاية؟ الخطايا. لم يعد التفكير بالنجاة، فالطريق سوف يفضي إلى الغرق، غير أن هذا الغرق يجب ألا يحدث قبل أن تُقذف الخطايا في البحر. الجريمة التي بدأت منذ مدة طويلة، منذ عشر سنين وانتهت بإلقاء الطفل في الجزيرة. إن أي مخرج سينمائي – مهما كان حجم المعدات التصويرية وبراعة أي كاتب سيناريو-لن يصل إلى تلك الدقيقة البالغة الجمال من العاصفة البحرية، حين تستوي جباه الخاطئين في السفينة مع سطح البحر، وما من شيء يدل على أثرهم إلا اليد التي كانت مرفوعة باتجاه السماء!
في الفصل الأخير صورة أخرى للسماء مقترنة بالبحر. لكن السماء هذه المرة تمثل الفردوس. هيجو يطرح ما يشبه التساؤل في عناوين الفصول: هل يمكن أن تكون الجنة في الأرض؟ الجنة هنا تتمثل بكائن بشري بلغ مبلغ هائل من الجمال والروعة. بوجود هذا الكائن في الأرض، هل أصبحت الجنة أرضية؟ عنوان الفصل الأخير يجيب مباشرة: لا، في الأعالي. ذلك أن الفردوس حسب تصوره مهما كان تصوره أرضياً، فلا يمكن أن يستمر. الجنة خالدة، لا يمكن تصورها أرضية. بطل الرواية-الرجل الذي يضحك-يتجه إلى الأعلى، إلى الفردوس، إلى السماء، لكنها هنا أشبه بالمفارقة إذ أنه يصعد إلى الأعلى عن طريق النزول إلى الأسفل، صوب البحر.
في مجموعة عدي الحربش القصصية: أمثولة الوردة والنطاسي، هناك صورتان للسماء. الصورة الأولى : في قصة اختفاء الحاكم بأمر الله. السماء في هذه القصة تتعرض للاهتزاز إذ تُفقد صورتها المكانية في الأعلى. شخصية الرواية لا تعرف أين هي بالتحديد، هل تسير في طريق ليلي بين النجوم أو هي في عالم البرزخ؛ لا يُعرف. كل ما هو محسوس أو مشاهد يضع الشخصية عالقة بين السماء والأرض. لكن السماء لا ترتبط بالشخصية، بل بذكرى بعيدة. إذا كان المكان قد ابتلع شخصية الحاكم بأمر الله، فلا مناص من ذكرى تعيد إلى الخليفة الفاطمي يقينه وماديته، فيتذكر قصة النبي يونس والحوت. لكن البطل الذي سيكون في حوار مع السماء هو الحوت. الروائي العظيم هرمان ملفيل عندما كتب موبي ديك، كانت قصة النبي يونس مثالاً رائعاً وممتازاً للغاية لنص أدبي يدور حول المحيط والحوت. لكن ملفيل يركز على النبي ذاته. في قصة عدي الحربش الحوت هو الشخصية المركزية. الحوت –ككائن من مخلوقات الله العظيمة يسبح الله، لكنه لم يشعر بذلك التسبيح بمثل تلك القوة الهائلة عندما ابتلع يونس. ليس تسبيح، بل هو نداء توبة نبوي في أعماق الظلمات يطرق باب السماء. حين يُلقي الحوت النبي التائب بأمر الله يفقد الحوت الصوت النبوي الذي كان يحمله بداخله، يفتقد تسبيح النبي التائب. يشعر بحالة من الخواء. يقول المؤلف في رائعة أدبية واصفاً حالة الخواء والفراغ في الحوت:
تخطرُ في ذهن الحوت هذه الخاطرة: ‘لا بدّ أنّ الله فوق السماوات، يصعدُ الحوتُ إلى أعلى، ويشقُ عبابَ الماء، ويقفزُ في الهواءِ باتجاه السماء والنجوم والليل، إلا أنه لا يصل. يحسُ بالفقد يعذّبه ويجلده، فيسبّح، ويغوص إلى القاع طلباً لمزيدٍ من التسبيح، إلا أنه لا يلقى. يعاودُ الحوتُ ديدنه المحموم المرة تلو المرة، تارةً يقفز في الهواء، وتارة يغوص إلى القاع. تارةً يقفز في الهواء، وتارةً يغوص إلى القاع. كل هذا وهو يلهجُ بذكر الرحمن، ويسبح بحمده، ويتمنى قربّه. يختلطُ الوضعُ على الحوت، وينسى نفسَه، وتتشابهُ عليه النجوم السماوية مع الحصى في قاع المحيط. لقد تحولت لديه صفحة الماء مرايا يتناظر فيها الأعلى مع الأسفل والأسفل مع الأعلى، فلا يدري أهو يسبح في المحيط ويقفز في الهواء أم يسبحُ في الهواء ويقفز في المحيط! عندها فقط يفهمُ الحوتُ أنّ المكان والاتجاه ليسا مهمين، أنه لن يقترب مزيداً من الله بقفزه إلى السماء أو بإصغائه إلى دواب البحر، المهم هو أن يسبح بنفسه، أن يسبح باستمرار، أن يحمل فكرة الله دون انقطاع عوضاً عن حمله لنبيه، هذا ما سيقربه إلى الله، وإلى السماء، وإلى الجنة.
الصورة الثانية: هي في قصة الأفكار الأخيرة التي درات في رأس جيوردانو برونو. لكن هذه المرة؛ السماء أكثر حضوراً من أي قصة أخرى. في قصة عدي الحربش يقص المؤلف قصة الراهب والفيلسوف برونو الذي حكم عليه بالإعدام من قبل محاكم التفتيش الدينية في ايطاليا بتهمة الهرطقة. عدي الحربش يسير على نهج أوسكار وايلد، إذ أنه يتساءل في بداية قصة: لماذا لا يكون هناك نوع من الانهيار والتوبة والتوسل لبعض المفكرين الذين حكم عليهم بالإعدام؟ تبدو وكأن هناك فكرة جمالية تطوقهم وتحميهم من براثن السقوط والخوف والفزع. في الليلة الأخيرة من السجن، كان يتمنى بأن يكون سقف السجن مرصع بالنجوم. ها هنا أجمل صورة مباشرة للسماء قد تقرأها في الأدب:
يتذكرُ أولَ ليلةٍ لهُ في العراء، عندما ترك خلفَه قرية نولا، وغادرها قاصداً نابولي كي يصبحَ راهباً دومينيكياً. عندما أظلّه الليل، استلقى على ظهره، وأخذ يتأمل في قبة الفلكِ الواسعة. فوقه، كانت ملايين النجمات تتألقُ في السماء. تمتمَ في نفسه: “لو أنّ للجمال صورةً مطلقة لكانت هذه! لا بدّ أنَّ وجهَ الله يطلُ عليها، ولا بدّ أن النورَ الذي تعكسهُ هو نورُه.” مضتْ على تلك الليلة خمسة وثلاثون سنة، وها هو الآن محبوسٌ في زنزانة مظلمة في روما، ينتظرُ أن يُحرقَ حيّاً أمام الملأ، والسببُ النجوم.
للشاعر الإيرلندي ديلان توماس مرثية بديعة عن موت والده. لا ترد مفردة السماء، ولا يشير إليها مباشرة، لكن السماء حية وشاهدة هنا من خلال الليل الذي بدأ يكتسح والنهار الذي على وشك الانطفاء. الشاعر يحرض أبيه على الثورة ضد الموت، ألا ينطفئ ويدخل بكل هدوء في ذلك الليل. عند تلاشي الضياء والنور، عليه أن يغضب، أن يغضب!
إياكَ أن ترحلَ وديعاً إبّانَ ذاكَ الليل،
الكهولةُ تحترقُ وتهذي في ختامِ اليوم؛
والويل، الويل، ضدَّ قدومِ الليل.
رغمَ أنّ الحكماءَ يعلمونَ أنَّ الظُلمةَ حَقّ،
إلاّ أنَّ كلماتِهم – في النهايةِ – لا تقدحُ الضوء،
وهكذا لا يمضونَ وديعاً إبّانَ الليل.
رجالٌ صالحون؛ يرحلونَ مستغربين:
كيفَ تنوّرُ أفعالُهم فوق الخليجِ الثرّ؛
والويل، الويل، ضدَّ قدومِ الليل.
نَفَرٌ جامحون؛ أمسكوا بالشمسِ، غَنَّوا راكِضين،
وتعلّموا متأخراً فبَكوا وهم يَسِيرون،
إياكَ أن ترحلَ وديعاً إبّانَ ذلكَ الليلْ.
كالحون؛ يبصرونَ أثناءَ الموتِ، ينخَطِفون،
تحترقُ عيونُهم كالنيازكِ ثمّ تَبرُقُ بالسُرور؛
والويل، الويل، ضدَّ قدومِ الليل.
وأنتَ يا والدي؛ هناكَ فوقَ الطَودِ التَعيس،
بارِكني، اِلعنّي – أرجوك .. أتوسّلُ إليك:
إيّاك أن ترحلَ وديعاً إبّانَ ذاكَ الليلْ.
الويل، الويل، ضدَّ قدومِ الليل [1].
[1] القصيدة بترجمة: د.عدي الحربش
المقالة بالاشتراك مع مدونة “أرصفة”