الجمال. جمال وجه، جمال وردة، جمال غروبٍ للشمس، جمال مبنى، جمال روح، جمال إيماءة، جمال بُرهانٍ رياضي، جمال حياة، جمالُ عملٍ فنّي، جمال بِساط، جمال وجبة، جمال لحن. والقائمة تطول. كيف يمكننا وصف كلّ من مبنى، وحياة، بالجمال؟ ما السمات المشتركة بين الوجوه والبراهين الرياضية، والتي تجعل منها جميلة؟ أهي ذات الصفات التي تجعل كل هذه الأشياء جميلة، أم أن جمال كل واحد منها يعتمد على سماتٍ مختلفة؟
أتناول في هذه المقالة إمكانية تقسيم نطاق الجميل إلى قسمين، يرتبط كل قسم منهما بجوانب مُكمِّلة للحالة الإنسانية: من ناحية، كوننا محدودين وغير كاملين، ومن ناحية أخرى قدرتنا على تجاوز الزمان والمكان لبلوغ المُطلق وتحقيق الشمول. أناقش هنا بأن الجانب الأول من حالتنا يجعلنا نقدّر الجمال الذي يكون جوهره في التناغم/الانسجام harmony، بينما يجعلنا الجانب الثاني منفتحين على تقدير الجمال الذي يكون جوهره استثنائيًا extraordinary . توفر تجربة التناغم السلوان وراحة البال، بينما تمنح تجربة الاستثنائي الأمل والمعنى[1].
لطالما كان تاريخ الفلسفة والجمال، وحتى القرن التاسع عشر، ينظر بدونية وازدراء لكل ما يخص المشهد اليومي المعتاد، ولهذا جادل بأنّ الأشياء والمواقف التي تكون ذات منفعة للاهتمامات اليومية، أو على صلة بها، لا ترتقي إلى منزلة الجميل. فبعد كل شيء، كان الفلاسفة، والفنانون من بعدهم، رجالًا قادرين على تحمّل تكلفة الهرب من الواجبات اليومية والروتين الأسري، وراغبين بذلك، على أمل أن يتبوّؤوا منزلة حسنة في التاريخ. لقد كان يُنظر إلى المطالب والمخاوف العمليّة في الحياة اليومية على أنّها أتفه من أن يُخلّدها التاريخ.
ووفقًا لشوبنهاور، فلا يمكن أن يخلق الجمال إلّا عبقري، والعبقري هو شخص لديه القدرة على القبض على جوهر المثاليّ والكونيّ universal، والتعبير عنه. “قد يكون نتاج عمل العبقري في الموسيقى أو الفلسفة أو الرسم أو الشعر، لا في شيءٍ نفعيّ أو ربحيّ. أن يكون العمل عبقريًا يعني ألّا يُبتغى من ورائه أيّ منفعة أو ربح، وهذا من السِّمات المُميِّزة للعبقرية. إنّ الهدف من وجود جميع الأعمال البشرية الأخرى يقتصر وحسب على الإبقاء على وجودنا وإغاثته؛ وحدها أعمال العبقري[ موجودة بهدف التواجد فقط. وهذا ما يملأ أفئدتنا بالسرور عند استمتاعنا بها، ذلك أننا نسمو فوق الفضاء الأرضيّ المُثقل بالحاجة والعوز”. إن الفن، ونوع الجمال الذي يخلقه، لهو مناسبةٌ لمُتعة بلا مسوّغات، وتجربةٌ للارتقاء فوق رغبات المرء وحاجاته ومتطلبّاته.
وبمقاربةٍ تشبه إلى حدٍّ كبير مقاربة شوبنهاور، يجادل إيمانويل كانط بأن مفهوم الجمال يتعلق بنوع الحكم الذي يعبّر عن “رضا نزيه وأصيلٍ تمامًا”. هذان الفيلسوفان، ومعهما تاريخ الفلسفة بالكامل، ينظران إلى الجسد، إلى موضع الرغبات والاحتياجات والمتطلبات والمشاعر والعواطف التي يصعب التحكم فيها والتغلب عليها، كمقيّدٍ لحرّية الفرد، وكعقبة في طريق البحث البشري عما هو كوني وأبديّ. ورغم أنهم قد يكونون محقّين في تمييز الجسد وطبيعته الجامحة باعتباره حدًّا مُقيِّدًا، إلا أنّ الاستهانة به أو محاولة تجاهله ليس طريقًا للتحرر من الجسد وحدوده.
وكما توحي الفقرة الأولية من هذا المقال، فإننا نطلق وصف الجميل على أمور تتجاوز حدود ما يسمح به كل من شوبنهاور وكانط. ولا أعتقد أننا مخطئون في ذلك، ففي نهاية المطاف، تعتبر الأشياء العملية والروتينية اليومية جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا وعاملًا مُعرّفًا لنا ومشكلًا لهويتنا، وهو جوهري بقدر جوهريّة قدرتنا على بلوغ ما وراء الحدود الأرضيّة. لذا فإن أفضل رهان لدينا قد لا يكون في محاولة تجاهل جوانب الحياة اليومية ووجودنا المحدود الذي يقال إنه عقبة في طريقنا، بل في فهم ماهيتنا ومحاولة بلوغ التوازن بين حريتنا وحدودنا، فكلما زاد التقبل والتفاهم، زادت الحرية.
إن تقدير المتناغم والاستثنائي، أو الرغبات الطامعة في راحة البال أو الكونية، لهي تعبير عن حجم تعقيدنا ككائناتٍ حية، وعن التناقضات المكوِّنة للإنسانية. فمن ناحية، تجعلنا أجسادنا كائنات محدودة في الزمان والمكان؛ كائنات ضعيفة. بينما من ناحية أخرى، يمكن لعقولنا تجاوز الزمان والمكان اللذين يحاصران أجسادنا، والتوجه صوب اللا متناهي. إن الجمال البسيط والمتواضع الذين يمكن العثور عليه في الأشياء والإيماءات الصغيرة لا يقل أهمية عن جمال الطبيعة الخلاب، ولا عن جمال الأفكار والإنجازات الاستثنائية التي تتحدى الزمن.
لا يقتصر وجود مكوّن التناغم على الجمال المتجسّد أو المادي فحسب، بل نجده كذلك في المواقف المتّخذة وأساليب الحياة. إننا لا نرى الجمال بسبب السمات المتناغمة في الوجوه والعمارة فقط، بل نراه كذلك في الطرق التي يتصرف بها الناس، والتي يتعاملون بها مع بعضهم بعضًا، والتي يعيشون بها.
تُعتبر سنوات الرشد بالنسبة للغالبية العظمى منّا بمثابة سعيٍ لا متناهٍ لإصلاح الأشياء، والعمل على إنجاح العلاقات، والتطوير من أنفسنا، للتحسين من أفعالنا، ومن أنفسنا. وحتى وإن كانت الرغبة في التحسين والرغبة في التقدم والرغبة في فهم بعضنا البعض والعالم رغبةً نبيلة وضرورية في كل حياة، فإنّ تصوّر حياتنا كمحاولة إصلاح وتحسين لا نهاية لها قد يكون أمرًا غامرًا وشديد الوطأة. إننا بحاجة إلى فترات زمنية ومكانية لا تتطلب بذل جهدٍ من طرفنا؛ الأمر الذي يخلقه التناغم.
كل واحد منا يعرف شعور أن ترى ترتيبا مُعيّنًا يخصّ غرفة أو حديقة أو جُملة أو زيًّا، فتشعر أن هناك خطبًا ما. عندما يعترينا هذا الشعور، تبدأ عقولنا في إصلاح المشهد، فنتخيل أننا نزيل بعض العناصر أو نعيد ترتيبها أو تشكيلها. إن عقولنا مسخّرة للعمل؛ ولهذا لا نستطيع مقاومة الإقدام على اتخاذ إجراءٍ ما. هذا يعني أن تجربة التناغم مصحوبة (ليس كرد فعل انعكاسي/غريزي بالضرورة) بتجربة بذل الجهد.
بينما على الجانب الآخر، يخلّف الترتيب المتناغم في دواخلنا شعورا بالتوازن التام الذي لا يتطلّب أي تدخّل. يعتبر التناغم بمثابة فرصة للتحرّر والراحة. إنّه يعمل على إغرائنا من خلال غرس شعور بالراحة في نفوسنا. إن التناغم أمارة المُروَّض والمتوازِن والمسلّي والمُريح. يعود جمال التناغم إلى الأشياء والإيماءات الصغيرة البسيطة في الحياة اليومية، فهو يوفّر لنا جُزُرَ سلامٍ من قلق الشواغل اليوميّة. الجمال، كالتناغم، هو الراحة.
إننا نستخدم كلماتٍ على غرار جذّاب أو مرغوب أو فاتن أو أخّاذ أو حسن المظهر أو ساحر أو لطيف لوصف جمال التناغم اليومي. كان كانط ليقول إنّ علينا الامتناع عن استخدام الجمال لوصف الأشياء والمواقف التي تلبي رغباتنا وتفي باحتياجاتنا، إذ إنّ الصفات المذكورة أعلاه تصف، وعلى نحوٍ أدق، التجارب اللطيفة التي تتناسب مع الحياة اليومية.
ويعتبر استخدام كلماتٍ من قبيل بديع ومُذهل ومهيب وخاطف للأنفاس وباهر وعجيب، وكلمة جميل بالطبع، من أجل تصوير جمال الاستثنائي أمرًا مناسبًا تمامًا. فالتناغم ليس بالمكون الأساسي الذي يخطف أنفاس المرء، ويفرض نفسه باعتباره بديعًا أو مُثيرًا أو استثنائيًا. وسواء كان روعة الطبيعة، أو التميز في الإنجاز البشري؛ فإنّ هذا النوع من الجمال يسكن عالمًا يختلف عن عالم الحياة اليومية؛ ألا وهو عالم الأبدية. لا يتعلق الجمال الاستثنائي بتقديم الراحة من المخاوف اليومية. عوضًا عن ذلك، تسمو تجربة كهذه بالمرء فوق رغبات الحياة اليومية العمليّة ومخاوفها، ما يوفّر فرصةً للنظر عبر منظورٍ موضوعيّ إلى الذات، وإلى مفهوم أن تكون إنسانًا، وإلى معنى الحياة، والى العالم ككُلّ.
إننا لا نختبر الجمال الاستثنائي كموضوعٍ لرغباتنا، فالرغبة في شيءٍ ما تعني القدرة على توقّع الحصول على ذلك المرغوب واستهلاكه. غير أن اختبار الاستثنائي يكون بمثابة الحصول على المِساحة المُكوِّنة له. إنه يظهر لنا استحالة امتلاكه أو استعماله أو استهلاكه. يمكنني القول إن اختبارنا للجمال اليومي، وكما تشير الكلمات المستخدمة في وصفه، يكون على مستوى عميقٍ في أجسادنا، بينما تكون تجربة الاستثنائي تجربةً فكرية أو روحيّة.
إن التناغم يدعونا إلى التحرر ونسيان الهموم والشواغل التي ترهق ذواتنا، بينما تمنحنا تجربة الاستثنائي الأمل والدافع لمواجهة قيودنا. إن اختبار جمال التناغم يمنح المرء الاطمئنان والاستقرار في الطرق التي يسلكها، ويعزّز فهمنا لذواتنا ضمن سياقتنا الاجتماعية والثقافية، في حين تفصلنا تجربة الجمال الاستثنائي عن السياقات التي نتحرّك فيها بشكلٍ يومي، وتتيح لنا الوصول لمعنى أن تكون إنسانا من منظورٍ موضوعي.
[1] سأعرّف التناغم بأنه “ترتيب مُتسق أو مُنظّم أو ممتع للأجزاء.” https://www.merriam-webster.com/dictionary/harmony أستخدم الاستثنائي كتأكيد على إشارته لما هو مغاير للمألوف، شيء يتجاوز المعتاد أو العادي، شيء لا يتناسب مع أهادف الحياة اليومية ومخاوفها، ويتجاوزها.