حوار مع الروائي والمترجم محمد آيت حنا – حاوره: طامي السميري

“العربي بنعمرو” شخصية لا أريد له أن يتخلّد، لا هو ولا أيّ شخصية في الرّواية، عاش حياته كلّها على السّلم، لا يصعد ولا ينزل.
محمد آيت حنا
هناك روائي عندما يكتب روايته الأولى فأنه يتهيّب الابتكار السردي والمغامرة في بناء نصّه الروائي، لذا يكتب كما يكتب الآخرين، وهناك روائيٌ آخر أكثر جسارة وأكثر تقبلًا للخسائر لردود فعل القارئ أو النقاد. والكاتب محمد آيت حنا عندما كتب روايته الأولى (الحديقة الحمراء) اختار طريق المغامرة وهو يكتب روايته بحالة تجريبية. لهذا كانت ردود الفعل مختلفة تجاه روايته. وبرغم ان الكاتب محمد آيت حنا قدم الكثير من الترجمات للمكتبة العربية كما أن له مؤلفاته في مجال الفلسفة وعن المكتبات إلا إنه وفي هذا الحوار (لمنصة معنى) اقتصر السؤال عن حالة التجريب في الفن بشكل عام وعن تفاصيل رواية الحديقة الحمراء بشكل خاص.
1 في الفنّ ترى بأن “ذيوع التّجريب في حقبة ما علامةٌ على أنّ الشّكل الفنيّ قد اكتمل، وتكرّست كلاسيكياته وما عاد بالإمكان مقارعتُها بالنّسج على منوالها”. لكنك عندما كتبت روايتك الأولى بدأت من نقطة التجريب. كيف ترى التوافق ما بين قناعتك عن التجريب في الفن بشكل عام وما بين بدايتك السردية؟
أراهما على نفس الخطّ. عندما تكلّمت عن ذيوع التجريب، لم أتكلّم عنه باعتباره مجرّد خيار فردي، إنّه علامة الاشتغال الفنيّ في عصر من العصور. قد يكون الأمر أوضح في الأشكال الفنيّة الأخرى غير الأدب. الموسيقى تمنحنا مثالًا جيّدًا: لم يكن الجاز مجرّد صدى لتحولات اجتماعية وثقافية، أو وسيلة تعبيرية للهامش فحسب، وإنّما هو أيضًا العلامة على أن الموسيقى “الكلاسيكية” قد اكتملت كلاسيكياتها، وصار الموسيقيون مدركين استحالة النسج على منوال الكلاسيكيات الكبرى، وذلك ما نتلمّسه بوضوح في موسيقى ماهلر وبارتوك وبروكوفيف، وآخرون قلائل ممّن يمكن اعتبارهم أواخر الموسيقيّين الكلاسيكيّين. الأمر نفسه سيحدث للجاز فيما بعد، هو نفسه الذي نشأ ضدّ قواعد الكلاسيك الموسيقي ستترسّخ كلاسيكياته، فتظهر التيارات التجريبية داخله، لتنبثق موسيقى الجاز مانوش مثلاً، “الارتجال داخل ما يفترض أنّه أصلًا ارتجال” هكذا يمكن أن نلخّص موسيقى أكبر أعلام الجاز مانوش، الفرنسي دانغو رينهارت.
قد يكون الأمر في الكتابة مختلفًا قليلًا، إذ أن التجريب لا يقصد في الغالب حركة تسعى للتحرّر من الأزمة، من انغلاق الأفق، بقدر ما يقصد تغيير الشّكل؛ يصنّف العمل الروائي مثلًا عندنا إلى تجريبيّ وغير تجريبيّ اعتمادًا فقط على الشّكل، بحيث إنّ الروائيّ يعتبر تجريبيًا حين يسلك مسلكًا مختلفًا في شكل الكتابة وتقطيع الفصول، أو كسر زمن الحكي…
لم يكن مقصدي من الرواية أن أكتب عملًا تجريبيًا، وإن كانت النتيجة في نهاية المطاف كذلك؛ لم أسع إلى فرض شكلٍ مختلف على كتابتي؛ وإنّما الشكل انبثق لوحده أثناء الاشتغال. لا أعتقد أنّني كنت أستطيع كتابة هذا العمل تحديدًا بشكلٍ مختلف، فالغرض ليس تقديم وحدة يستطيع القارئ أن يدركها في كليّتها، ولا تقديم تعدد متنافر يستطيع أن يعيد تشكيله ليمنحه وحدة، وإنّما المقصود أن يصاحب القارئ التردد والتنافر والتنقل بين الشّخوص من البداية إلى النهاية، أن يتبنّى في كلّ لحظة زاوية إدراك مختلفة، وشكل وعيٍ معايرٍ… هي تبقى مجرّد تجربة في نهاية المطاف، لكنّها قطعًا ليست تمرينًا على كتابة رواية أكثر نضجًا.
2- تقول: “يصنّف العمل الروائي مثلًا عندنا إلى تجريبيّ وغير تجريبيّ اعتمادًا فقط على الشّكل” هل تعني الرواية العربية؟ وماذا عن تجريب نجيب محفوظ في رواية أفراح القبة أو تجربة إدوارد الخراط الروائية، أو غيرها من التجارب لروائيين اخرين – هل كل هذه التجارب كانت على مستوى الشكل؟
– لا أقصد بكلامي الأعمال في ذاتها، وإنّما الخطاب المنتج حولها. أعمال نجيب والغيطاني والخراط، بل وحتى بعض أعمال منيف، فيها قدر من التجريب، لكن الخطاب المنتج على مستوى القراءة والنقد هو الذي يصنّف الأعمال إلى تجريبية وغير تجريبية استنادًا إلى معيار الشكل. والمسألة الأخطر هنا هي الحكم العام حول المتن، الحكم الذي يعتبر محفوظ مثلًا كاتبًا واقعيًا والخراط كاتبًا تجريبيًا على العموم، من دون النظر إلى الخصوصية التي تطبع كلّ عمل على حدة. قطعًا محفوظ أفراح القبة، ليس هو محفوظ ثرثرة فوق النيل أو الشحاذ، كلّ عمل تجربة فريدة؛ حتى التصنيف الذي يعتمد منطق المراحل: المرحلة التاريخية، المرحلة الواقعية، المرحلة الفلسفية، فيه الكثير من التجنّي على خصوصية كلّ عمل. أحسب أنّ محفوظ واعيًا بأنّ كلّ عملٍ من أعماله هو تجربة فريدة ومختلفة، وبالتالي كان يعبر الشّكل من الاهتمام قدر ما يعبر المضمون.
3- هل ترى من فروقات في التجريب ما بين كتابة الرواية عالميًا وعربيًا؟
– الاختلاف مبدئي وجوهري بين مستوى الرواية على العموم عربيًا وعالميًا، مع تحفّظي طبعًا على هذا التصنيف لأنّه يضع تقابلًا بين الرواية المكتوبة بالعربية وبين الرواية المكتوبة في كل الثقافات وكل اللغات. أقول إن اختلاف المستوى واضح جداً، وتباين فهم التجريب بين الثقافة العربية وغير العربية هو جزء من اختلاف هذا المستوى. لا يمكننا بالطبع أن نعطي حكمًا مطلقًا، لأنّ الكثير من التجارب الروائية العربية جيدة، لكن السؤال الأهمّ إلى أيّ حدّ أثرت التجارب الروائية العالمية المختلفة في الكتابة الروائية العربية؟ أثر همنغواي مثلًا في أسلوب كامو حاسم، لكن إلى أيّ حدّ أثّر كامو، بعدما تُرجم مراتٍ ومرّات إلى العربية، في الكتابة الروائية العربية؟
الرواية منذ بداياتها وهي تجريبية. كان ثربانتس شديد المكر حين سطّر، في مقدمة الكيخوطي، لكتابته حدودًا يدّعي أنّه أقل وأتفه من الكتابة العالمة. كان يقصد أنّه سيقدّم شيئًا مختلفًا عن الكتابة الثقيلة، الكتابة الرّاسخة المتعارف عليها، سيجرّب. ميلفيل وجويس وكافكا على اختلافهم جميعًا، جرّبوا أشكال كتابية مختلفة، لكن لم يكن الشّكل هو هاجسهم. من جهة أخرى قد تكون الكتابة العربية نجحت تجريبيًا في القصة أكثر من الرواية، وهذا ما أعتقده بالنسبة للتجربة المغربية على الأقل.
4-المترجم عندما يترجم الروايات فهو مرتهن لأسلوب النصّ الذي يترجمه، ومع تعدد هذه التجارب قد يكون أسلوبه في الكتابة مزيج من أساليب النصوص التي ترجمها. أنت في تجربتك الروائية الأولى (الحديقة الحمراء) كيف نجوت من سطوة الروايات التي ترجمتها سابقًا وكيف وجدت التجربة وأنت تكتب بأسلوبك الخاص؟
ملاحظتك وجيهة جداً، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنني أميل إلى التصور الذي ينظر إلى الترجمة باعتبارها تتمّ وفق وجهات نظر ثلاث: وجهة نظر فكرية (وهي خاصة المؤلف، حيث ينبغي أن تنقل أفكاره كما هي، من دون أي تغيير أو تحريف) ووجهة نظر لغوية (وهي خاصة المترجم، إذ هو الأقدر على تحديد الكلمات المناسبة لتأدية الفكرة)، ثمّ وجهة النظر الأهمّ، وهي وجهة النظر الأسلوبية، (وهي ليست خاصة المؤلف ولا المترجم، وإنّما النصّ)، كلّ نصّ يتمتّع بأسلوب خاص، ونقل الأسلوب جزء من عمل المترجم، إذ يفترض أن يُحدث النصّ في اللغة المنقول إليها نفس الأثر الذي أحدثه في اللغة الأصل. ومن هنا نرى أنّ عمل المترجم يكاد يسير في منحى معاكس لعمل المؤلف؛ فبقدر ما يسعى المؤلف نصًا بعد آخر إلى تكريس أسلوبه، يكون سعي المترجم نحو تشتيت أسلوبه، أن يتفرق في النصوص ويختلف كل مرة. قد ينطوي ما سبق على الخطر الذي بيّنتَه في سؤالك، خطر أن يعدي أسلوب النصوص المترجمة المترجم فتصير تأليفاته خليطًا من الأساليب، لكنّني أحسبه خطرًا ضئيلًا جداً، يتبدّد ويمّحي بتنوع الترجمات وكثرتها. الوضعية الأخطر هي أن يرتبط المترجم بمؤلف بعينه، أن يقصر جلّ جهده الترجمي على عمله، وهنا قد يحدث نسخ للأسلوب.
وبالعودة الى روايتي مرةً أخرى، أرى أن التنوع فيها ينحو منحى تعدد الأصوات لا تعدد الأساليب، وحتى إن كان ثمّة تعدد للأساليب فيها، فإنما هو تعدد من داخل النص وليس من خارجه؛ ليس بتأثير من أساليب المؤلفين الذين ترجمت لهم، وإنّما بتأثير مما يفرضه تحوّل النصّ وتبدله كلّ مرة. كل صوت في الرواية كان يحتاج أسلوبًا خاصًا، وكل مقطع إيقاعًا مختلفًا. أما حضور المقروء، فتلك مسألة أخرى للقراء والنقاد وحدهم إمكان الحسم فيها، أقول فقط إنّ المؤلف القارئ لا يستطيع أن يمنع نفسه من أن يغرف من قدور الآخرين
5-وأنا أرصد ردود الفعل روايتك (الحديقة الحمراء) وجدت من يلتبس عليه السرد بتداخل الواقع والخيال والأحلام، حتى البعض منهم يقول إنه توقف عن القراءة بسب صعوبة السرد وفي المقابل هناك من تآلف مع النص وتفهم تقنياته الكتابية. وسؤالي في مثل هذا النوع من الروايات هل يتفهم الروائي هذا النوع من ردود فعل القراء؟
– لا يكتبُ الرّوائيّ ليحقّق نوعًا من الإجماع، الكتابة الإبداعية عامّة ضدّ الإجماع. حتّى أشرس الروّائيين المدافعين عن قضايا بعينها، لا يهدفون إلى أن يُتحقّق الإجماع حول رأيهم تجاه قضيّةٍ ما، وإنّما غايتهم التّنبيه إلى القضية. أعترف أنّ النّص فيه صعوبةٌ، الصّعوبة لم أقصدها؛ إنّما جاء النصّ هكذا، كُتبِ كجذمور، كنبتةِ الأرمولة، النبتة إلي تمضي على سطع الأرض، وفي كلّ مرّة تتّخذ لها جذراً جديداً. قارئٌ قد يتيه في النّص، لأنّه يريد رواية شجرة، رواية تعود به دائماً إلى جذرٍ موحّد، يجمع الكلّ؛ وقارئ آخر سينخرط في الشّتات كما هو، ويعيد توطين نفسه كلّ مرّةٍ في الجذر الجديد. هل أميل إلى القارئ الثاني أكثر من ميلي إلى الأوّل؟ كلاّ، أعجبتني كلّ آراء القرّاء، بما فيهم من لم يستطيعوا أن يكملوا الرّواية، الكثير من الرّوايات لا نكملها، ولكن هذا لا ينتقص منها شيئًا.
6-إن كتبت روايتك القادمة هل ستمضي في طريق التجريب؟
– أشتغل على رواية جديدة، تجربة مختلفة، قد يراها القرّاء أقلّ تجريبية، هي حكاية عائلة، رواية سلالية، وكما تعرف، روايات العائلة لديها نمط خطيّ يتمنّع على التجديد؛ لكن صدقًا لا أعرف مسار الرّواية ومآلها، كلّ ما أعرفه أنّي أكتب فيها من حين إلى آخر، ولننتظر النّتيجة.
7-في الرواية نجد في بعض الفصول الموضوعات التقليدية وفي البعض الآخر يعلو النص ويتجه إلى البعد الفلسفي. هذا التداخل في السرد هل أحدث نوع من عدم التوازن في مسار سرد الرواية؟
– اِجمع عيّنةً عشوائيةً من عشرة أشخاصٍ في مكانٍ واحدٍ، واطلب منهم التّعبير بوسائلهم الخاصة، وإمكاناتهم، عن موضوع واحدٍ، وقارن النّتائج. طبّق النّتيجة على مستوى أعلى: العالم مثلاً! العالم ليس كلاّ متجانساً، وليس مستوى واحداً، وإن أخذنا بعين الاعتبار أنّ الذّات نفسها ليست وحدةً وإنّما هي تشابك وحداتٍ مختلفة، فالنّتيجة أنّ الذّات تعيش موضوعاتٍ مختلفة بمستويات مختلفة، لهذا من المنطقيّ أن تختلط الموضوعات، والأكثر منطقية أن يُتناول كلّ موضوعٍ بطريقة ومستوى مختلف عن الآخر.
8-الأكاديمي وهو أيضًا الرجل المثقف عندما يكتب الرواية نجده لا يعول على قدرته السردية الخالصة في بناء الحكاية الدرامية لذا يصبح نصه مثقل بالبعد الثقافي والمعلوماتي على حساب الحدث الروائي. هل شعرت أنك تورطت في روايتك فيما تورط فيه بعض الروائيين الأكاديميين؟
– سأكذب عليك إن قلت العكس، لكنّ هذا الشّعور لم يأتِ منّي، وإنّما من القراء، أعتقد أنّني لو أعدت كتابة الرّواية سأعيد النّظر في بعض الأمور المعرفية. أقول “لو” ليس على سبيل التمنّي، ولا على سبيل الإمكان. لأنّ الحديقة الحمراء بالنّسبة إليّ ملفٌ أغلقَ وانتهى.
9-قضية حارس المرمى الذي يُصاب بالاكتئاب إثر موت ابنته الصغيرة ويقدم على الانتحار، هذه القضية هل كانت تشغلك قبل كانت الرواية أم إن اهتمامك بها جاء لأنها تخدم نصك الروائي؟
– جميلٌ أنّك اهتديت إلى الشّخصية النّواة في الرّواية. كان يفترض أن تكون الرّواية في البداية عن حارس المرمى حصرًا، وهو بالمناسبة مستوحى من شخصية حقيقية، روبرت إنكه حارس مرمى هانوفر. كتبتُ مسوّدةً أولى بعد انتحاره، أتخيّل فيها التقاءه بابنته بعد الموت، لكن الأمور تطوّرت، لتتعدّد الشّخصيات، ويتوحّد السّؤال: أيّهما أكثر مدعاةً للخوف، الحياة أم الموت؟ بُنيت الميتافيزيقا التقليدية كلّها على سؤال الموت، الإنسان يعيش حياته كلّها مصارعًا سؤال الموت، والخوف من الموت هو الذي يدفعه إلى أن يخلّد اسمه، ولو بأبسط الطّرق: الإنجاب. لكن، يبدو أنّ الخوف الأكبر، ليس خوفاً من الموت، وإنّما من الحياة، هل هذه الحياة تليق بأن نقدّم لها أطفالًا؟ لهذا كان شرط التقاء حارس المرمى مجدّدًا بابنته أن يقطع عالمًا بأكمله يشاهد فيه مآسي الأطفال في العالم، كنوعٍ من التطهّر، ثمّ ينتهي وابنته في الحديقة السريّة، حديقة “أحمد بوزفور” القاصّ المغربيّ الذي عاش، وما زال يعيش، أطال الله عمره، متبتلًا، يكتب عن الأطفال، لكن يخاف أن يأتي بهم إلى هذا العالم. شخصية الغربي بنعمرو التي تسكن في المستقبل شقّة “أحمد بوزفور” هي نموذجٌ لامتداد السّلالة، سلالة المتردّدين، الذين يخشون أن تستمرّ الحياة في نسلهم على هذا النّحو.
10 -القارئ لمثل رواية الحديقة الحمراء حتى وان كان معجبًا بها قد لا يتذكر شخصيات الرواية وقد لا تبقى في ذاكرته زمنًا طويلًا لأن مثل هذا السرد قد يحجب نجومية الشخصية الروائية في الرواية التي تقوم في شهرتها وانتشارها على وهج شخصياتها. هل تشعر بأن مثلًا شخصية “العربي بنعمرو” قد تذوي من ذاكرة القارئ؟
– هذا المأمول، لا أريد له أن يتخلّد، لا هو ولا أيّ شخصية في الرّواية، عاش حياته كلّها على السّلم، لا يصعد ولا ينزل، لا يعرفه أحد. لا مكافأةَ أفضل من أن ينطفئ في ذاكرة القراء كذلك، أتمنّى أن يلمس شيئاً داخل القراء، بحيث يشعرون به ويتمثّلونه، ويذوب فيهم، وبعد ذلك لينمحي ذكره.