بدا لي أن صديقي المسكين آندري بومبلوفسكي، وهو أستاذ فلسفة سابق في جامعة أوروبا الوسطى التي لم يعد لها وجود اليوم، يعاني ضربًا من جنون غير مؤذ. أما عني فأنا شخصٌ مُعافى أتمتع بحس فطري سليم؛ وأؤمن بأنه ليس ضروريًا اعتبار العقل مرشدًا في الحياة، وإنما بوصفه يقدم لنا ألعابًا جدلية ممتعة وطرائق لمضايقة خصوم أقل فطنة. غير أن صديقي بومبلوفسكي لم يأخذ بهذا الرأي؛ فقد أطلق لعقله العنان ليقوده حيثما شاء، وكانت النتائج جد غرائبية. نادرًا ما كان يشارك في نقاش، ومن ثم بقيت أسس آرائه مبُهمة غامضة لمعظم رفاقه. عُرف عنه تحاشيه المستمر لكلمة “لا” وكل مُرادفاتها. فهو لا يقول “هذه البيضة ليست طازجة” لكنه يقول “لقد طرأت تغيرات كيميائية على هذه البيضة منذ أن وُضعت”، ولم يكن ليقول “لا أستطيع العثور على ذلك الكتاب”، لكنه يقول “الكتب التي عثرت عليها تختلف عن ذلك الكتاب”، وما كان ليقول أيضًا “لا تقتل”، ولكنه يقول “عليك أن تحتفي بالحياة”. حياته كانت غير عملية، لكنها كانت بريئة، وكنت أحمل له في نفسي عواطف جياشة. ليس من شك في أن هذه المشاعر هي التي جعلته يخرج في النهاية عن صمته، وهي التي دفعته لأن يروي لي تجربته الاستثنائية، والتي بدوري سوف أرويها لكم مُستخدمًا في ذلك نص كلماته:
عانيت ذات يوم من حمى شديدة شارفت إبانها على الموت. وفي خضم تلك الحمى أصابني هذيان طويل مستمر. حلمت أنني في الجحيم، وأن الجحيم مكان يغص بوقائع غير محتملة الحدوث، وإن لم تكن مستحيلة. وقد أسفر ذلك عن أمور عجيبة. إذ يظن بعض الأشقياء الملعونين عقب وصولهم إلى الدرك الأسفل من الجحيم، أنهم سوف يتغلبون على ضجر الخلود بالتسلية بألعاب الورق. ولكنهم يكتشفون أن ذلك الأمر مستحيل، لأنهم كلما خلطوا مجموعة من أوراق اللعب بصورة عشوائية، عادت على الفور إلى صورتها الأولى المرتبة، بداية من الآس البستوني وانتهاءً بالملك. وهناك مكان في الجحيم مخصص لدارسي حساب الاحتمالات. ويضم ذلك المكان العديد من الآلات الكاتبة والقردة. كلما قفز قرد فوق حروف إحدى الآلات الكاتبة، فإن لوحة المفاتيح تكتب بالصدفة واحدة من قصائد وليام شكسبير.
وثمة مكان آخر لتعذيب علماء الفيزياء، حيث توجد مراجل ونيران مشتعلة، ولكن عندما توضع الغلايات فوق النار المشتعلة، يتجمد الماء الذي فيها. توجد هناك أيضًا غرف لخنق النزلاء، وقد عَلَمت الخبرة الفيزيائيين ألا يفتحوا أبدًا أي نافذة، لأنهم لو قاموا بذلك، سيندفع الهواء إلى الخارج تاركًا الغرفة مُفرغة تمامًا من الهواء. وهناك مكان آخر للذواقة من خبراء الطعام، حيث خصص لهم أفخر الأطعمة وأمهر الطهاة. لكن عندما تقدم لهم شريحة من لحم البقر، ويأخذوا منها قضمة واثقة، يجدون أن مذاقها يشبه طعم البيض الفاسد؛ وحينما يجربون أكل بيضة، يجدون مذاقها يشبه مذاق البطاطا المعطوبة.
هناك حجرة غريبة مُفزعة مخصصة فقط للفلاسفة الذين دحضوا فلسفة ديفيد هيوم. وبالرغم من وجود أولئك الفلاسفة في الجحيم، فإنهم لم يتعلموا الحكمة الموجودة هناك، إذ ما انفك نزوعهم الفطري تجاه الاستقراء يتحكم فيهم، غير أنهم كلما صاغوا حجة استقرائية، كذبتها الشواهد التي تليها. ومع ذلك، فإن هذا الأمر يحدث فقط خلال المئة سنة الأولى من تعذيبهم لأنهم يدركون بعد ذلك توقع بطلان الاستقراء، وبالتالي لا يتحقق توقعهم لذلك البطلان إلا بعد مرور قرن آخر من عذاب منطقي يغير من توقعاتهم. وتستمر المفاجئة بصورة أبدية، إلا أنها في كل مرة ترتقي إلى مستوى منطقي أعلى.
ثم هناك جهنم التي أُعدت للخطباء الذين اعتادوا تأجيج مشاعر الحشود الغفيرة بفصاحتهم. والغريب أن فصاحتهم ما زالت متوهجة والجموع ما زالت محتشدة، لكن رياح غريبة تهب بعد ذلك لتتبخر الأصوات في أرجاء الجحيم حتى أن الحشود تسمع أصواتًا واهنة مُبتذلة عوضًا عن تلك الجزلة التي كان يتشدق بها الخطباء.
وفي مركز مملكة الجحيم يقبع الشيطان، حيث لا يدنو من مكانه إلا كبار الأشقياء الملعونين. وتتعاظم درجات اللاحتمال كلما اقترب أحدهم من الشيطان، وهو نفسه أقل الأمور المحتملة التي يمكن تصورها، فهو عدم محض، لا وجود تام، ورغم هذا فهو دائم التغير.
وبسبب مكانتي الفلسفية المرموقة، حظيت بمقابلة مُبكرة مع أمير الظلام. لقد قرأت عن الشيطان، فهو الروح دائمة الإنكار der Geist der stets verneint ، روح النفي. ولكن بمثولي أمامه أدركت، مصدومًا، أن للشيطان جسدًا سلبيًا وعقلًا سلبيًا. في الحقيقة، جسد الشيطان ما إلا فراغ محض تام، وهو ليس فقط خلوًا من جزيئات المادة ولكن أيضًا من جزيئات الضوء. إن ذروة اللاحتمال تضمن فراغه الممتد: فكلما اقترب جزيء من سطحه الخارجي، يصطدم بالصدفة مع جزيء آخر يمنعه من النفاذ إلى الجانب الفارغ. وحيث إن الضوء لا يتسلل إليه البتة، فهو بالقطع أسود اللون، ولكن سواده لا يشبه الأشياء التي ننسب لها هذه الصفة بصورة تقريبية، وإنما هو أسود بشكل لا نهائي، تام ومطلق.
بدا الشيطان على صورة تُماثل ما اعتدنا على نسبته إليه: من قرون، وأظلاف، وذيل وما إلى ذلك. أما بقية الجحيم فيذخر بلهيب قاتم، حيث يقف الشيطان شامخًا على هذه الخلفية في جلال مروع. وهو لا يستقر في مكان، بل على العكس، الفراغ الذي يتشكل منه يظل في حالة حركة دائمة. وعندما يعكر صفوه شيء، يثير الذعر بتحريك ذنبه المُرعب المطوي شأن قطة هوجاء غاضبة. أحيانًا يتقدم ليخضع عوالم جديدة تحت سطوته، ولكن قبل أن يتقدم، يتأبط درعًا لامعة البياض، وهو ما يخفي تمامًا العدم الكامن في داخله. وتبقى عيناه فقط بادية للعِيان، حيث تنطلق منهما أشعة العدم الخارقة بحثًا عما يمكن إخضاعه. حيثما يجد الشيطان النفي، والمنع، وطائفة من طوائف الممتنعين عن أي فعل، يدخل في عمق جوهر أولئك المستعدين لتلقيه. من الشيطان ينشأ كل نفي، وهو يعود بحصاده من أسرى الإحباط وخيبة الأمل لتصبح جزءًا منه، وتظل تتزايد كتلته حتى تهدد بشغل الفضاء برُمته. وبمرور الوقت يصبح كل عالم أخلاق من الذين تروج نظرياتهم الأخلاقية لمصطلح “لا تفعل”، وكل رعديد يجعل كلمة “لا أجرؤ تنتظر كلمة سأفعل”، وكل طاغية يرغم رعاياه على العيش في خوف، جزءًا من ماهية الشيطان.
وتحيط بالشيطان جوقة من الفلاسفة الأذلة المتملقين الذين استبدلوا مذهب ألوهية الشيطان بمذهب وحدة الوجود. أولئك الرجال يزعمون أن الوجود ظاهري براني فقط؛ وأن العدم هو الحقيقة الصادقة فحسب. وهم يأملون أن يُخرجوا إلى النور بمرور الزمن الظاهر اللاموجود، عندئذ يبدو ما نعده الآن موجودًا، جزءًا متواريًا من الماهية الشيطانية. ومع أن أولئك الميتافيزيقيين أظهروا قدرة جدلية عقلية فائقة، إلا أنني لم أستطع موافقتهم، فقد اعتدت في حياتي الأرضية التمرد على سلطة الطغيان، ولازمتني هذه العادة في الجحيم. بدأت أجادل معترضًا على المتملقين الميتافيزيقيين:
قلت بامتعاض “إن ما تقولونه محض عبث”، أنتم تزعمون أن العدم هو الحقيقة الوحيدة، وتتظاهرون بأن ذلك الثقب الأسود الذي تعبدون موجود. إنكم تحاولون إقناعي بأن اللاوجود موجود. لكن هذا تناقض: ومهما تفاقمت حرارة نار جهنم، فلن يجعلني هذا أبدًا أحط من قدر مكانتي المنطقية لأقبل تناقضًا من هذا القبيل.
وهنا أخذ رئيس الميتافزيقيين المنافقين بطرف الحجة قائلًا: “أنت تتعجل القول يا صديقي”. “أتنكر أن اللاوجود موجود؟ لكن ما عسى أن يكون هذا الذي تنكر وجوده؟ لو أن اللاوجود مجرد عدم، فأي عبارة تتعلق به تكون محض لغو لا معنى له. وهذا الأمر ينطبق على قولك إنه ليس موجودًا. أخشى أنك لم تولِ عناية كافية للتحليل المنطقي للعبارات، وقد كان حريًا بك أن تتعلمه منذ نعومة أظفارك. ألا تعرف أن لكل عبارة موضوعًا، ولو كان الموضوع لا شيئًا، لكانت العبارة لغوًا بلا معنى؟ من هنا، فعندما تُعلن، ببراءة، أن الشيطان – الذي هو العدم نفسه- ليس موجودًا، فإنك بكل وضوح تناقض نفسك”.
أجبته بقولي: ” لقد مكثتم، بلا مراء، في جهنم ردحًا طويلًا من الزمن ولكنكم ما برحتم مستمرين في اعتناق إحدى النظريات البالية. أنتم تهذون بشأن امتلاك العبارات للموضوعات، فكل هذا لغوٌ عفا عليه الزمن. فعندما قلت إن الشيطان، اللاموجود، ليس موجودًا، فأنا لم أذكر الشيطان ولا اللاوجود، إنما ذكرت فقط كلمة “شيطان” وكلمة “ليس موجودًا”. لقد كشفت لي مغالطاتكم عن حقيقة عظيمة، ألا وهي أن تعبير النفي “لا” مجرد كلمة زائدة عن الحاجة، من هنا، فإنني من الآن فصاعدًا لن أستخدم كلمة السلب “لا”. وهنا انفجر جمع الميتافيزيقيين في نوبة من الضحك، وصاحوا قائلين بعد أن تلاشت نشوة الحبور التي انتابتهم “انظروا كيف يناقض هذا الرفيق نفسه، أصيخوا السمع إلى وصيته العظيمة بتجنب النفي، وبأنه حقًا لن يستخدم كلمة “لا!”
بالرغم من أنني كدت أتميز من الغيظ، فقد حافظت على رباطة جأشي. كنت احتفظ معي بقاموس، فقمت بمحو جميع الكلمات التي تعبر عن النفي وقلت: “سوف يكون خطابي بأكمله مكونًا فقط من الكلمات التي بقيت في هذا القاموس بعد عملية المحو. وبمساعدة تلك الكلمات المتبقية، سأكون قادرًا على وصف كل شيء في الكون. أوصافي ستكون مُتعددة، لكنها جميعًا ستكون عن أشياء غير الشيطان. لقد حكم الشيطان هذا العالم السفلي ردحًا طويلًا من الزمن. كانت درعه الحقيقية البراقة المتلألئة مُثيرة للفزع وتبث الرعب في النفوس، ولكن تحت تلك الدرع تكمن عادة لغوية ممجوجة فحسب. ما عليك إلا أن تتجنَّب استخدام كلمة النفي “لا” وعندها ستتداعى إمبراطورية الشيطان”.
وفي وسط الجدل المستمر، ضرب الشيطان بذيله في غضب متصاعد، وانطلقت من عينيه الغائرتين أشعة ظلامية متوحشة. ولكن في النهاية بعد أن استنكرته وفضحت أمره باعتباره مجرد عادة لغوية سيئة، وقع انفجار هائل، وتدافع الهواء إلى الداخل من كل حدب وصوب، تلاشى على إثرها ذلك الشكل البغيض. أصبح هواء الجحيم الضبابي الحالك، الذي تكون بفعل أشعة اللاوجود المُكثفة، نقيًا كما لو قد مسه سحر. وأما من كانوا يبدون لنا كقردة تتقافز فوق الآلات الكاتبة فقد أصبحوا يظهرون فجأة نقادًا للأدب. بدأت مياه المراجل في الغليان، واختلطت أوراق اللعب، وهب نسيمُ صاف عليل عبر النوافذ، وعاد لشرائح لحم البقر مذاقها المعهود. هكذا اسيقظتُ يغمرني إحساس رائع بالحريّة. لقد أدركت وجود حكمة في منامي على الرغم من تسربلها زيّ الهذيان. ومنذ تلك اللحظة خفّت حدة الحُمى، غير أن الهذيان – كما قد تخمنون – بقي مُستمرًا.
المصدر:
Bertrand Russell: Nightmares of Eminent Persons
Published by Bodley Head, UK, 1954