ما الذي منع الموسيقى العربيّة أن تكون «كلاسيكيّة»؟ – كريم الصيّاد
وما الذي جعل الموسيقى الغربية كلاسيكية؟

1- على هامش الفاشية الموسيقية
ذات يومٍ كنت أستمع إلى مختارات موسيقية لموسيقار عربي معاصر (لن أذكر اسمه) بناء على ترشيح العديد من الأصدقاء. قلتُ فلنرَ هذه التحفة، التي بهرت كل هؤلاء. وبالمصادفة، وأثناء استماعي لهذه المختارات على الكاسيت، قبل العصر الرقمي، تعطل الكاسيت المحمول (الووكمان)، وأثناء محاولة إصلاحه انبعثت منه على غير انتظار قطعة من الحركة الرابعة من سيمفونية بيتهوفن الثالثة، قطعة لا تزيد عن عشرين ثانية، غطّى صوتها على ما أديره من مختارات. فأغلقتُ الموسيقار العربي، وقررت ألا أسمع الموسيقى العربية نهائيًا من بعد ذلك اليوم.
اعتراف قاسٍ هو، قد يُتهم صاحبه بالتعصب الفني، أو ما هو أسوأ: الفاشية الثقافية. وهذا النوع من العصاب –الفاشية- كامن فينا جميعًا، لكن منفحتي العقول هم من يقاومونه بنجاح. ولهذا قاومت ذلك الرفض، لكنني –على نحو عقلاني بارد- قدّرتُ أن أسبابًا موضوعية تقف خلف هذا الانفعال، وليست من قبيل التعصب في شيء. قدرت أن هناك مثل هذه الأسباب، لكني لم أكن أراها بوضوح في ذلك الحين، منذ قرابة عشرين عامًا. ولحسن الحظ فإنني لم أنفذ القرار السابق، ومع ذلك بقيت علاقتي بالموسيقى العربية، والموسيقى اللحنية عمومًا غربيةً كانت أو شرقية، محصورة في نطاق الدرس العلمي، والفحص النقدي، دون أن أنشغل بها في الصميم، ودون اهتمام عميق، يتجاوز التحليل النظري.
فما الذي وجدتُه في الموسيقى الكلاسيكية، وافتقدتُه في العربية؟
الاشتقاق اللحني. الاشتقاق هو ما يغيب بالفعل عن الموسيقى العربية، ويميز الكلاسيكية. وهناك العديد من الفروق الأخرى، والتي يلجأ إلى أحدها عادةً مَن يحاول تعريف جوهر الموسيقى الكلاسيكية، فإذا أعناه البحث، جمع كل هذه الفروق، وأطلق عليها: ظاهرة ثقافية. ولكن بالمزيد، والأعمق، من النظر نكتشف أن كافة الفروق الأخرى –كما سيلي الكلام عليه- لا يفي أحدها بتعريف الكلاسيكية، وأن جمْعها، واعتبار الموسيقى الكلاسيكية والعربية ظاهرتين ثقافيتين، حل جامع غير مانع، يعترف ضمنيًا بفشل التحليل نفسه. فما هذا الذي ندعوه بالكلاسيكية، حين نقول “موسيقى كلاسيكية”؟
2- ما هو “كلاسيكي”
حين نرد المصطلح “كلاسيكي” إلى جذوره اللغوية-الاجتماعية نقول إن الموسيقى كي تكون كلاسيكية عليها أن تكون تقليدية، محافظة، نسبيًا على الأقل في عصرها، وأن تعزَف في حفلات معينة، يحضرها علية القوم، والمثقفون. وحين نقصر المعنى على المراد الاصطلاحي الدقيق، نقول إن الفن كي يكون كلاسيكيًا، عليه أن يحاكِي معايير الجمال الكلاسيكية، التي تعبر عنها تماثيل الإغريق والفراعنة، والتي تتمتع بالتناسبات الرياضية الدقيقة، والبساطة، والوضوح. وقد نقول عن أي فن أنه كلاسيكي نسبيًّا بمعنى انقراض عصره. ولكن كل هذا يغفل الخواص الموسيقية البحتة، التي نجدها في العمل الموسيقي نفسه، لا في السياق الثقافي والاجتماعي له، كما إن الموسيقى الكلاسيكية ليست كلها مدرسة واحدة؛ بمعنى أنها لم تلتزم كلها بمعايير الدقة والتناظر الكلاسيكية. هناك ما يميز الموسيقى الكلاسيكية عمومًا عن غيرها، حتى وإن كنا في غفلة تامة عن ظروف نشأتها وتطورها وسياقها التاريخي.
فإذا عزلنا موضوع الدرس عن التاريخ، وحللناه كظاهرة مستقلة، لوجدنا في الموسيقى نفسها اختلافات هائلة بين الكلاسيكية منها، والعربية. لا تتمتع الموسيقى العربية أولاً بالبوليفونية (تعدد الأصوات) بمستوياته المختلفة، ما يعني أن الموسيقى العربية تركز على صوت واحد كل مرة، وتمنحه دور البطولة المطلقة، في مقابل روح-فريقٍ-ما تتمتع بها الموسيقى الغربية عمومًا. وقد اتسقت الأذن الغربية مع تعدد الأصوات، واستحبته في مواضعه، أما الأذن العربية فهي تنفر من ذلك التعدد، وتجد فيه نوعًا من الضوضاء. كما أن المقامات بعيدة الاختلاف، فالمقامات العربية أكثر عددًا وتنوعًا، وأقل سيمترية من المقامات الغربية، وتعتمد على تقسيم النغمة حتى الأرباع، لا الأنصاف فقط كما هي حال المقامين الكبير والصغير مثلاً. وقد تناغمت الأذن العربية مع ذلك التنوع المقامي، والتفتيت النغمي، ذلك كله، الذي اعتبرته الأذن الغربية من قبيل النشاز. الإيقاعات كذلك مختلفة؛ فبينما جاء الإيقاع في الموسيقى الغربية رياضيًا تجريديًا بحتًا، يكتَب في أول المدونة الموسيقية على شكل عدد كسري، فإنه في الموسيقى العربية ذو جسد، وجسده الوحدات الإيقاعية (دوم، تك)، التي لا يكفي العدد الكسري بطبيعة الحال للتعبير عنها. وقد وصل اهتمام العرب بالإيقاع إلى درجة مقاربة لاهتمامهم المركزي باللحن، وبشكل لم يتّصل به موسيقيو الغرب، لسبب وجيه، هو سيمترية الغرب، التي تحرص على تبسيط العناصر الأولى الداخلة في تكوين العمل، ولا-سيمترية الشرق، البادية حتى في العمارة، والجامع ذي المئذنة الواحدة، والتي لا تحرص على التحكم في المعطيات الأولى للعملية الإبداعية. وللموسيقى الكلاسيكية صيغ محددة، وللعربية صيغها كذلك، والفرق في مدى تعقيد الصيغة، ومدى حرية المساحة الممكنة لبناء مثل هذا التعقيد بدءًا.
وهذا كله صحيح، وكله معروف. ولكنّ كله لا يفي بخاصية “الكلاسيكية”. لقد أثبت الموسيقيون الكلاسيكيون قبل غيرهم أن موسيقاهم قد تَستعمل أي مقام، أو لا-مقام، كما نجد في استعمال المقام الكروماتيكي، الذي لا يعبر مقام مثله عن النشاز الحقيقي. كما أن البوليفونية قد تحققت عند العرب مؤخرًا، تأثرًا بالغرب، في مصنفات كثير، وشهيرة، مثل موسيقى عمار الشريعي (وهو ليس المقصود في بداية المقال)، مع أننا لا يمكننا تصنيف موسيقاه بأنها كلاسيكية. وعلى الجانب الآخر قدم برامز في سيمفونياته وكونشرتواته ورقصاته المجرية الشهيرة أمثلة على التلاعب بالإيقاع حتى داخل الميزان الواحد، وقد يتعاظم دور الإيقاع في جزء من العمل الكلاسيكي الواحد، ويقل نسبيًا في سواه. ما يعني أن كل ما سبق لا يقدم فرقًا جوهريًا بين نوعي الموسيقى، فرقًا سيظل قائمًا حتى مع تساوي جميع أطراف المقارنات السابقة، في حين لا يقبل هو المقارنة، ولا تتحقق معه المساواة. هذا الفرق كما قلنا هو الاشتقاق.
إن الموسيقى العربية تقدم لحنًا بطلاً، وتزخرف حوله، وتعيد توزيعه على الآلات، لكنه يظل مجرد لحن، أما الموسيقى الكلاسيكية فهي تقدم قصة نشأة هذا اللحن، وتطوره، ومصيره. صحيح أن هذا يتم –في الموسيقى الكلاسيكية- بدرجات متفاوتات، من هايدن، إلى موتسارت، إلى بيتهوفن مثلاً، لكنه يتم على أية حال. اللحن في الموسيقى الكلاسيكية مجرد مرحلة في حياة سياق أشمل هو العمل ككل، قد يغيب جزئيًا، وقد يحضر جزئيًا، أو كليًا، وقد يتفكك، وقد يعاد بناؤه بشكل مختلف. الموسيقى العربية أقرب إلى مشاهد غير مرتبة من فيلم، أو أكثر، تعتمد على مدى براعة الأشكال في مشهد ثابت ثنائي الأبعاد، في مقابل الكلاسيكية، التي تدير عليك الفيلم مرتبًا، مُمَنْتَجًا، وتعتمد في المقابل على الأحداث، على دراما الفيلم نفسها، وهو ما سمح بدءًا بتغوّل عنصر الدراما بدءًا من مطلع القرن التاسع عشر في الموسيقى الكلاسيكية الغربية أكثر بكثير من العربية. هذا هو السبب في أن الموسيقى الكلاسيكية قدمتْ لي اللغز الأكبر، تلك المعادلات الرياضية الصعبة، التي يضعها الكلاسيكيون، ويحاولون حلها بدرجات مختلفة من النجاح. هذا التلاعب بجسد اللحن تفكيكًا، وتركيبًا، هو الذي يستثير في ذهن مستمع الموسيقى الكلاسيكية الرغبة في الاكتشاف، والدهشة، ولذة الوصول إلى الحل الأكمل للمعادلة، في حين يستمتع متلقي الموسيقى العربية باللحن، وبأصوات الآلات في ذاتها، مع حد أدنى بالمقارنة من المتعة العقلية الصرفة. باختصار: ما هو كلاسيكي في الموسيقى هو ما هو رياضي بحت فيها، ما يتلاعب فنيًا بالعلاقات الرياضية، وتبقى الأصوات فحسب رموزًا لها.
3- الهِلال الموسيقيّ
يعرف مستمع الموسيقى العربية، حين ينفتح ذوقيًا إلى حد ما على الموسيقى الكلاسيكية، أن أول ما يستسيغه منها هي موسيقى الطليان والإسبان والروس، في مقابل موسيقى أكثر إزعاجًا وغرابة هي موسيقى الألمان والإسكندنافيين، كان هذا على سبيل الجِيُو-موسيقَى. أما بنيويًا فأيسر ما يتلقاه السامع العربي تلقائيًا هي ألحان بعض الأوبرات، ومتتالية شهرزاد لكورساكوف، وسواه من الموسيقيين ذوي المعطف اللحني الكثيف، ويصعب عليه التعاطي مع أعمال الألمان ذات الهياكل العارية، خاصة بدءًا من بيتهوفن. لكن مع الدعاية ينجذب الجمهور العام إلى نجم الشباك، ونجم شباك الموسيقى الكلاسيكية هو لودفيج فان بيتهوفن، لكن كثيرًا منهم، كما لاحظتُ ولاحظ غيري من تجار شرائط الكاسيت، ينسبون إليه أعمالاً غريبة عليه، مثل كارمينا بورانا، ويحسبونها مطلع السيمفونية الخامسة! وعلة هذا الخلط أن بيتهوفن مشهور بالضوضاء والعدائية عند غير المستمعين المحنكين، وهي توصيفات “عامية” في هذا المقام؛ لأن بيتهوفن أعقد من هذا بكثير جدًا، ولأن افتتاحية كارمينا بورانا فيها ذلك العنف، الذي يظنونه، كثيرًا جدًا. لكن سببًا آخر قد تحكم في ذوق جمهور كارمينا بورانا، الذي يظنها من أعمال بيتهوفن، هو أن كارمينا بورانا عمل لحني-غنائي بالأساس.
كل القائمة السابقة من الموسيقيين الكلاسيكيين “المفهومين” لدى جمهور الموسيقى العربية قائمة لحنية غنائية؛ فالروس أصحاب أجمل الألحان في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بلا منازع تقريبًا، وإن كان هناك منازع فهم الطليان، أمراء الغناء. وإذا كان هناك من يتحداهم جميعًا من وسط أوروبا، فهو بالتأكيد موتسارت، الذي تستسيغه الأذن العربية، كما رأينا في أغنية (يا أنا يا أنا) لفيروز، وربما تقبل كذلك موسيقى يوهان سيباستيان باخ، بخلاف موقفها من بيتهوفن. ولكن لماذا؟
إن كلاً من موتسارت، وباخ، قد قدم موسيقى لحنية بدرجة أكبر نسبيًا، وبوضوح، عما قدمه بيتهوفن، الذي أهدى للعالم تُحَفه الذهنية المركَّبة، في حين همّش إلى حد ما دور اللحن. لهذا يجد المستمع العربي في موتسارت وباخ “ما يسمعه”. إنه يبحث بالأساس عما يسمعه، لا ما يفكر فيه. ومن يحرص على إمتاع الحاسة يفوته قدر هائل من الإبداع الفني المعتمِد على تجريد العلاقات الهندسية، والذي تسمح به الموسيقى –بوصفها فنًا تجريديًا في الأساس- بالقدر الأكبر مقارنة بكل الفنون.
ولهذا الميل، والنفور، أصول جغرافية واجتماعية؛ فالبلاد التي قد يستسيغ العرب موسيقاها الكلاسيكية، كروسيا، وإيطاليا، وإسبانيا، كانت جارات الحضارة العربية الإسلامية في ذروة عصرها الذهبي من الشرق إلى الغرب (البحر المتوسط)، في شكل هلال يمتد من آسيا الصغرى حتى شبه جزيرة إيبيريا. وقد تسربت في الاتجاهين –من طرفي الهلال- تأثيرات فنية، ونقدية، ناهيك عن تصدير الآلات الموسيقية وأساليب الغناء، واستيرادها. يقول عبد الرحمن بدوي: “حينما يسمع الإنسان الموسيقى الإسبانية الأصيلة، والغناء الإسباني الأندلسي المعروف باسم “الفلامنكو” يشعر في الحال بأن هناك علاقة وثيقة جدًا بين كليهما وبين الموسيقى والغناء الغربيين”؟[1] “يشعر في الحال” هكذا قال بدوي، وهو معنى الاستساغة التلقائية، في مقابل النفور من موسيقى بعيدة نسبيًا جغرافيًا، كموسيقى وسط أوروبا، وشمالها.
وقد وصل حد التأثير الموسيقي العربيّ إلى درجة أن المؤرخ الموسيقي والمستشرق المهم هنري جورج فارمر (ت 1965) Henry George Farmer اعتقدَ أن البيانو ما هو إلا تطوير معقد لآلة القانون، التي اخترعها الفارابي، وأسماها بالقانون اعتقادًا في رؤية فيثاغورية قديمة، ترى السماءَ عددًا ونغمًا، أي قانون الوجود،[2] وأنّ زيجريد هونكه المستشرقة المعروفة قد جارته في هذا الرأي بوضوح في “شمس الله تطلع على الغرب”.[3] ولا شك في أن العود الغربي مشتق في الأساس من العود العربي، وأن كثيرًا من آلات الأوركسترا الغربية ذو أصول عربية، وشرقية عمومًا. ومن الوارد كذلك أن تُشتق أشكال موسيقية معينة من أشكال غناء عربية، كما نرى في العلاقة بين الموشَّح الأندلسي، وبين شكل البالاد.[4] كما أن فن الزخرفة، الذي برع فيه العرب إلى حد بعيد لتجنب تصوير الأجسام الحية، يشبه زخارف الباروك، ومنمنماته، ومقرنصاته، وقِبابه. ولا بدّ أن مدرسة زرياب في الأندلس في عهد عبد الرحمن الثاني كان لها تأثير كبير على الأوساط الفنية في بلاد الأندلس وما وراءها.[5] وهناك أدلة تاريخية كثيرة على أثر الموسيقى العربية على الثقافة الغربية عمومًا، وهي منطقية؛ لأن الحضارة العربية في ذلك الوقت كانت موردًا ثقافيًا. وحين تصبح حضارةٌ موردًا، فعلى غيرها أن يكون مستوردًا بالبداهة، وإلا تخلفَ. وقد انعكست الحال حاليًا، وهو أمر طبيعي.
هذا التأثير الموسيقي قد صبغ أطراف روسيا وأوروبا بألوان عربية مبرقشة، مرت بعملية تدوير تاريخية، لتصل إلى أذن المستمع العربي اليوم كموسيقى جديدة/ أليفة. وهو السبب في أن الأذن العربية تستسيغ أطراف الهلال القريبة مما يقابله على الخارطة (روسيا وإيبيريا) أكثر مما عند قلبه المقعَّر النائي عنها (وسط أوروبا وشمالها). لكن هذا التأثير ليس جغرفيًا بحتًا، ليس لمجرد التقارب الثقافي العام، ولكن لأنه تأثير في الألحان والصيغ والأشكال، جعل موسيقى روسيا وإيبيريا أكثر ميلاً للغنائية، وأبعد عن التركيب.

4- غربية لا شرقية- سيمترية لا سيمترية
إن الوحدة البنائية عند موسيقار مثل بيتهوفن أو برامز أو سيبليوس هي النبضة الموسيقية Pulse، الطرقة الواحدة، التي تُحدث في الجسم أو النفس حركةً واحدة. ولم يكن اللحن وحدة بنائية جوهرية في الموسيقى الكلاسيكية بقدر ما هو في الموسيقى العربية؛ لأنها لا تهتم باللحن في ذاته، بل كيف يَظهر، وكيف يَظهر منه غيرُه. وبالتالي كانت –تلك الوحدة البنائية- أبسط منها لدى الموسيقيين العرب، الذين كانت وحدتهم البنائية هي اللحن كاملاً. وحين تتعقد وحدتك البنائية الأساسية، فلا تطمح في إقامة عمليات فكّ وتركيب كثيرة منها؛ فما لديك في الأصل معقد، ويفقد هويته إذا تم تفكيكه.
وكان السبب عند العرب في تفضيلهم للموسيقى اللحنية هو أن عقلياتهم نفسها تميل إلى البناء اللا- سيمتري، أي الذي لا يتمتع بالتناظر، وقد دلت عمارتهم على هذا. وما لا يعتقد في البناء السيمتري، فليس عليه بالضرورة أن يتمتع بمعطيات بسيطة في البداية. بعبارة أخرى أوضح: الرؤية السيمترية للعالَم تصوغ نفسها كقانون أشمل، فيه تنتظم الطبيعة ذاتها، ويتلاعب الفنان بهذا القانون، يفك جزءًا منه، فيفكّ مقابلَه لتحقيق السيمترية، يبني جزءًا، فيبني ما يوازيه ليحافظ عليها، أو يخترقها، ليس إلا لكي يستعديها ملتئِمة من جديد، فيتحقق كل مرة، وبشكل مختلف، إشباع عقيدة المتلقي في التناظر القدسي. أما من لا يتمتع بهذه الرؤية فلن يكون لديه معيار رياضي في الأصل لبناء العالم، سيبدو العالم بالنسبة له كتلة فاقدة الشكل في الأصل، كما هو عليه فعلاً في الطبيعة، وبالتالي فلا قيمة للتلاعب حول حدود قانون التناظر غير الموجود، ولا قيمة أصلاً لكل هذا اللعب البنائي، ويصير ما هو مهم فقط هو المادة، التي يتم بها التلاعب، أي الألحان، وأصوات الآلات. والنتيجة أن لا- سيمترية العرب لم تترك لهم فرصة تطوير موسيقاهم لتكون كلاسيكية-اشتقاقية. فكيف طورَ غيرهم هذا النوع من الموسيقى، بعد أن كانوا تلاميذَ لهم؟
5- ما الذي جعل الموسيقى الكلاسيكية “كلاسيكية”؟
إن الناظر في عمارة العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية سيجد في سياقنا الحالي فرقين مهمين: الأول أن العمارة الإسلامية رمزية؛ فالمنقوشات، إن لم تكن كلمات، لا تصور نباتات أو حيوانات معينة لحرمتها الدينية، بل ترمز إليها بفن، هو –كما قال عنه جيورج فلهلم فردريك هيجل ذات مرة- أشد الفنون تجريدًا، أما العمارة الأوروبية الوسيطة فهي تحمل أشكالاً، وتماثيلَ كاملة، غائصة في صفحات المعمار المخيف، معلقة على الأشواك، وبينها، في مشهد مدلهمّ، لتذكير البشر دائمًا بيوم الدينونة، وبآلام المسيح. من هنا كانت العمارة الإسلامية –بالمقارنة- تجريدية في تعبيرها عن الموضوعات المجسدة، ومحايدة في التعبير عن الموضوعات المجردة. إنها لا تُنذر ولا تبشّر. إنها مجرد إشارة إلى كمال الطبيعة، وزينة للبناء. أما العمارة الأوروبية الوسيطة فكانت “تعبيرية” بمعنى ما. كانت تحمل خطابًا، فهي خطاب معماري. العمارة الإسلامية كقطعة البسكويت المنقوشة المنمنمة، تتمنى لو تقضمها بأسنانك لجمالها، لكنها مجرد رمز لوجود العالَم، ولا تخاطبك، ولا تعرف أنك هنا، كما أن الطبيعة لا تدرك أنك موجود.
الفرق الثاني هو أن العمارة الأوروبية الوسيطة سيمترية، برج مقابل برج، ونقش مقابل نقش، وكيان مجهول يتعذب في مقابل كيان مفهوم يتنعّم، أما العمارة الإسلامية فهي تتحرك خارج حدود قانون السيمترية. إنها ترمز إلى واحد، فرد، لا يزدوِج، ولا يقوم أحد مقامه، ولا يشغل مع أحدٍ مثله حيزًا واحدًا (الصِّمَديّة). ولهذا فلا يمكن في تصورهم أن تكون للكون بنية سيمترية، بل صمدية لا- سيمترية.
وبعكس الظاهرة الأولى كانت الثانية: ففي مقابل الطابع التجريدي للعمارة العربية، نجد أن موسيقاها كانت الأقرب للحواس والجسد، ولكن ظاهرة التناظر لا تنعكس، فالتناظر طبيعة في العقل الغربي، سواء وُجد في الطبيعة أم لم يوجد، أما في العقلية العربية فلا يكاد يوجد شيء إلا مقام واحد رفيع، يحجب عنا فوضي كاملة.


وهذا الفرق: أن الموسيقى الكلاسيكية الغربية كانت أكثر تجريدًا في مقابل عمارتها التعبيرية، وتناظرية مثلها، وأن الموسيقى العربية جاءت أكثف تجسيدًا من عمارتها، وغير تناظرية في المقابل، هو ما جعل الموسيقار الكلاسيكي حريصًا على قانون التناظر، حتى وإن مال في موضوعاته إلى الشهوانية مثل باجانيني، أو الشيطانية مثل فرانز ليست، أو التيماتِ الأسطورية الوثنية مثل فاجنر وسيبيليوس وكارل أورف، أو إلى النيتشوية، التي قد تضم كل هذا، مثل ريتشارد شتراوس.
6- من الإسلام إلى الكنيسة إلى نابليون بونابرت
لم تتحول الموسيقى الغربية إلى موسيقى كلاسيكية إلا بعد أن استقلت عن الموسيقى العربية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، أي في خضم عصر النهضة. وأحدث التأثيرات من جهة الموسيقى العربية على الموسيقى الغربية لا تمتد أبعد من القرن السابع عشر.[6] ظلت الموسيقى في أوروبا خادمة للكنيسة طيلة العصور الوسطى، ولم يعرَف موسيقيون مستقلون “دنيويون” إلا في ذلك القرن. هذه هي مشكلة التعبير؛ فإذا كان لك أن تعبّر، فلا تعبّر سوى عما نريد، والصمت –أو التجريد- أحيانًا من ذهب. أما الموسيقى العربية فقد ظلت مرتبطة بالمادة، وبالجسد، وأقل تعلقًا بالصيغة، وبالكلمة. مع ذلك فلم يغب التجريد كاملاً عن الموسيقى العربية؛ فتلاوات القرآن أحيانًا كثيرة ما تنفصل عن المعنى كليةً، ولا تقدم لنا حتى لحنًا، بل تلاعبًا بالمقام والنغم غير مقيد بالموضوع، وغير موقَّع في كثير من الحالات (انظر نموذجًا لكل ذلك تلاوة القارئ عبد الباسط عبد الصمد لسورة التكوير مثلاً). ومن يناظر تلاوة القرآن من الكلاسيكيين أولئك الشاعريون مثل شوبان، وشوبرت، وشومان؛ فهم –في تُحَفهم للبيانو- يتلون الموسيقى كإلقاء قصيدة النثر، لا يغنونها بالضبط، غير أن أغلب أعمال الشاعريين الثلاثة أقل غنائية من المدرسة المهارية مثلاً، والتي على رأسها مصطفى إسماعيل وعبد الباسط.
وعادة ما يربط الناس سببيًا بين تلاوات القرآن من جهة، وشكل الغناء العربي من جهة أخرى. فهو يختلف عن الغناء الغربي في أنه “كلام”، لا صراخ. أي أنه يستعمل الجهاز الصوتي كوسيلة تواصل بين عقلين، كآلة لُغويَّة، لا كآلة موسيقية، بخلاف الغناء الغربي. وهو ما يتلاقى مع آلية التلاوة، التي تستعمل الصوت كلغة، لا كموسيقَى. عادة ما يلاحظ الناس هذه الظاهرة، فيعتقدون أن تلاوة القرآن هي التي أنتجت شكل الغناء العربي، مع أن العكس هو الأقرب للبداهة. عادة ما ينطبع شكل الإنشاد الديني بالعقلية الموسيقية المنتجة له، لا العكس. انظر مثلاً ترانيم السود في أمريكا، ولاحظ الفرق الكبير بينها وبين ترانيم البيض. انظر مثلاً شكل التلاوة المصرية، وشكل التلاوة في بلاد الخليج حاليًا، مع أن المقروء واحد. ولم ينزَل مع القرآن كتاب ألحان محددة، وطرق تنغيم معينة. انظر الأغنية الدينية في عصر السنباطي، وعبد العظيم محمد، وقارنها اليوم، بل من عشر سنين بأغاني عمرو دياب وإيهاب توفيق الدينية. الأحرى بنا القول أن الغناء العربي، القائم على اللا- سيمترية، وتنوع المقامات، وثقل الألحان، هو الذي أثر في شكل التلاوة بالأساس على الأقل. وهو ما يضاد الفرضية السائدة: أن الإنشاد الديني هو أصل الغناء عند العرب. وهو ما له علاقة بقضية تحريم الموسيقى، الذي كما سنرى كان –على عكس الحدس المباشر- لصالح استقلالها عن سلطة الدين.
فنظرًا للتحريم متفاوت الدرجات للموسيقى في الإسلام، فلم تكن الموسيقى في خدمة المسجد، ولا في خدمة القرآن، وظلت في خدمة الملاهي ومجالس الشراب.[7] تم تحريمها، فتم تحريرها. أما الموسيقى في الغرب، ولأنها لم تكن محرمة بالدرجة نفسها، فقد تم توظيفها سريعًا لخدمة الدين راسفةً في قوالبَ حقيقيةٍ، ومعانٍ مزيَّفة. وكان عليها أن تتحرر على أيدي مجموعة من عباقرة التاريخ الموسيقي، كباخ، وهيندل، وفيفالدي، ومونتفردي، وغيرهم من آباء الكلاسيكية في عصر الباروك، لتخرج من الكنيسة، بعد أن خرجت من الإسلام في القرن نفسه: السابع عشر. ومع ذلك لم تكن الموسيقى الغربية حرة تمامًا في ذلك الوقت. كانت في خدمة القصر عوضًا عن الكنيسة؛ فهو الذي ينفق على تعليم الموسيقيين، وإعانتهم، وتوظيفهم. وكان عليها أن تتحدى القصر، وهو التحدي الأكبر، وأن تنال حريتها على يد نابليون الموسيقى: لودفيج فان بيتهوفن. قدم بيتهوفن مثالاً للفنان الرومانسي القح، الذي يرفع إبداعه فوق كل شيء، ولا يوظفه لصالح أي سلطة. وبرغم معارضته السياسية، وقد كان جمهوريًا يعيش في كنف النبلاء، فإنه قد نجح نجاحًا ساحقًا، غير معتمد فيه إلا على عقله، بعد أن فقد حتى سمعه. ومع الرومانسية اكتمل التحول الكامل للموسيقى الكلاسيكية عبر مراحل ثلاث: من انفصالها عن الحضارة الإسلامية، إلى خروجها من الكنيسة، إلى خروجها على القصر.
6- إسقاط الحائط الرابع في الموسيقى العربية
خرجت الموسيقى الكلاسيكية فعلاً من كل قيد، وتخطت كل سدّ. ولكنها ما أن استقلت، حتى راحت تطوِّق غيرها، وتعزله. وهي ظاهرة واضحة ومهمة في المقارنة بين الموسيقى العربية والغربية. إن جمهور أم كلثوم ملتحم بصوتها، وبحضورها، ويحضر “لها”، أكثر مما يحضر للملحن أو الشاعر أو الفرقة. وهذا أمر طبيعي في الغناء، ولكنه “طبيعي أكثر” في حالة الموسيقى العربية، حيث يحضر بطل واحد هو المغني، في مقابل بطل واحد هو اللحن. وإذا لم يقم الجمهور، ويصفق، ويقاطع المغني، ويطلب إعادة بيتين، كانت حفلة الموسيقى العربية غير ناجحة. أما إذا صفق أحد الحضور بين حركات السيمفونية، اعتبره الآخرون جاهلاً، ومزعِجًا، وربما وضيعًا، ونظروا إليه باشمئزاز ليصمت. إن الغناء العربي حالة فنية عامة، تشمل حتى الجمهور، وتقول بوضوح: أنا لا أقدم لكم واقعًا مزيَّفًا، أنا أقدم الواقع الوحيد، أنا أقدم نفسي كجزء من واقعك. يختلف هذا كثيرًا عن عالم الأداء السيمفوني، وحيث الأوركسترا كون مغلق في ذاته، كأنه غير حقيقي، معزول عن الناس، ومعقَّم من البشرية، وربما من الوعي؛ لأن الوعي الذاتي يتضمن وعي الآخرين بك طيلة الوقت. ومن المنطقي أن تقدم الموسيقى العربية عالمًا كعالمنا، لا يبدو عليه النظام الكامل، ويشترك فيه الجمهور مع الفنان، بعد أن قدمت بناءً لا- سيمتريًّا في الأساس، لا يقوم عليه حائط.
7- ماذا على الموسيقى العربية كي تكون كلاسيكية؟
أولاً: لا يجب عليها ذلك. ولكن يجب عليها أن تتطور في صيغ وأشكال جديدة، وأن تلبي حاجة المستمع الذهني للألعاب الذهنية. على الغناء العربي أن يتطور، لا أن يرجع لأصله، فلا يوجد أصل في التاريخ، فقط توجد حركة مستمرة. على الموسيقى العربية أن تغير إرادة السوق، لا أن تلبي حاجاته. عليها أن تبدع أشكالاً وصيغًا جديدة، لا هي “أصيلة”، ولا هي “حديثة”. الأصالة في الذات، وليست في قديم تاريخي، أو بعيد جغرافي.
ثانيًا: إذا أردنا إنتاج موسيقى تقوم على الاشتقاق، أي “كلاسيكية”، فعلينا أن نفهم أولاً آليات عمل الاشتقاق اللحني، وكيفية توظيفها. علينا أن نقلل دور الإيقاع من جهة، وأن نستثمر الثراء المقامي الذي لا مثيل له في الموسيقى الكلاسيكية الغربية في خلق تعارضات لحنية، كونترابنط، جديدة، ومثيرة.
ثالثًا: علينا أن ننظر باهتمام موسيقي لتلاوات القرآن المصرية والخليجية بمدارسها المختلفات، وأن نحاول تطبيق منطق التلاوة اللحنية، ربما بشكل مختلف عما قدمه الشاعريون الرومانسيون. وهذا تراث موجود، وجاهز للاستثمار، وغير مطروق تقريبًا، رغم أنه كنز حقيقي من الألحان، والحيل الصوتية، والزخارف.
رابعًا: علينا أن نبدأ في الألحان مما انتهى إليه محمد القصبجي، فهو أفضل من قدموا منطق التلاوة في الغناء، مع طابع يجمع بين الشرقي والغربي، في مزيج نادر. نبدأ مما انتهى إليه، لا مما بدأ منه. نفهم كيف كان يركب جمله اللحنية كأنها مناجاة أو حوار هادئ بسيط، وأن نستعيد ذلك الخط، الذي قضت عليه ربما تجربة أم كلثوم.
خامسًا: علينا تطوير نقد موسيقي جادّ، يتحرر من الثنائيات المسبقة للقبول والرفض، ويقدم الأعمال إلى الجمهور، وأن يلعب دورًا ثقافيًا عامًا مؤثرًا، كي يكون له وجود.
سادسًا: علينا أن نقلل من أسطرة القدماء كأم كلثوم وفيروز وأسمهان وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وألا نرفعهم فوق مستوى النقد، كما علينا كذلك ألا نؤسطِر قدماء الغرب، فكلهم وقع في أخطاء، وكلهم قابل للنقد.
سابعًا: علينا أن نفهم ماهية الموسيقى أولاً قبل أن نكون موسيقيين، أو نقادًا للموسيقى. على الموسيقار أن يتأمل خامته، وموضوعه، ورؤيته العامة للوجود، سواء أكانت سيمترية أم لا- سيمترية، قبل أن يضع يده على مادته الفنية؛ لأن مَن لا رؤية له لا وجودَ له، ومن لا وجودَ له لا موسيقى له.
[1] – بدوي، عبد الرحمن: دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، دار القلم، بيروت، ط3، 1979، ص 43.
[2] -Sachs, Curt, The History of Musical Instruments, (written originally in English), W. W. Norton & Company, New York, 1986, p. 337. See also pp. 462-463.
[3] – هونكه، زيجريد: شمس العرب تسطع على الغرب “أثر الحضارة العربية في أوروبة”، ترجمة فاروق بيضون، وكمال الدسوقي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط8، 1993، ص 492.
[4] -بدوي، سبق ذكره، ص 44.
[5] – Farmer, Henry George, A history of Arabian Music to the XIIlth Century, Luzac & Co., UK, 1929, pp. 98-99.
[6] هونكه، مرجع سابق، ص 493-494.
[7] – لمزيد من التفاصيل عن موقف الدين من الموسيقى، من الشرق القديم حتى الغرب المعاصر، انظر: الصياد، كريم: الموسيقى بين التدجين والتوثين، مؤسسة معازف، لندن، 2016.