مقالات

ليو شتراوس وعلم اجتماع الفلسفة – محمد صُفار

مقدمة

طوف عالم السياسة الأمريكي، الألماني الأصل، ليو شتراوس (1899-1973) بمساحات مختلفة من الفلسفة السياسية في أزمنة وأمكنة شتى؛ من الفلسفة الكلاسيكية عند أفلاطون وأرسطو إلى الفلسفة اليهودية عند ابن ميمون واسبينوزا، مرورًا بالفلسفة الإسلامية عند الفارابي وابن رشد، وانتهاء بالفلسفة الحديثة عند مكيافيللي وهوبز وروسو. وقد ظفر من تطوافه الفكري بنموذج نظري للعلاقة بين الفلسفة والمجتمع، أسماه علم اجتماع الفلسفة، وتلك التسمية إشارة لا تخطئها عين لتمايز هذا العلم عن مشروع كارل مانهايم المسمى بعلم اجتماع المعرفة.

ويرى شتراوس أن علم اجتماع المعرفة قد عقد الصلة بين الخبرة الاجتماعية والخبرة الفكرية، فلم يقتصر على دراسة المعرفة في ذاتها، وإنما أخذ يدرس الشروط الاجتماعية لإنتاج المعرفة. وأرسيت تلك الصلة بين الخبرتين على افتراض وجود اتساق بين المجتمع والفكر، بمعنى تشجيع المجتمع لإنتاج الفكر وعدم إعاقته، بفضل شمول عملية التقدم لجوانب الوجود الإنساني. ومن ثم اقتصر علم اجتماع المعرفة على دراسة الإنتاج الفكري للمجتمعات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، حينما سار التقدم الفكري جنبًا إلى جنب مع التقدم الاجتماعي في ظل الحكم الليبرالي. وفي مقابل ذلك يتخلى شتراوس في علم اجتماع الفلسفة، حينما يعقد ذات الصلة بين الخبرتين الاجتماعية والفكرية، عن مسلمة الاتساق بين الفكر والمجتمع أو بين التقدم الاجتماعي والتقدم الفكري، ومن ثم تصبح العلاقة نفسها بين الفكر والمجتمع قضية إشكالية عند شتراوس؛ فهل يحظى الفكر باعتراف المجتمع وتشجيعه أم هو محل إنكاره واضطهاده؟ ولذلك يدرس علم اجتماع الفلسفة العلاقة بين الأفكار والأنواع المختلفة للمجتمعات، في أحقاب وأماكن مختلفة، خارج الغرب الليبرالي في القرنين الماضيين.

وفي حين اعتبر علم اجتماع المعرفة، برأي شتراوس، أن الفلاسفة ينتمون إلى طبقات اجتماعية مختلفة، بحيث تعبر أفكارهم وفلسفاتهم عن رؤى ومصالح الطبقات أو الإثنيات أو المجتمعات التي ينحدرون منها، أي أن ما يجمع الفلاسفة مع غير الفلاسفة في مجتمعاتهم أقوى مما يجمعهم مع إخوانهم الفلاسفة في المجتمعات الأخرى، نلفى شتراوس في علم اجتماع الفلسفة وقد اعتبر أولئك النفر من الفلاسفة يشكلون طبقة أو كيانًا متمايزًا من دون الناس، فيدور بينهم حوار لا ينقطع عبر الأمكنة والأزمنة المختلفة؛ أي أن ما يوحد هؤلاء الفلاسفة في الأزمنة والأمكنة المختلفة أكبر وأهم بكثير مما يجمعهم مع غير الفلاسفة في مجتمعاتهم. ومن ثم يرى شتراوس أن تناول ودراسة الفلسفة الكلاسيكية (الأفلاطونية-الأرسطية) يستلزم تبني علم اجتماع الفلسفة، لأن هذا الأخير يناسب الأحقاب والأماكن الأخرى غير الغرب الليبرالي في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثلما في حالة الفلسفتين اليهودية والإسلامية، وكذلك الفكر المعاصر القائم في ظل الحكومات غير الديمقراطية أيضًا. وهكذا وضع ليو شتراوس شروط نموذجه المعرفي وحدوده، وبالتالي حدد لنا إمكانية أو عدم إمكانية استخدامه في دراسة هذه الحالة أو تلك.

الاضطهاد أو العلاقة الإشكالية بين المجتمع والفكر في إطار علم اجتماع الفلسفة

يلخص مفهوم الاضطهاد الطبيعة الإشكالية للعلاقة بين الفكر والمجتمع بعد استبعاد مسلمة الاتساق بينهما، وتلك العلاقة الإشكالية هي الشرط الاجتماعي لإنتاج الفلسفة عند شتراوس. ووفقًا له فالاضطهاد هو مصادرة حرية الفكر، التي تعني القدرة على الاختيار بين الآراء المختلفة التي يقدمها المفكرون أو الكُتاب، مما يدمر الاستقلال الفكري للمجتمع. ويُمَارَس الاضطهاد بالمعنى السالف من أجل إعلاء شأن تلك الآراء التي يعتنقها أصحاب السلطة إلى مستوى الحقيقة المطلقة، تمهيدًا لاعتناق كافة المحكومين لرأي السلطة، ومن هنا ضرورة أن يتم إسكات آراء المخالفين لها قبلًا. وبهذا المعنى يرسي الاضطهاد ما أسماه شتراوس في موضع آخر من أعماله بالمعضلة السقراطية، وتتعلق تلك بحدوث تعارض بين المسلمات التي يتأسس عليها نظام الحكم ومبادئ الحقيقة التي يتم الوصول إليها بإعمال العقل، مما يجعل الفيلسوف بإثارته للتساؤلات حول تلك المسلمات المفروضة من السلطة يخلخل أساس شرعيتها، ومن ثم تصطدم السلطة معه وتضعه في صف أعدائها. ويمكننا إضافة إلى ما ذكره شتراوس عن المعضلة السقراطية القول إن تلك المعضلة لا تقوم في المجتمعات الاستبدادية التي تصادر حرية الفكر والتعبير فحسب، وإنما توجد في أي مجتمع مهما كان شكل الحكم فيه، حتى ولو كان مجتمعًا ديمقراطيًا تعدديًا، لأن الفكر حينئذ سوف يخلخل فيه أساس الحكم، الذي يرتبط بالمصالح السياسية والاقتصادية للقوى الحاكمة ويخدمها. والدليل على ذلك أن سقراط نفسه، الذي أطلق اسمه على تلك المعضلة، قد اتهم بتحدي الآلهة وإفساد الشباب، بل حوكم وأعدم في أثينا؛ منارة الديمقراطية في العالم القديم.

ويضم الاضطهاد نطاقًا واسعًا من الظواهر، أعلاها محاكم التفتيش عن الفكر والمعتقد كما حدث في إسبانيا بعد خروج المسلمين منها، وأدناها المقاطعة الاجتماعية كما حدث لسبينوزا مثلًا، وبين هذين النوعين من الاضطهاد يزخر تاريخ الفكر والأدب بأنواع شتى، كما حدث في أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد أو في بعض البلدان الإسلامية في العصور الكلاسيكية، أو في هولندا وانجلترا في القرن السابع عشر أو في فرنسا وألمانيا في القرن الثامن عشر. ولعل لمحة من سير بعض المفكرين البارزين لتكشف أنهم خضعوا لهذا الشكل أو ذاك من الاضطهاد في جانب من حياتهم، مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن سينا وابن ميمون وديكارت وسبينوزا وهوبز لوك وروسو وكانط.

ولا بد من التأكيد في هذا المقام أن الاضطهاد الديني والسياسي لم يكونا متطابقين بالضرورة برأي شتراوس، ففي بعض العصور أو البلدان سُمح بحرية العبادة والاعتقاد ولكن دون حرية الفكر والبحث، وكذلك يشير شتراوس إلى أن الاضطهاد قد لا يكون مصدره السلطة الحاكمة، بل ينبع من المجتمع ذاته. فخبرة القرن السابع عشر في أوروبا تشير إلى السلطة كمصدر للاضطهاد، حينما عمد بعض المفكرين إلى نشر آرائهم ليس بغرض الذيوع، ولكن من أجل تحطيم القيود والمحظورات ورغبة في الوصول لزمان يعيشون فيه الحرية الكاملة للتعبير، أي في زمن تتلاشى فيه المعضلة السقراطية. لكن خبرة مفكرين آخرين تشير إلى ضرورة إخفاء آرائهم من الجميع، حتى لو لم يكن لهم خلاف مع السلطة، إلا من ضربائهم من الفلاسفة، بسبب وجود تلك الفجوة بين القلة الحكيمة والعامة، التي تستند إلى حقيقة أساسية في الطبيعة الإنسانية، ألا وهي التفاوت في المقدرات الفكرية بين الناس. ويجعل كل ذلك الحكمة والسعي وراءها ومحبتها امتياز القلة، كما يجعل الحكمة أيضًا موضع تشكك وكراهية غالبية الناس، الذين لا يفهمونها دائمًا بحكم تكوينهم واستعداداتهم. ويمكننا التدليل على صحة هذا الذي ذكره شتراوس بالقول إن ذلك تحديدًا هو ما فهمه الفارابي مثلًا بخصوص فلسفتي أفلاطون وأرسطو، وذلك عبر تفسيره للجوئهما إلى إضفاء الغموض على كتابتهما، سواء بالرموز والألغاز في محاورات الأول أو بالإفراط في التقسيم والتصنيف في حالة الثاني، بما يجعل الغموض مكونًا رئيسًا لفلسفتهما، إذ أنهما ينطلقان من التعريف نفسه للفلسفة.

ويؤكد شتراوس في هذا السياق أن مصادرة الاضطهاد لحرية الفكر لا تستطيع منع التفكير المستقل ولا حتى التعبير عن التفكير المستقل، لأن صاحبه يستطيع القيام به على الملأ دون أن يلحقه أذى، ولكن بشرط التصرف بحيطة وحذر، بمعنى أن يكون قادرًا على الكتابة بين السطور، وهي الموضوع الرئيس لعلم اجتماع الفلسفة بحسب شتراوس.

فن الكتابة بين السطور

إن الاضطهاد يجبر الكاتب على تطوير فن للتعبير عن آرائه وأفكاره، يسميه شتراوس فن الكتابة بين السطور، بحيث يعبر الكاتب عن مكنون آرائه من خلال الصور والتشبيهات، دون أن يخشى التعرض للعقاب. فالكاتب، أي كاتب بنظر شتراوس، حينما يقف في موقف الاضطهاد، تصير أمامه ثلاثة بدائل: فإما أن يتحدث بصراحة ويتحمل عاقبة ذلك من سجن أو تعذيب أو قتل، أو أن يطبق شفتيه على مكنون صدره ويصمت تمامًا، وهو بمثابة موت معنوي للكاتب في مقابل الموت الحقيقي في حالة البديل الأول. ولكن هناك بديلٌ ثالث أمام الكاتب، وهو الكتابة بين السطور، وفيه يجمع بين النقيضين، فيتحدث الكاتب ويسكت في الوقت ذاته، بحسب المتلقي، دون خوف من عقاب.

وحتى نفهم مقصود شتراوس فهو يعطينا مثالًا تخيليًا أو يصمم لنا تجربة فكرية على النمط الأفلاطوني، ويوقفنا ذاك التدريب الذهني على إمكانية تطبيق النموذج النظري الشتراوسي بمجرد توافر شروطه في الواقع، أي واقع كان، حتى لو كان ذلك في غير العصر الذي جُرد النموذج منه، وثبتت فيه صلاحيته النظرية وقدراته التفسيرية. يدعونا شتراوس لأن نتخيل مؤرخًا مرموقًا في بلد شمولي، وهو في الوقت ذاته عضوًا في الحزب الواحد، ويعلم ذلك المؤرخ أن أحدًا لن يمنعه من نشر هجوم على الليبرالية بل سيُشجَع على ذلك، ترويجًا للأيديولوجيا الحاكمة. ثم يدعونا شتراوس مرة أخرى إلى تخيل أن الهجوم الذي سيشنه صاحبنا على الليبرالية تحت رقابة الحزب، سيوجب عليه منطقيًا قبل ذلك أن يعرض لها، ولسوف يقوم بهذا العرض بطريقة تقنية باردة مملة، عن طريق استخدام الكثير من المصطلحات وإيراد العديد من الاقتباسات والدخول في كم هائل من التفاصيل. ولكن صاحبنا عندما يصل إلى قلب الأطروحة الليبرالية، نجده قد كتب ثلاثة أو أربعة أسطر بأسلوب رائع مشوق، يأسر لب الشباب المتعطشين للتفكير الحر المستقل، بحيث يمكن للقارئ الشاب أن يسترق نظرة للثمرة المحرمة، بتعبير شتراوس. وبعد ذلك مباشرة، وللتغطية على ما حدث، نجد صاحبنا يشن هجومًا صاخبًا على الليبرالية، باجترار تصريحات قادة الحزب وباستخدام الكتب والبيانات الصادرة عن الحزب. وسيكون طعم ذلك مروعًا مقززًا، خصوصًا بعدما التذّ القارئ بمذاق الثمرة المحرمة. ويؤكد شتراوس في سياق هذا المثال التخيلي أن القراءة الثانية والثالثة لذلك الكتاب في ذم الليبرالية، سوف تكشفان للقارئ المتيقظ عن أمور إضافية، تسر له بالمعنى الحقيقي للعمل، كترتيب الاقتباسات والتفاصيل المملة والاستطرادات المطولة وغير ذلك من الحيل الأسلوبية.

ويرى شتراوس أن فن الكتابة بين السطور، الناتج عن الاضطهاد، أفضى بدوره إلى ظهور لون معين من الأعمال، هو الكتابات الباطنية (exoteric writings)، التي تحتوي على مستويين أو نوعين من التعاليم: البرانية الذائعة والمقبولة الملقاة على السطور، وتشكل الطبقة الظاهرة أو السطحية للمعنى في العمل؛ والجوانية الفلسفية وغير المقبولة الكامنة بين السطور، التي تشكل الطبقة العميقة والباطنة للمعنى في العمل. وفي بعض الأحيان يتم إخفاء الحقائق الهامة، كما يؤكد شتراوس، ليس في الطبقة الباطنة، ولكن عن طريق تعمد ذكرها بصورة صريحة واضحة أمام الجميع، أي في الطبقة الظاهرة السطحية، كأن تساق الكلمات على لسان شخصية هامشية سلبية، كمتسول أو فقير أو سكير أو مجنون، للتمويه بأن الكاتب يستنكر ما ورد على لسان تلك الشخصية، وهو في الحقيقة يبوح برأيه من خلالها.

ويمكن لنا في ضوء ما ذكره شتراوس عن طبيعة تلك الكتابات الباطنية، إيراد أمثلة على تلك الكتابات، كجمهورية أفلاطون، ورسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا، وكليلة ودمنة لابن المقفع، والشهب اللمعة في السياسة النافعة لابن رضوان، ومختصر السياسة لابن رشد، وإغاثة الأمة بكشف الغمة للمقريزي، والرسائل الفارسية لمونتسكيو، والجيش والمجتمع لأنور عبد الملك، وجل أعمال حسن حنفي.

ويذهب شتراوس إلى أن من مزايا هذه الكتابات الباطنية، بسبب طبيعتها وبنيتها، أنها ليست مفتوحة أمام الكافة، ولكنها للقراء الأذكياء والموثوق بهم فقط، فهي تتمتع بمزايا الاتصال الخاص، بمعنى السرية والخصوصية، وفي ذات الوقت تتمتع بمزايا الاتصال العام، بمعنى الانفتاح والعلانية ولكن من دون عقاب. والحقيقة أن الجمهور المخاطب لهذه الكتابات، برأي شتراوس، لا يشمل غالبية الناس من غير الفلاسفة، بل إن الفلاسفة المحترفين أنفسهم ليسوا مخاطبين بها، ولكنها تخاطب الشباب اليافع الذي يودّ لو صار فيلسوفًا؛ أي تتوجه إلى أصحاب قابليات التفلسف الذين يريد الكاتب أن يأخذ بأيديهم بعيدًا عن الآراء الشائعة نحو الحقيقة. ولو جاز لنا استخدام مفردات أرسطو للتعبير عن وظيفة تلك الكتابات لقلنا إن هذه الكتابات الباطنية تخاطب أولئك الفلاسفة-بالقوة وتهدف إلى إخراجهم من حيز الوجود-الفلسفي-بالقوة إلى الوجود-الفلسفي-بالفعل، ليصبحوا فلاسفة-بالفعل.

فن القراءة بين السطور

إن فن الكتابة بين السطور يستلزم بالضرورة المنطقية والعملية وجود فن مقابل للقراءة بين السطور، فكما تشفر الأفكار وترمز بواسطة الفن الأول لا بد من فك الرموز والشفرات من خلال الفن الثاني، وبخلاف ذلك تضيع الأفكار والمعاني للأبد وتفقد الرسالة الاتصالية، بدلًا من إخفائها مؤقتًا عمن يراد إخفاؤها منهم.

ويقدم لنا شتراوس مجموعة من القواعد الإرشادية لعملية القراءة بين السطور، ومن دون تلك القواعد يتحول الأمر برمته إلى تكهنات ظنية لا أصل لها، ومجرد إسقاط لآراء وأهواء القارئ على النصوص. واستنادًا لهذه الطبيعة الإرشادية لقواعد أو بروتوكولات القراءة، فضلًا عن كونها مستخلصة من النصوص الفكرية، التي تناولها شتراوس في درسه وتدريسه، يتسنى لنا تعديلها أو استبدالها أو الحذف منها أو الإضافة إليها، بحسب الحالة موضع التناول، بمعنى ملامح النص الفكري ذاته، والعصر الذي تم تأليفه فيه، والظروف التي تعرض لها مؤلفه، والجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، وطبيعة الموضوع الذي يتناوله والنقاشات الدائرة حوله.

وتبدأ تلك القواعد الشتراوسية في القراءة بتحذير واضح، إذ يحظر بشكل صارم قراءة ما بين السطور حينما تكون أقل دقة ومنطقية من قراءة المعنى الظاهر للنص، وهو ما يعنى ضرورة وجود أساس نصي للقراءة بين السطور، وباستخدام لغة المجاز فلا يمكن قراءة المكتوب بين السطور قبل قراءة المكتوب على السطور أصلًا. وكذلك لا بد من فهم السياق التاريخي للعمل وطابعه الأدبي وبنيته قبل ادعاء القيام بأي تأويل للنص، سواء كان صريحًا أو محتملًا، ذلك أن الشكل له أهمية المضمون نفسها كوسيط اتصالي ينقل المقصد والمضمون معًا. وبعد ذلك تبدأ عملية القراءة بتدبر كافة الاحتمالات المعقولة لفهم النص أو المقطع محل التناول، مثلما كان يحدث أثناء عملية كتابة وإعداد النص عندما كان الكاتب يفكر في إحداث تبديل أو إضافة أو حذف للنص، ويدخل في ذلك أن تكون السخرية في حد ذاتها هي مقصد النص. ويعنى ذلك بحسب فهمنا أن شتراوس يقصد أن يضع القارئ نفسه في موضع الكاتب أو يتقمص شخصيته وقت الكتابة، حينما كان الكاتب ذاته يستعرض كافة الاحتمالات المنطقية المتاحة أمامه وهو يتناول موضوع النص، وذلك حتى يمكن للقارئ تبين مضمون النص ومقصد كاتبه.

وتستلزم عملية القراءة برأي شتراوس تعليق فكرة المصادفة، بمعنى وجود أي شيء في النص لا يقصده الكاتب أو يريده، ويستتبع ذلك النظر إلى الأخطاء المعيبة في النص، التي لا تليق بتلميذ مبتدئ، ناهيك عن كاتب مرموق أو مفكر له وزنه، باعتبارها أمورًا مقصودة. وتدعم فكرة وجود أخطاء مقصودة من قبل الكاتب، حينما يناقش الكاتب في النص موضع التناول أو في نص آخر له إمكانية قيام الكاتب بأخطاء مقصودة، كالغموض في الأسلوب، والاستطراد والخروج عن السياق، وإيراد التفصيلات المملة، ورداءة الأسلوب وجفافه، والانقطاع بين المقدمات والنتائج، ووجود تناقضات. ويعنى هذا أن شتراوس يطبق على النص بروتوكولات القراءة نفسها التي استخدمها كاتبه في قراءة الأعمال والنصوص الفكرية الأخرى التي استعان بها في نصه. وينبغي على القارئ في حالة وجود تناقضات داخل العمل أو بين أعمال مختلفة للمؤلف ذاته أن يكون بإمكانه الترجيح بين: احتمال أن يكون التناقض دليلًا على حدوث تغير في آراء المؤلف، وهو أمر غير مستبعد؛ أو احتمال أن يكون التناقض مقصودًا للفت نظر القارئ المتيقظ إلى معنى مستتر ووضع التناقض كعلامة دالة عليه.

ويتعين على القارئ أن يفصل بين آراء المؤلف وآراء شخصية أو أكثر من الشخصيات الواردة في العمل، إلا ببرهان ودليل، فليس بالضرورة أن يتطابق الرأي الحقيقي للمؤلف مع ما يعبر عنه في أكبر عدد ممكن من المقاطع في العمل. ويتضح لنا هنا الاختلاف بين قراءة شتراوس وأداة تحليل المضمون التي تعتمد على عدد مرات ورود اللفظ أو العبارة في النص كأساس لنسبة فكرة معينة لمؤلف النص. ويجوز لنا أن نضيف قاعدة إلى قواعد شتراوس تتعلق بالاهتمام بالصور المجازية كمدخل لفهم النص، سواء أفكاره أو بنيته الشعورية، لأنها تخفي وتشير لمضامين يقصدها الكاتب ويسترها تحت الصورة المجازية. والحقيقة أن قراءة الأعمال الفكرية، مثل مقال في المنهج لديكارت أو مشروع السلام الدائم لكانط أو حتى كتاب الأمير لمكيافيللي، لتكشف بالفعل عن وجود صور مجازية في منتهى الأهمية، من حيث دلالتها على مقصد المؤلف ومضمون النص.

أخيرًا ينبه شتراوس إلى أن القراءة بين السطور كمنهج للتعامل مع النصوص لن يقود إلى تصفية الخلافات بين الدارسين حول فهم معاني النصوص والوصول لاتفاق فيما بينهم، لكن هذا لا يعني رفض تلك القراءة لأن الاتفاق لم يتحقق بينهم أصلًا، بواسطة الأساليب المستخدمة في التعامل مع النصوص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى