في سِير المرض والألم

الألم توأم الحياة، كلنا حقائب تملأها الحياة بالآلام، والراحة في عدد الثقوب التي يُمكننا فتحها في حقائبنا، ليتدفق منها الألم والحزن بعيدًا.
الألم لا يوصف، فقط يُعاش. ولا يمكن مشاركته مع الآخرين بنفس الكفاءة، فأحاسيسٌ سطحيّة تلك التي يدركها غير المريض عن المريض، ولو جلس بجوار المريض مئة عام. فـ”الشخص الآخر لا يمكن أن يحسّ بآلامي” كما يقول فيلسوف القرن العشرين فتغنشتاين. مهما قال لك شخصٌ أنه يتألم ومهما حاولت تفهّم حاله، فلن تدرك ما يعنيه إن لم تكن قد عانيت ألمًا مثل ألمه. فالمرض عصيٌّ على التمثّل. في “خارج النافذة بقليل” يقول حيدر قحطان على لسان نحّات إيراني: “أربعون سنة وأنا أصنع أشكالًا مختلفة، لم يصعب عليّ أي شيء أبدًا. عدا الألم، إلى الآن لم أستطع تحديد شكل معين له”.
الألم صرخة في وجه الفصل المتعسف بين الروح والجسد ورفض للتوضيب السوريالي بينهما. فالألم ليس مجرد خلل عضوي، بل مزج بين الجسد والمعنى، ومواجهة حدث جسدي مع عوالم المعاني والقيم.
والقراءة في سِيَر الألم درسٌ بليغ في كيفية التعامل مع أحزاننا وآلامنا، وخطوة أولى لمحاولة التعاطف مع الآخرين في آلامهم، فليس الأمر على إطلاق قول البشير الإبراهيمي: “من لم يُحسَّ بالألم؛ لم يُحسِن إلى المتألمين”، وخطوة مهمة جدًا لتقدير الصحة والعافية التي نرفل بها، وتذكير دائم بحق شكر الله عليها.
***
خمسة وعشرون عامًا قضاها أخي أكرم في قمة النشاط والعمل بمجالات متعددة، حتى صار لاعبًا للمنتخب الوطني لألعاب القوى والمغامرة. في إحدى البطولات الخليجية، شارك أخي في إحدى ألعاب التحمّل التي تتطلب القفز والدخول في وسط دائرة حديدة مشتعلة، والخروج منها، لكن رجله علقت في الدائرة الثالثة وسقط على رأسه؛ فتوسّد الأرض مشلولًا شللًا رباعيًّا لا يُحرّك إلا رأسه.
دخل أخي رحلة علاج طبيعي طويلة بعد أن أبلغه الأطباء أن الطب الحديث لم يصل بعدُ لعلاج حالته، وأن خياره الوحيد هو العلاج الطبيعي، والذي أعاد له بعد سنتين بعض الحركة اليسيرة في يديه؛ مكّنته من قيادة العربة المتحركة. خرج من المستشفى وقد ابتكر طريقة الرسم بالرأس، وهو الذي لم يكن يرسم سوى خربشات في حصص الرسم المدرسية، فرسم لوحات كثيرة وأقام معارض فنيّة، وأهدى لوحته إلى الملك سلمان عندما افتتح أحد المعارض التي شارك فيها.
رفض أكرم القعود في السرير والخمول والانطواء على الذات، بل أصرّ على فتح مشاريع تجارية رغم معارضة الكثيرين له، وأدار وهو على كرسّيه أكثر من خمسين موظفًا وموظفّة. لم أره يومًا وقد تمكّن منه اليأس، رغم تغلغله في جلّ من حوله، إلا إنه بات الشخص الذي يثير التفاؤل والنشاط في الخاملين معنويًّا المعافين جسديّا.
كنتُ أتهرب من قراءة سيَر المرض والألم، لكن رأيتُ أن على الروح أن تحتمي بنضال أصحابها وكفاحهم، وتستذكرها حين تعصف بها رياح الأمراض والمصائب، فالتوجّه الذي يختاره المرء قبل المرض يؤثر في طريقة تلقيه والتعامل معه. هنا شيء من التأملات حول بعض هذه السِير.
أيوب عصره
تقيس السنواتُ عمرَ الجسد، وتقيس الآلام سنوات الروح. وإذا كانت الولادة الأولى موحدّة بين البشر، فالولادة الثانية يستفرد بها الموجوعون، يخرجون من رحم الآلام بأرواح أخرى وأجساد أخرى.
بولس سلامة قاضٍ وأديب لبناني، وإن شئت قلت متفلسف أيضًا، كتبَ أكثرَ سيرةٍ عربية تقطر ألمًا. عشرون سنة عاثت بين مباضع الجراحين في جسده، وبينما يبيّن المؤلفون ما أضافوه من أفكار إلى كتبهم في مقدمات الطبعات اللاحقة منها، يكتب بولس سلامة مقدمةً لطبعاته اللاحقة فقط ليزيد عدد العمليات الجراحية التي دخلها.
ألمٌ مكتظ، لا يزيد عليه سوى إيمان الكاتب وطمأنينة قلبه ورضا نفسه بحاله، فيكتب سيرة ألمه دون تأوه وآهات، “لأني أربأ بنفسي أن أروحَ غمامةً سوداء في بالك الصاحي وأجوائك البواسم”، يكتب رحلته في المستشفيات الخمسة، باختصار وإيجاز مع إنارة الحوادث بقبس فلسفي، وتلطيف المأساة بخلع بعض الهزل عليها؛ اجتنابًا للحديث المتشابه والنغم الواحد، وانسياقًا مع الحياة بهزلها وجِدّها.
يشح المريض بالحديث عن مرضه أمام من لا يأبه به، فكيف بمن يسخر به، وهذا ما دفع بولس للتمنّي بألا يقع كتابه في يد غني بطر، أو لئيم أشر، أو حديث نعمة رين على بصيرته، أو موظف سيج على قلبه بالبذخ والكبرياء، لأن هؤلاء يتخذون من آلامه هزؤًا وفكاهة، وينظرون إلى الأشقياء من علٍ. ويتوجّه بكتابه هذا إلى القراء عمومًا والمرضى والمتألمين خصوصًا؛ فهم أجدر الناس بهذه الفصول، لعله يكون عزاء لقلوبهم الكسيرة، كما يدعو الله بأن يعصم هذه الصفحات المطهرة بالعذاب من الهوان بين الأيادي الزهمة، وأن يصون حروفها من المرور في الحناجر الفواجر، والعبور في خواطر موتى الشعور والضمائر.
تتناوب فصول الكتاب بين أخبار زياراته للمستشفيات وقصصه مع الأطباء والممرضات، وتأملات فلسفية عن مواضيع لها علاقة بما يتحدث عنه، مع وعيه بأن طريقته هذه على غير عادة السير الذاتية المقصورة عادة على حياة المؤلف بعيدًا عن التنظير في المواضيع العلمية، إلا أنه آثر إدارة الحديث بين العام والخاص، والفردية والإطلاق، ليخرج القارئ من الكتاب وفي نفسه عبرة لمعتبر، وعزاء لأسيان، مطلعًا على مشاكل الحياة ومعانيها.
بعد تصدير الكتاب بدأ الفصول بمقدمة في الألم، بعدّها من أمهات المشاكل الكونية، وقد تكون سببًا في فقدان الإيمان، إذ هي ملازمة لوالدتها مشكلة الشر التي أرّقت الفلاسفة والعلماء، فرأى أن الأولى من قول ديكارت “أنا أفكر إذًا أنا موجود”، أن يُقال: “أنا أتألم إذًا أنا موجود”. يدافع في هذا الفصل عن إيمان كبار الفلاسفة بعدما اُتهموا بالإلحاد والكفر، ويرى “إجماعهم على الاعتقاد بخالق وإن اختلفوا في الكيفية وتنازعوا في التفاصيل”، وما همّه من ذلك سوى تصحيح تصورات القراء، وتوجيههم إلى الركن الأوحد لهذا الكون وهو الله، “حينئذ لا يكون مدار الكتاب رجلًا تألم بل رجل يحب أن ينتفع الناس بآلامه متطلعين معه إلى دنيا الحق”.
الألم سؤال المعنى الأكبر. في قصة “موت إيفان إليش” لتولستوي تحضر إحدى الشخصيات مصابةً بمرض عنيد، لم تستوعب هجوم هذا الألم الدائم والعنيد مع حسن سيرته، فيتساءل: “أصبحت المقاومة مستحيلة، ولو أنني فقط استطعت أن أفهم لماذا كل هذا؟ فحتى الجواب بات متعذرًا، كان من الممكن أن نشرح الألم لو أني لم أعش كما يجب، لكن وما دام الأمر غير ذلك، فهذا غير مقبول”. كانت هذه الأفكار تخالجه وهو يتذكر شرعية الاستقامة وأدب حياته. هكذا يبقى الألم مذكرًا بالهشاشة المعنوية للإنسان وضرورة الاعتماد على الإجابات المتعالية على التفكير البشري القاصر المفترض أحقيته بحياة سليمة ورفاهية دائمة. تدل القصة على عقلية الإنسان المترسخة حتى في الوقت المعاصر والتي تفترض أن الألم هو مصير العصيان والفسوق، والإحساس بالظلم المرافق للألم عند من يرى في نفسه سلامة السيرة والسريرة، وكأن الآخرين أولى بمُصابِه منه.
يؤكد بولس سلامة في فصل مشكلة الألم أن “في جملة النواميس الطبيعية رد الفعل. فالإغراق في الضحك يسيل الدموع، وكذلك الإغراق في التفاؤل يثير المبالغة في التشاؤم”، وأن “الألم واقع لا ريب فيه، ومن أنكره فقد أنكر الشمس في الظهيرة”، كما أن أفضل الحلول لعقدة الألم هي فكرة الصبر والإذعان، وفكرة التضحية والحب.
أطلق على نفسه لقب “أيوب العصر الحديث”، عاقدًا مقارنة بين ما حلّ بنبي الله أيوب وما أصابه من بأس ونصب وكيف كانت معاناته أكبر، “أما أنا يا أيوب وبعد أربع عشرة سنة لقيت فيها الموت ألف مرة وذقت فيها من العذاب ما لو سمعت به أذنك لندّت عن رأسك هلعًا ولمادت بك جبال حوران فزعًا”. وأرى أن بولس سلامة يتشارك مع الشاعر الفرنسي هنري ميشو الذي يصف نفسه “رياضيّ الآلام” بقوله: “لا يريد الألم إلا أن يكون جزءًا مني، يقتلني ويتمدد فيّ، يريد أن يكون مدينتي، وأنا الساكن الوحيد فيها، يريد أن يحكمني ويثمل بي”.
قَدَرُ بولس أن جاء في عصر لم يصل فيه الطب مبلغًا عاليًا، فاستعصى عليهم اكتشاف مرضه، وأصبح عرضة لتجريب الأدوية واستراتيجيات العلاج، حتى بلغ بهم الحال أن وضعوا الدود في جسده أملًا في أن يقضي على المهترئ من اللحم والعظم، مهتديًا بالغريزة إلى مرعاه، وبعدما يسمن ويكبر يستحيل إلى حشرة تطير بجناحين. وعاصر اكتشاف البنسلين ودفع ما يقدر عليه من أموال باهظة للحصول على بضعة حقن، لكنها لم تجدِ نفعًا، واستزاد على نفقة بعض المتبرعين، حتى وصل مجموع الحقن -ليس من البنسلين وحده- التي خزت في جسده يربى على عشرة آلاف إبرة! فكان خير مثال على بيت المعري: (رُب قبر قد صار قبرًا مرارًا ** ضاحك من تزاحم الأضداد)؛ وعادت الإبرة إلى مغرزها الأول مئات المرات.
ودّعَ سلامة صفو العيش وهو ابن الرابعة والثلاثين، قاضي تحقيق في طرابلس بلبنان، نضير الشباب فياض العافية، صليب العضل، مشبوب الفتوة، ولكن الضربة كانت أقوى من كل هذا. دخل الألمُ خفيةً في يوم حار على جسد رطب من هواء شباك مكسور، فبدأت الحمى التي ألزمته الفراش شهرين كأنها عامين، واستمرت الأوجاع مع عجز الأطباء القبض على أسبابها، وتزايدت الفحوصات وصور الأشعة التي لو جمعت لضاهت بعددها رسوم أكبر المشاهير.
أُنس السرد والكتابة
بعد رحلة طويلة في العمل مع الشباب والترحال بين البلدان في سبيل استقطاب أبرز الممارسات في رعايتهم، ولتحقيق أعلى المعايير في تقديم البرامج المناسبة لهذه الفئة، انتهى به الحال طريح الفراش مشلول الأركان في مستشفى أكسفورد، يحارب المرض بتسجيل رحلته في جهاز تسجيل، ليُفرّغه بعد ذلك صديقٌ له في كتاب يهز الوجدان، بعنوان “النيل يجري في دمي”، وبعنوان فرعي “ذكريات إنسان يتحدى المرض”.
بحثتُ كثيرًا حتى اهتديت لمعلومات عنه، فتشابه اسمه مع موسيقار من بلده حرمه من تدوين سيرته في مواقع المعلومات، وصراعه مع الأدباء واختلافاته مع السياسيين كانت سببًا في تغييب اسمه عن الساحة الثقافية، وكأن ابتعاده البدني أواخر حياته إلى بريطانيا كفيل بإبعاده عن الذاكرة الاجتماعية.
كاتب مصري سطّر العديد من التقارير والمقالات الصحفية، بل وأبدع عددًا من الروايات والمسرحيات حققت نجاحات باهرة على أرض المسرح المصري، وتقلّد مناصب سياسية رفيعة في عهد عبدالناصر، أين هو الآن؟ أسعفتني مكتبات الأوزبكية التي له معها رحلة طويلة في التعرّف على سيرته، بعدما وجدتها في إحدى زواياها، ويقابل نكران العرب لأدبائهم اعترافُ السوربون بسيرته هذه وترجمتها إلى الفرنسية، بل وإقرارها لطلابها، بينما لم أجد من كتب عنه في مجلة أو صحيفة مرموقة.
الكاتب هو فتحي سلامة، تلميذ طه حسين وسهير القلماوي، رفيق يوسف إدريس وحبيب توفيق الحكيم، وأستاذ عدد من الأدباء الذين برزوا من فعالياته الشبابية التي كان يرأسها، يحكي رحلة ألمه، وتموجات النيل في دمه، وصرخات الأطباء له بضرورة استمراره في محاربة المرض، بطريقة بديعة يتنقل فيها بين أزمان وأماكن في انسيابية وإتقان.
بدأ السرد بقصة استعادته من عنبر الموتى، بعدما ظنّ الأطباء انتهاء حياته، حتى فَطِن له أحدهم وأعاده إلى غرفة المرضى، ليستعيد معها ذكرياته بمختلف مراحل حياته، طفولته السريعة، ومراهقته العصيبة، ودراسته الجامعية التي بدأ معها العمل والاعتماد على الذات والمكافحة لإثبات كفاءته لأهله الذين طالما شككوا فيها، وعمله بعد ذلك في مراكز الأحداث وخدمة المجتمع، وتأهيل الشباب ورعايتهم، مرورًا بعلاقاته الشخصية والعاطفية، وزوجاته الثلاثة، ولا يمكن إغفال أحلامه التي تطغى على واقعه بعض أيامه، فإن أُعيث جسده كاملًا، فما زال يملك عقلًا يحلم ويعيش ويصلي به، بل ويقود المعارك.
عمليات جراحة قلب، وفتح صدر عدة مرات، وخرم الرقبة بأنابيب، ومآسٍ أخر يمر عليها سريعًا إلى ذكرياته الأثيرة؛ مستأنسًا بها عن واقعه المرير، ومستعرضًا حكايا رفاق المستشفى من العرب والغرب، متأملًا أحوالهم وساخرًا من آرائهم. تتشكّل حياة المريض بناء على مرضه.
كان شخصًا لا يقبل الحرب والنضال، يهرب دائمًا عندما تسوء الأمور، لا يحب المواجهة والثأر، حتى هرب من المستشفى بعدما ساءت حالته ليُجبر بعد ذلك على مستشفى آخر، “عندما أشعر بأنهم يحاربوني أرفع رايتي البيضاء وأهرب”، هذا ما انتهى إليه بعدما “حاربت، حاربت كل حروب مصر، وكل حروب جيلي الذي مات قبل أن يولد، حاربت القهر، والظلم والغلاء وقلة الحيلة، حاربت مع عبدالناصر حتى انخلع قلبي، وحاربني عبدالناصر في لقمة عيشي وحاصرني حتى كدت أفقد حياتي، وجريت إليه.. إلى الله”.
خمسة وثلاثون عامًا وهو يكتب، لكنه لم يجد صدى لما يكتبه عند النقاد، وإن سلّى نفسه بإقرار كتبه في بعض الكليات وتدريس أعماله في بعض المواد، وحضوره مهرجانات وتكريمه ببعض خطابات، حتى صرّح بأن “لا صداقة في الأدب في مصر ولا العالم العربي كله، أنت تكتب ولا أحد يقول لك ماذا كتبت؟ أو في اليوم التالي لا تجد أنك كتبت شيئًا، رغم أنهم قرؤوا وفهموا واطلعوا ولكن يضنون عليك بكلمة واحدة”.
ختم الكتاب بالفصل الثاني عشر، متحدثًا فيه عن علاقته بتوفيق الحكيم، وبكتابه المؤجل عنه، وبعضًا من أخبار بُخله المتواتر، وقبله في الفصل الحادي عشر تكلّم عن زوجاته الثلاث وكيف التقى بهن، ومراحل علاقاتهم وطلاق الثانية، وفي العاشر تناول رحلته إلى الحج بوصف دقيق، سيصيبك حر مكة الذي أعياه من كلماته.
رحلة ليس فيها رسائل توجيهية، ولا أخبار وعظية، وإنما هي علاج بالسرد، وأنس بالكتابة، وعظة بالقراءة.
بدون سابق إنذار
بخلاف فتحي سلامة كانت الكاتبة والناشطة السياسية المصرية أنيسة عصام حسونة، عندما خطّت رحلتها مع مرض السرطان الذي أصابها “بدون سابق إنذار” فقررت عنونت سيرتها بذلك، وأثقلتها بالتوجيهات والنصائح المباشرة، والتي تخاطب بها المرأة على وجه الخصوص، لأن ما أصابها سرطان له علاقة بسرطان الثدي وهم أكثر عرضة له، رغم احتمالية إصابة الرجال به.
وصف دقيق جدًّا لكل مراحل المرض، بدءًا بإجراءات الفحوصات الاعتيادية، واكتشاف المرض، ثم الذهاب إلى لندن لكشوفات أكثر، وبعدها إلى ألمانيا للعملية الجراحية، وأخيرًا عودتها لمصر والجلسات الكيماوية، والعودة بعد ذلك للحياة الطبيعية، استثمارًا لآخر سني حياتها حسب ما أخبرها الأطباء.
بدأت الكتاب بما تعتقد أنه سبب في إصابتها بالسرطان، فبعد إلقائها خطابَ تعيينها في مجلس النواب من قِبَل عبدالفتاح السيسي، طالبها بالاستقالة مجلسُ إدارة جمعيتها التي أسستها وعملت على نهضتها منذ اللبنة الأولى، وكأن طلبهم سكين حاد نفذ في صدرها فجأة على غير انتظار ليستقر في أعماق قلبها مسببًا ألمًا جسديًّا بالغًا لم يبرأ.
نصحها الطبيب عند اكتشاف حالتها بأن تقابل بعض السيدات اللاتي أُصبن بالمرض واستطعن مواجهته، لتتعرف على قصصهن ونجاحهن في هزيمة المرض، لكنها ابتسمت ابتسامة لا لون لها تدل على “أنني لست على استعداد في هذه المرحلة من الصدمة أن أستمع لمآسي الأخريات وتجاربهن الصعبة ورحلة مرضهن، وأنا ما زلت لا أصدق ما حدث لي شخصيًّا”.
كانت مدمرة في بدايات المرض على الصعيد النفسي، متنكرة للاعتراف به، تأمل أن تكون في خدعة أو حلم، وهذا ما جعلها تهرب من عبارات التشجيع التي تمطر عليها من كل أحد، ومطالبتها المستمرة بالابتسام والتفاؤل والقوة، فتهرب منهم لتنطوي على نفسها تواجه مشاعرها المختنقة على انفراد؛ خشية من الانهيار أمام الأصدقاء والأولاد.
بعدما كانت ملء السمع والعين، تستقبل التهاني والتبريكات لنجاحاتها المتتالية، خرجت للعالم وفي ذهنها سؤال “ألن يختلف شيء في العالم بسبب هذا التغير الجذري الذي أصابها؟” تتلفّت تنتظر اطمئنان الناس عليها وسؤالها عن أحوال الزائر الثقيل الذي حلّ عليها، وتُرجع هذا التفكير إلى “اعتقادنا أننا محور الحياة، وأنها لن تستمر بدون وجودنا فيها، والحقيقة الصادمة أن الحياة لا تتوقف عندنا أو عند أي شخص آخر”.
منذ اللحظة الأولى لإصابتها كان زوجها يؤكد يقينه بشفائها وتغلبها على المرض، ويحرّضها على كتابة رحلتها معه لتخرج في كتاب حول التغلب عليه، كانت تتعجب من ثقته المفرطة رغم المستقبل المجهول، وأوفت بما طلب فخرج الكتاب جرعة أمل وتصبّر على السرطان، وبدأت كتابة سيرتها استجابة لأحبائها في سرد معركتها، بل معركتهم جميعًا مع هذا المرض، وكلما تقدمت في الكتابة أصبحت المسالة أصعب، لأنها تستدعي الذكريات القاسية المؤلمة لمراحل المرض المختلفة التي تحاول تخزينها في مجاهل الذاكرة أو أحد أدراجها المنسية، وكان “الدرس الذي تعلمته خلال تلك الأيام الأولى من مجابهة حقيقة مرضي، هو أنها نعمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى أن تكون محاطًا بأحبائك من عائلتك وأصدقائك الذين يدعمونك معنويًّا فتعتمد عليهم وعلى وجودهم الثمين إلى جانبك، وأن ترمي حمولك على الرحمن القادر على كل شيء، وأن تتقبل المكتوب لأنه لا فكاك منه، وأن تتذكر أنك ما زلت قادرًا على الاستمتاع بلحظات البهجة مع عائلتك المحبة قلا تهدر هذه اللحظات الثمينة مهما حدث”.
المرض يُجبر المريض على النظر إلى الداخل أكثر مما كان ينظر إلى الخارج، فيتأمل مشاعره ويتحسس دوافعه وينتبه لجسده، “فأنت أحيانًا عندما تُصاب بمثل هذا المرض الخطير يُساورك شعور غريب وكأنك شخص آخر منفصل عن الآخرين، ويساورك إحساس غير مفهوم بالخجل من مرضك، وكأنه ذنب قد ارتكبته في حق نفسك، وتخشى في داخلك أن يعاملك الناس وكأنك فارقت الحياة فعلًا ولم يعد لك دور فيها، أو يشفقوا عليك بطريقة تؤلمك كأنك قد أصبحت شخصًا ناقص الأهلية”.
المرض يُعيد جدولة أولوياتك ويجبرك على الإجابة على أسئلتك. “ولا شك أن أهم الدروس المستفادة من هذه القصة المؤلمة والتجربة العسيرة أنها تجعلك أكثر إدراكًا لنعم الحياة التي تحيط بك، والتي كنت دائمًا تأخذها كأمور مسلَّم بها، ثم تكتشف فجأة أن هناك الكثير مما تود قوله لمن حولك أو ترغب بإنجازه خلال حياتك، ولكنك ظللت تؤجله يومًا بعد الآخر ظنًّا أنك ستعيش إلى الأبد، وأنه هناك كثير من الوقت لإنجاز كل ما كان عليك الاهتمام به قبل ذلك، ولكن في مواجهة هذا المرض الشرس تدرك فجأة أن لكل يوم، بل لكل لحظة، قيمة كبيرة يجب استغلالها والاستمتاع بها، وشكر الله عليها، كما أنك تبدأ في التفكير جديًّا في إعادة ترتيب أولوياتك، ويصبح قضاء مزيد من الوقت مع أحبائك أكثر أهمية وأولوية من أي شيء آخر، فهذه هي اللحظات التي لن تعوض، والتي لها قيمة في الحياة في نهاية الأمر، أما غيرها فهامشي إلى درجة كبيرة”.
أيام قليلة قضتها في لندن للفحوصات، وكانت تؤمّل أن تكون أيامها في ألمانيا كذلك، لكنها امتدت إلى اثنين وأربعين يومًا، وبدلًا من رحلة سهلة مع الألم فقد أصيبت بكل التعقيدات والأعراض الجانبية، حتى عادت إلى مصر بعد رحلة هي الأسوأ في حياتها، لما واجهته من إحراج وتعب بالقيء على نفسها بالطائرة أكثر من مرة. وبعد المرحلة الثانية من العلاج الكيماوي شجعها طبيبها على العودة لحياتها الطبيعية وحضورها أنشطة مجلس النواب، فسقطت على الدرج في أول زيارة لها بعد المرض، فعادت للمنزل كسيرة الخاطر، فعدما كانت القادرة على إدارة حياتها المعتمدة على نفسها، لا تقوى على صعود خطوات درج يسيرة.
احتاجت وقتًا طويلًا حتى تقوى على خلع الباروكة ومواجهة شكلها الجديد وشعرها القصير بعد العلاج الكيماوي، وكم شعرت بالامتنان لمن زارتهم أول مرة بهيئتها الجديدة، فكانوا “غاية في التهذيب دون التطرق صراحة لحقيقة مرضها، وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًّا بيننا؛ مفاده أننا نفهم ما أصابك، ولكن لا نريد جرح مشاعرك أو الإثقال عليك بالسؤال عن التفاصيل”.
ختمت الكتاب “بأمر الحب”، داعية كل قارئ للتعبير عن مشاعره لأحبابه، قبل أن يداهمه الموت أو تفوت الفرص، متأثرة بكتاب الممرضة الأسترالية التي وثّقت أسئلتها لكبار السن من المرضى الذين كانوا في المستشفى الذي تعمل به، وأطلقت على كتابها “الندم”، وأول ما ندموا عليه عدم امتلاكهم للشجاعة التي تمكّنهم من التعبير عن مشاعرهم في الوقت المناسب، “لذلك أرجو ألا تؤجلوا إلى الغد إخبار مَن حولكم بمشاعركم المتدفقة تجاههم، فالأيام غير مضمونة، واليوم الذي يمر لا يعوض، بل إن اللحظة لا تتكرر مرة أخرى”. كما تنصح الجميع بالتمسّك بالأحلام الشخصية، حتى وإن بدت بعيدة المنال، فالتمسك بالأحلام الجميلة يعطينا دفعة للأمام وطاقة إيجابية تجعل الحياة أكثر إشراقًا وجمالًا.
جمال هذا الكتاب بنظر كاتبته “يكمن في لفت الأنظار إلى تعلّم دروس المرض العضال والشيخوخة في سن الشباب، وقبل وصولك لمرحلة تعجزين فيها عن تعويض ما فات من حياتك”.
هبة الألم
يرى الدكتور بول براند في الألم هبة إلهية تستحق التأمل والشكر، فبعدما رأى في طفولته التي قضاها في الهند برفقة والديه آثارَ فقدان الألم ومضاعفاته السلبية على الإنسان، أدرك أن الجسد بحاجةِ الألم حتى يستطيع المحافظة على صحته، ويُشبّهه بالمحامي الصارخ في وجه الاعتداءات على الجسد.
واجه الدكتور براند الكثير من الاعتراضات من الأطباء أنفسهم، حتى بعدما تخصص في الطب وأصبح جرّاحًا عالميًّا يُشار له بالبنان، ودوّن سيرته وفلسفته عن الألم في كتاب “هبة الألم”. يحكي فيه مختلف مراحل حياته، طفولته الشاقة في الهند الخالية من أي عوامل الحياة، والمليئة بالأمراض والأسقام، وعودته لبريطانيا لدراسة النجارة رغبةً في استكمال أعمال والده بالهند، لكن شغفه بالطب دفعه لدخول كلية الطب بعد خمس سنوات قضاها بين الخشب، إلا أنه يعتبرها مرحلة مهمة للطبيب، وأن المرضى سيكونون أكثر حظًّا بين يدي طبيب ليست عظامهم أول تجاربه مع المنشار وأدوات الحفر.
حديث السير السابقة كان أنين المرضى، وفي “هبة الألم” نستمع للطرف الآخر، الواقف على أسرّتهم، ساردًا قصص مئات المرضى من مختلف أنحاء العالم، مستعرضًا تطوّر اكتشاف الأدوية والأمراض، وشارحًا دور الألم في إنقاذ الإنسان. اختار قالب السيرة الذاتية لهذا الكتاب لأنها الطريقة التي عرف فيها الألم، لم يكن بطريقة منظمة، وإنما بالطريقة التجريبية. القسمين الأولين من الكتاب يغلب عليها طابع السيرية، فالأول لمراحل الطفولة والدراسة، والثاني لبدايات العلاج وتنقلات المستشفيات، أما الثالث فتعلو فيه صفة التنظير المدموج بالتجارب والأمثلة، منعنونًا القسم بنصيحته بـ”تعلّم مصاحبة الألم”، ومؤكدًا على أننا “لا يمكن أن نعيش عيشًا رغيدًا دون ألم، لكن كيف يمكن أن نعيش بأفضل ما يمكننا معه؟ الألم لا يقدر بثمن، النعمة الجوهرية التي لا أشك به. وبالتعرف على كيفية السيطرة عليه نستطيع منعه من السيطرة علينا”.
ضمانة الألم مفهومٌ يعني أنه بإمكاننا أن ندفع أقساط الألم قبل ضربه بنا، فكما أنك لا تبدأ بنسج مظلتك الشراعية وأنت على حافة الجبل، بل تمضي معها أيامًا وليالي، كذلك الألم، فأسوأ وقت للتفكير فيه هو إذا ما شعرت ببطشه، ذلك أن الألم يهد الموضوعية، وهو ما يتوجب علينا أن نتعلم الاستعداد المبكّر له وقت صحونا وسلامتنا، وأن نمتلئ بالقناعات والأفكار المتصالحة معه، وأن نخزّن النظارات متعددة الزوايا حتى نرتديها ونحن بين أروقة المستشفى، فالألم يتموضع في الذهن، وما يُهدّئه يعزز من قدرتنا على التعامل معه.
الامتنان للألم وتقدير المنافع الجمّة له ستغيّر كثيرًا من أحوالك، وتخفف من قلقك، “انظر للألم على أنه خطاب يقدّمه جسمك حول موضوع ذي أهمية قصوى لك. منذ القرصة الأولى توقّف واستمع للألم، وأجل، حاول أن تكون ممتنًا. يستخدم الجسد لغة الألم؛ ذلك أنها الطريقة الأكثر فاعلية للفت انتباهك”. ليس الأمر مع الآلام اليسيرة فقط، بل “حتى في العمليات الجسمانية التي عادة ما تُعد أعداءً، فإنه يمكن أن نجد سببًا لنكون ممتنين”.
يؤكد الدكتور براند أن درب الصحة، سواء لفرد أو مجتمع، يجب أن يبدأ بحسب حساب الألم. ويحذّر من التعامل الرأسمالي في المجال الصحي، ويستنكر إخراس الألم في الوقت الذي ينبغي علينا إرهاف السمع له؛ نأكل بسرعة وبكميات فائقة المسكنات، نعمل بجهد كبير ولوقت طويل ثم نأخذ مسكنًا، “مهارتنا في إخراس الألم جلبت لنا نوعًا من الوهن الثقافي في قدرتنا على التعامل معه”. ويعترف بأن الكثير من الأطباء يَعمد إلى الخيارات الأكثر ربحية مقابل الأكثر فائدة للمريض، فبينما تتطلب حالة مريض جلسة تصحيح لقناعاته والتصالح مع المرض وإعطاء الجسد فرصته في علاجه، يقرر الطبيب إجراء العمليات الجراحية العاجلة وإثقال كاهل المريض بالفواتير الباهظة.
ختامًا، من المهم تهيئة النفس للتعامل مع الأمراض والألم، ومن ذلك إحاطة النفس بمجتمع داعم محب سيقف بجانبنا إذا ما تعرضنا للمآسي، فمواجهة المعاناة لوحدنا أشد وطأة وقسوة من مواجهتها ونحن نعتضد بأيادي الأقارب والأحباب، وهذا ما أكدته تجارب السير السابقة، إذ تؤكد أنيسة أن أكبر معين لها على تجاوز مرض السرطان كان قرب زوجها وأبنائها، وابنة فتحي سلامة التي تخلّت عن زواجها لترافق والدها طوال فترة علاجه، وزوجة بولس سلامة وأبناءه الذين وإن غابت ملامحهم في سيرته إلا أن أثرهم ظاهر لا يمكن إخفاؤه.
الألم ليس رحلة مجدولة، دائمًا حالة طوارئ. ومهما كانت استعداداتنا للألم، فإنه يفاجئنا دائمًا، وما من جهد في التخطيط يمكنه أن يُعدّنا إعدادًا تامًّا للوقت الذي تتغير فيه الأرض، دون إنذار. عندما يصاب المرء بالمرض غالبًا ما يفقد ثقته بنفسه، وترتفع أسهم الأطباء والخبراء، وما إن يُعلن الألم أن جزءًا من الجسد قد عُطب، فإن الشخص المتأثر، شاعرًا بالعجز والجزع، يسعى جاهدًا لإيجاد طبيب ميكانيكي لإصلاح الجزء المعطوب. بينما أهم خطوة يراها الدكتور براند هي عكس العملية، نحتاج إلى استعادة ثقة المريض بأقوى شافٍ في العالم، وهو الجسم البشري، وأفضل برنامج تأهيل استقر عليه، أن يقنع المريض بحقيقة أن يفعل ذلك بنفسه، وأن يسمح لجسده بفرصته لمحاربة الألم.
من معززات الألم مجابهته لوحدك، ومقابلته طيلة الوقت، كلما طالت وحدتك تسربت إليك مشاعر الألم والغضب والشعور بالذنب والوحدة والعجز، وهو ما دفع الدكتور براند للمطالبة بالردهات المفتوحة في المستشفيات، وجلسات العلاج الجماعية، وتقليل الغرف الفردية، فمشاركة الألم جزء من العلاج، ووجود شخص يقدّم الرعاية والاهتمام يُحدث أثرًا حقيقيًّا على الألم والتعافي، فـ”أشد ما آلم إيفان إليش هو أنه ما من أحد ليرثيه كما يريد أن يُرثى”، كما قال تولستوي في روايته “موت إيفان إليش”، ومما ساعد أخي أكرم في انتشاله من وهن المرض انخراطُه في العمل والعلاج بالفن الذي يتشاركه مع غيره من المرضى ويشارك في المعارض والمؤتمرات، وقراءات أهل السير التي استعرضتها كانت أنسًا لهم.
قيمة حياة الإنسان مرتبطة بالتهديد والهشاشة. ومن هنا تنشأ المفارقة المؤثرة في تقدير الألم باعتباره تذكيرًا بالراحة في الوقت الذي هو إغراق في الأسى، وكما يقول مونتين في مقالاته: “لا يوجد ما هو أرقّ من هذا التحول المفاجئ، خصوصًا بعدما عانيت من ألم حاد، واسترجعت بسرعة النور البهي لصحتي كاملة وحرة، فما أحلى وأجمل العافية بعد المرض! يهيأ إليّ أنهما جد متجاورين، حتى أنني أصبحت أتعرف على كليهما وكأنهما يتناوشان بعضهما البعض”.
يجب أن تعلّمنا سير الألم التعاطف مع الآخرين، إذ تصرخ محذرة “الصلابة في الظاهر ليست حقيقية”، وكما قالت أوليفيا لانغ في ختم كتابها “المدينة الوحيدة”: ” نحن في هذا العالم معًا، هذه المحصلة من الندوب، هذا العالم الواسع من الأشياء والعناصر، هذه الجنة المادية المؤقتة التي كثيرًا ما تأخذنا إلى حافة الجحيم. ما يهم فعلًا هو اللطف، ما يهم فعلًا هو التضامن، ما يهم فعلًا هو البقاء متيقظين، منفتحين، لأننا إن تعلمنا أي درس ممن جاؤوا قبلنا فإنه بالتأكيد: وقت المشاعر والعواطف لا يدوم للأبد”.
لولا ظلمة الليل لما أتيحت لنا مشاهدة النجوم، ولولا الألم لما قدّرت الصحة، فالأشياء تعرف بأضدادها، وتُقيّم الممتلكات بعد فقدها. إن الذي لا يتعلم الإبصار بواسطة الأحداث والتاريخ؛ فسيتعلم الإبصار بالآلام والأثمان التي سيدفعها جزاءً له على إغلاق سمعه وبصره.