هناك حقيقتان أساسيّتان ولا تقبلان النزاع تُشكّلان حياتنا؛ الأولى، هي أنّ عالمَنا يتغيّر، والثانية، هي أنّ البشرَ يتفاوضون حول أفضل السّبل ليكونوا فاعلين في هذا التغيُّر.
تمثّل هاتان الحقيقتان لُبّ فلسفة آلان باديو؛ وهو واحدٌ من أبرز متفلسفة اليوم. فلعقودٍ، اهتمّ باديو بسؤال لماذا يُعيدُ البشر تنظيم عوالمهم، وما الذي يحفّزهم لذلك، وكيف يجب، في نهاية المطاف، أن يقوموا بهذا الأمر.
إنّ أفكار باديو متجذّرة في نظريّة للوجود مبنيّة على نظريّة المجموعات الرياضيّة. وضمن بناء فكري مركّب يصف الكون (cosmos)، يُحدّد باديو الفاعِل البشريّ (human agent) الذي تُنتجه التغيّرات الاجتماعيّة، ولكنّه المشارك فيها أيضًا.
قد تكون هذه التغيّرات تغيرات كبرى مثل الثورات التي تغيّر الحضارات، أو تغيّرات صغرى مثل شؤون الحُبّ الشخصيّة. ولكي نفهمَ هذه التغيّرات على امتداد من هذا الطيف الممتد من التغيّرات الكبرى إلى الصغرى، يقتضي الأمرُ اشتباكًا ما مع الأخلاق [الإيتيقا – Ethics]؛ أي دراسة كيف يجب أن نحيا حياتنا سواء على المستوى الشخصيّ أو الجمعيّ.
ويُعدّ كتاب باديو الصغير «الأخلاق: مقالة في فهم الشرّ» (١٩٩٣، المُترجَم إلى الإنجليزية عام ٢٠٠١) بمثابة مقدّمة سهلة المنال إلى أفكاره، كما أنه يُعدّ حالة مشبوبة بالحماس لإعادة التفكير في الأخلاق. يبدأ الكتاب بنقدٍ حادّ لكيفَ ننزعُ نحنُ إلى التفكير في الخير والشر.
إنّ نقد باديو للأخلاق ليس نقدًا لها بشكل عامّ، وقطعًا ليس نقد الحاجةِ إليها، وإنّما بالأحرى هو نقد للأخلاق الإنسانيّة (humanitarian ethics) المُهيمنة والمُعمَّمَة التي بثّها ونشرها العالمُ الغربيّ.
رُسّخت هذه الأخلاق بوصفها مجرّدة وبدهيّة وكونيّة. وأتت إلينا هذه الأخلاق متسترة بمصطلحات مثل «حقوق الإنسان» و«التسامح» و«التعدديّة الثقافيّة» و«المساعدات الإنسانيّة»، والأكثر إثارةً للجدل أنّها أتت أيضًا باسم «التدخّل الإنساني»؛ أي استخدام القوّة لحماية أُناس -ظاهريًّا- من الشرّ.
ويُفترَض أنّ هذه الأفكار كلّها ليست وجيهة فحسب، بل وطبيعيّة أيضًا -إذ يبدو أنّها ترفدُ من أخلاقيّة فطريّة كائنة داخل الإنسان. يشرعُ باديو، بدقّة تشريحيّة، في تفكيك هذه الأفكار لكشف الأسس التي يُحَاجِجْ بأنّها ليست طبيعيّة ولا هي بالضرورة وجيهة.
هل «الإنسان» موجود؟
تنطوي كلُّ النظريات الأخلاقيّة، في لُبّها، على تصور معين عما هو موضوع الأخلاق. فقد كانت الذاتُ هي موضوع الأخلاق في الفلسفات القديمة للعالم الهلنستيّ (اليونانيّ). فـ«الفضيلة» (عند المذهب الرواقيّ) أو «السعادة» (عند المذهب الأبيقوريّ) كانت بمثابة حصيلة المُمارسات الأخلاقيّة الموجّهة للذات. وبالعيش وفقًا لهذه المبادئ، تكون الذاتُ في حمى من الشرور من أضراب القلق أو الألم.
إنّ التصوّر المُعمَّم للأخلاق الإنسانية للغرب لا أساس له في الذّات، بل في فكرة كونيّة عن «الإنسان».
نعلمُ كلّنا أنّ البشر موجودون، لكن «الإنسانَ» فكرةٌ تنطبق على البشر كافة -ولذا هي «كونيّة»- ويكأنّ لديهم ماهيّة البشرية نفسها. وتُنحَّى خصوصيّات البشر جانبًا حينما نتحدث عن «النوع البشريّ»، ويُستدعى -بدلًا من ذلك- الأفكار المتعلّقة بـ«الطبيعة البشريّة».
إنّ اختزال كافّة البشر، بخصوصيّاتهم، إلى «نوع بشريّ» يسمحُ لمبادئ بدهيّة تتشكل في تسيير سلوك البشر تجاه بعضهم بعضًا. وهذا لأنّ نتيجة اختزالٍ كهذا هي أنّ هناك ماهيّة بشريّة. إنّ النزعة الإنسانية هي الأخرى تنطوي على تحديد لكلّ ما هو مؤذٍ لهذه الماهيّة البشريّة؛ أي الشرّ.
فالخيرُ، في الأخلاق الإنسانية، مستمدّ من الشر، وليس العكس. إذ يُعرَّفُ الخيرُ بأنّه ليس شرًا لأنّه من الأسهل حصول إجماع حول ماهيّة الشر من تحديد ماهية الخير.
لنفكّر في عمل هذه الأخلاق وكأنّها مثل القانون. فالقانون هو قانونٌ ضدّ الشر؛ فهو يُحدّد السلوكيّات والأفعال الشريرة. وإذا كان شرُّ فعلٍ ما غير واضح، يوفّر القانون في هذه الحالة التحكيم. لا يُحدِّدُ القانونُ الخير، ولا هو بمكافئٍ عليه؛ إنّه يُحدّد الشرّ ببساطة، ويُعاقب عليه. وبالمثل، حقوق الإنسان هي حقوق لما هو ليس بشرّ: الحقّ في عدم الإذلال، أو الإساءة، أو الإهانة أو إعاقة السّبيل.
وبالتالي، فإنّ «الإنسان» المُعمّم هو البشري الذي يعاني من أفعال الشر، لكن أيضًا، وفقًا لباديو، هو البشري الذي يُحدّد الشرّ ويعلمُ أنّه يجب وضع حد له. ومن ثمّ، بالنسبة إلى باديو، في الإطار الأخلاقيّ المُعمّم للإنسانية، يكون الإنسان «هو الكائن القادرُ على إدراك نفسه بوصفه ضحيةً».
الإنسان الفاني والإنسان الخالد
وعليه؛ ما بحوزتنا هو أخلاق مبنيّة على مقدرة الإنسان على احتمال الأذى والمعاناة. ومن ثمّ، فبينما يُعد اعتبار الإنسان مفترسًا للإنسان دناءة حيوانيّة، فكذلك الأمر حذو النّعل بالنّعل في حالة الإنسان وهو في دوره كضحيّة للشر. لماذا؟ لأنّ الإنسان يرد إلى بنية تكوينه البيولوجيّ؛ لعظام جسده الهش الطري.
ويحاجج الفيلسوف على ذلك بقوله إنّ مرتكبي جرائم الإرهاب والتعذيب يمكن أن يعاملوا البشر بصورة مروّعة لأنّ الضحايا يُنظَر إليهم باعتبارهم أقلّ من البشر ويُختزَلون إلى حيوانيّة أجسادهم. ويُشيرُ باديو إلى أنّ الحقّ في ألّا نعاني ليس مختلفًا عن الحقوق الحيوانيّة.
الإنسان الذي يعاني هو إنسانٌ مُزدرى، ويوجد كي يتدخّل الآخرون لحمايته. وبالتالي، كلّ «تدخل إنسانيّ» قائم هو أيضًا على الازدراء؛ لأنّه يرى شخصًا هشًا، ما دون البشر، بحاجة إلى التحرّر من أذى الشر. والحال أنّ هذا يصبغ، بشكل خاص، العلاقة بين الدول الفقيرة والدول الغنيّة. يكتب باديو قائلًا:
«هذا هو السبب في أنّ سطوة “الأخلاق” تتزامن-بعد عقود من النّقد الشُجاع للإمبرياليّة والكولونياليّة- مع الرضا الذاتيّ الدنيء للغرب اليوم، ومع الحجّة المتلازمة التي يكون بؤس العالم الثالث، بموجبها، نتيجةً لعجزه الخاصّ به … ولدونيّته البشريّة». (ص ١٣)
حاججَ كثيرٌ من الفلاسفة بأنّ «الإنسان» ما هو إلّا اختلاق. ففردريك نيتشه وميشيل فوكو ولوي ألتوسير اقترحوا جميعهم طُرقًا يكون من خلالها لا أساس لمفهوم «الإنسان» في الواقع.
وفي حين أنّ الإنسان العاقل ينزع إلى امتلاك سمات مشتركة (مثل القدرة على اللغة، امتلاك ذراعين وقدمين، إلخ)، فقد حاجج هؤلاء الفلاسفة بأنّه ما من ماهية مُحدّدة لـ«الجنس البشريّ» تسبقُ وجود البشر كافّة. ويقترحُ باديو أيضًا بأنّه ليس هناك إنسان كونيّ، وإنّما هناك شيءٌ اسمه «ذات» (subject).
وكي نفهم الذات من ناحية فلسفيّة، فهي ذاتٌ في موقف علاقة مع الأشياء؛ إذ تُميَّز الذات عن الأشياء. فنحن نشكّل إيماننا ورغباتنا فيما يتعلّق بموقفنا بوصفنا ذواتًا.
بحسب باديو، تبزغُ الذاتُ في علاقتها بمواقف محددة يجدُ البشرُ أنفسهم متورطين فيها. وهكذا، في حين أنّه لا توجد ماهية كونيّة لـ«الإنسان» بالنسبة إلى الفيلسوف، فإنّ هناك ميكانيزمًا كونيًّا نستطيع بواسطته أن نفهم ونطبّق فاعليتنا كبشر: ألا وهي الذاتيّة.
وعلى هذا النحو، فإن البشر -كما يشيرُ الفيلسوف- يتجاوزون بنيتهم البيولوجيّة البشرية. والمثال الذي يضربه متمثّل في أنّ أولئك الذين نجوا من المعاملة الوحشيّة للغاية أو من معسكرات الاعتقال «كانوا يتمسكّون بشيءٍ يتجاوز كينونتهم الفانية». فهم نجوا من خلال تخيّل للمستقبل؛ أي بالتزامهم بما ليس متمثلًا في بقائهم الجسديّ.
إنّ الذات «خالدة» وفقًا للجهاز الاصطلاحيّ عند باديو. ليس بمعنى أنّها تعيشُ إلى الأبد، ولكن بمعنى أنّه يمكن للإنسان «أن يُميّز نفسَه داخل تدفّق الحياة المتنوع والشرس». بعبارة أخرى، البشر أكثر من مجموع عناصر أجسادهم المادية.
ومن ثم، تكون الذات هي الأساس للسلوك السليم، في حين لا يمكن للبنية (substructure) الحيوانيّة إلا أن تكون ضحية للشر. وتكمن ههنا تحديدًا الإشكالية بالنسبة إلى النزعة الإنسانية، حيث إنها لا تقوم إلا على الضرر الذي قد يحتمله الإنسان.
تنمع هذه الأخلاق الأذى عن الناس، بيد أنها لا تمكنهم من تحقيق إمكانياتهم كاملة ليتجاوزوا احتياجاتهم البيولوجية. قد يتدخل الإنساني بقوة باسم أشياء مثل «الحريّة»، لكن [لا يحصل هذا التدخل إلا] عندما يتعرّض فيه الناس للأذى جسديًّا كعاقبة، مثلًا، لممارسة حريّة التعبير.
إذا كان مشروعنا الأخلاقيّ هدفه فحسب أن يكون ضدّ الشر، فإذن لا أمل لدينا في إحراز أيّ تقدّم ذي معنى؛ فقد تُرِكنا إلى «نزعة مُحافظة بغيضة»؛ لأن الشر يتم تعريفه واستدامته مفاهيميًا على هذا النحو الإثباتي (فحيثما كان هناك ضرر يلحقه أذى؛ كان الشرُ).
هذه الأخلاق المعرَّفة بالسَّلب تكبح الإمكانات المُعرّفة بالإيجاب للحياة البشريّة. فإذا لم نُحدّد عقيدتنا الأخلاقيّة بخصوص ما هو خيّر، ونحافظ عليها، فكيف لنا أن نحسّن من تصورنا لإمكانيات الخير في الناس؟
إنّ نسقًا أخلاقيًّا كهذا ليس محركًا لأيّ تغيير إيجابيّ، فأي قوة سياسية مثلًا، أو أيّ قوة أخرى للتغيير الاجتماعيّ، ستضخع لهذه الأخلاق. ويوصّف باديو الأخلاق الإنسانية في ضوء ذلك على أنها «أخلاقويّة بائسة باسمها نُجبَر على القبول بالنّهج السائد في العالم وظُلمه المُطلق». في نظر باديو، تحرمنا هذه الأخلاق من إثمار البشر «الخالدين»؛ لأنّ «الإنسان الخالد يُستبقَى بالإمكانيّة لا بالواقع الحاضر».
وتمنعُ الأخلاقُ الإنسانية نفسها من التفكير في الموقف المُحدد، فهي، عوضًا عن ذلك، تروحُ تفكّر في «الضحيّة» باعتباره إنسانًا غير مُحدّد. يبزغُ الإنسان الخالد -أي الذات- في علاقة إزاء الموقف الذي يُوضَع فيه، وبالتالي يجب على الأخلاق أن تكون موصولة بذاتيّة البشر، وهذه هي حقًا الطريقة التي «تستبقى الذات بالإمكانية».
وهكذا، بحسب باديو، ليس هناك من أخلاق بالعموم: «فالأخلاق غير موجودة. ما هو موجود ليس سوى أخلاق متعلّقة بموضوع/موقف ما». والمراد بذلك أنّ هذه الأخلاق المعرَّفة بالإيجاب قد تكون طريقًا للتفكير بصورة أخلاقيّة في موقفٍ بعينه؛ أي لفهم ما هو مناسب أخلاقيًّا لهذا الموقف. فليستِ الأخلاقُ بكونيّةٍ، وإنّما هي مشروطة بمواقف أُحاديّة.
يضرب باديو على ذلك مثالًا للطبيب على نحويْن. فهناك الطبيب باعتباره مديرَ رعاية صحيّة يُساعد «المرضى» (the sick)، وهناك الطبيب باعتباره إكلينكيًّا يُساعد المرضى الأفراد (individual patients). «المرضى» هم بشرٌ كونيّون أخلاقيّون يعانون بوصفهم مخلوقين. إنهم ضحايا -غير محددي المعالم- لضرر يُختزَل إلى إحصاءات بالنسبة إلى الطبيب الإداريّ.
أمّا الطبيبُ الأخلاقيّ حقًّا فهو هذا الذي يطبّق الأخلاقيّات الطبيّة في لحظة الموقف الإكلينيكيّ/السريريّ؛ إذ يقوم بإصلاح العطب الذي بين يديه. بينما قد يريدُ الطبيب الإداريّ أيضًا أن يحدّد الشخص الجدير بالعلاج؛ مثلًا، هل يكفله التأمين؟ هل هم مواطنون أم مهاجرون لا وثائق لهم؟ إنّ الطبيب الإكلينيكيّ يُساعد ببساطة هؤلاء الذين يدخلون إلى عيادته، ولا يسألهم عن «وضعهم».
إيتيقا الحقيقة
إنّ الأخلاق المُعرّفة بالإيجاب التي يطرحها باديو هي أخلاقٌ قائمة على ما يُسمّيه الفيلسوف بـ«أحداث الحقيقة». لتبسيطها، أقول: إنّها لحظاتٌ من الابتكار والتحوّل التي تبزغُ من «الموقف»؛ أي من الترتيب العاديّ لحقل معيّن من التنظيم البشريّ. وقد يكون هذا الحقل، مثلًا، متمثلًا في السياسة.
فنحنُ نعيشُ بشكلّ عاديّ في عالم من الروتين و«الرأي»؛ أي الطرق المقبولة في تسيير الأمور بناءً على حقائق مقبولة لكنّها محتملة (contingent) أيضًا. لذا، فإنّنا نقبل، في «موقفٍ» قائم، بالافتراضات الأساسيّة حول العالم، ونحيا وفقًا لهذه الافتراضات.
لكن المواقف دائمًا ما تنطوي على إشكالاتٍ متأصّلة داخلها. فمثلًا، قد يحيا الناس ويتعاطون مع النفاق الكامن في لُبّ نظامهم السياسيّ الحاكم. لا يمكنُ لنظامٍ كهذا أن يمثّل، بمساواةٍ، مصالح الناس الذين يزعمُ أنّه يمثلّهم. لذا؛ ثمّة فجوةٌ موجودة داخل تلك الافتراضات -أو «فراغ» (void) على حدّ تعبير باديو نفسه- تجعلنا مُدركين، باستمرار، بأنّ موقفنا ليس سليمًا.
وقد يكون هذا الفراغ كامنًا في قلب النظام السياسيّ، «حدث الحقيقة» هو ما تنبثق بداخله حقيقة بدهيّة من مثل هذا الفراغ. فإذا لم تُمثّل مصالح طبقة من الناس، فإنّ هذا التمثيل المزيّف يمثّل الفراغ الذي تنبثقُ منه الحقيقة.
إنّ حدث الحقيقة يمثّل، في الوقت نفسه، إدراكًا لهذا النفاق، وأيضًا بديلًا لنظام سياسيّ أكثر تمثيليّةً. يدّعي باديو بأنّ الثورة الفرنسيّة هي نموذجٌ على مثل هذا الحدث. إنّ الذات «تُحرَّض» بسيرورة الحقيقةِ هذه. لا يختارُ البشرُ ذاتيّتهم، إنما الحقيقة تخلق الذات منهم. وكما سنرى، فاختيارهم الخاصّ بهم متمثّل فيما يقومون به في علاقاتهم إزاء الحقيقة.
في نظر آلان باديو، الخيرُ التزامٌ بالحقيقة. وأشيع صور ذلك نراه في شخصية الناشط السياسي الساعي إلى إحداث التغيير بالتزامه بـ«حدث حقيقة» معين. (الصورة لـEdrece Stansberry على موقع Unsplash).
الخيرُ والشرُّ
إذن، الخيرُ هو إخلاصٌ والتزامٌ بالحقيقة مفهومةً على هذا النحو. وحينما نكون واعين بوجود «فراغ» مثل الظلم أو النفاق، فإنّ لدينا فهمًا بدهيًّا للعدالة والنزاهة.
يتمثّل السّلوك السّليم في المحافظة على هذه الحقائق وتبجيلها. وخلافًا للأخلاق الإنسانية حيثُ يُعرَّفُ الخير بالضدّ ويسعى إلى تحجيم الشّرّ، فإنّ إيتيقا باديو تتعلّق بالتحديد الإيجابيّ والتشجيع على الخير. ببساطةٍ، الأخلاق -وفقًا لرؤية باديو- ليس بحمايةٍ للناس من العنف، وإنّما هي خلقٌ محتمل لعالمٍ قد يكون فيه مثل هذا العنف غير موجود.
لذا؛ ما هو الشر؟ لا يؤمن باديو بأنّ الشرّ مفهومٌ بداهةً بطريقة قبْليّة على أيّ فعل للشرّ؛ إذ لا ماهيّة للشر، وما من شيءٍ بدهيّ حياله.
في الحقيقة، إنّ باديو ضدّ ما يُسمّيه الفلاسفة بالفهم «القبليّ» سواء للخير أو للشرّ. يعني «القبْليّ» ههنا «المعرفة قبل واقعة عينية». فمثلًا، لدينا فهمٌ قبْليّ بأنّ للمثلث ثلاثة أضلاع لأنّ تعريف المثلث هو أنّه شكلٌ له ثلاثة أضلع. وقد تكون الفكرة القبليّة عن الشر «أفعال متعمّدة من الأذى»، وقد يبدو ذلك واضحًا، بيد أنّ باديو سيتساءل حول ما نعنيه بكلمة «متعمّدة».
بحسب باديو، إنّ أفعال الأنانية البغيضة هي «ما دون الخير والشر»؛ إذْ لا يكون البشر فاعلين أخلاقيين إلا حين يتصرفون وفق إطار «حقيقتهم». البشري الذي يتصرّف ببساطة من أجل مصلحته الذاتيّة يتصرف تصرف اللصوص؛ بل تصرف قطاع الطرق؛ إذْ هو يتصرف بوصفه إنسانًا «حيوانيًّا» وفانيًا، لا كإنسان خالدٍ تبزغُ فاعليّتُه في علاقةٍ إزاء حدث الحقيقة.
وعليه؛ فلربّما لا تدخلُ الجرائم الصغيرة، من اعتداءٍ وسرقةٍ، إلى حقل الشر والخير لدى باديو، وستكون، عوضًا عن ذلك، انتهاكات للنظام الأخلاقيّ المكرّس والقائم.
وهذه نقطة مهمّة علينا توضيحها لأنّ هدف باديو ليس في توضيح ما هو صائب أو خاطئ أخلاقيًّا بصورة دوغمائيّة، وإنّما بالأحرى يتمثّل هدفه في اقتراح إطارٍ جديدٍ لكيف نفهم ما هو صائب وخاطئ.
ما الخيرُ في نهاية المطاف سوى إيقاف للحاجة إلى مثل هذه الانتهاكات من الظهور بالمقام الأول. فلكلّ فعلٍ علة، وليس مجرّد خير أو مجرد شر. إنّ تفكير باديو مهمومٌ بالعلل، وليس بالأبعاد الأخلاقيّة لهذه العلل.
عوضًا عن ذلك، يُعاد تعريف الشرّ من قبل باديو باعتباره الخيرَ متخلَّيًا عنه، ومساء تفسيره أو مساء تمثيله في علاقته مع الحقائق. فالشرّ، جوهريًّا، هو فساد لعلاقتنا بالحقائق، وليس ماهيّة بدهيّة يمكن أن تُعرَفَ -أو تُكتشَف- قبل سلوكيات البشر.
يُعيدنا هذا إلى فكرة باديو بأنّه «ما من أخلاقٍ بشكل عامّ»، وإنّما «أخلاق لسيرورات بواسطتها نتعامل مع إمكاناتٍ موقفٍ ما». يكتبُ باديو: «لأنّ هناك حقائق، ولأنه توجد ذوات لهذه الحقائق؛ فإنّ هناك شرًّا».
وعلى هذا النحو، يُعرَّف الشرّ بثلاثة أشكال:
المحاكاة (Simulacrum): ما يعنيه باديو بذلك هو بزوغ لحدث حقيقة زائف (الحل لمشكلة زائفة، مثلًا). وتعني المحاكاة هنا «الزائف» (fake). والمثال الذي يستعمله باديو هو النازية. فقد تمتعت النازية كاملةً بحدث الحقيقة الذي بزغ للإطاحة بانحطاط النظام السائد ذلك الوقت؛ أي جمهورية فايمار. بيد أن النازية كانت حلًا زائفًا، عوضًا عن أن تكون مناصرًا للحقيقة (مفهوم كوني مثل التحرر)، كانت مناصرًا للخصوصيات (القومية والعنصرية). وتمثلت النتيجة في أنها استعملت الإرهاب والكراهية لتحقيق أهدافها.
الخيانة: وفقًا لباديو، إنه لمن الشر أن نتنازل عن الحقيقة من أجل المصلحة الذاتية. فهؤلاء الذين يعرفون ما هو صائب قد لا يتكبدون عناء تجسيد هذا «الصّائب» من أجل منفعة بوجه من الوجوه، أو من أجل تسهيل حياتهم. لتبسيطها، أقول: نحنُ مجرمو خيانة أمام كلّ الخير الذي لا نقوم به. أن تخون الحقيقة، يعني أن تفقد الجانب الخالد من كينونتك -الذاتيّة التي بزغت في علاقتها إزاء الحقيقة- وننحط إرضاءً بنيتنا الحيوانيّة من كينونتنا.
الكُليَّة: الكُليّةُ هي شكلٌ من الشرِّ حيث تُدرجُ حقيقةٌ خاصّةٌ كلّ شيءٍ ضمنها كما لو كانت حقيقة نهائيّة وكُليّة. وتحريًا للدقة، تجب الإشارة إلى الحقائق التي تبزغُ من الفراغات المواقفيّة باعتبارها «حقيقةً ما» لا باعتبارها «الحقيقة». وهذا لأنّه لا توجد حقيقة شاملة يمكن أن نعلمها من حدثٍ ما.
لا يمكنُ إدراكُ الحقيقة باللغة. فمثلًا، إنّ قول «أحبّك» للشخص الذي أحبّه مختلفٌ كليًّا عن قول «أحبّك» لأيّ شخصٍ آخر (في مدينةٍ مثل لندن، من المعتاد أن يقول الناس «أحبّك» كتعبير عن التودد الصداقيّ، لا كتعبير عن الإخلاص)، في حين أنّ العبارة هي نفسها في الحالتين.
وعلى المنوال نفسه، فحقيقة مثل أنّ «كلّ البشر متساوون» هي حقيقة يُشعر بها، ولا يُفكَّر فيها. فلا يمكن إثبات الحقيقة (مثلما أن عبارة الحبّ نفسها لا يمكن إثباتها). فالعبارة ليست إلّا رأيًا، وليست حقيقةً كما يفسّر باديو. الحقائق عصية على التسمية. فـ«فلا تشق الحقائق طريقها الوحيد إلا عبر نسيج الآراء»، كما يقول باديو.
وعندما يُفترَض أنّ الحقائق قابلة للتحدّث عنها، فإنّ لدينا «كارثة» -كما يسميّها الفيلسوف- لا تقلّ عن كارثة التعصّب، حيث تؤخَذ الآراء على أنّها حقائق مُطلَقة. يضرب باديو أمثلةً بالحرس الأحمر المتعصّب للثورة الثقافيّة الصينيّة وتعصب الفيلسوف فريدرك نيتشه في مناهضته للدين. فكلاهما كانا مظهريْن لإدراة مدمرة (ومدمرة للذات) لفرض حقيقة كُليّة.
إنّ هذه الأنواع الثلاثة من الشرّ -الحقائق الزائفة، وخيانة الحقائق، والتعصّب الأعمى- تمثّل التهديد الأعظم للتقدم الذي تطالب به حقيقة الحدث، وبالتالي تمثل الشرور الحقيقيّة.
يكتبُ باديو: «بالنسبةِ إلى سياسة التحرر، فإنّ العدوّ الذي يُخشى أكثر من غيره ليس القمع على يد النظام القائم. إنما باطن العدميّة، وتلك القسوة التي يمكن أن تحلّ بفراغها».
بعبارة أخرى، حينما نصبحُ ذواتًا للحقيقة، وفقدنا الإيمان بالحقيقة -أو فسدت علاقتنا بها- فذلك هو أصل أكبر الشرور والقسوة. أو كما قال باديو لمجلة كابينت «يستطيع المرء أن يعرّف الشر بعبارة واحدة: الشرُّ هو إيقاف حقيقةٍ ما بواسطة ضغط المعين، أو بسبب مصالح فردية خاصة».
وبالإلزام الأخلاقي الذي نظل بموجبه مخلصين لقضيّة جديرة بالاهتمام (أي لـ«الحقيقة» وفقًا لجهاز باديو الاصطلاحيّ)، فيجبُ علينا أن نقاوم هذه الأنواع الثلاثة من الشرّ حفاظًا على الخير. ويعني هذا اختبار «مصادر التمييز» (resources of discernment) وذلك حتى لا نقع في قضايا زائفة، ونستدعي الشجاعة لعدم الاستسلام، ونروم الاعتدال حتى لا ننجرفُ بعيدًا إلى أقاصي حدود الكُليّةِ.
بحسب باديو، الشرُ فسادُ الخير. ويذكر الفيلسوف النازية مثالًا لحركة شكلتها حقيقة مزيفة (المصدر: Wikipedia. Bundesarchiv, Bild 102-02134 / CC-BY-SA 3.0).
التداول والفاعلية
أمّا الجزءُ الحاسمُ من إيتيقا باديو فهو نجاحه في فضح عيوب التفكير واسعة الانتشار حول الأخلاق (وأهم وجوه هذا النقد: سلبيّة هذا التفكير). يقوم باديو بهذه المهمّة بالإشارة إلى أنّ الأخلاق الإنسانية هي أخلاقٌ مشروطة تاريخيًّا، وأنّها بالأساس أخلاقٌ مُحافِظة، وأنّ مثل هذه الأفكار تساعد في التستر، أصلًا، على القوى التي تُشيّئ (ومن ثمّ تنشرُ) هذه الأخلاق؛ أي الهيمنة والإمبرياليّة الغربيتين.
وممّا يزيدُ الطين بلّةً، أنّ هذه الأخلاق مؤسَّسة على هشاشة البشر. فهي أخلاقُ تختزلُنا إلى بنيتنا الحيوانية، وتشطب السّمات الترانسندانتاليّة والخالدة للموجود البشريّ، والتي تسمحُ لنا بالمشاركة في مصيرنا البشريّ المشترك.
الجزءُ الإيجابيّ من تفكير باديو يرتكزُ على الأفكار التي صاغها الفيلسوفُ بوصفه مفكّرًا وأيضًا بوصفه ناشطًا في عالم الممارسة السياسية. وفي حين أنّ هذه الأفكار تبدّد أيّة أفكار كونيّة باقية مثل الماهية البشريّة أو الأفكار البشريّة عن الخير والشرّ، إلّا أنّها ليست بأفكار نسبيّة.
فباديو، بكلّ وضوح، يعتقدُ بأنّ هناك حقائق. وتنبثق هذه الحقائق من التناقضات -من «الفراغ»- الناجمة عن الآراء السائدة والتي يتمّ تعريفها على أنّها «الموقف». فعبارة مثل «الناس متساوون كافّة، بغضّ النظر عن عرقهم» هي حقيقة يمكن التسليمُ والاعتراف بها على نحو واسع، لكنّها مع ذلك لم تتحقق بعدُ في الممارسة العمليّة.
وعلى هذا المنوال، فإنّ حقيقة ما هي بمثابة الجسور بين عالم الحاضر وعالم المستقبل. وجاذبيّة هذه الحقائق أنّها تنقلُ الناس من كونهم حيوانات بشرية إلى ذوات للحقيقة تعمل على صناعة المستقبل. وهكذا نغدو فاعلين أخلاقيين نختار بين الخير والشر.
وإشكالية الأطروحة الإيجابيّة، كما صاغتها أفكار باديو، هي التمييز. فبمَ نميّز بين «المحاكاة» والحقيقة الصحيحة؟ وكيف نميّز بدقّة ما تشتمله «الخيانة»؟
نغدو ذواتًا للتغيير بناءً على المعلومات. فلا تأتي إلينا الحقيقةُ المواقفيّة باعتبارها وحيًا إلهيًّا موحى به إلى نبيّ؛ أي بصورة تامّة وخالية من المعايب. وحتى إذا كنّا «أخيارًا» بقدر التزامنا بالحقيقة، فبمَ نتداول فيما بيننا الاختلافات في التكتيكات والاستراتيجيّات؟ فإذا كانت الاختلافات تظهرُ فيما بين الذوات، فمَن هو الذي يُميّز الخطّ الفاصل بين الولاء والخيانة؟
إنّ القوّة التكامليّة للأخلاق الإنسانية فهمُها القبْليّ للخير والشرّ. فلا أحد، داخل هذا الإطار الأخلاقيّ، قد يعدُّ شريرًا بالخطأ، حتى وإن كان إلحاق الضرر ممكنًا عن طريق الخطأ (مثلما في حالة «النيران الصديقة» و«الأضرار الجانبيّة» للتدخلات المسلحة الإنسانية).
ترتكزُ الإيتيقا الإيجابيّة لدى باديو على القدرة على تمييز «الحقيقة» من «المحاكاة»، وتمييز «الإخلاص» من «الخيانة»، وتمييز «التواضع» من «الكُليّة»، وهو الأمر الذي ليس له آليّة موضوعيّة للتحقّق، وإنّما مجرد الحكم [الذاتي].
مصيبٌ باديو حينما كتب أنّه ليست هناك أخلاق، وإنّما فقط أخلاق متعلّقة بموقف بعينه.
وعلى هذا النّحو، ليست الأخلاقُ شفرة موحدة للتصرّف، وإنّما هي تعدّدية من الممارسات والأفكار المتعلّقة بالفاعليّة البشريّة. وفي نهاية المطاف، يتعلّق التداولُ الإيتيقيّ بإثبات فاعليّة الفرد، وباختبار حُريّاتنا في الموقف الذي نُوضع فيه. إذا فكرنا في الأخلاق على هذا النحو، فيمكننا أن نرى أن أطروحة باديو ذات أهميّة وبصيرة، بيد أنّها تظل رأيًا، وفقًا لتعريف باديو نفسه.
مصدر صورة العرض: منحوتة اللاعنف أو «المسدس المعقود» من إبداع كارل فريدريك رويترشوارد الموضوع أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك (الصورة لـ Matthew TenBruggencate على موقع Unsplash).