
إنّ مسألة تعريف المرض العقلي[1] (mental illness) مثيرةٌ للخلاف والجدل، لكن هذا يعود إلى تعريف المرض بشكلٍ عام وليس الأمر محصورًا بالطب النفسي (psychiatry) بشكلٍ خاص. لذلك، سوف أقوم بمعالجة مسألة تعريف المرض، ومن ثم البحث في تعريف المرض العقلي في الطب النفسي. في كتابها “الطب النفسي وفلسفة العلوم” (Psychiatry and Philosophy of Science)، تقدّم الفيلسوفة البريطانية المعاصرة راشيل كوبر (1974) الموقف الأرسطي من المرض (Cooper 36) الذي قدّمه الفيلسوف البريطاني المعاصر كريس ميجون (1958) في عدّة كتاباتٍ وأوراقٍ فلسفيةٍ. يعرّف هذا الموقف المرض بأنه “سيئ”، بمعنى أنه عائقٌ أمام ازدهار حياة الإنسان، ما ينطبق أيضًا على الحيوان. تعتقد كوبر أنّ التفسير الأرسطي غير دقيقٍ كتعريفٍ للمرض لأنه لا يميّز الأمراض عن الحالات السيئة الأخرى التي لا تُعتَبَر أمراضًا، وقدّمت بعض الأمثلة لدعم حجّتها. وبالتالي، بناءً على هذه الأمثلة المعاكسة للتفسير الأرسطي، تقترح كوبر إضافة شرطين على التعريف الأرسطي للمرض، وهما أنّ المريض “سيئ الحظ” وأنه يكمُن في الحالة السيئة احتمال علاجها طبيًّا.
في هذا المقال، سأجادل بأنّ كوبر تفشل في تجاوز عيوب الموقف الأرسطي. يجلب موقف كوبر، من خلال مفهوم “سيئ الحظ” واحتمالية العلاج الطبي، ذات مشكلة التفسير الأرسطي، أي عدم القدرة على التمييز بين المرض وحالاتٍ غير مرضيّةٍ. ثمّ سأدافع عن موقف عالم النفس سكوت ليلينفيلد وعالمة الأعصاب لوري مارينو (Lilienfeld 1995) بأننا لا نستطيع إيجاد أيّ شروطٍ كافيةٍ وضروريةٍ لتعريف الأمراض العقلية، لذلك علينا أن نميّزها عن غيرها من الأمراض على أساس التشابه مع نماذجٍ أساسيةٍ كالفصام (schizophrenia). يعتبر جيروم ويكفيلد (Wakefield 1992) أنه يمكننا إيجاد شروطٍ كافيةٍ وضروريةٍ غامضةٍ لتعريف المرض العقلي، لكن على سبيل المثال، إذا عرّفنا المرض العقلي بأنه خَلَلٌ في الجهاز العصبي كما يقترح توماس ساس (Szasz 1972)، فهذا لا يشمل الاضطرابات الشخصية (personality disorders) ولا يصنّفها كمرضٍ عقليٍ. وإذا أردنا تخطّي هذه المشكلة وجب علينا أن نجد بعض الصفات المشتركة بين الأمراض العصبية والاضطرابات الشخصية، وهذه الخطوة ستجعلنا نقع في عدم القدرة على التمييز بين الأمراض النفسية التي تعالَج في علم النفس (psychology) وبين الأمراض العقلية الذي تعالج في الطب النفسي (psychiatry). لذلك، ليس لدينا تعريفٌ للأمراض العقلية حتى الآن، والتشابه هو الرابط الأساسي بينها.
الموقف الأرسطي
يعتمد الموقف الأرسطي، نسبةً لأرسطو (384 – 322 ق م)، في تفسير المرض على اعتبار ما إذا كان الكائن البيولوجي عيّنةً جيدةً أو سيئةً من نوعها. العيّنة الجيدة هي العيّنة الصحّيّة بينما العينة السيئة هي المريضة. “يمتلك الكائن الحي الجيد جميع المؤهّلات البيولوجية التي يحتاجها للعيش بنجاحٍ في الطرق التي تميّز نوعه” (Cooper 36). بعبارةٍ أخرى، يمتلك الكائن الحي الجيد المؤهّلات البيولوجية المناسبة ليتمكّن من عيش حياةٍ مزدهرةٍ، في حين أنّ الكائن الحي السيئ لا يمتلك المؤهّلات البيولوجية المناسبة للحياة المزدهرة. تعتمد حياة الحيوان المزدهرة على التكاثر والبقاء على قيد الحياة، وتختلف المؤهّلات اللازمة لهذا الغرض باختلاف نوع الحيوان. على سبيل المثال، يمتلك الضفدع الجيد لسانًا لزجًا بحيث يمكنه التقاط الذباب بينما لا يحتاج النمر الجيد إلى لسانٍ لزجٍ للبقاء على قيد الحياة. لكن بما يخص الإنسان، بالإضافة إلى البقاء والتكاثر، تتطلّب حياته المزدهرة أن يكون عقلانيًا، والعقلانية هنا تعني أن يكون لدى الإنسان القيم الصحيحة ويمكنه التصرّف بالطريقة الصحيحة. “لذلك، على سبيل المثال، بالنظر إلى أن البشر بطبيعتهم كائناتٌ اجتماعيةٌ، وأنّ الحياة المزدهرة تتضمّن بالتالي القدرة على ممارسة الألعاب والضحك على النكات، فإنّ شخصًا لا يؤهّله عقله للمشاركة في مثل هذه الأنشطة، مثلًا لأنه لا يستطيع التفاعل مع العواطف، فهو يعاني من المرض”. (Cooper 36)
موقف راشيل كوبر
وفقًا لكوبر، اهتمّ كريس ميجون بحقيقة أنّ هناك بعض الحالات السيئة التي لا تُعتبَر أمراضًا، لكن هذا لم يكن كافيًا. ركّز ميجون على شرط أن يكون المرض كعائقٍ للازدهار عجزًا لا إراديًا، على سبيل المثال اختيار عدم النهوض من الفراش طوال اليوم ليس مرضًا لأنه طوعيٌّ، بينما إذا كان لا إراديًا فيُصَنَّف مرضًا. لكن هذا لا يكفي بالنسبة لكوبر لأنّ هناك الحالات السيئة اللاإرادية والتي لا تكون أمراضًا. تقوم كوبر بتقديم هذه الحالات في ثلاث فئاتٍ: أولًا الحالات البيولوجية السيئة التي ليست أمراضًا مثل الغباء والقباحة، ثانيًا الحالات السيئة الاجتماعية والتعليمية التي ليست أمراضًا مثل الفقر والأمية، وثالثًا الرذائل مثل ضرب شخصٍ ما والمعتقدات التي تعيق ازدهار حياتنا. وهكذا، فإنّ التفسير الأرسطي لا يميّز بين الأمراض وهذه الأمثلة من الفئات الثلاث للحالات السيئة التي ليست أمراضًا. لذلك، تحاول كوبر تعريف المرض بحيث يكون من الواضح أنّ هذه الفئات ليست أمراضًا.
لمعالجة عيوب التفسير الأرسطي، تقترح كوبر أنّ المريض يجب أن يكون سيئ الحظ. “عندما أقول إن المريض يجب أن يكون سيئ الحظ، أعني أنّ المريض يمكنه أن يتوقّع بشكلٍ عقلانيٍّ أن يكون في وضعٍ أفضل” (Cooper 39). فالشخص الذي يبلغ طوله مترًا واحدًا لديه من سوء الحظ ما يكفي لاعتبار حالته مرضًا، لكنّ الشخص الذي يبلغ طوله مترًا ونصف المتر ليس سيئ الحظ بما يكفي لاعتبار حالته مرضًا. لذلك، بالنسبة لكوبر، أن تكون سيئ الحظ بما يكفي لاعتبار الحالة السيئة مرضًا هو أن تكون على عكس الغالبية العظمى من الناس أو مغايرًا لحالاتهم الاعتيادية. لأنّ ما يجعل الشخص الذي يبلغ طوله متراً واحداً أن يتوقع بشكلٍ عقلانيٍّ بأنّ طوله يجب أن يكون مترًا ونصف المتر على الأقل هو معدّل الطول لدى الغالبية من الناس. الشيء المهم هنا هو أنّ “الحالات البيولوجية السيئة التي ليست أمراضًا يمكن تمييزها أيضًا عن الأمراض بسبب أنّ المصاب بها ليس سيء الحظ بالطريقة الصحيحة” (Cooper 39). وهكذا، تفترض كوبر ضمنيًّا أنّ كوْن الشخص قبيحًا أو غبيًا بطريقةٍ معتدلةٍ ليس سيئ الحظ بما يكفي لاعتباره مرضًا لأنّ الغالبية العظمى من الناس أغبياءٌ وقبيحون بطريقةٍ معتدلةٍ، مما يجعل من الصعب اعتبار التَّوقُّع بأن يكون المُصاب بحالةٍ أفضل وأجمل، توقعًا عقلانيًا. فعلى الشخص أن يكون قبيحًا، غبيًا، أو قصيرًا بشكلٍ مبالغٍ فيه لنعتبره سيء الحظ.
نقدٌ لشروط كوبر
إنّ هذا الادعاء لكوبر ليس واضحًا، أعني أنها لم تشرح لماذا الغالبية العظمى من الناس ليسوا في حالةٍ أفضل من شخصٍ قبيحٍ أو غبيٍّ بطريقةٍ معتدلةٍ، أي لماذا من اللاعقلانية أن نتوقع حالةً أفضل لشخصٍ معتدل الغباء أو القباحة. وهذا لأنها لم تفسّر ماذا تقصد بمفهوم العقلانية، إلّا أنني أعتقد أنّها تعتبر العقلانية في هذا السياق ترتكز على أساس المقارنة مع أغلبية الحالات في المجتمع. أظن أنه من العقلانية أن نعتقد بأنّ غالبية الناس، أو أن نتوقّع بأن يكون الأشخاص عامةً غير أغبياءٍ وغير قبيحين، حتى وإن كان بطريقةٍ معتدلةٍ. لا نعتقد عادةً أنه من الممكن أن يكون الأطفال الذين تكون الغالبية العظمى منهم تتمتع بالجمال، أن يصبحوا قبيحين عندما يكبرون. لذلك، من اللاعقلانية أن نتوقع القباحة للأشخاص، حتى وإن كان باعتدالٍ. كما أننا لا نتوقع عادةً من تلامذة المدارس، الذين يتمتع أغلبهم بالذكاء الكافي للنجاح في المدرسة، أن يكونوا أغبياءً بشكلٍ معتدلٍ عندما يكبرون في السّن. لذلك، من اللاعقلانية أن نتوقع الغباء للأشخاص، حتى وإن كان باعتدالٍ. إذًا، من اللاعقلانية أن نتوقع الغباء أو القباحة، فإنّ الغالبية العظمى من الناس لا تتّصف بالقباحة ولا بالغباء حتى بطريقةٍ معتدلةٍ. وإذا لم تكن غالبية الناس تتمتع بالذكاء، فهذا لا يعني أنها تتّصف بالغباء، وإذا لم يكونوا جميلين، فهذا لا يعني أنهم قبيحون.
على سبيل المثال، إذا كان لدي سنًّا من الأسنان الأمامية مفقودًا، هذا يجعلني أبدو قبيحًا بطريقةٍ معتدلةٍ، مع أنّ معظم الناس في حالةٍ أفضل من حالتي لأن الغالبية العظمى من الناس ليس لديهم سنٌّ أماميٌّ مفقودٌ. ولست بحاجةٍ إلى أن أفقد جميع أسناني الأمامية لأُعتبَر قبيحًا بما فيه الكفاية لأكون سيء الحظ لأن الغالبية العظمى ليس لديها سنٌّ أماميٌّ مفقودٌ. إذًا، إن كان لدي سن مفقود، فأنا في حالة قباحةٍ معتدلةٍ، ولكن هذه الحالة من القباحة المعتدلة تعتبَر ضمن مفهوم كوبر لسوء الحظ لأنه من العقلانية أن أتوقع بأن أكون بحالةٍ أفضل. لذلك، بعكس ما تدّعي كوبر، هناك حالاتٌ من القباحة المعتدلة يُعتبَر صاحبها سيء الحظ، وبالتالي يمكن اعتباره مريضًا. كوبر تقول أنّ قليل القباحة لا يمكن اعتباره سيء الحظ، بل عليه أن يكون كثير القباحة لكي نعتبره سيء الحظ. أمّا نقدي لكوبر هو أنّ قليل القباحة يمكن اعتباره سيء الحظ، كالشخص الذي يفقد سنًّا واحدًا من أسنانه الأمامية، لأنه من العقلانية أن يتوقع بأن أغلبية الناس والحالة الاعتيادية التي من المفترض أن يكونوا فيها، أفضل من حالته.
إنّ اعتبار كوبر أنّ الأشخاص الأغبياء والقبيحين كثيرًا سيئوا الحظ، يجعل من الغباء والقباحة أمراضًا بالنسبة لها، لأنّ هذه الحالات تطابق الشرط الثاني الذي تضيفه على الموقف الأرسطي، وهو أنها حالاتٌ سيئةٌ يمكن علاجها طبيًّا. لم تجادل كوبر في أنّ هذه الحالات لا يمكن علاجها طبيًّا، بينما تجادل فقط بأنّ بعض هذه الحالات البيولوجية السيئة بالمعنى الأرسطي أصحابها لا يتمتعون بالحظ السيء، وذلك لاستبعادها من كونها أمراضًا. على أي حالٍ، تعتبر كوبر الغباء والقباحة من الحالات البيولوجية، وهذا يجعلها قابلةً للعلاج طبيًّا. فقد أصبحت العمليات التجميلية الآن علاجًا حتى لأقلّ الأشكال قباحةً، وربما يتم إجراء العمليات الجراحية أحيانًا عندما لا يكون الشخص جميلًا بما يكفي لبعض المعايير، وحتى لو لم يكن قبيحًا على الإطلاق. علاوةً على ذلك، إذا كان الغباء حالةً بيولوجيةً سيئةً، فيمكن علاجه طبيًّا، ربما لاعتباره من أمراض الأعصاب. لذلك، من العقلانية الاعتقاد بأنّ الغباء سيتم علاجه في المستقبل عن طريق إضافة بعض خلايا الدماغ ربما أو باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعديل الدماغ البشري، ويتم ذلك بالطرق والعلاجات الطبية. لذلك فإنّ الغباء والقباحة، حتى حين تكون الحالة معتدلةً، يفيان بشروط كوبر الثلاثة للمرض، وهي الحالة السيئة بالمعنى الأرسطي، سوء الحظ، وقابليتها للعلاج الطبي. وهذا يتعارض مع هدف كوبر الأساسي من هذه الأمثلة للحالات البيولوجية السيئة التي ليست أمراضًا. وبالتالي، فإنّ موقف كوبر المتمثل بالشروط الثلاثة للمرض، مثل موقف أرسطو، لا يمكن أن يميّز بدقةٍ بين المرض والحالات غير المَرضيّة.
جديرٌ بالذكر أنّ هناك حالاتٍ تُعتبَر أمراضًا، إلّا أنّ موقف كوبر لا يصنّفها كذلك. مثلاً، حالة آلام الظهر أو حالة الصداع، هي من الحالات البيولوجية السيئة بالمعنى الأرسطي لكن لا يمكن اعتبار صاحبها سيء الحظ لأن الغالبية العظمى من الناس يعانون من الصداع وآلام الظهر، وليس من العقلانية أن نتوقع بأنّ حالة الإنسان العادية أفضل من المصاب بهذه الآلام. من المتوقع أن يعاني معظم الناس من الصداع وآلام الظهر، فهذا أمرٌ اعتياديٌ للكثير من الناس. وبالتالي، فإنّ هذه الحالات البيولوجية السيئة لا تفي بالشروط التي تقدّمها كوبر لتعريف المرض. لذلك، وفقًا لتعريف كوبر للمرض، فإن الصداع وآلام الظهر ليست أمراضًا، في حين أنها عادةً تُعتبَر من الأمراض، ولا أعتقد أنّ كوبر ستوافق على عدم اعتبرها أمراضًا، بل ستعمل على تعديل تعريفها للمرض لكي يشملها. فإذا كانت غالبية الناس تعاني من الصداع فهذا لا يمنعه من أن يكون مرضًا، وحتى لو لم يكن من العقلانية أن نتوقع من الحالة الاعتيادية أن تكون أفضل من حالة آلام الظهر، هذا لا يمنع تصنيف آلام الظهر كمرضٍ. وبالتالي، فإنّ الصداع وآلام الظهر من الحالات البيولوجية السيئة التي تُعتبَر أمراضًا، لكن من دون أن يكون المصاب فيها سيء الحظ. وهذا سببٌ إضافيٌ وأساسيٌ لاعتبار موقف كوبر، مثل الموقف الأرسطي، ليس دقيقًا في رسم الحدود بين الحالات المَرضية وغير المَرضية.
كانت المحاولة الثانية لكوبر في تعديل الموقف الأرسطي من خلال شرط أن تكون الحالة السيئة قابلةً للعلاج طبيًّا. الرذائل هي حالاتٌ سيئةٌ وليست أمراضًا لأنها غير قابلةٍ للعلاج طبيًّا بحسب كوبر. عندما يكون شخصٌ ما شريرًا، يكون الرد المناسب هو التعامل معه ومعاقبته، بدلاً من معالجته (Cooper 39). وبالتالي، بالنسبة لكوبر فإنّ الرذائل ليست أمراضًا، إلّا أنّ التعريف الأرسطي للمرض يشملها باعتبارها عوائقًا للحياة المزدهرة، وهذا هو السبب في أنّ الموقف الأرسطي لا يميّز بدقةٍ بين المرض والحالات غير المَرضية.
لكنّ الشرط الثاني الذي تضيفه كوبر ليس مقنعًا، إذ أنه يمكن للعلاج النفسي (psychotherapy) أن يساعد في الرذائل كما في المعتقدات التي تعيق ازدهار الحياة. التعليم لا ينفع وحدهُ لمحاربة الرذائل لأنه محصورٌ في دائرة المعرفة الفكرية، فحتى إذا عرفنا القيم والمبادئ الأخلاقية، فقد تكون هذه المعرفة غير نافعةٍ في حياتنا العملية. لذلك، كي لا نضرب شخصًا ما ولا نستسلم لمعتقداتنا التي تحصر ازدهار حياتنا، نحتاج إلى أكثر من المعرفة من خلال التعليم. العلاج النفسي هو وسيلةٌ لتجاوز هذه القضايا، لذلك أفترض أنّ مثل هذه الحالات السيئة يمكن علاجها نفسيًّا. إذًا، لا يحق لكوبر اعتبار أنّ الرذائل والمعتقدات السيئة لا يمكن علاجها طبيًا كونها لم تقدّم حجةً تعلن من خلالها أنّ العلاج النفسي ليس علاجًا طبيًا. وبالتالي، ليس من الواضح ما إذا كانت الحالات السيئة الاجتماعية والتعليمية أمراضًا أم لا، لأننا لا نستطيع أن نقرّر ما إذا كانت قابلةً للعلاج طبيًا أم لا. لذلك، لم تنجح كوبر في تضييق نطاق الموقف الأرسطي ليصبح أكثر دقّةً. لكن، لا أرى أيّ سببٍ يمنع العلاج النفسي بأن يُصنَّف كعلاجٍ طبيٍّ، فهذا ما أضافه سيغموند فرويد (1856 – 1939) على علم النفس، أي الطابع الطبي العلاجي. لذلك، إنّ الرذائل والمعتقدات التي تعيق ازدهارنا تعالَج طبيًّا بعكس ما تعتقد كوبر، مما يُفشِل تعديلها للموقف الأرسطي.
التشابه العائلي
إنّ كوبر وغيرها من فلاسفة الطب النفسي بحثوا في تعريف المرض بهدف تعريف المرض العقلي وتمييزه عن المرض الجسدي أولاً، وعن المرض النفسي ثانيًا. جرت عدّة محاولاتٍ لتعريف المرض العقلي، وسوف أعرض جزءًا منها في سياق المقال، أما الآن سأبحث في نظرةٍ لا نحتاج فيها لتعريف المرض. ليلينفيلد ومارينو (Lilienfeld 1995)، ردًّا على تعريف ويكفيلد للمرض العقلي بأنه خَلَلٌ وظيفيٌّ مؤذٍ (Wakefield 1992)، يقومان بتقديم المرض العقلي على أنه مفهومٌ “روشيٌّ” نسبةً لعالمة النفس إليانور روش (1938). تسمّي كوبر المفهوم ذاته “التشابهات العائلية” العائد للفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889 – 1951)، وهو المفهوم الذي استندت عليه إليانور روش.
يعتبر لودفيغ فيتغنشتاين في كتابه “تحقيقات فلسفية” (Wittgenstein 1953) أنّ كلمة “علم” (science) تُطلَق على العلوم من دون وجود صفاتٍ محددةٍ تشترك فيها العلوم كلها. الصفات المحددة هي شروطٌ ضروريةٌ وكافيةٌ لتعريف العلم، لجَمْع العلوم في مفهومٍ واحدٍ محدَّدٍ. “التشابه العائلي” هو المفهوم الذي يطرحه فيتغنشتاين كبديلٍ عن التعريف. ينبع هذا المفهوم من أفراد العائلة الواحدة حيث لا يمكننا تحديد صفاتٍ محدّدةٍ مشتركةٍ عند الجميع كَلوْن العيون أو الطول، فرغم كل الاختلافات وعدم قدرتنا على تحديد الصفات المشتركة نراهم كعائلةٍ واحدةٍ يجمعهم اسم العائلة. وينطبق هذا أيضًا على الألعاب حيث يقوم فيتغنشتاين بالمشابهة بين أفراد العائلة، الألعاب، والعلوم. هناك ألعابٌ ترتكز على الربح والخسارة، عكس بعضها الآخر، وألعابٌ تتّصف بالذكاء وغيرها بالقدرات الجسدية، ورغم عدم وجود صفاتٍ محدّدةٍ مشتركةٍ بينها، نطلق عليها اسم “ألعاب”. فعلى الرغم من عدم وجود ميزةٍ واحدةٍ تشترك فيها جميع الألعاب، إلّا أنّ هذه الألعاب تشبه بعضها بعضًا كما يشبه أفراد الأسرة بعضهم بعضًا. عندما ننظر إلى صورةٍ عائليةٍ، غالبًا ما نرى أنّ الأعضاء متشابهون على الرغم من عدم وجود ميزةٍ واحدةٍ يتشاركونها جميعًا. ومع ذلك، يمكن التعرّف على أفراد العائلة لأن شبكةً من أوْجه التشابه المتداخلة توحّدهم. ليس هناك ميزةٌ أساسيةٌ واحدةٌ يجب أن يمتلكها أي فردٍ من العائلة، ولكنهم يشبهون بعضهم بما فيه الكفاية لكي يتم التعرُّف عليهم من قِبَل الآخرين كأفراد أسرةٍ واحدةٍ. تبعًا لفيتغنشتاين، فإنّ أيّ مصطلحٍ يشير إلى مجموعةٍ من الكيانات التي توحّدها شبكةً من أوجه التشابه ولا تشترك في ميزةٍ أساسيةٍ واحدةٍ، يُعتبر مرادفًا لمصطلح “التشابه العائلي”.
هناك ألعابٌ نموذجيةٌ مثل “المونوبولي”، وهناك ألعابٌ مثيرةٌ للجدل من حيث ما إذا كان ينبغي تصنيفها كألعابٍ أو لا، على سبيل المثال دولاب السيارة الذي يمكن أن يلعب به الأولاد على الطريق. كما أنّ هناك علومًا نموذجيةً كالرياضيات والفيزياء، وهناك علومٌ مشكوكٌ بعلميّتها من البعض مثل علم الاجتماع وعلم النفس، حتى أنّ هناك من يطالب بتصنيف الطب النفسي كعلمٍ والبعض الآخر يرفض هذا التصنيف على الطب بشكلٍ عام. ومثلما لا يمكننا تحديد شروطٍ ضروريةٍ وكافيةٍ لتعريف العائلة والألعاب من خلال صفاتٍ مشتركةٍ لدى جميع الأعضاء، لا يمكن تحديد الشروط الضرورية والكافية لتعريف الاضطراب أو المرض العقلي، بحسب ليلينفيلد ومارينو. بدلاً من ذلك، يعتمد اعتبار حالةٍ ما على أنها مرضٌ عقليٌ على درجة تشابهها مع الحالات النموذجية، مثل الفصام (schizophrenia) والاكتئاب الذهاني[2] (psychotic depression). تُحسَب الحالات المركزية النموذجية على أنها أمراضٌ عقليةٌ، ولكن لا توجد قواعدٌ عامةٌ تحدّد ما يلزم لشيءٍ ما ليكون مرضًا عقليًا.
نقد ويكفيلد لليلينفيلد ومارينو
يدّعي ليلينفيلد ومارينو أنه لا يوجد أيّ تعريفٍ للمرض العقلي من حيث الشروط الضرورية والكافية لأنّ ما إذا كانت الحالة مرضًا عقليًا قد يكون غامضًا، فمثلًا القلق الطبيعي يتحوّل إلى مرض القلق (anxiety disorder) من دون حدودٍ واضحةٍ، كما شرب الكحول المعتدل يتحوّل إلى إدمانٍ على الكحول. عادةً، ما إذا كان شيءٌ ما يندرج تحت مفهوم التشابه العائلي يكون غامضًا أيضًا، ولذلك استنتج ليلينفيلد ومارينو أنّ الاضطراب العقلي هو مفهوم تشابهٍ العائليٍّ. كما يوضح ويكفيلد، هذه الحجة ليست مقنعةً (ويكفيلد 1999: 377)، وتوافقه كوبر في ذلك. إنّ كوْن المفهوم يمتلك حدودًا غامضةً لا يتعارض بحسب ويكفيلد مع تقديم تعريفٍ له من حيث الشروط الضرورية والكافية، فالمطلوب هو أن يكون أحد الشروط الضرورية والكافية على الأقل غامضًا أيضًا. وبالتالي، كما يعطي ويكفيلد مثلًا، من الغامض ما إذا كان الشخص غير المتزوج البالغ من العمر ستة عشر عامًا يُصنَّف عازبًا. ومع ذلك، يمكن توفير الشروط الضرورية والكافية لمفهوم العزوبية الغامض. مثلًا، يُصنَّف شخصٌ ما عازبًا إذا كان بالغًا غير متزوجٍ. إنّ هذا التعريف غامضٌ لأنّ مفهوم البلوغ غامضٌ، فهناك من يعتبر البلوغ يبدأ في سنّ الثمانية عشر وهناك من يعتبره في سنّ الواحد والعشرين، وذلك يختلف من مجتمعٍ لآخرٍ. إلّا أن هذا الغموض لا يُعتبَر عائقًا أمام تعريف المفهوم بحسب ويكفيلد.
تضيف كوبر داعمةً موقف ويكفيلد بأنه لا يمكننا أن نعتبر مفهوم المرض العقلي بأنه يوضع في إطار التشابه العائلي لمجرد أننا لم نتفق على تعريفٍ محددٍ له. إذ يمكن في المستقبل أن يكون هناك تعريفاتٌ مقنعةٌ للمرض العقلي، وهذه الإمكانية تمنعنا من دعم موقف ليلينفيلد ومارينو. إذا افترضنا أنّ كوبر صائبةٌ نوعًا ما في رأيها، فلا أعتقد أنّ هذا يجعلنا نرفض موقف ليلينفيلد ومارينو. فإذا لم نمتلك تعريفًا للمرض العقلي حتى هذا اليوم، يمكننا القول على الأقل أنه حتى الآن، موقف ليلينفيلد ومارينو هو الأفضل لوصف معرفتنا بالأمراض العقلية. فيما لا نمتلك شروطًا ضروريةً وكافيةً لتعريف المرض العقلي، يمكننا تمييز مرضٍ ما بحسب شبهه بالفصام مثلاً لاتخاذ القرار إذا ما كان مناسبًا تصنيفه كمرضٍ عقليٍ أو لا. بالإضافة إلى أنّ موقف ويكفيلد ليس مقنعًا لأنّ الشروط الغامضة تنبع من نماذجٍ أساسيةٍ، مما يعيدنا إلى مبدأ التشابه. مثلاً، لتعريف مفهوم العزوبية في مجتمعٍ معينٍ، نقوم بأخذ عيّناتٍ من المجتمع لنقرّر العمر الإجمالي للبلوغ. هذا لأنّ البلوغ المرتبط بالزواج والعزوبية يختلف عن البلوغ المرتبط بالحقوق المدنية مثلاً. لذلك، نقوم بتحديد الشروط حسب النماذج وتشابه الحالات معها. فيما يلي، سوف أحاول إبراز أهمية موقف ليلينفيلد ومارينو من تعريف المرض العقلي.
اقتراح توماس ساس
يؤكد ساس أنّ المرض العقلي خرافةٌ، بمعنى أنّ جميع الأمراض التي نطلق عليها هذا الاسم أسبابها جسديةٌ، لذلك يقترح أن نستبدل هذه التسمية ب-“المرض الدماغي” (Szasz 1972). يعتقد ساس أنّ بعض السلوكيات غير الطبيعية تنتج عن مشاكل الدماغ، لذلك يمكن أن يسبّب الخلل في الدماغ مشاكل في الكلام واللفظ والتواصل على سبيل المثال. لذا فإنّ المشكلة الرئيسية تكمن في الدماغ ولهذا السبب يجب أن يكون العلاج جسديًا ومرتبطًا بالجهاز العصبي. على هذا النحو، وفقًا لساس، لا يمارس الأطباء النفسيون (psychiatrists) الطب الحقيقي، بل إنهم بدلاً من ذلك يساعدون ببساطة الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الحياة، أو يعملون كمجرد وكلاءٍ للرقابة الاجتماعية. أيّ مرضٍ يسمّى بـ”المرض العقلي”، ما لم يتضح أنّ له أساسًا بيولوجيًّا لا يمكننا تصنيفه كمرضٍ حقيقيٍ. مثلاً إذا تم اكتشاف أنّ الفصام ناتجٌ عن خللٍ جينيٍّ أو عصبيٍّ معيّنٍ، فإنّ ساس سيقبل بتصنيف الفصام كمرضٍ. لكن طبعًا، ليس الفصام مرضًا عقليًا في هذه الحالة إنما جسديًا دماغيًا، لأنه مرضٌ ناتجٌ عن خللٍ بيولوجيٍّ معيّنٍ ويتميّز بأعراضٍ نفسيةٍ. إذًا، يُعرّف ساس المرض العقلي كمرضٍ دماغيٍّ بيولوجيٍّ يتمتّع بأعراضٍ نفسيةٍ سلوكيةٍ. جديرٌ بالذكر أنّ ويكفيلد اقترح تعريف المرض العقلي كخللٍ وظيفيٍّ مؤذٍ، حيث يكون الخلل الوظيفي فشلًا في العمل وفقًا لما صمّمه الانتقاء الطبيعي البيولوجي. مما يجعل موقفه مشابهًا لموقف ساس بأنّ أساس الخلل بيولوجيٌّ.
تَنَوُّع الأمراض العقلية
إنّ المفهوم العام للمرض العقلي يدل على جميع الاضطرابات التي تؤثر على العقل. ينتج البعض منها عن تقلباتٍ في المزاج أو تكون هذه التقلبات نتيجةً للمرض، لذلك يتّسم الاكتئاب (depression) بانخفاض الحالة المزاجية وانخفاض الطاقة وقلة الاهتمام بالحياة، في حين يمكن للأشخاص المهووسين[3] (manic) أن يكونوا نشيطين للغاية. تؤثر أمراضٌ عقليةٌ أخرى على قدرة الشخص على التفكير، لذلك قد يصاب الأشخاص المصابون بالفصام بأفكارٍ وأوهامٍ غريبةٍ مثل سماع صوتٍ وهميٍّ أو رؤية أشياءٍ معينةٍ في حين أنّ مَن حولهم لا يرون ولا يسمعون الأشياء ذاتها. فيما تؤثّر أمراضٌ عقليةٌ أخرى على الشخصية بأكملها، مثل الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (antisocial personality disorder)، الذين لديهم شخصية تتصف بأنماطٍ شائعةٍ كالاستخفاف بحقوق الآخرين أو انتهاكها، مع افتقارٍ للحِسّ الأخلاقي، والسلوك الاندفاعي العدواني غير المتعاطف مع الآخرين.
تؤكد كوبر أنّ هناك عددًا قليلاً من الأمراض العقلية حيث يكون السبب وراءها واضحًا ومفهومًا جيدًا (Cooper 3). مرض هنتنغتون (Huntington’s disease) على سبيل المثال، هو اضطرابٌ يسبب مشاكل في الحركة وتغيّراتٍ في الشخصية في منتصف العمر. إنه مرضٌ وراثيٌّ ينتج عن طفرةٍ في الكروموسوم رقم 4. هو تدهورٌ مرحليٌّ للحالة العقلية بسبب موت خلايا في الدماغ. هناك أمراضٌ تحدث فيها بعض الاضطرابات العقلية عن طريق التسمّم. على سبيل المثال، تحدث متلازمة كورساكوف[4] (Korsakoff’s syndrome) بسبب تعاطي الكحول المزمن. رغم وجود بعض الأمراض المعروفة الأسباب، إلّا أنّ هناك الكثير من الأمراض غير معروفة الأسباب، ففي معظم الحالات تكون أسباب المرض العقلي غامضةً. بالإضافة إلى أنّ هناك أسبابًا متعددةً لكثيرٍ من الحالات، على سبيل المثال الإصابة بالفصام قد تتأثر بالعوامل الوراثية، ولكن الحالة تزداد أيضًا بسبب تعاطي المخدرات ومضاعفات فترة الحمل عند المرأة والضغوط الاجتماعية (Cooper 3).ة
دعمٌ لموقف ليلينفيلد ومارينو
إنّ من يريد أن يقدّم تعريفًا للمرض العقلي، يتوجّب عليه تحديد شروطٍ كافيةٍ وضروريةٍ تشمل جميع الأمراض التي تُصنَّف عادةً بأنها عقليةٌ. إلّا إذا أراد أن يرفض عددًا منها كأمراضٍ عقليةٍ وتبرير موقفه. يتبين لي أنّ الأمر إذا لم يكن مستحيلاً، فهو في أفضل الأحوال صعبٌ جدًا. فإذا أخذنا تعريف ساس للمرض العقلي، على سبيل المثال، بأنه مرضٌ دماغيٌ، فيمكن أن نستنتج منه أنّ اضطراب الشخصية ليس مرضًا بما أنه لا يمتلك أسبابًا بيولوجيةً. فإذا عرّفنا المرض العقلي بأنه مرضٌ أسبابه مرتبطةٌ بالجهاز العصبي، هذا يعني أنّ اضطراب الشخصية ليس مرضًا عقليًا. لكنّ اضطراب الشخصية يُعتبَر بالنسبة لكثيرين نموذجًا أساسيًا للمرض العقلي، لذلك من الأفضل أن نجد شروطًا تربط اضطراب الشخصية بالأمراض الدماغية لكي نُحرز تقدّمًا في مسألة تعريف المرض العقلي. وإذا أردنا أن نفكر بالصفات المشتركة بين اضطراب الشخصية والفصام مثلاً، فمن البديهي أن نربط كلاهما بالسلوك. وذلك لأن السلوك الغريب أو غير الاعتيادي هو أمرٌ مشتركٌ بينهما. فحتى وإن كان اضطراب السلوك من العوارض للأمراض، يمكننا تعريف المرض العقلي عبر شروطٍ تتضمّن العوارض أو الأسباب، وليس بالضرورة أسباب المرض حصرًا. لكن السلوك غير العادي يجمع أيضًا بين الأمراض التي تُعتبَر نفسيةً والتي تُدرَس وتُعالَج في علم النفس (psychology) والعلاج النفسي (psychotherapy)، وبين الأمراض العقلية التي تُعالَج في الطب النفسي (psychiatry). مما يجعل الأمر غامضًا عوضًا عن توضيحه، ويجعلنا نرى أنه من الصعب وضع حدودٍ واضحةٍ بين الأمراض. خاصةً وأنّ بعض الأمراض مثل اضطراب الشخصية يُعالَج مع المعالج النفسي (psychotherapist) ومع الطبيب النفسي (psychiatrist) في ذات الوقت. فكثيرٌ من الأمراض أسبابها وعوارضها تتنوع بين العوامل النفسية والجسدية والعقلية، غير أنه من الصعب التمييز بين الأسباب والعوارض في الأمراض. مثلاً، كيف يمكننا معرفة ما إذا كان موت خلايا الدماغ في مرضٍ معينٍ هو من أسباب المرض أو من نتائجه وعوارضه؟ من الأفضل أن نقول بأنّ المرض يترافق مع موت خلايا الدماغ لأننا لا نملك أيّ دليلٍ قاطعٍ على العلاقة السببية. في الحقيقة، العلاقة السببية هي إحدى أهم المشكلات في تشخيص الأمراض، فلا يمكن أن نعتبر جميع الارتباطات سببية، وهذه المشكلة تعود لتعريف العلاقة السببية. لذلك، وانطلاقًا من هذه الصعوبات وخاصةً تنوّع العوارض واللغط بينها وبين الأسباب، أعتقد أنّ تعريف المرض العقلي أمرٌ مستحيلٌ.
الخاتمة
يمكننا أن نعمل على تعريف بعض الأقسام أو الأنواع المحددة من الأمراض كما بعض الأقسام من الألعاب والعلوم، ولكن من الصعب أن نعرّف المرض، اللعبة، والعلم من خلال شروطٍ كافيةٍ وضروريةٍ. يمكننا تعريف الألعاب الرياضية وحدها والألعاب التي تعتمد على التفكير والذكاء كالشطرنج بمفردها، لكن يبدو تعريف جميع أنواع الألعاب في مفهومٍ واحدٍ أمرًا مستحيلًا. كما يمكن تعريف الرياضيات وعلم المنطق بأنها تجريدية وتعتمد على البرهان (demonstration)، وتعريف العلوم التجريبية بأنها تعتمد على التجربة الحسّيّة، ولكن عندما نفكّر بجمعها مع علم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم في تعريفٍ واحدٍ تحت شروطٍ محددةٍ، يبدو الأمر مستحيلاً. وربما يمكننا تعريف الأمراض التي تتعلق بجهاتٍ أو أعضاءٍ معينةٍ من الإنسان، لكن من الصعب أن نجمع الأمراض كلها تحت تعريفٍ واحدٍ. وحتى أنّ هناك صعوبةً كبيرةً في تعريف بعض الأمراض المحددة نظرًا لتشابك العوارض في أكثر من عضوٍ في الجسم وأكثر من جهةٍ من حياة الإنسان النفسية والاجتماعية والفكرية.
إنّ تعريف المرض العقلي يحمل في أساسه مسألة ما إذا كان العقل مختلفًا بطبيعته عن طبيعة الدماغ والجسد، حيث يتعامل بعض الفلاسفة مع الأمراض التي ليس لها أيّ أسبابٍ جسديةٍ بيولوجيةٍ واضحةٍ، بأنها دليلٌ على أنّ الأسباب كامنةٌ في طبيعة العقل غير الجسدية، والبعض الآخر يعتبر أنّ أسباب الأمراض العقلية جميعها جسديةٌ بما أنّ العقل لا يختلف بطبيعته عن الدماغ. لكن، حتى لو كانت جميع الأمراض متعلّقةً بالجسد، فلا يمكننا التأكّد من أنّ الحالات الجسدية التي تترافق مع المرض هي أسبابه وليست نتائج عنه. أي أنّ اللغط بين العوارض والأسباب في الأمراض أمرٌ واردٌ دائمًا في التشخيص، وهذا لا ينحصر فقط في أمراض الطب النفسي، لكنّ مسألة اختلاف أو تطابق العقل والدماغ تُفاقِم مشكلة اللغط بين الأسباب والنتائج في تشخيص المرض العقلي. لذلك، حتى الآن، ليس هناك تعريفٌ للمرض بشكلٍ عام، ولا للمرض العقلي بشكلٍ خاص.
[1] في هذا المقال ليس هناك تمييزٌ بين المرض (illness) والاضطراب (disorder) العقلي.
[2] الاكتئاب الذهاني هو نوعٌ فرعيٌ من الاكتئاب يتميّز باضطراب الحالة المزاجية، خطر الانتحار، والضعف الإدراكي.
[3] الهوس (Mania) هي حالةٌ من الانفعال أو ارتفاع المزاج بشكلٍ غير طبيعيٍّ، ويترافق أحيانًا مع ارتفاعٍ لمستويات الطاقة. يُعرَف عامةً بالجنون.
[4] متلازمة كورساكوف هي خللٌ دماغيٌ نتيجة نقصٍ في مادة الفيتامين ب 1 في الدماغ، ومن عوارضها فقدان الذاكرة.
مراجع:
Cooper, Rachel. 2007. Psychiatry and Philosophy of Science. Routledge: Oxford.
Lilienfeld, Scott and Lori Marino. 1995. “Mental Disorder as a Roschian Concept: A Critique of Wakefield’s ‘Harmful Dysfunction’ Analysis”. Journal of Abnormal Psychology 104: 411–20.
Wakefield, Jerome. 1992b. “Disorder as Harmful Dysfunction: A Conceptual Critique of DSM-III-R’s Definition of Mental Disorder”. Psychological Review 99: 232–47.
Wakefield, Jerome. 1999. “Evolutionary Versus Prototype Analyses of the Concept of Disorder”. Journal of Abnormal Psychology 108: 374–99.
Wittgenstein, Ludwig. 1953. Philosophical Investigations. Oxford: Blackwell.
Szasz, Thomas. 1972. The Myth of Mental Illness. London: Paladin. First published 1961.