تختلف عمليَّة مُعالجة الكُتُب وتناوُلها على حسب اختلاف الكتاب نفسه؛ من حيث مادته وموضوعه ومنهجه وأمور أخرى. أقصد هُنا المُعالجة الجادَّة العِلميَّة للكتاب، لا تلك المقالات السطحيَّة -المادِحة أو الهاجية أو المُحايدة- التي تصدر في الصُحُف. وكتاب “كلاسيكيات السينما العالَميَّة” ينتمي إلى ذلك الصنف الذي يقوم على فعل “الاختيار” أو “الانتقاء”.
وهذا الصنف له خصوصيَّة في تناوُله، وهو أصعب من غيره لسبب قد يبدو واضحًا؛ وهو عدم قيامه على وحدة الموضوع، إنَّما على فكرة الاختيار نفسها، وعلى منهج وضوابط الاختيار الذي وضعه الكاتب. فليس هناك “موضوع” واحد مُمتدّ على صفحات الكتاب، تستطيع أنْ تتابعه مُلخِّصًا أو مُستعرِضًا. إنَّما لدينا مقدمة ثمَّ فصول كثيرة عن “موضوعات” -هي أفلام هُنا- تنفصم عضويًّا، وتتصل بفكرةٍ؛ هي كونها كلاسيكيَّات. لذا تتبدَّى الصعوبة في دراسة هذا الصنف أنَّه لا يُعطيك الكثير عن الموضوع، بل مادَّتُك الرئيسةُ هي المنهج.
وتحرِّي المنهج في مثل هذا الكتاب أمرٌ ضروريٌّ جدًّا. فإذا أتانا كاتبٌ يدَّعي أنَّه يُقدِّم لنا ويُعرِّفنا على أهمّ الكُتُب في العالَم أو أفضل اللوحات أو أقيم المقطوعات الموسيقيَّة فيجب علينا أنْ نتأكَّد -قبل أنْ نقبل منه- من أهليَّته لذلك العمل، ومن منهجه وطريقه في هذا العمل الانتقائيّ. لذا لا يسأل القارئ: لِماذا الحديث عن المنهج؟ لأنَّ هذا الكتاب في حقيقة الأمر لا يُناقش مُناقشةً مُثمرةً إلا عن طريق المنهج.
- كتاب “كلاسيكيَّات السينما العالَميَّة”
عن دار أردنيَّة اسمُها مُعبِّرٌ “خطوط وظلال” صدر كتاب “كلاسيكيات السينما العالَميَّة” لكاتبه “أمير العِمَرِي”. في أوَّل عام 2021. وفي ثلاثمائة وأربعين صفحة أتانا الكتاب المُكوَّن من مقدمة، ثمَّ سبعة وعشرين فصلًا. تناولتْ الفصول تسعةً وعشرين فيلمًا، مع ضمّ أربعة أفلام في فصلَيْنِ بداعي توحيد المُخرِج. غلاف الكتاب جميل جذَّاب فنيًّا وتِجاريًّا تعلوه لقطة من فيلم “العصر الحديث”، يظهر فيها الصانع السينمائيّ الشهير “شارلي شابلن”. يُوجِّه الكاتب خطابه للشباب جمهورًا ومُخرجين؛ داعِيْهِم إلى مُشاهدة هذه الأعمال، أو مُعاودة المُشاهدة لها.
ويتميَّز الكتاب بحجمه المُناسب غير المُرهق أثناء القراءة، مع استخدام كثير من الصور غير المُلوَّنة الخاصة بكلِّ فيلم في صفحاته. وأدعو الناشر والكاتب أنْ يُعيدا التصحيح اللُّغويّ للكتاب، متى استقرَّا على إصدار طبعة ثانية منه -أو انفرد الكاتب بها-؛ فالكتاب شديد الاحتياج لهذا المجهود الذي سيصون الجهود المبذولة به، وهي تستحقُّ الصون.
وأرى أنَّ هذا الكتاب مُفيد للقارئ من عدَّة نواحٍ: فهناك الظاهر وهو هذه المأدبة السينمائيَّة التي يدعونا إلى الاغتراف منها. وهناك غير الظاهر؛ مثل معرفة بعض الأمور عن دخائل الصناعة السينمائيَّة، وعن عمليَّات ترميم الأفلام القديمة، وعن بعض المذاهب السينمائيَّة -مثل “التعبيريَّة الألمانيَّة” التي اهتمَّ بها كثيرًا-، وعن بعض الاتجاهات السينمائيَّة -مثل تيَّار السينما السياسيَّة- وبعض المُصطلحات عند مُبدِعِيْ السينما مثل “سينما الشِّعر” عند المُخرج “بازوليني”، وعن عمليَّة الإنتاج السينمائيّ، وعن النقد الغربيّ -كما سيأتي-.
- إشكاليَّة “العالَميَّة” والكاتب
الكاتب ناقد سينمائيّ كبير، له ثلاثون من الكُتُب في النقد السينمائيّ وغيره. وقد أسَّسَ المجلَّة السينمائيَّة الإلكترونيَّة “عين على السينما”؛ والتي تُقدِّم ما لا تُقدِّمه غيرها من مجلات سينمائيَّة نادرة في العالَم العربيّ. والكاتب يعيش في الغرب منذ عقود، وهذه المعلومة لها أثر ودلالة على كتابنا هنا.
فلعلَّ عُنوانًا كعنوان الكتاب يضع ابتداءً شروطًا للتأليف؛ أبرزها وجُوب تمتُّع الكاتب الذي قام بالاختيار بخِبرة عامرة من جانبَيْن: جانب الاطلاع على الحصيلة الإجماليَّة للسينما العالَميَّة للتأهُّل في التأليف تحت عنوانه، وجانب الخبرة المعرفيَّة النقديَّة العامَّة -لا النقد المرتبط بثقافة واحدة- حتى يستطيع أنْ يقوم بهذا الفعل. إنَّ هذا الكتاب عن بحرٍ واسعٍ جدًّا، يبدو عُمقُه في وَصف “العالَميَّة”، والتي تقف على التضادّ من السينما “المحليَّة”، كعنوان “كلاسيكيَّات السينما المصريَّة” مثلًا.
وهنا قد يطرح القارئ سؤالًا: هل يُمكن أنْ يُعطي “الارتكاز المكانيّ” ميزةً في التعرُّف على ما يُسمَّى بكلاسيكيَّات السينما العالَميَّة؟ .. سأجيب أنْ ليسَ “الارتكاز المكانيّ” بل الاقتراب الثقافيّ والتماسُّ المُباشر لمدَّة طويلة جدًّا هي الفارق. ولأمثِّل بمِثال: للمُستشرقين (وهُم الغربيُّون الدارسون لحضارات الشرق وأديانه ولُغاته، وكافَّة ما يتعلَّق به) مشكلةٌ مركزيَّةٌ تجعلهم غير قادرين أصلًا على فهم مادَّتهم في مستواها العميق، وتجعل نتائجهم غريبةً كلَّ الغرابة في حقيقة الأمر. المُشكلة هي هذه الغُربة الثقافيَّة التي لا يمكن تجاوُزها بحُكم الثقافة الابتدائيَّة التي صنعتها لحظاتُ الميلاد والتنشئة.
وهُنا يكمن امتياز الكاتب؛ أنَّه مصريّ عالِم مُقترب من السينما المحليَّة والإقليميَّة والعالَميَّة، وكذا مُطالِع للإنتاج السينمائيّ في أحد مراكزه أو مركزيَّاته. منذ عقود -قبل الاقتراب الذي صنعتْه الاتصالات الآن- يُشاهد ما يصدر من أفلام -بوصفها مُنتجًا ثقافيًّا- في ظلّ ثقافتها، ويقرأ ما يُكتب من مُنتَج نقديّ شرقيّ وغربيّ. ولعلَّ مجموع هذا كفيلٌ أنْ يُقدَّم للقارئ العربيّ تلك المائدة العامرة، بخطابٍ مُوجَّه له خاصَّةً. وهذه النقطة تتضح إنْ استدعينا تصوُّرًا لكتابٍ؛ له العنوانُ نفسُه يكتُبُه غربيٌّ -أو غريبٌ- يأتينا مُترجَمًا.
لقطة من “نظرة عوليس”
- ما هو امتياز الكتاب الأكبر؟
وبِناءً على ما سبق؛ نجد أنَّ كتابنا هذا تميَّز بما يصعُب على غيره أنْ يتميَّز به. ويمكن أنْ أوجز أهمَّ ملامح امتيازه في:
- البحث في الأعمال المُختارة من الأفلام عن “الفنّ” الأصيل، لا عن “الفيلم المُشتَهَر”. ولعلَّ هذا ما ضمَّنه الكاتب في إهدائه الكتاب إلى عُشَّاق السينما الفنيَّة في العالَم العربيّ، يدعوهم فيها للعودة إلى الأصول. وكأنَّه يُصنِّف كتابًا عن الكُتُب الأصيلة تأثيرًا في العِلم، لا عن “أشهر الكُتُب”.
- الخروج من المركزيَّة الضيِّقة، ومن صَنَم السينما الأمريكيَّة الذي يأسر المُتحدِّث عن السينما العالَميَّة عادةً، إلى نظرة أرحب أُفُقًا في إسهام “العالَميَّة”. وهذا ما نجده مُمثَّلًا في توزيع الأفلام على الجنسيَّات؛ فلدينا عشر جنسيَّات، تتوزَّع على ثلاث قارَّات. منها ثمانية أفلام أمريكيَّة (قارَّة أمريكا الشماليَّة). وستَّة ألمانيَّة، وأربعة بريطانيَّة، وفيلمان من السويد، وفيلمان من فرنسا، ومِثلهما من إيطاليا، وفيلم من التشيك، وآخر من اليونان (قارَّة أوربا). وفيلمان من الاتحاد السوفيتيّ، وفيلم من اليابان (قارَّة آسيا).
وقد يسأل القارئ عن التفاوُتِ بين التوزيع على الثقافات الواضحِ أمامك؛ عندها أقول: لا يمكن اقتسام مائدة ثقافيَّة لأوسع من هذا، مع اعتبار الأحقيَّة والأقدميَّة والخبرة للصُّنَّاع. فهُم بالفعل أكثر خبرةً ومكانةً ورُسُوخًا. كما لا يمكن مُعالجة الأمور الثقافيَّة بفكرة المُحاصَصة على حساب جميع العوامل الفائتة.
- ربط المُنتج الفيلميّ بالمُنتج الثقافيّ النقديّ الغربيّ. فقد خصَّصَ الكاتب في كلّ فصل عرضًا خاصًّا للاستقبال النقديّ للفيلم من النقاد الغربيِّين. قد يُوجِز فيه ويُجمل، وقد يُفصِّل ويُقابِل الآراء بعضها ببعض، ويُواجِهها بما يُطلعنا على اتجاهه أو ميله إلى أحدها. ولعلَّ هذه الخطوة من أهمّ ما جاء في الكتاب، ولها أثر في تعرف القارئ العربيّ على هذا المُنتَج النقديّ الغربيّ؛ ليعرف كيف يُفكِّرون في الأفلام، وكيف يُقيِّمونها، وهل يختلف النقد الغربيّ عن النقد العربيّ؛ على قدر المُستطاع بالقطع، فهذا ليس موضوع الكتاب.
- ما هو “الفيلم الكلاسيكيّ”؟
كلمة “كلاسيكيّ” مُتعدِّدة المعاني؛ فمن جهة الزمن تدلُّ على الشيء القديم، ومن جهة الكينونة تشير إلى الشيء الجيِّد أو المُؤثر أو المِثاليّ الذي رسَّخَ تقاليد مُعيَّنة أو شقَّ اتجاهًا جديدًا. والكاتب يطلعنا على التأرجُح النقديّ السينمائيّ، في مسألة تحديد “الكلاسيكيّ” من هذا الكمّ الهائل من الأفلام. ويبدو أنَّ الاتجاه الغالب يرتكز على دلالة الجهة الزمنيَّة، فيُعرِّف جزءٌ كبيرٌ من النقَّاد “الكلاسيكيّ” بأنَّها الأفلام الأقدم الصامتة. وعلى تحديد هذه الفئة ينشقُّ مُصطلح آخر هو “الكلاسيكيَّات الجديدة” -بمُراعاة المعيار الثاني أو جهة الكينونة- فهي عندهم الأفلام البارزة الجودة التي أُنتجِتْ بعد هذا الحدّ الزمنيّ. لكنْ ما هي الأفلام الكلاسيكيَّة عند الكاتب؟ وهي من أكبر المُرتكزات المنهجيَّة في الكتاب، بل تعدُّ أكبرها.
من المُقدِّمة أستطيع أنْ أُحدِّد معيارَيْنِ لهذا الصنف من الأفلام، وعددًا من السمات التي تمتاز بها. أمَّا المعيارَان فهُما: صُمُود العمل أمام الزمن، والآخر تأثير العمل النافذ في الجمهور. على أنْ يكون هذا التأثير غير لحظيّ، أيْ لا ينتهي عند مرَّة المُشاهدة الأُولى -فكثيرًا من الأفلام تؤثِّر فينا لحظيًّا، وحينما نعود إليها لا نجد من هذا التأثير شيئًا-، بل يجب أنْ يجد المُشاهدون في كلّ مرَّة في الفيلم طزاجةً ومعاني وتصدير مشاعر. ولعلَّه في المعيار الثاني يتحدَّث عن الاشتراك على أقصى مدى من الجمهور في الشعور بتجدُّد المُشاهدة، فمسألةُ المُشاهدة -أو قُلْ قضيَّة المُشاهدة- أمرٌ مُعقَّد جدًّا مُختلف على أساس عدد من الاعتبارات.
غلاف “الأزمنة الحديثة”
وقد أجد أنَّ المعيار الأوَّل “الصمود أمام الزمن” مُشكِل أيضًا، ويطرح من الأسئلة -عن المدى وعن العوامل المُصاحبة للتجربة- الكثير. لذا نجد الكاتب يُحدِّد بعض سماتٍ، قد يضمن بها العملُ الفنيُّ هذا الصمود أمام الزمن. مُمكن أنْ أعيد تشكيلها في الآتي:
- الثراء الفنيّ من مجموع صُنَّاع العمل، وعلى كافَّة مراحله.
- تمتُّع العمل بـ”البُعد الإنسانيّ”؛ الذي به يتجاوز حَدَّيْ المَحليَّة والإقليميَّة، ليلمس شعور وفكر كلّ إنسان على امتداد الثقافات واختلافها.
- قدرة العمل على الإثارة الجماعيَّة للمشاعر؛ بغضّ النظر عن الحدَّيْنِ الزمانيّ والمكانيّ.
- وعن تحديد الكلاسيكيَّات القديمة؛ وصفها بأنَّها التي صنعتْ تلك الوشائج والصِّلات بين الصورة السينمائيَّة ومُفردات اللُّغة السينمائيَّة وبين الجُمهور. وكذلك التي رسَّختْ نوعًا جديدًا من السينما أو دشَّنتْه ابتداءً.
- وعن القديمة والحديثة يصِفُ الفيلم الكلاسيكيّ بأنَّه الفيلم المُبتكِر لشيءٍ في الصنعة السينمائيَّة أو المُقدِّم شخصيَّةً فريدةً لبطله والخالق لتعقيد يتجاوز الزمن ويصير “نموذجًا” عامًّا.
وهناك معيارانِ آخرانِ أورَدَهُما: الأوَّل هو استثناء بعض أشهر وأعظم الكلاسيكيَّات. فإذا سألنا أيّ شخص مُهتمّ عمَّا هي الكلاسيكيَّات؟ سيقفز أمامه فيلم “العرَّاب” أو فيلم “ذهب مع الريح”. وقد استثنى الكاتب هذه الفئة لأنَّها قد قُتلتْ بحثًا من النُّقَّاد قديمًا وحديثًا، ذاهبًا إلى خيارات أكثر بكارةً من تلك الخيارات. وهي من محاسن الكتاب الكُبرى -كما أشرت في أوَّل عناصر امتيازه-. أمَّا المعيار الآخر هو معيار الشخصيَّة؛ فالكاتب في الأخير قد فضَّلَ أعمالًا على أعمال مُشابهة ومُماثلة، وفي فعل الانتقاء -حتى مع تطبيق شديد للمنهجيَّة- تبقى أمام الكاتب مساحة لا يحسمها إلا التفضيل الشخصيّ. فالذاتية حاضرة في الاختيارات -وهي طبيعة الإنسان والكون، وليس عيبًا في العمل-.
- المنهجُ العامُّ للكتاب
وهنا نتقدَّم خطوةً في تحرِّي منهج الكاتب -بعدما وقفنا معًا على الخطوة الأعظم؛ وهي تحديده للكلاسيكيَّات ومعناها وضوابطها- إلى السؤال عن المنهج العامّ والخاصّ. وبالعموم فقد نأى الكاتبُ عن فكرة الاستعراض الصحفيّ أو التناوُل الصحفيّ الذي قد يُسلِّي القارئ -كما نرى في الخضمّ الأعظم مِمَّا يُسمَّى “نقدًا” فهي أساطير الأولين تُروى-. فلمْ يكُنْ قصدُهُ إيصالك إلى شعور حكاية ما قبل النوم. بل انتهج منهج التحليل في كامل الكتاب، إلا في المُقدمة فقد انتهج نهجًا استنباطيًّا في الوصول إلى مفهوم “الكلاسيكيّ” من الأفلام.
أمَّا عن المنهج الفعليّ -وكلمة منهج هُنا مقيَّدة بقيود الاستخدام والظرف- في تناوُل الأفلام؛ فلمْ يَسِرْ على منهج مُوحَّد، ولا على ترتيب مُوحَّد في فصوله. فنحا نحو تجلية الفنيَّات المركزيَّة في الأفلام الأولى الصامتة، كما لجأ إلى تتبُّع القصَّة والسرد (مثال فيلم العصر الحديث). واستخدم المنهج الاجتماعيّ في جميع التجارب، وهو المنهج القائم على تحرِّي حياة الفنَّان للوصول إلى أثر ذلك في عمله، وهو منهج شائع جدًّا. كما لجأ أيضًا إلى المنهج النفسيّ في بعض التجارب، ويستخدم المعالجة الداخليَّة المُرتكزة على فنيَّات العمل كثيرًا، وقد يلجأ إلى المعالجة الخارجيَّة دون التعرُّض للفيلم داخليًّا (مثال فيلم “زِد”). كما لجأ لمنهج الاستبطان والتأمُّل في أفلام مثل “بيرسونا” و”نظرة عوليس”.
وهنا أناقش أمرًا أجَّلتُه من عنوان “امتياز الكتاب”؛ ألا وهو جديَّة الطرح في الكتاب. فالكاتب يمتاز بالجديَّة والتحضير وسبق المعرفة بالفيلم وظروفه، ويُراجع الخلفيَّات التاريخيَّة والسياسيَّة للأعمال، ويستحضر ما يلزم للكتابة عنها. ونحن هُنا أمام نقطة مِفصليَّة، أمام كاتب يحترم القارئ الذي يقرأ، ويحترم نفسه قبلها.
أردتُ التركيز على هذه النقطة في ظلّ شيوع رُوح “الفهلوة” في الكتابة النقديَّة عمومًا -بل في صنوف الكتابة كلِّها في الحقيقة-. فقد شاعتْ تلك الكُتُب التي تُسلِّي، لا يلجأ فيها “الكاتب” -وأعتذر عن وصف كاتب- إلا إلى خفَّة ظلِّه -التي يدَّعيها-، وقدرته على تسلية القارئ والتسرية عنه. ليُخرج لنا كُتُبًا يقرأها القارئ حتى وهو نائم. فلنْ تُغيِّر حالُه من حيث الانتباه شيئًا في استقبال ما يقرأ. وهنا أطالب القارئ على التنبُّه لخطورة هذه الكتابات، والابتعاد عنها قدر ما أمكن؛ لأنَّها مرض مُعدٍ كالجَرَب، هي “كتابة” بلهاء تُصيب قارئها بالبَلَه.
- مفهوم “السينما الخالصة”
ومن أمر المنهج الذي يحكم الكتاب واختياراته هذا المفهوم الذي أرساه الكاتب للسينما الخالصة. وسأحاول صياغة تعريف لها من وحي ما كتب. وهي السينما التي تعتمد اعتمادًا مُطلقًا على الأدوات السينمائيَّة وعلى اللُّغة السينمائيَّة، والتي تنطلق من فكر ومشاعر وعقائد صانعِيْها. ونزيد الأمر وضوحًا بما يُقابلها من سينما غير خالصة: ويقصد بها تلك السينما التي تَصدُرُ عن عوامل غير سينمائيَّة: مثل مُراعاة ضغوط الإنتاج، وظروف التوزيع، والرضوخ تحت الحُكم السياسيّ والامتثال لأوامره، بل اتخاذ السينما أداة نُطق باسمه. وهذا المفهوم كان حاكِمًا في رؤيته لاختياراته.
لقطة من فلم “ران”
- هل كان الكتاب مُحايدًا؟
في أيّ كتاب يعتمد على الاختيار والانتقاء بغرض الصالح العامّ لا بُدَّ من تحرِّي سمة “الحياد”؛ والذي أقصد به هُنا مدى تأثير التفاعُل النفسيّ للكاتب على فعل الاختيار. ويجب أنْ نتذكَّر أنَّ الكتاب ليس مجموع مقالات نقديَّة، بل هو خلقٌ مُتجاوز لفكرة النقد إلى تقديم المُنتَج الثقافيّ الفيلميّ. وأستطيع أنْ أقول إنَّ الكاتب كان مُحايدًا، لمْ يشُبْ هذا الحيادَ إلا المواقف التالية:
- الوقوع تحت تأثير الصانع السينمائيّ. وقد تحقَّق هذا بوضوح في حالتَيْن: الأولى وقوعه تحت تأثير الإعجاب بـ”ليني ريفنشتال” مُخرجة فيلم “انتصار الإرادة”، فقد سانَدَها ودعَّمَها تدعيمًا مُطلقًا، ورجَّح كفَّتها على كفَّة إدانتها -بتُهمة ترويج النظام النازيّ-، وأخذ في النَّيْل من الاتجاه المُدين لها. وما أشدَّ ظهور هذا التحيُّز من عنوان الفصل “المرأة تصنع التاريخ”! .. الحادثة الثانية وهي أقلّ وطأةً؛ حيث ظهر عُنصر التعاطُف البالغ مع المُخرج اليابانيّ “أكيرا كيروساوا”، الذي أخرج فيلم “ران”. ولعلَّ تعاطُفه هُنا آتٍ من تشابُه بين ظروفه وبين ظروف الكاتب نفسه؛ فكلاهُما شرقيّ مُتعاطٍ مع الغرب. أمَّا بقيَّة المُعالجات مع الصُّنَّاع فقد ظهر فيها عنصر “الاحترام” لا الانحياز والتعاطُف.
- تغليب الجانب الأيديولوجيّ في مناقشة فيلم “لورانس العرب”. ولا شكَّ أنَّ الكاتب سلَّم بكامل إعظامه لهذا العمل في المُقدّمة، مُعتبِرًا إيَّاه مثالًا يُحتذى لمفهوم الأفلام الكلاسيكيَّة. ويعدُّ هذا الفصل أكثر الفصول إغراقًا في الذاتيَّة، وجذبًا للكتاب ناحية “الكاتب” لا ناحية “مصلحة القارئ”. وليس أدلّ على الانحياز من أنَّ الكاتب أفرد له خمسة وثلاثين صفحةً وحده، في حين أنَّ مُتوسط الفصول جميعًا عشر صفحات إلى خمس عشرة صفحةً. ليبثَّ فيها فردانيَّة مَفاهيمه عن القَدَر وعن العرب والعُروبة وغيرها. وقد بلغتْ آيات الانحياز الأيديولوجيّ في تناوُله حدًّا بالغًا في تماهيه مع العمل. هذا الفيلم الذي هو في حقيقة الأمر جريدة ثقافيَّة استعماريَّة للمُحتلّ يُجمِّل بها صورته. وهل يُلطِّف من جُرح السيف أنَّ مقبضه أخَّاذ؟!. ويَسُوغ عندها أنْ نقرأ كلماته: “ليس من المُمكن بالطبع تبرئةُ الفيلم تمامًا من الوقوع في تلك النظرة الاستشراقيَّة الاستعلائيَّة نفسها”!
- مسألة اختياره لفيلم “المصريّ” الفيلم الأمريكيّ للمُخرج “مايكل كورتيز”. فاختياره هذا به الكثير من التغليب الشخصيّ. ولنْ أوضِّح هذا التغليب إلا بما أورده الكاتبُ نفسُه من أنَّ الفيلم به الكثير من الاضطراب والاستطرادات والإطالة، ويمتاز السيناريو فيه بالفجوات وضعف التبرير. كما يسقط الفيلم أيضًا في اختلاط عظيم بين العصور الفرعونيَّة ليجمع بين شخوص لمْ تجتمع. كما كان التمثيل رديئًا من البطلَيْن؛ خاصةً تلك المُمثِّلة التي أتى بها المُنتِج لعلاقة خاصَّة بينهما. وبعد هذه العوامل المُسقِطة لأيّ عمل نجده يعتبره من الكلاسيكيَّات التي “يجب” مُشاهدتها. ولا يبقى من تبرير إلا أنْ ننظر مع الكاتب للمُخرج نظرةَ تعاطُف؛ فنعرف أنَّه كان مُرغَمًا على المُمثِّلين -والإنتاج له دور ضخم في أيّ عمل سينمائيّ على خلاف الشائع بين الجمهور من سلطويَّة المُخرج-. فما الحيلة في السيناريو؟! وهل فيلم بهذه الصفات يستحقُّ أنْ يُدرَجَ في هذا الكتاب لمُجرد تناوُله للتاريخ الفرعونيّ؟ ولأنَّه نَظَمَ ديكورات وصوَّر مناظر فخمة؟
لا أقصد بهذه المواقف الثلاثة أنْ أقدح في الكتاب، ولا في الكاتب. علمًا بأنَّ أحدًا لا يُنازع في استحقاق أفلام “انتصار الإرادة” و”ران” و”لورانس العرب” لمكانة فنيَّة رفيعة. ولا ننسَ أنَّ الكتاب به تسعة وعشرون فيلمًا.
- سمات الكاتب من الكتاب
تستوقفني لمحة في طريق استجلاء منهج هذا الكتاب؛ وهي وضوح وبروز السمات النفسيَّة للكاتب فيما كتب. وأستطيع أنْ أحدِّد بعضها هنا؛ فهو شخص حَكَّاء يُجيد الحكاية، والكاتب ينحاز للأُناس ذَوِيْ المبادئ الثابتة، خاصَّةً المُناضلِيْنَ عنها (مثال حديثه عن الكاتب والمخرج الأمريكيّ “أبراهام بولونسكي”، في فيلمه “اذهبْ وقُل لهم: ويلي بوي هُنا”). وهو أيضًا يُمجِّد شعور الثورة، وفعل الثورة. وجميع هذه السمات النفسيَّة أثَّرتْ -على تفاوُتٍ- في اختياره.
إنَّ كتاب “كلاسيكيَّات السينما العالَميَّة” إضافة رصينة جادَّة لا إلى المكتبة السينمائيَّة العربيَّة، بل إلى المكتبة المعرفيَّة العربيَّة. وأنا هنا أدعو الكاتب أنْ يُخصِّص كتابًا على غراره عن “كلاسيكيَّات السينما العربيَّة”. والتحيَّة لكُلّ عمل جادّ موصولة.