منذ فجر الحضارة، سعى الإنسان لفهم طبيعة العالم المحيط به، ومن أجل فهم وشرح جوهر الأشياء والعمليات من حوله، استخدم الأساطير والدين والعلم والفلسفة، وبما أن المجالين الأخيرين من الثقافة المعرفية هما طريقتان عقلانيتان لفهم العالم وإدراكه، فهناك العديد من السمات المشتركة بينهما، وبناء على ذلك يصبح من المهم النظر في مسألة العلاقة المتبادلة بين الفلسفة والعلم.
ولدت الفلسفة والعلم عمليًا في نفس الوقت، حدث هذا في اليونان القديمة بين نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد بالارتباط بانتقال الإغريق من المعرفة الحسية إلى المعرفة النظرية، لكن لفترة طويلة تواجد العلم والفلسفة في شكل واحد هو المعرفة العلمية والفلسفية، أو باليونانية “إبستيمي” (episteme)، ومن سمات هذه “الإبستيمي” أنها كانت تفكّرية بطبيعتها، أي تستند إلى المنطق، وقد استمر هذا حتى القرن السابع عشر، وبعد ذلك تم تقسيم المعرفة الفلسفية العلمية الواحدة، حيث بدأت المعرفة التجريبية، التي يتم تقديمها في العالم الحديث، بالسيطرة على أوروبا.
الفلسفة تدفع العلم نحو التطور، وتؤثر على العالم بطريقة خاصة، فيتأمل العالِم في الأسئلة الأبدية، وينظر إلى الواقع اليومي من جوانب جديدة لم تكن معروفة من قبل، وهكذا تدفع الفلسفة إلى معرفة العالَم، وتعلم الإنسان أن يندهش، وتسمح له بتجاوز حدود تفكيره اليومي والمساهمة في التقدم.
العلاقة المتبادلة بين العلم والفلسفة يمكن تتبعها عبر التاريخ، من العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر، ومع ذلك، ففي كل مرحلة تاريخية، تتغير طبيعة وأهداف ومهام هذه الأشكال من المعرفة، وبالتالي تتغير خصوصية تفاعلها، فلطالما شعر العلماء بالحاجة الملحة لفهم فلسفي لموضوع علمهم، خاصة في اللحظات الحرجة من تطوره، لأن الفلسفة تثير السؤال عن مقدمات تفكيرنا في الموضوع نفسها، والعلم الحديث، الذي يقوم بدوره بالعديد من الاكتشافات ويغير الواقع، يجعل الفلاسفة يطرحون أيضًا سؤالًا حول مقدمات الفلسفة ومكانها وهدفها في العالم بطريقة جديدة.
في عصرنا انتقلت مجالات المعرفة المختلفة بعيدًا عن بعضها بعضًا، وأصبح العلم مجالًا معرفيًا شديد التمايز، وقد يتكوّن لدى المرء انطباع بأن الفلسفة والعلم يختلفان عن بعضهما بعضًا، كما يختلف العلم عن الفن والعلم عن الأساطير.
تتعامل الفلسفة مع مشاكل مجردة للغاية، وغير قابلة للحل بدقيق المعنى، وتطرح الأسئلة بدلاً من الإجابة عليها، وفي الواقع، تطرح الفلسفة دائمًا نفس الأسئلة (حول العالم بشكل عام، والحياة البشرية، ومعناها وهدفها، والضمير والواجب، وما إلى ذلك) التي تسمى – وهذا ليس بدون أساس- “أبدية”، فبعد كل شيء، لا توجد إجابات لا لبس فيها ونهائية عن هذه الأسئلة، وفي عصور مختلفة وفي مجتمعات مختلفة، أعطيت إجابات مختلفة عنها.
لكن أي علم، على عكس الفلسفة، يتعامل مع أسئلة محددة تمامًا يمكن إعطاء إجابات محددة عنها، على سبيل المثال، يصف علم الأحياء الكائنات الحية ويصنفها، ويدرس توزيعها، ونمط حياتها، وسلوكها، والعلاقات بين الكائنات الحية المختلفة وبيئاتها المجتمعية، و”آليات” نشاطاتها الحيوية، وقوانين التطور الفردي والتاريخي.
من أجل تحديد القوانين العامة لتطور المعرفة العلمية، يجب أن تعتمد فلسفة العلم على معطيات من تاريخ علوم مختلفة محددة، وهي تقوم بوضع فرضيات ونماذج معينة لتنمية المعرفة، وتختبرها على المادة التاريخية المناسبة.
كل هذا يحدد ارتباطًا وثيقًا بين فلسفة العلم والبحوث التاريخية العلمية، ففلسفة العلم كانت دائمًا تتوجه إلى تحليل بنية وديناميكيات المعرفة في تخصصات علمية محددة، لكنها في الوقت نفسه كانت تركز على مقارنة التخصصات العلمية المختلفة، وتحديد الأنماط العامة لتطورها.
الفلسفة هي أحد العوامل في تقييم معايير العلمية وإصدار الأحكام والاستنتاجات لصالح العلمية أو ضدها، وبشكل عام، في توصيف درجة العلمية في ما يتعلق بأية فرضية أو نظرية أو أية معرفة كمنتـَج؛ لكن لسوء الحظ، ومثل كل شيء في النشاط البشري، فإن هذا لا يخلو من التأملية (speculativeness) التي تظهر بأشكال مختلفة، ونكرر القول بأن هذا محزن، فنظرًا لأن العلم وفلسفة العلم لهما اعتماد معين على المرجعيات (authorityies)، فهذا يعني أن المرجعية (authoritarianism) والتأملية تجعلانهما شبيهين بالدين، لكن دعونا نركز انتباهنا، حتى لا نعطي غذاء مجانيًا لنقاد الفلسفة، فالحديث عن أوجه التشابه مع الدين في هذا السياق يدور في المقام الأول عن العلم، وليس فقط عن المجال الفلسفي المعني.
في العالم الحديث، يعد التعليم الإنساني، أولاً وقبل كل شيء، مجموعة معرفية في مجال العلوم الاجتماعية والمهارات والقدرات العملية ذات الصلة بها.
من المعتاد الاعتقاد بأن العلوم الإنسانية تدرس الإنسان وأعماله، وأن العلوم الطبيعية تدرس الطبيعة، الحية وغير الحية والخاملة، أي تلك التي لم تكن على قيد الحياة أبدًا، وهكذا، فإن التعليم الإنساني يدور دائمًا حول الإنسان أو منتجات نشاطه، العملية أو الفكرية أو الفعلية أو التاريخية أو الخيالية، وإذا ما قارنا العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، يتبين أن موضوع الدراسة في العلوم الطبيعية هو العالم الطبيعي، والطريقة هي التجربة والتحليل، بينما موضوع دراسة المعرفة الإنسانية هو الإنسان والتجربة الإنسانية والطريقة هي النقد والقياس والتقويم.
أساس التعليم الإنساني هو مفهوم “التربية الجمالية” أو “كاليبيديا” (Callipedia) الذي نشأ في العصور القديمة، الـ”كاليبيديا”هي تربية شخصية متناغمة وشاملة، والتعليم هو عملية تكاملية تشمل التعلم ونقل التقاليد والحفاظ عليها، بالإضافة إلى ذلك هو عملية إبداعية تتضمن أنشطة إرشادية وإبداعية، والتعليم يتم بشكل مستمر، ويشمل كلاً من التعليم في المؤسسات التعليمية والتعليم الذاتي طوال حياة الشخص.
يقوم نظام التعليم على أساس العلم، فالإنجازات والاكتشافات والتغييرات الجديدة في العلوم تملي الحاجة إلى تغييرات في المناهج الدراسية، وتحسين جودة ومستوى التأهيل التعليمي بدوره يؤثر بشكل مباشر على تطور العلم والهندسة والتكنولوجيات الحديثة.
والعنصر الإنساني في العملية التعليمية لا ينبغي أن يوضع في المرتبة الثانية، فهو يتوجه نحو التسامح والتفاعلات الكفوءة بين الثقافات والأديان، وكذلك المحتوى الروحي للفرد.
كلمة “علم” تعني “تعليم المعرفة”، وقد غيّر العلم في شكله الحديث (التجريبي والبرهاني) حياة البشرية بشكل جذري، فهو يوفر المعلومات، ويعطي الإنسان الإمكانية لحل المشكلات الصعبة، وحياة الإنسان صارت تعتمد إلى حد كبير على الاكتشافات العلمية، والعلم يعمل مع حقائق عن العالم من حولنا، تم الحصول عليها في سياق التجارب والاختبارات والملاحظات.
يعطي العلم معارف محددة عن شيء ما، ويبحث باستمرار ويقدم طرقًا لتأكيد حقيقية ووثوقية الاكتشافات، ومنذ القرن السابع عشر، أصبح التحقق التجريبي من الفرضيات العلمية معيارًا من هذا القبيل، وعلاوة على ذلك، يجب أن تكون التجربة موضوعية وقابلة للتكرار، وهذا يجعل من الممكن فصل الأفكار الذاتية غير المؤكدة حول الواقع المحيط؛ ولكن ماذا تعمل فلسفة العلم؟ إنها تحدد الحدود بين المعرفة الحقيقية والكاذبة، وتدرس المبادئ والأساليب التي على أساسها يطرح العلماء الفرضيات ويفسرون الحقائق، وتبحث في عملية تطور العلم، كما وتفحص فلسفة العلم الأداء المنطقي الداخلي للآلية العلمية، وتحدد دور نظرية المعرفة في التعرف على العلاقة بين الأحاسيس البشرية والواقع، وتستكشف تأثير العلم على الجانب الأخلاقي للعلاقات الإنسانية.
بالنظر إلى العلاقة بين الفلسفة والعلم، قام الفيلسوف الأمريكي م. طومسون (M. Thomson)، بتحديد قضيتين إشكاليتين:
1- هل هناك جوانب من الواقع يعجز العلم عن تفسيرها ولكن الفلسفة تستطيع تفسيرها؟
2- إذا كانت الفلسفة والعلم يتعاملان مع نفس موضوع الدراسة، فكيف تكمل الفلسفة ما يستطيع العلم إخبارنا به؟
بشكل عام، فلسفة العلم هي أحد مجالات الفلسفة العامة التي تدرس الأساليب العلمية لوضع الفرضيات وصياغة القوانين من قبل العلماء، لكن العلماء في أنشطتهم يشاركون في مجموعة من الاهتمامات المحددة، المؤطرة بمشاكل العالم المحيط، والطبيعة، والتقنية، والتكنولوجيا؛ أما الفلاسفة فيبحثون عن مبادئ مشتركة في العلم، ويسعون لرسم صورة عامة للعالم، تأخذ بالضرورة في اعتبارها وجود الإنسان؛ لكن إذا كان العلم يعتمد على أدلة صارمة حول صحة التأكيد العلمي، فيجب استبعاد الإنسان من صورة العالم، والعلم قد بنى موقفه على حقيقة أن أية طرق لدراسة الواقع لم تحصل على صفة “العلمية” لا ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند وصف صورة العالم، لأنها ذاتية للغاية، وتشمل مثل هذه الطرق لوصف العالم جميع أنواع الفن والممارسات والتعاليم الروحية وأحكام القيمة العاطفية الشخصية، والسؤال الذي يطرح نفسه: «وماذا عن العالم الباحث نفسه؟ أين مكانه في هذا العالم العلمي الصارم»؟.
هنا نحتاج إلى رحلة قصيرة في تاريخ العلم، ومن المعروف أن الفترة حتى القرن السابع عشر تسمى “فترة ما قبل العلم”، و بدءًا من القرن السابع عشر، مع بداية العصر الجديد في أوروبا، تم تشكيل العلم الحديث، والذي طور أخيرًا المعيار الرئيس للعلمية: “التحقق التجريبي من الفرضيات والبيانات”، وتعتبر الفترة من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر وقت ازدهار العلم الكلاسيكي والخطية الصارمة وعدم الغموض، ويتضمن ذلك معايير الحقيقة في العلم.
في بداية القرن العشرين، مع النمو السريع للفيزياء التجريبية والفيزياء الذرية وميكانيكا الكم، بدأت مراجعة المبادئ والمنهجيات في العلم، وكان هذا علامة على ظهور علم جديد، غير كلاسيكي، أحد أهم مبادئ هذا العلم غير الكلاسيكي هو مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ، والذي يقول أن ذاتية الباحث تؤثر دائمًا على نتيجة البحث فقط بسبب وجوده، فالباحث يغير مسار الأحداث، والتي بدون وجوده يمكن أن يكون لها نتيجة مختلفة، وهذا المبدأ شائع ليس فقط في دراسات فيزياء العالم المصغر، ولكن في أي علم طبيعي وبحث إنساني واجتماعي، وبالتالي، فإن العلم غير الكلاسيكي يسمح بالفعل بالتأثير غير المتوقع لذاتية الباحث على المسار الحالي للأحداث.
يعتبر الربع الأخير من القرن العشرين علامة مرجعية للعلم »ما بعد غير الكلاسيكي«، وأسسه المنهجية هي دراسات في مجال التآزرية (synergetics)، وهي عبارة عن دراسات على العمليات في الأنظمة المعقدة المفتوحة التي تتفاعل باستمرار مع البيئة الخارجية وتتعرض للتقلبات والتأثيرات العشوائية غير المتوقعة، نتيجة لذلك، يمكن للنظام أن ينتقل من النقطة الحرجة من التشعب إلى حالة جديدة تمامًا مختلفة عن السابقة؛ والعلم ما بعد غير الكلاسيكي يتخارج بشكل جذري مع خطية العلم الكلاسيكية، ويؤكد أنه من المستحيل تجاهل عامل الصدفة والتأثيرات الخارجية البسيطة على النظام تمامًا، وربما تكون مهمة التقنيات العلمية الحديثة هي أن تكون قادرة على حساب وأخذ في الاعتبار الظروف غير المتوقعة، وكذلك الحصول على النتيجة المرجوة من معطيات محددة سلفًا.
وبالتالي، فإن فلسفة العلم تعطي مكانًا مهمًا للإنسان عند دراسة الواقع، فالإنسان هو من يتعرف على الواقع، ويحدد معايير الحقيقة، ويختار بين النظريات، بينما يغير تطور العلم النظريات والأفكار حول العالم، وبعد إظهار النظريات، يواجه العلماء مشاكل اللغة: “كيف تصف هذه الظاهرة؟”، كيف تكون مفهومة بشكل صحيح؟”.
ترتبط فلسفة العلوم بمشاكل أيديولوجية (الصورة العامة للعالم)، مع مشاكل المعرفة أو الغنوصيولوجيا (gnoseology)، ومع علم الدلالة أو السيميائية (semiotics)، وهي تشرح معنى التطبيق العملي للإنجازات العلمية.
أما العملية التعليمية لفلسفة العلوم فهي تؤدي عدة وظائف، فهي أولًا توجهات قِيمية حول بقاء البشرية، والاهتمام بالأجيال القادمة، وهي ثانيًا وظيفة بيئية تهدف إلى الحفاظ على الموارد الطبيعية للوجود الإنساني؛ وبشكل عام، يجب أن يسعى النظام التعليمي الحديث للانتقال من النموذج الاقتصاد التكنولوجي إلى النموذج الإنساني والبيئي والثقافي.
الكاتب: يو. إس. خاتسكفيتش (Y. S. Khatskevich)، من جامعة چي. ڤي. بليخانوف (G. V. Plekhanov) الاقتصادية الروسية، فرع ميينسك، بيلاروسيا.
عنوان صورة العرض: “تجربة على طائر في مضخة هواء” لـ”جوزف رايت الدربي”.
المصدر: المقالة الروسية الأصلية منشورة في كتاب يتضمن مجموعة من المقالات حول
نفس الموضوع بعنوان”دور العلوم الإنسانية في الميدان التربوي الحديث”
وهو منشور من قبل “معهد إدارة الأعمال” في “جامعة بيلوروسيا الحكومية”
في 18 أكتوبر 2019 في مدينية مينسك عاصمة بيلوروسيا.
العنوان باللغة الأصل:
РОЛЬ ИЗУЧЕНИЯ НАУКИ И ФИЛОСОФИИ НАУКИ
В СОВРЕМЕННОМ ОБРАЗОВАНИИ И ФОРМИРОВАНИИ ЛИЧНОСТИ