مقالات

كيف نداوي الجراح اللامرئية؟

بعدما شرّح العصر الحديث وما آل إليه من كوارث طبيعية ومآسٍ أخلاقية وتصدعات اجتماعية في كتابه “اختلال العالم”، يقول أمين معلوف: “لم يعد ثمة غرباء في هذا العصر، لم يعد ثمة إلا رفاق سفر”. نعيش الحياة كرحلة سفر نبحث فيها عن رفقة تُخفف عنّا وعثاء الطريق وكآبة المنظر وسوء المنقلب. وتزداد الحاجة لهذه الرفقة بازدياد خصوصية الحالة التي نعيش فيها، ومن هذه الحالات الخاصة العيشُ بمرض نفسي، والتي لها مسببات خِلقية في كثيرٍ من الحالات، إلا أنها تكاثرت في السنوات الأخيرة بما سببته أنظمة العصر الحديث من شروخ في اللحمة البشرية وتباعدات اجتماعية روحية أكثر أثرًا من التباعد الجسدي الذي سببه وباء كورونا، بالإضافة إلى أثر الرأسمالية التي أوهمت البشرية بتساوي الفرص المعيشية مما أدى إلى ارتفاع سقف التطلّعات لدى الإنسان المعاصر، فهوى من فوقه بعدما عرَف قصور إمكانياته عن بلوغ طموحاته، وباتت جملة هيرمان ملفل تصوّر الواقع: “تحت تلك النجوم، هناك كونٌ من الوحوش التي تتزلج”.

لأن العزلة أصبحت الحل الأمثل في هذا الزمن لدى كثير من الناس، وقلة الخلطة والمكاشفة مع الآخر باتت أكثر شيوعًا، احتاج المرء إلى البحث عن رفقةٍ قليلة الكلَفة عديمة التطلّب، يسهل الانكشاف أمامها دون تحرّج، فكانت الكتب الخيار الأمثل للطرفين: الكاتب لكي يُفصح عن مكنوناته وهمومه وهواجسه، والقارئ الباحث عمن يُعالج أزماته ويفك مغاليق مشكلاته ويهون مخاوفه. ومن بين أنواع الكتب كان النصيب الأوفر للسير الذاتية الآخذة لدور المعالج النفسي والمشابهة لرحلة التحليل النفسي.

نقرأ السير الذاتية لنغوص في أعماقنا من خلال الآخرين فنعرف أنفسنا، ولكي نواسيها أيضًا بأن ما كانت تظنّه لم يحدث إلا لها، قد حصل للكثير من قبلنا، وأن ما نراه نهاية العالم وجَدَه آخرون أكثر عادية ولطفًا من مخاوفنا.

نقرأ السير الذاتية النفسية لنستبق المرض، نعرف بوادر ظهوره، مراحل استفحاله، لنعرف كيف نتعامل مع المصاب به، مع أهله، مع الوحوش حين تتسلل إلى ذواتنا، نقرأها لنبنيَ جسور العيش المشترك، دون إغراق فيها فنبدأ بالوسوسة.

ملامسة الجنون

كتب ممدوح عدوان في أولَ المقدّمات التي جمعها كتابُه “دفاعًا عن الجنون”: “نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون”، وإن كان يقصد بقوله هذا الفنان التشكيلي السوري لؤي كيالي الذي شُخِّص بالجنون فعلًا، إلا أني أرى في الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي ما يستحق الاحتفال حقًّا، خاصة أن اضطرام عالم لؤي الداخلي كان أشد عصفًا وعنفًا من أن يجد بديله الموضوعي في فنٍّ خارجي، لكن حسين استطاع أن يُسائل جنونه من خلال سيرته ويستثمره في أعماله، وهذا ما دفعني للبدء به.

دشّن حسين البرغوثي سيرته الذّاتية على سطح أملس أسماه «الضوء الأزرق»، لا ليرسم شيئاً من خارطة المغامرة وحسب، ولكن ليخلق منظومته الصّوفية المشحونة بكلّ تعبيرات الجنون في قالب فلسفي يحاكي العقل، قاطعًا الطريق على القارئ كي لا يَحار كثيراً في تفسير اختيار هذا العنوان في الصّفحات الأولى من سرديّته، بأنّه “لون النفس الأمّارة بالسوء” بحسب الطائفة الصوفيّة النقشبنديّة، و”لون طاقة الخلق فينا” لدى البوذيّة “التيبت”، إلاّ انّه أكمل شرح الأمر عبر توضيح سرّ اهتمامه باللون الأزرق الذي رافقه منذ الطفولة قائلاً: “عندي، الأزرق لون الغربة، والغيب، وسماء الطفولة”، ووصل به الأمر حدّ تأليفه للحن موسيقيّ، لم يكتشف سرّ تعلّقه به حتى قرأ أنّ لكلّ نوتة موسيقيّة لونًا خاصًّا بها، وعندما بحث عن لون النوتة التي سحرته وجده أزرق. وشغف الكاتب باللّون الأزرق دفعه للبحث عن معناه في الأساطير والحكايات القديمة، ما أكدّ له أنّه والأزرق ملمحان لقناع واحد.

تمضي السيرة على هيئة حكايةِ معلّم مجنون ومريد كادت أن تنفصم شخصيّته، كان الجنون بوصلة التواصل المهيمنة على نصّ يروي حكاية مريد، عثر مصادفة على شيخ طريقته، ليكتشفا معًا أنّ الحياة لغةُ “خيالٍ واسع في عالم ضيق”. واللغة أداة بناء فكريّ يمكنها أن ترتدي ما شاءت من الأقنعة إلى أن يجد الإنسان إجابة شافية لسؤال حائر: كيف يمكن للذِّهن أن يعيد تصميم نفسه؟ ليفرّق ما بين “الذّهن ومحتواه”؟

المريد في السيرة هو حسين البرغوثي، الباحث عن نفسه وهويّته في ظلّ ما تاه منه بوصفه إنسانًا أولًا، وفلسطينيًا ثانيًا، وأما المعلّم أو شيخ الطريقة في سيرة البرغوثي فكان شخصيّة “برّي” الصوفيّ، التركيّ، التاجر، الطبّاخ، الطالب المشرد المجنون، أستاذ الجنون الذي أراد أن يتعلّم منها “فن التذبذب بين الصحو والجنون”. يصف طفولته بوصفٍ أرى أنه صاحَبَه طيلة حياته: “ليس المهم أنني كنت فرخ “أهبل” أو أطرش، أو عبقريًّا، بل كوني دائمًا خارج السياق، لا أنتمي إلى أحد، شاذًّا وغريبًا، وعلى هامش الدنيا”. عاش حالة رعب في صغره لم يستطع تجاوزها، دخل البحر حتى كاد أن يأخذه من أهله، “كنت أخشى الفصام لأنني كنت منفصمًا أصلًا! كان البحر يطاردني لأنه أعمق وأصدق وأوسع شكل عرفه غضبي، ونواياه تدمير العالم كله”، فصاغ فلسفته استنادًا على خوفه، “هذا هو الفهم: سمكتك الذهبيّة، من طبيعتها أن تسبح في كل نظريّة، كل تجربة، كل رأي، كل نوع من المعرفة، كل ماء، وتبقى هي هي: سمكة ذهبيّة. إن من طبيعة الذّهن أن يفهم نفسه، كما أن من طبيعة السّمكة أن تسبح. وأين يسبح العقل؟ في نفسه: إنه الشلاّل والسّمكة التي تسبح في الشلاّل. هل فهمت معنى قولك: كن شلالًا وكن سمكة؟”.

الإطار الزمني لسيرته فترة دراسته في أمريكا، والأماكن التي تسير فيها الأحداث تدور حول الحانات وشقق الأشخاص، وللمقاهي النصيب الأكبر، “غريب كم يبدو المكان كمصيدة، أحيانًا.. وجدتني أتنقّل بين هذه المقاهي الثلاثة، وأبحث عن نفسي، ليس في الكتب. سئمت كل الكتب، بل في المقاهي، وبين المشبوهين بالجنون، والشواذّ، والصعاليك، حيث الخرائط أكثر دقّة ووضوحاً وإثارة”. ذهب إلى هناك ليتعلم، فلم يمتنع عن الكثير من التجارب بحثًا عن المعرفة؛ إذ “عمق الغنا يأتي، أحيانًا، من عمق الوجع، كما يأتي الضحك الذهبي أحيانًا من كثرة المتاهات”، لكنه لم يكتب ليُعلّمنا، بل ليثير الكثير من الأسئلة حول أنفسنا، وما أحوجنا إلى ذلك، “فأن تتأمل نفسك يعني أن تفهم ما كنت تعرفه دائمًا من غير أن تفهمه”.

بعد دراسةِ ذهنية المنتحرين والتفكير في سؤال: كيف يشتغل الذهن المبدع؟ خَلُص إلى فكرة ستقلب حياته كلها، وهي أن “الذهن له تصميم معين، ككل كيان آخر في الكون، وهو كيان قادر على أن يعيد تصميم نفسه وعالمه”. ويرى أن “أزمة الذهن العربي أنه فقد هذا بالضبط: قدرته على الخلق. لا أعني فقط، قدرته على “خلق عالمه”، وتصميم “الدنيا التي يحيا فيها، بل، على أن يكون عنده جديد كل ليلة، وكل ذهن فَقَد قدرته على تصميم نفسه سيقوم غيره بتصميمه”. يحاول فهم حالته التي وصل إليها فلم يُفلح، “كل ما توصّلت إليه في (عقلنة جنوني) أنه نوع من إشاحة الوجه عن (معرفة أكيدة، وحتمية جدًا) عن شيء أعرفه، موجود في قلبي كله، ولكن لا أريد أن أراه، أو لا أجرؤ، أو لا أقدر على رؤيته”.

جنون حسين كان من نوع خاص يصعب القبض عليه، حتى لدى صاحبه الذي يقول: “الجنون عندي كان كالرب، زنبقة من هذا النوع، أعرف أنها موجودة، وكانت ما كانت، وهي ما هي، وستكون ما ستكون، كنت أجهل أي شيء عنها ما عدا وجودها”. وإن كان يصعب معرفة تشخيصه بمرض نفسي، يمكن اعتبار حالته ضمن جنون المبدعين الذين تتلبسهم حالات يصعب القبض على ماهيتها، فهو يؤمن أنه “في الفن، يجب أن تلامس الجنون دون أن توقظه، وكنت أُلامس الجنون وأوقظه، في الحياة، وهذا أخطر”، وما حرّضه على هذه الخطوة الخطرة أنه يرى “الجنون نوع من أنواع الضعف، وللخروج منه، لا بدّ من الإيمان بأننا لسنا فريسة، بل نمور وصيادو نمور وخطرون “.

 تتداخل في سيرة حسين الرموز والتراث إلى جوار الفلسفة والتخييل، في نسيج لغويّ متحرّك ما بين الشعر والنثر، الرّواية والسيرة، وهو ما أشار إليه محمود درويش في تقديمه للكتاب بقوله: “تحقّقت شَاعريّة حسين البرغوثي الحقيقيّة في “الضوء الأزرق” كما لم تتحقق في محاولاته الشّعريّة. إنه نصّ لا يُصنف في جنس أدبيّ واحد، وهو ليس سيرة ذاتيّة، بالمعنى المتعارف عليه. ولا هو رواية، إنه يذكّرنا بسرديّات الرواية وبحميميّة السيرة…فهو خليط غريب من البوح الشّخصيّ والتّأمُّلات الذهنيّة”.

غرق البهجة

كتَب الروائي الأمريكي وليام ستايرون تجربته الشخصية مع المرض النفسي واصفًا معاناته وشكل حياته تحت وطأة الاكتئاب بـ”ظلام مَرئيّ”؛ مُستوحيًا ذلك من الشاعر الإنجليزي جون ميلتون حين قال: “لا ضوء، فقط ظلام مرئي”، مؤكدًا على أن ‏الاكتئاب شبح أسود، ظلام يُخيِّم على كلّ تفاصيل حياتك.

‏وصل ستايرون إلى مرحلة صعبة عند وصوله باريس لتسلّم جائزة عريقة، وبينما هو يُلقي خطابه بهذه المناسبة كان شبح الاكتئاب قد استولى على عقله، فصار كما عبّر الشاعر: “على وجهِه عُرسٌ، وفي القلب مَأتَمُ”، في الوقت الذي يُنتظر من الجائزة أن تُعلي تقديرَه لذاته، إذ بانعدام تقدير الذات يستفحل ويتفاقم. يبدأ بعد هذه الحادثة باستعادة تاريخه المرضي من البداية إلى النهاية، محاولًا اكتشاف مسبباته، وهو ما أوصله إلى التحليل الأسهل بأنه نتيجة اضطراره التوقف عن شرب الكحول التي أصبحت تسبب له الغثيان. لكنه يعاود في نهاية الكتاب التفكير بالمسببات الأساسية القديمة، ويُرجعها إلى ما بات يُعرف بـ”الحداد الناقص” وهو عدم التطهر الكافي من حالات الفقد، وخاصة فقد الأم في الصغر، مما يورث عبئًا لا يُطاق، وهو عبء مشحون بمشاعر الغضب والذنب وليس الحزن الدفين فقط، والذي يتحول إلى بذور لإهلاك النفس.

لا يرى ستايرون في كلمة “الاكتئاب” التعبير الأنسب لطبيعة المرض القاتل، ويحاول جاهدًا اقتراح كلمات بديلة لكنه في النهاية يقبل بها حتى تتكرم اللغة بوصف أدق. يؤمن أن العصر الحديث قد ساهم في تحسين المصطلحات التي يوصم بها المرضى النفسيين، إلا أنه في لحظة مصارحة مع القراء يقول: “لا تدعوا الشك يساوركم لحظة في أن الاكتئاب، في شكله الحاد، ما هو إلا جنون”، وهو ما دفعه لوضع “مذكرات الجنون” كعنوان فرعي لسيرته الذاتية. يحكي أيضًا عن تجاربه السيئة مع المعالج النفسي الذي كاد أن يودي به إلى الانتحار بسبب إصراره على العلاج الدوائي واقتراحه على ستايرون عدم الذهاب إلى المستشفى، وخطئه في اقتراح أدوية لا تناسب سنّه ولا حالته المرضية، والتي استطاع تداركها بعد دخول المستشفى. مما يؤكد أهمية زيارة أكثر من معالج والتأكد من صحة التشخيص وسلامة التوصيف العلاجي خاصة مع تفاقم الأعراض.

وصل الحال بستايرون إلى التفكير الجاد بمحاولة الانتحار، ذهب إلى المحامي محاولًا كتابة وصيته، ليكتشف “أن كتابة رسالة انتحار هي أصعب مهمة تصديت لها في مجال الكتابة”، وفي إحدى الليالي التي سبقته زوجته فيها إلى السرير وظلّ سهرانًا يشاهد إحدى مسرحياته، أدرك أنه لا يقوى على التخلي عن حياته مهما سيطرت عليها المآسي والصعوبات، فأيقظ زوجته لتذهب به إلى المستشفى. يخبر ستايرون عن شعور المكتئب عندما تنهال عليه وصايا التماسك والحفاظ على حبل الحياة، ويُشبّه هذه الوصايا بوصية الواقف على الشاطئ للغريق الذي يتخبط في البحر بالابتسام والابتهاج!

يكتب ستايرون ليوثّق تجربته، ولكي يقوّي الآخرين على مواجهة آلامهم. عندما نكتب نكتب لنتأكد من سلامة العقل، لنحافظ على ما تبقى لنا منه، حتى لا تتخطّفه مخالب الأيام القاسية. افتتح الروائي المصري وجيه غالي يومياته بعنوان “على طريق الجنون” وكتب تحته: “على طريق الجنون، بما أنّ هذا ما أبدو ماضيًا فيه، لعله سيكون من الأفضل أن أدوّن يوميّاتي… ولو كان ذلك فقط من أجل التشبُّث بمسحة من سلامة العقل”.

عبثية اللاعقلانية

أحدثت أطروحة الأخوين جويل وإيان غولد دويًّا في أوساط الطب النفسي، وهي التي تقول بأن الجنون تُبلوره ثقافة المجتمع، وأنه ليس صحيحًا ما يقال من أن المرضى النفسيين لا يمثلوننا وكأنهم (آخر)، بل يؤكدان على أن المرض العقلي مجرد نسخة هشّة من السواء العقلي، وأن الحد الفاصل بين السواء والجنون رفيعٌ جدًّا. قد نجد ضعفًا وراثيًّا هنا، وصدمة نفسية في الطفولة هناك، فتتبدل بهذا النسق الأدوار. ففي كل واحد منّا مواضع ذهانيّة وأخرى غیر ذهانيّة، لكن التحدي يتمثل في الحفاظ على الجنون في وضعه الحرج وصورته الهشة، ومراقبة الجوانب الأكثر عقلانية فينا. قد لا يتطلب الأمر الكثير لنقول إنّ فلانًا -بمن فيهم أنا وأنت- على شفا حفرة من الجنون.

كان كتابهما “عقول مرتابة: دور ثقافة المجتمع في فهم الجنون” رحلة صعبة في أوهام الجنون، مبتدئًا بجزء أول تحت عنوان “سبات العقلانية” تضمّن تأريخًا وجيزًا في الجنون، ثم مائة عام من الأوهام، وجاء الجزء الثاني ليبحث “الحياة الاجتماعية للجنون”، ويوضّح خطأ اعتماد الطب النفسي على التحليل البيولوجي للأمراض النفسية، خاتمين الكتاب بتطلعاتٍ لمستقبل أفضل في الطب النفسي. ويُلخّص مطالبة الكتاب قولهم في ختامه: “حاولنا في هذا الكتاب تقديم دليل جلي على أن الأوهام هي أعراض نظام الإدراك المعرفي الذي يهدف اكتشاف التهديدات الاجتماعية وتحفيز الفرد للوقوف إزائها، بمعنى أن المناطق الدماغية التي تقوم بوظيفة نظام الارتياب لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى الجانب الاجتماعي. إذا كنا على حق، فإن نظرية الأوهام المستقبلية قد تكون نظرية بيولوجية بحتة لو استطعنا ترجمة التوصيف الاجتماعي لنظام الارتياب في مصطلحات بيولوجية”.

اعتمدا في تأليف الكتاب على الكثير من الحالات التي عايشوها، وكذلك على العديد من السير الذاتية لمرضى الجنون، وإن كنت أختلف معهم في تحديد الأعرف بحال المرض النفسي، فبينما يرونَه الطبيب النفسي الذي جالَس الكثير من المرضى واستمع لهم وكوّن خلفية جيدة، إلا أنني أرى المريض الذي امتلك قدرًا من المعرفة  والاستبصار سيكون أكثر فائدة في وصف -وليس تشخيص- حالته المرضية أكثر من الطبيب النفسي، وهذا هو حال السيرة التالية.

دخل مستشفى الأمراض العقلية وهو في الرابعة والعشرين من عمره وأمضى هناك سنواته الثلاث مصارعًا مرضه العقلي، وبعد خروجه نقل لنا الكاتب الأمريكي كليفورد وتنجام بيرز في سيرته الذاتية قصة “العقل الذي وجد نفسه”. نستمع فيها إلى صدى الحروب الكثيرة التي كانت رحاها تدور في عقله وانتهت بمحاولات كثيرة فاشلة في الانتحار وتجارب ناجحة في تذوق مرارة اليأس والألم والسير في حياة بلا هدف أو غاية.

أطلق هذا الكتاب صرخة فزع مع صدوره سنة 1904م وفتح النافذة لطرح أسئلة كثيرة تتعلق بالصحة العقلية للإنسان، ونقد الكثير من مؤسسات الصحة الحكومية والخاصة التي تنقّل بينها، انتهت بتأسيس حركة الصحة النفسية في أمريكا والتي لاقت ترحيبًا كبيرًا من أكبر علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية تلك الفترة، مثل الفيلسوف وعالم النفس ويليام جيمس الذي قدّم للكتاب وأغدق عليه الثناء، ولكن رغم ذلك لم تنجح رؤى كليفورد في تخليص عقله من نيران حروبه التي كان يخوضها مع ذاته فانتهى به الأمر نزيلًا مرة أخرى في مستشفى الأمراض العقلية ليموت هناك تاركًا الكثير من الأسئلة معلقة حتى الآن.

لم يكن كليفورد سوى طفل عادي يُعاني من قلق زائد، زاد هذا القلق مع إصابة أخيه بالصرع دون مقدّمات؛ مما زاد من أسئلة القلق في عقله، فإذا أصيب أخوه دون سبب فما المانع من إصابته هو؟ عانى أخوه ست سنوات من الصرع، وعانى معه كليفورد بسبب الخوف عليه يُصرع بالشارع برفقته، خوفه من المرض أمرضه. بدأت معاناته بالكلية، تخرج واشتغل بمصلحة الضرائب، ثم كاتب في شركة، حتى قرر أن يستقيل ويريح عقله ويذهب لمزرعة بالجبال. بعد محاولته الانتحار أُدخل المستشفى وزادت الأوهام حتى بات يُفسّر كل سلوك ضده. وضعوا القضبان على شباك الغرفة، حلقوا شعر ساقه التي أُصيبت ليضعوا الجبس، ففسرها بعلامة خزي كمعاملة بعض القبائل في البلدان البربرية، يقول وهو يتحدث عن مخاوفه في تلك المرحلة: “كان الخوف بالتأكيد عبثيًّا، لكن في قاموس اللاعقلانية لا توجد كلمة عبثي”.

“كانت رغبتي الوحيدة هي الكتابة”، يقول كليفورد، “كانت أصابعي راغبة بشدة في الإمساك بقلم. كانت رغبتي قي الكتابة لا تقاوم، مثل رغبة ثمل في جرعة شراب. وكان فعل الكتابة يمنحني متعة السّكرِ المتألفة من امتزاج عواطف يصعب تفسيرها”. بقي الكتاب وفيًّا لصاحبه لأنه كُتب بجنون كاتبه لا بيقظته، فجعل من اليأس مدخلًا للكتابة ومن الأمل نافذة للقراءة ومن العقل محترفًا يعرف جيدًا كيف يقود ضحاياه، تمامًا مثلما قاد كليفورد إلى كتابة هذا الكتاب ليكون ضحيته الأولى.

تُعدُّ الأوهام على طول تأريخها أعراضًا للجنون، وقد كانت ولا زالت معضلة الأطباء، يبحثون في تصنيفها والبحث في بداياتها ومحاولة تقنينها وإرجاعها إلى أوهام محددة، ستدخل إلى تلك الأوهام بنفسك حالَ قراءة هذا الكتاب، كيف يفكّر صاحبها، وما هي التأويلات التي تطرأ عليه عند كل تصرّف ومع كل نظرة، والتي يغلب عليها السلبية والتآمرية. وإذا أردت تصوّر شيء من داخل هذا العقل، فقد وصف ستايرون حال اشتداد اضطرابه “بأن عقلي نفسه يشبه لوحة تحويل مکالمات هاتفية عتيقة في بلدة صغيرة، وقد راحت مياه الفيضان تغمرها شيئًا فشيئًا: ولذلك أخذت الدوائر الطبيعية تغرق واحدة تلو أخرى، مما كان يؤدي بوتيرة بطيئة إلى انقطاع الاتصال عن بعض وظائف الجسم، وكذلك بجميع وظائف الغريزة والعقل تقريبًا”، أما كليفورد فيشبّه حاله “كما لو أن أعصابي قد تمزقت إلى عدد من الحزم المطاطية الدقيقة التي تمددت إلى ما بعد حدودها المرنة”.

أغدق ستايرون الثناء والامتنان على زوجته لرفقتها وصبرها عليه في لحظات اكتئابه، ويؤكد كليفورد “أن كل ما يحتاجه المريض العقلي هو صديق!”.‏ لا يمكن إغفال أهمية الدعم الشخصي للأقارب والأحبة في مسيرة التعافي، ومع أن الشعور اللحظي عند تلقي الدعم قد يعتريه كره وسلبية من المريض، إلا أنه مهم في التأكيد له بعظيم الامتنان لوجوده ونفي بعض الأوهام المتكررة كالشعور بالفقد والتخلي من قبل الجميع، وخاصة الدعم الآتي من زملاء المرض، وهو ما يؤكده ستايرون بأن على الأصدقاء والمحبين “أن يغدقوا على المكتئبين حبًّا جمًّا حتى يقتنعوا بأهمية الحياة، والتي تتعارض غالبًا مع إحساسهم بانعدام القيمة، وقد أنقذ هذا الحب أعدادًا هائلة من ضحايا المرض من الانتحار”.

على الرغم من أن النظرة الشائعة للمرض النفسي تراه معيبًا، إلا أنه يُصوَّر في بعض الأحيان على أنه نعمة. وبطبيعة الحال لا نرغب بالإعلاء من شأن المرض النفسي والاحتفاء به حدّ التقديس وإضفاء الأولوية له على السواء، لكننا بكل تأكيد نرغب بإعطائه الحق الطبيعي باعتباره مرضًا كالمرض الجسدي، والقبول وعدم النبذ، وإزالة النظرة شديدة السلبية تجاهه، لكي يستطيع كل مصاب به أن يعيش حياته دون نظرات تُفاقم من أزمته أو سلوكيات تقلّص من رغبته في الحياة.

صخب الصمت

“خلال شهر واحد من توقيع أوراق اعتمادي أستاذةً للطب النفسي في جامعة كاليفورنيا كنت في طريقي -بحقٍّ- إلى الجنون”، بهذه الجملة بدأت الدكتورة كاي ردفيلد جاميسون حكاية سيرتها الذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون في كتابها “عقلٌ غير هادئ” الذي يُعد من أهم السير الذاتية في مجال الصحة النفسية.

ليس من الضروري أن نُجمّل الوحش الذي نريد الانتصار عليه، يكفي أن نفهمه حق الفهم وندرك حقيقة قبحه ومكامن خطره. وهو ما لجأت إليه جاميسون بعد تيقّنها من الإصابة بذهان الهوس الاكتئابي، أو ما بات يُسمّى الآن بثنائي القطب، راحت تتعرّف على المرض أكثر، “كان يجب عليّ أن أعرفه بجميع أمزجته وجميع أقنعته، أن أفهم قواه الحقيقية والمتخيلة”، وهو المرض الذي ينتقل صاحبه بين طرفين، الأول الهوس الحاد الأشبه بنشوة غير منضبطة، والآخر الاكتئاب الحاد الأشبه بانقطاع الكهرباء في الصحراء، وقلّما يكون بينهما دون مساعدة الأدوية.

حكَت في الفصل الأول قصةَ طفولتها، وتاريخ أسرتها المليء بالأمراض النفسية، وبدايات دخولها إلى النفق المظلم منذ المراهقة، ومع كل ما مرّت به من صعاب في حياة والدها العسكرية وعلاقات أسرية متفككة واضطرابات عاطفية، كانت “السنوات الطويلة والمهمة للطفولة والمراهقة في معظمها سنوات سعيدة بالنسبة لي، وزودتني بقاعدة صلبة من الدفء والصداقة والثقة بالنفس. لقد كانت بمثابة تعويذةٍ جبارة، وقوةٍ فعّالة مضادّة للاكتئاب المستقبلي”.

نكبر أسرع من الآخرين بآلامنا وأحزاننا التي نُخفيها عنهم؛ فتُنضجنا. دخلت جاميسون كلية الطب لكنها لم تستطع إكمال سنواتها الطوال مع ما تمر به من حالة نفسية لا يعلم بها أحد، فقررت التحويل إلى دراسة علم النفس لتكتشف مصيرها وكيفية التعامل معه. كانت طريقتها الوحيدة لتخفيف اهتياجها أن تركض على امتداد الشاطئ، أو أن تذرع غرفتها ذهابًا وجيئة كدُبٍّ قطبي في حديقة الحيوان. لم تكن تعلم ما الذي يجري لها، لكن لم يدر في خلدها البتة أنها مريضة. وبعد سماع محاضرة عن مرض الاكتئاب، ذهبت إلى خدمات الطلاب الصحية وفي نيتها طلب مقابلة طبيب نفسي، وصلت إلى العيادة، ثم جلست هناك كالمشلولة، لم تقو على الدخول وطلب المساعدة، كانت تشعر بالخوف والعار، حتى انتهت الساعة انهمرت فيها الكثير من الدموع، ومضت.

أنهت الفصل الأول بمناقشة رسالتها للدكتوراة وتعيينها في الجامعة، وافتتحت الفصل الثاني قائلة: “لم أستيقظ في أحد الأيام لأجد نفسي مجنونة”، وبدأت تسرد رحلتها مع المرض بتفصيل وانسيابية مرعبة تخالف رعونة أيامها في الواقع، معاناتها الشخصية ثم دراستها الأكاديمية مكّناها من التعبير الأدق عن الحالة المرضية والدخول إلى عقل ثنائي القطب والتجول فيه ليس على ضوء قنديل زيت، بل بإضاءة حفلة زواج. آثار المرض تختلف من شخص لآخر في جزء منها، وتشترك في الكثير من آلامها، وندرك من سيرة جاميسون -وسيرة الرديني القادمة أيضًا- كيف كان “الانهماك في فورة شراء مفرطة” جزءًا كلاسيكيًّا من الهوس، حتى كاد أن يورطها بقضايا مع البنوك التي استنزفت أموال بطاقاتها الائتمانية على أشياء تندم عليها بعد استيقاظها.

زادت صعوبة زيارة الطبيب النفسي بعد تعيينها أستاذةً جامعية، فالنظرة المجتمعية والأكاديمية لا ترحم المصاب بمرض نفسي، فكيف ستسمح له بمعالجة مرضاهم. لكنها قررت الذهاب عندما بدأت تتعب من كل فرص بناء الشخصية على حساب الطمأنينة، والثبات، والحياة الطبيعية. “لم أكن مريضةً فقط عندما اتصلت لأول مرة لطلب موعد، لقد كنت أيضًا أشعر بالرعب والإحراج العميق. لم أذهب من قبل إلى طبيب نفسي أو أخصائي نفسي. لم يكن لدي خيار. لقد فقدتُ عقلي تمامًا وبكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإذا لم أحصل على مساعدة، طبية فمن المحتمل جدًا أن أفقد عملي، وزواجي المتقلقل، بالإضافة إلى فقدان حياتي”.

من أول زيارة للمعالج النفسي “ببطء تدفق إشعاع دقيق، دقيقٌ جدًا، من الضوء إلى عقلي الخائف والمظلم”، وخلال السنوات العديدة اللاحقة وبزيارات أسبوعية، “لقد أبقاني على قيد الحياة أكثر من ألف مرة… لقد شاهدني من بداية إلى نهاية كل وجهٍ تقريبًا من وجوه حياتي السيكولوجية والعاطفية”. أكثر ما أكّدت عليه جاميسون هو أهمية الالتزام بالدواء الموصوف للمريض النفسي، فلا تكفي جلسات العلاج النفسي مع هذا الاضطراب دون أدوية طالما أن السبب الأساسي هو اضطرابات بيولوجية تحتاج إلى أدوية تعيد توازنها. وتشرح دوافع رفضها للأدوية وآثار انقطاعاتها القاسية جدًا، والذي يعود جزء أساسي منه إلى إنكارها الاعتراف بأن ما لديها مرضٌ حقيقي. وسبب آخر يتكرر كثيرًا في الكتاب، وهو ما يساعدنا في فهم سلوكيات كثير من مرضى ثنائي القطب في رفضهم التعامل الجاد مع أمراضهم والتلكؤ في طلب العلاج، هو ما صرّحت به جاميسون من إدمانها الإثارةَ التي تأتي مع موجة الهوس وما ينتج عنها من سلوكيات ترى أنها أكثر حيوية وإنتاجًا وقوة وودًّا وابتهاجًا. وسبب مهم أيضًا في امتناعها عن تناول الدواء هو رعبها الشديد من فشل مفعوله معها، فقد كانت في داخلها تُرجئه كحلٍّ أخير حتى لا ترى أسوأ مخاوفها تتحقق.

بعدما قصّت رحلتها مع المرض النفسي في ثلثي سيرتها الذاتية، اختارت جاميسون “ترياق الحب” عنوانًا للفصل الثالث الذي تؤكد فيه على أن الحب وإن لم يكن كافيًا لعلاج أمراضنا، فهو مؤثر جدًا في تقبّلها، وفي إقناعنا أن في الحياة ما يستحق العيش. الحب عكّازاتنا التي لا تشفي كسورنا، لكننا لا نقوى السير بدونها.

تُهان قصة الإنسان عندما تُحكى للشخص الخطأ. دخل أكثر من شخص حياة جاميسون وهي تصارع المرض، قصّت أخبارهم وردود أفعالهم تجاه إبلاغهم بمرضها، بعضهم تفهّم مرضها وبعضهم أساء لها من حيث هو يريد الإحسان وبعضهم كان صلف الأخلاق قليل المروءة صرّح بنفوره منها مباشرة بعد الخبر، مما ولّد لديها شعورًا بالنفور من إخبار الآخرين بمرضها إلا عند الضرورة القصوى، وفي أخبارها وانطباعاتها دروس في كيفية التعامل مع المرضى النفسيين وضرورة عدم تحقير أوجاعهم، فألم تهميش الألم أكثر ألمًا من الألم نفسه.

الحب يقتل أسئلتك المتشككة في أحقيتك بالحياة، بالسعادة، بالعيش الهنيء، كما يقتل أرق أسئلتك تجاه ذاتك.

في الفصل الأخير من الكتاب تناقش مشكلة التسمية، هل الأفضل تغيير صفة الجنون لاسمٍ أكثر لباقة؟ هذا ما تدعو إليه المنظمات الطبية والحركات الاجتماعية المعززة للصحة النفسية، لكنها ترى أن تغيير المصطلح ليس كافيًا لحل أزمة وصمة العار الملاصقة للأمراض النفسية، وكذلك “ليس ثمة مصلحة للمريض أو أي فردٍ في العائلة في استعمال لغةٍ أنيقة ومعبرة إذا كانت أيضًا غير دقيقة وغير موضوعية”، مع إقرارها أن من حق المرضى أن يختارون المصطلح الذي يرتاحون إليه.

ثلاثون عامًا عاشتها جاميسون مع ثنائي القطب جعلتها تُدرك كل القيود والاحتمالات التي تأتي معه، ومع كل المزايا الناتجة عن هذا المرض إلا أنها ترفض التخلي عن علاجها أو الإخلال بالوصفة الدوائية الخاصة بها، وتؤكد في ختام سيرتها العظيمة أن الحب هو الجزء الاستثنائي في أسوارها التي تحتمي بها من موجات المرض، فهو يساعدها على صد الرعب والوحشة، ويسمح في نفس الوقت بدخول الحياة والجمال والقدرة على البقاء. “هذا كتاب عن الحب: الحب كعامل مؤازر، والحب كعنصر مجدد، والحب كأداة حماية. بعد كل ما بدا أنه موتٌ في عقلي أو قلبي، عاد الحب ليُعيد خلق الأمل ويسترد الحياة”.

غواية الكتابة

من أوائل السير الذاتية السعودية التي عالجت المرض النفسي كان كتاب عمر الرديني الذي يعاني من ثنائي القطب “غوى”، يفصح عن دوافع تدوين سيرته بأنها “محاولة خجولة لممارسة النور؛ لأني أؤمن بأنه من الواجب علينا في الحياة أن نسير وفي أيدينا مصابیح حرة نُنير بها دروب الآخرين المقيدة، هل أخبركم عن أحلامي؟ أحلم أن أصل لأبعد نقطة في الظلام؛ لأنيرها قبل وصولكم إليها”. كانت البداية مع المعالج الشعبي في حارات المدينة المنورة الذي يُعتقد أنه قادر على فك المس وإخراج الجن، لكنه زاد الطين بلة.

يسهب عمر في وصف التطور المرضي وزيارات المستشفيات والمصحات النفسية ومشاعره تجاهها ومعاناته معها، ومع الكلمات التي تُرمى من بعيد عليه مثل (الله لا يبتلينا)، “من جرب الهوس سيعلم أن كل كلمةٍ محفزةٌ كزيتٍ يزيدُ النار اشتعالًا”، ويتحدث بلسان المرضى النفسيين بأكملهم، يشرح معاناتهم ويصف متطلباتهم، “نبحث عمن يساعدنا دون توبيخنا”، “نطالب أن نحترم كبشر”، “لا أطلب الشفقة من أحد، نريد العيش بسلام كالآخرين”.

مما ساعده في تجاوز اللحظات الحرجة وتخطي الكثير من الصعاب كانت كتب الفلسفة والأدب، فقد كانت “الكلمات التي أقرأها بمثابة ضماد جروح عقلي”، وقد استطاع عمر أن يجعل من إتمامه لقراءة كتابٍ مهم جزءًا من رحلته العلاجية وجرعة دسمة لاستعادة الثقة في النفس.

“الحياة قرار. وأنا اتخذته”، بهذه الكلمة ينهي هذه السيرة. ولأن “الكتابة هي العقار السري الذي أدمنه، الكلمات كانت دموعي الحقيقية”، يستكمل عمر الرديني الحديث عن صراعه مع المرض النفسي في «جنون لذيذ»، يغلبه تارة ويكسره المرض تارات، لكنه مؤمنٌ بالعلاج بالكتابةِ التي يُجيدها، بل يبرع فيها. عمر رجل شجاع لا يختبئ خلف تجارب الآخرين ولا خلف تشبيهات المثقفين، وكما يقول وليم فوكنر: “العمل العظيم لا يكتبه إنسان خائف”.

نلحظ بين السيرتين مجموعة من الفوارق، من أبرزها أن الأولى هي سيرة وصفية، مباشرة، مندفعة، مطالِبة، أما السيرة الثانية فهي سيرة استعاديّة، تأمليّة، أكثر أدبًا وإبداعًا بالأسلوب والأوصاف. كلا السيرتين متقاربة الحجم، تطول الثانية بطول المدة التي تتناولها، فقد صدرت بعد قرابة الخمس سنوات من الأولى، ولم تكن مقصورة عليها، بل تعود إلى البدايات بعين الآن، وتؤكد على بعض المواقف وتعدّل بعض الانطباعات. سيرة عمر نموذج للاعترافات التي يعيبُ كثيرٌ من النقاد غيابَها عن السير الذاتية العربية، فهي اعترافات خاصة يتحرج المرء أن يخرجها، لكن لأن أولئك النقاد لا يبحثون إلا عن الاعترافات الجنسية لا يلتفتون لمثل هذه المكاشفات الجريئة.

جاء بعد ذلك طبيب الأسنان السعودي معن السلطان وكتَب عن “وجد لا ينام”، واصفًا معاناته مع الاكتئاب أثناء ابتعاثه إلى نيويورك لاستكمال الدراسات العليا، ولكن بأسلوب يمزج الخيال بالواقع، ويحاكي التجارب النفسية الأخرى بأسلوبه الذي حرص فيه على الرسالية واستهداف التوعية بالمرض النفسي وكيفية التعامل معه. “كنت غارقًا في اللاوعي لسنوات عديدة، وحدها النوبة أيقظتني”، كثيرًا ما تعيدنا الأمراض إلى ذواتنا فنعيد تقييم تاريخنا بالكامل.

سيرة معن خيار جيد لبداية القراءة في هذه السير، وخيار جيد للإهداء للمرضى النفسيين وذويهم، فالتحفيز الإيجابي المباشر والتشجيع على الحياة أكثر وضوحًا من بقية السير، ومن ذلك قوله: “أيها الإنسان؛ لا أحد يعرف المعارك التي خضتها للوصول إلى مبتغاك، كما أن أحدًا لا يعرف كم مرة سقطت ثم نهضت، ولا أحد يعرف مقدرتك وشجاعتك لخوض تجربة جديدة، إلا أنّك تعرف. وليس المهم أن يعرف أحد، المهم فقط أن تستمر أنت في معرفة قدرتك الكامنة وتتبعها للوصول”.

هامش الهامش

جمع الكاتب المصري مينا ناجي كتابات متفاوتة وأصدرها في كتاب بعنوان “33 عن الفقد والرُهاب”. الرقم هو عمره عند نشر الكتاب، والكلمتين هي التجربتين الأكثر حظًّا فيه، والتي يعنينا منها رحلة معاناته مع الرهاب، يمكن توصيفه بالقلق الحاد من الوجود في بيئة غير آمنة أو في مواقف لا يمكن أو من الصعب الهروب منها. هذه “المواقف” ربما تتضمن الأماكن المفتوحة، الأنفاق، الجسور، وسائل النقل العامة، المسارح، السينمات، مراكز التسوق والأماكن المزدحمة، إلخ.. وفي الحالات المتطرفة، مجرد التواجد خارج البيت. فقد كان “الخروج من البيت هو المهمة الأكثر صعوبة ورعبًا في العالم”. يحكي مينا عن بدايات ملاحظته لحالته، والردّ الذي جاءه من أول شخص أخبره بها، وهو المرشد الروحي في الكنيسة القبطية التي ينتمي لها في مصر، كان صادمًا ومعززًا للمرض بدل أن يساهم في علاجه، فقد أخبره بأن المرض حالة صحيّة تساهم في تخفيف غرور الإنسان بنفسه وتؤكد احتياجه لربّه. لم يكن مينا بحاجة لهذه الكلمات في هذه المرحلة، كان يبحث عن الفهم، عن التوصيف الأدق لحالته، عن القوة لمواجهة الحياة في الخارج، والتي لا يمكن لشاب من أسرة متواضعة الحال الاستغناء عنها والانكفاء على الذات في المنزل. وهذا يؤكد ما ذكرته سابقًا من أن الحالة المرضية لا ينبغي مشاركتها مع كل أحد، ما لم نملك النفسية القوية القادرة على مواجهة ردات الفعل السلبية.

أثناء أزمة كورونا تزايد أعداد الخائفين بتضاعف أعداد المصابين من هذا الوباء، حظر التجوال الذي كان عقابًا للآخرين كان الوضع المثالي الذي ينتظره مينا؛ فتجسّد الخوف ماديًّا في الخارج يجعله يخفف حدته في الداخل، ومشاركة المخاوف تخفف من وطأتها وتشعر بالونس والتضامن.

سبعة عشر عامًا بصحبة القلق الحاد أكسبت مينا العديد من الاستراتيجيات العلاجية، وغيّرت الكثير من القناعات الداخلية، واستطاع اكتساب معرفة ذاتية، وقدرة على السيطرة على الذات وتهدئة القلق، وتخلص من نوبات الفزع وبعض النوبات الجانبية. ما كان يُصبّر مينا على ما هو فيه ترقّب النهاية التي يوقن أنها قادمة، مؤمنًا أن “حالة النجاح ستغيّر معنى كل تاريخ الماضي، تاريخ كل تلك المحاولات الفاشلة”.

حتى لا تصبح الأيام أصعب

عند المرضى النفسيين ليس “الآخرون هم الجحيم” كما هم عند سارتر، بل كل شخص صار جحيم نفسه، وناره مستعرةً بداخله. وحتى لا تصبح الأيام أصعب كتبت وفاء خالد تجربتها مع الاكتئاب على شكل نصائح مباشرة بدون استعطاف القارئ، مستذكرة “حين تصبح الأيام أصعب” كما هو عنوان كتابها، واضعةً “دليلًا مبسطًا لحيل التعامل مع الاكتئاب بشكل يومي” كما في العنوان الفرعي. أهمية الكتاب تكمن في تجربته المماثلة لنا، لكثير من تجاربنا، تجربة صريحة تتكلم عن تقدم الأخبار الجيدة والأخبار السيئة لكل مريض نفسي، ويؤكد أهمية الكتاب تصديره بكلمة من الأخصائي النفسي أسامة الجامع وتصريحه بأنه “كتاب يستحق وبفخر أن يوضع في المكتبة العربية، كصوت مفعم بالقوة، ليقول لليائسين هناك أمل وأنا أمامكم، وهذه قصتي”.

أفضل وقت لطلب المساعدة من الطبيب أو الصديق برأي وفاء هو عندما تشعر أنك على وشك الدخول إلى نوبة اكتئاب أو في بدايتها. فتوقُّعُ المطر يجعلك تحمل معك مظلة. وتنبَّه من إغراقِ مَن حولك بمشاكلك النفسية، وهذا لا يعني الإخفاء عنهم، فقط “تذكر أن صديقك ليس معالجك النفسي. فلا تثقل صديقك أكثر مما يحتمل واحتفظ بأثقل أفكارك ومشاعرك للمعالج. وإلا أصبحتما شخصين مكتئبين بدلًا من واحد”.

تصحيح التصوّرات وإزالة الوصمة تجاه الأمراض النفسية لا يعني إسباغ المدائح عليها وإبراز مزاياها وفضائل بعض المصابين بها؛ فهذا ينقل التطرف من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين، المطلوب هو الاتزان وإنزال الأمور منازلها، وبيان طبيعية أمراض النفس كما هي أمراض الجسد. لا شيء أخلاقي في تجميل الاكتئاب، ولا شيء جيّد يتأتّى من مديحه أو تبجيله أو اعتباره ظرفًا امتيازيًّا.

شاطئ هادئ

الصحة النفسية خط متصل يمتد من امتلاك صحة نفسية جيدة في طرف إلى المعاناة من اضطراب نفسي في الطرف الآخر، ويختلف موقع الأشخاص على هذا الخط المتصل خلال مسيرة حياتهم. طرف الصحة النفسية يُمثّل بتعريف منظمة الصحة العالمية بأنه “حالة من الصحة يدرك من خلالها الشخص قدراته ويستطيع التعامل مع ضغوط الحياة العادية ويستطيع العمل بشكل منتج ومكتمل ويكون قادرًا على المساهمة في مجتمعه”. فالشخص الذي لديه صحة نفسية جيدة سليم في مشاعره وتفكيره وإدراكه وسلوكه، ويقوم بأداء جيد في العمل والدراسة ولديه علاقات إيجابية مع الناس من حوله.

وأما طرف الاضطراب النفسي بتعريف الدكتور نبيل القط في “حكايات التعب والشفاء” فهو “نوع من الاضطراب في الوجدان أو في التفكير أو في السلوك يؤدي إلى ضغط نفسي، يتعرض له الإنسان، أو إلى إعاقته عن القيام بأنشطته اليومية، أو زيادة في تعرضه للمشكلات، أو معاناة في حياته العادية”.

السلام النفسي ليس معناه أن تتحول حياتك إلى نعيم دائم، بل يعني فقط القدرة على الوصول إلى حالة من السكينة الذهنية وسط فوضى الحياة العارمة، أن تمتلك شاطئًا نفسيًّا هادئًا تتردد إليه متى شئت.

سرد السير الذاتية لذيذ لكاتبها ولقارئها، لأن استحضار الأفراح استذكار للحظات الجميلة واستئناس بها، وكذلك استحضار الآلام والأحزان بعد نهايتها تذكيرٌ بنعمة مجاوزتها.

سيُفتح الباب ما دمت تطرق، سيُشع الضوء ما دمت تعمل، اليأس هو الموت. وتذكّر أن “لكل ليل قمر”، كما يقول التبريزي، “حتى ذلك الليل الذي بداخلك”. وأن لكل نهار شمس، حتى وإن اختبأت خلف الغيوم. الميزة الوحيدة للاكتئاب هي أنه مرضٌ يمكن قهره. وأن الغالبية العظمى من المرضى النفسيين يتعافون حتى حينما يكون المرض في أبشع أشكاله، ويعيشون بعد ذلك حياة لا تقل سعادة عن حياة نظرائهم ممن لم يتعرضوا للمرض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى