
كانت الفلسفة علاجًا لأزمات الحياة على مرِّ الأزمان؛ لذا تَظهر بقوّة عند ضعف الإنسان، أيّ في عزِّ مِحَنِه، ثمّ تعطي معنىً لحياته بشكلٍ أو بآخر؛ غير أنّها تميّزت بتحديدات سلبيّة مسبقة سيما من قِبَل الفئة غير المتخصّصة، فكان الفلاسفة والحكماء مُلزَمين على فتراتٍ تاريخيّة طويلة إظهار الجانب المُشرق منها، وأنّها تساعد الإنسان أن يَحيَا حياة طيّبة؛ إذ لا تنحصر الخسارة في الموت، بل تتوسّع لتشمل فقدان الحُلم والهدف في الحياة، وتكون حينئذ النّهاية.
حيث يزخر التّاريخ الإنسانيّ بمجهودات أعظمَ الفلاسفة معالجة لمعنى الحياة الطّيّبة(1)، ومِن بين الذين تطرّقوا لهذا الموضوع، نجد المفكّر الفرنسيّ المعاصر «لوك فيري»(2) في كتابه «أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة»(3) حيث أعطى حلًّا سمّاه «ثورة الحُبّ» يتناسب ورؤيته التّحليليّة النّقديّة لمسَار الفلسفة الطّويل إلى الألفيّة الحاضرة، كما يتناسب وقناعاته باعتباره فيلسوفًا بَحَثَ عن الحلول المُحايثة لا المُفارقة(4) لسؤال المعنى؛ وتجدر الإشارة أنّ لوك فيري يتحدّث باعتباره ابن التّربة الغربيّة التي حُسمت مع المعنى الإلهيّ والثّوريّ والوطنيّ؛ ومن ذلك أصبحَ الإنسان الأوروبيّ لا يموت مِن أجْل هذه الأشياء، بل مِن أجْل أولاده، فهو يتحدّث مِن داخل السّياق الغربيّ الذي لا يتّفق وعالَمنا العربيّ الإسلاميّ، فنحن مازلنا نتكلّم باسم الدِّين، بينما أوروبا جرّبت الحروب بأنواعها وجرّبت تفكيك الأفكار كلّها، فالمعنى لديه يعني التّضحية، وهو ما توضّحه عبارته حينما يقول: «نجد أنّ البحث عن هذه الحياة الطّيّبة، التي كانت تُوضَع أصلًا في ما هو خارج عن الإنسانيّة وأسمى منها(…) سيقترب أكثر فأكثر مِمّا هو حميميّ في صميم التّجربة الإنسانيّة»(5).
ولكي نعالج هذا الموضوع نصيغَ أسئلتنا كالآتي: كيف تدرّجت مسألة الحياة الطّيّبة في الفهم الفلسفيّ البشريّ لها؟ ما مراحلها؟ وما الأجوبة التي يقترحها لوك فيري ضمن فلسفته البديلة؟ وكيف تخدم الفلسفة الإنسان كي يعيش حياة طيّبة؟ وما الأساس المتين، أو بالأحرى ما الحلّ للحياة الطّيّبة في هذا العصر الذي نعيشه؟
يحرص لوك فيري على التّفريق بين «القِيَم الأخلاقيّة» و«القِيَم الرّوحيّة»، فالأُولى تَعتمد على شيئين أساسيّين هما: الاحترام والسّخاء، أما الثّانية فهي أعمّ وأشمل، إذ تصوغ تركيبة علاقة الإنسان بالعالَم ودلالة وجوده، فحينما أكون أخلاقيًّا ليس معناه بالضّرورة أنّي سعيد، ولتوضيح هذه الفكرة الهامّة لابأس مِن العيش تجربة حَالِمَة معه، تمثّلت كالآتي: لنتخيّل أنّنا نملك عَصًا سحريّة مكّنتنا من جعل جميع الإنسانيّة تعيش في مثاليّة أخلاقيّة، فسيتغيّر حتمًا مصيرها، وتعيش بدون أيّة منغّصات مُطلقًا؛ فلا حروب ولا قتل ولا سجون، هنا بالذّات يكمن الفرق، بحسب لوك فيري، بين القِيم الأخلاقيّة والرّوحيّة، فلو تحوّلت الأسطورة إلى حقيقة فلن نستطيع تجنّب الموت والرّدى.(6)
ومِن هذا المنطلق، كانت الفلسفات الجبّارة تسعى لتوضيح معنى الحياة الطّيّبة للإنسانيّة المُعرَّضة للموت، ومن خلال القصة المتخيَّلة السّابقة التي تحكي عن عالَم كلّه أخلاق، وإنْ كان سيمكّننا من الأمن ويوقِف البشاعات البشريّة، فهو لن يكبح جماح فَنَائِنَا وتلاشينَا عبر الزّمن، إذ جوابنا عن ذلك هو الفيصل في مسألة المعنى.
وإذا نظرنا إلى المسألة مِن زاوية دينيّة، فإنّ الدِّين يدلو بدَلوه في شأن الحياة الطّيّبة؛ عبرَ الاستناد على الإله، بينما الفلسفة تعتمد العقل وحُريّة الإرادة وحدهما للتّعبير عن الحياة الطّيّبة ذاتها. مِمّا يعني أنّ غايتهما واحدة رغم اختلاف منهجهما، بعبارةٍ أخرى نقول: تسعى الفلسفة في جوابها عن سؤال المعنى مرتكِزة فقط على المؤهّلات الإنسانيّة دونما دعم السّماء، وإن كانت في الحقيقة، تاريخيًّا، الكلمة العُليا للدِّين باعتباره يُقدّم خلاَصًا سهلًا يجعل المرء ينتظر حياة أخرى بعد الموت، وهو الحلّ الأكثر إغراءً.
ولأن الجواب الدّينيّ عن الحياة الطّيّبة كان طاغيًا دائمًا، فقد تكرّست فكرة مفادها أنّ الفلسفة تطرح أسئلة ولا تُقدِّم أجوبة عن الحياة الطّيّبة، وهو الأمر الذي يرفضه فيلسوفنا؛ إذ يرى تاريخ الفلسفة أجوبة كبرى ساهمت في نماذج من الحلول، فيقول: إنّ «مسألة الحياة الطّيّبة بالنّسبة إلى البشر، الفَانين، هي المسألة القصوى في الفلسفة»(7)، إذ تسعى الفلسفة لتحقيقِ هذا المُراد باستعمال ما يملكه الإنسان من مؤهّلاتٍ عقليّة وحُريّة الإرادة، وهو ما يجعلها لا تغامر بهما لأجْل أوامر إلهيّة، بكلمةٍ واحدة؛ فهناك فرق بين الدِّين والفلسفة عند لوك فيرى أن الأوّل مفارق والثّانية محايثة، ومن جهةٍ أخرى يتبيّن من أطروحته أنّ الفلسفة لا تسعى لبلوغ معرفة نظريّة خالصة بمعزلٍ عن مطلَب الحياة الطيبة، فهي قدَّمت وَصَفَات لتبديد الخوف الإنسانيّ وتهدئة روعه مِن تلاشيه المحتوم. ولقد عاد لوك فيري ليحكي لنا قصّة تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخًا عَمَلِيًّا وليس نظريًّا فقط، بتقسيمه إلى خمس محطّاتٍ كبرى، هي بمثابة خمسة أجوبة لنَحيَا حياة طيّبة، فلنلقي نظرة عليها:
الجواب الأوّل: العَيش في تناغمٍ مع الكوسموس
يُقصد بالكوسموس ذاك التّراتب المُحْكم في العالَم، بحيث يعيش الإنسان وفق مقدوراته، فالحياة الطّيّبة بهذا المعنى هي الالتزام بالمكانة التي يشغلها الإنسان أصلًا وِفق القدَر الكوسموسيّ، فكلّ شيء يلزَمُ مكانه مؤدِّيًا الدّور المنوط به في هذه الحياة. ولعلَّ ملامح هذا التّناغم، يَظهر أثناء القرن الثّامن والسّابع قبل الميلاد؛ خاصّةً أساطير هوميروس (8)، التي اعتمدها فلاسفة كبار مثل أفلاطون وأرسطو وأصبغوا عليها الطّابع العقليّ الحِجاجيّ في معزلٍ عن الآلهة، فيكون إذًا «هذا الجواب الأوّل عن مسألة الحياة الطّيّبة يقوم على فكرةٍ أساسيّة وهي أنّ العالَم ليس فوضويًا وغير منتظم، بل هو على العكس متناغم تمامًا؛ وهو ما يُطلق عليه اليونانيّون اسم «الكوسموس» أو «النّظام الكونيّ» (9).
بمعنى تتَّكِل الحياة الطّيّبة على كلّ ما هو إلهيّ في الكون، بحيث يتمّ الانسجام التّامّ مع المخلوقات والإنسان لبلوغ مرحلة أفضل في الحياة لتحقيق الطّمأنينة والسّعادة، وهذه النّقطة بالذّات هي بداية تأسيس ملامح الحياة الطّيّبة وعدم الخوف من الموت الذي لن يكون مادام الإنسان حيًّا؛ فالإحساس بالانتماء للعالَم الكبير الشّاسع هو الملاَذ الآمن من الموت الذي سَيَسْلُبُ مِنّا سوى جانب واحد مِن وجودنا الفرديّ، بالتّالي لن يؤثّر على البناء المتكامل والمتناغم للكون في طابعه الجماعيّ الموحّد؛ ولكن هذا الإحساس قد يتحوّل إلى غرور، ويُعطي الإنسان لنفسه مكانًا أكثر ممّا يستحقّه في العالَم اللّامتناهيّ، ومِن هنا تبدأ المشاكل أو بالأحرى الانتقال إلى الحياة الشَّقِيَّة اللَّاطيِّبة.
تِلكم هي الفكرة اليونانيّة التي سادت آنذاك عبر الأساطير المؤسِّسة لها حتّى ما بعد عهد أرسطو بقرونٍ عديدة، فالحياة الفانية ما هي إلّا محطّة أُولى لحياةٍ خالدة، ومن هنا ينبع الإحساس بمعنى الحياة، ووصفها بأنّها طيّبة، باعتماد حلٍّ رائع حسب لوك فيري، تمثَّلَ في كَوْن «الماضي والمستقبل في نظرِ اليونانيّين يبدوان وكأنّهما شرَّان كبيران يُثقِلان على الحياة البشريّة. فالماضي يمنعنا من الإقامة في الحاضر؛ إمّا لأنّه كان سعيدًا، أو لأنّه كان شقيًّا(…)، والارتماء بين أحضان خيالٍ وهميّ آخر متّجه هذه المرّة نحو المستقبل: وهو الأمل»(10)، بمعنى أنّنا لا نأبه للحاضر أبدًا.
فمعرفة الإنسان لمكانته الطّبيعيّة داخل الكوسموس تعطيه أمانًا تامًّا في الأبدِ البعديّ، وبالتّالي يكون الموت مجرّد حالة انتقال، ينتفي معها الخوف منه، ويكون الإنسان قادرًا على عيش حاضرِه مطمئنًّا في حياة طيّبة؛ فالخوف هو الخصم الأوّل للحكمة، وحينما نفكّر بحرّيةٍ وحكمة، نتّجه لا محالة إلى الانفتاح على باقي البشريّة والتّعامل معها، ونعطي إذًا، حينها، نموذجًا من النّماذج المهمّة للحياة الطّيّبة.
الجواب الثّاني: الحياة والأمل في الآجلة أو النّظرة اليهومسيحيّة
بعد قرون من اليونانيّة والرّومانيّة التي سيطرت فيها الوثنيّة بشكلٍ كبير؛ بِنَفْيِ ما هو إلهيّ كلّه، وتلك كانت فكرة الكوسموس، إلّا أنّ تحقيق التّصالح بين النّفس والذّات، باعتماد العقل والتّفكير فقط، كان حلًّا وإن أعطى أجيالًا دفعة معنويّة هائلة، لكنّ الشّخصانيّة المجرَّدة فيه مِمّا سواها كلّه، ألزمته قبولًا متوسّطًا، فكان أن قامَ على أنقاضه طيلة العَصر الوسيط، ومنذ القرن الخامس الميلادي تقريبًا، الحلّ الدّينيّ المرتبط بالوحي الإلهيّ الموجِّه، والمُطَمْئِن في الوقت نفسه، بانبثاقِ فكرة البَعث الجسديّ والرّوحيّ لكلّ شخصٍ على حِدة، والالتقاء مجدَّدًا مع مَن نعرف ونُحبّ ونشتاق، فاندمجت المسيحيّة بعد اليهوديّة لتأسيسِ خلاَص فرديّ يتماشى ونشوة الانتصار على فكرة الموت المُخيفة.
لا شكَّ أنّ الأديان تُغري بحياةٍ أبديّة مثاليّة جدًّا، أكثر مِمّا كانت عليه الفلسفة في العَصر القديم، إذِ الحُبّ أقوى من الموت، فبالحبّ نحقّق الخلاَص، وننتظر الحياة الأبديّة مع مَن نشتاق، بالتّقاسيم والنّبرات والهيئة الخارجيّة نفسها حين أحببناهم، و«يظلّ الحُبّ إلى الأبد، وتكون الحياة الطّيّبة بهذا المعنى حياة تؤدّي بفضل الحُبّ إلى الخلود»(11). ولكن في المقابل يعود الإنسان للتّبعيّة الإلهيّة، وتنعدم بشكلٍ أو بآخر حُرّيته في استعمال العقل والتّفكير، بمعنى لم تعد حياته الطّيّبة مِلكًا له.
وننوّه هنا، أنّ لوك فيري اقتصر على الدّيانة المسيحيّة/اليهوديّة، لسببين: الأوّل أنّه يُعلن جهلَه الشّيء الكثير عن الإسلام، إذ لن يُقدم أيّة إضافات تُذكر، والثّاني كونه يشتغل ضمن مركزيّته الأوروبيّة التي يَعْلَمُ خباياها بأدقِّ التّفاصيل؛ وعوضًا عن لوك فيري سنقول: ترتبط الحياة الطّيّبة من زاوية الجانب الإسلاميّ بالمفاهيم المتنوّعة للآيات طمعًا في مرضاة الله، وهذا ما يجعلها تتساوق والفكرة الدّينيّة في ارتباطها بالحياة الآجلة وليس العاجلة، يقول تعالى: ﴿وَلَا اَلْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولَى﴾(12)
وفي الإطار نفسه، يقول تعالى عن الحياة الطّيّبة بالمصطلح ذاته: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(13)، وبهذا المغزى تشمل الحياة الطّيّبة: الرِّزق الحلال الطّيّب، الذُّرّية الطّيّبة، القناعة، السّعادة، والكلمة الطّيّبة، وغيرها من الأشياء التي تُضفي معنىً لحياة المسلم المؤمن؛ كما نجد مثلًا لا حصرًا في الآيات التّالية: ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾(14)، ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْ﴾ (15) ، ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾(16) .
إنّها آياتٌ كما نرى لا تخلو مِن لفظة «طيّبة»، لكن في عمومها لا تحتكر الجانب الدّنيويّ فقط، بل تدعو للدّار الخالدة أيضًا، وهنا نلمس التّوافق مع الأديان الأخرى، ممّا يسمح بإدخال الإسلام أيضًا، إلى هذا الجواب الدِّينيّ الذي قدّمه لوك فيري.
الجواب الثّالث: العَيش وِفق العقل وجعلُ الإنسان شيئًا مذكورًا
يدور هذا الجواب، حول مسألة الجمع بين الإيمان واستقلال العقل في الزّمن الحديث مع عَصر النّهضة؛ بمعنى العودة إلى الذّات بدل الموضوع، واعتماد نور الفطرة الحقيقيّ الذي يوجد داخل الإنسان، عوض الاعتماد على الكوسموس، أو «الإنسان الإله» عند اليونان، وبَعْدَهُمْا فكرة خلاص الأديان.
ومن أشهر الذين تعاملوا والمُعطى الجديد، الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت في القرن السّابع عشر ميلاديّ، الذي اعتمدَ فلسفة جديدة تُبنى على الإنسان نفسه في تحديد معنى الحياة. ناهيكَ عن كوْنِ الكوجيطو «أنا أفكّر؛ إذاً أنا موجود»، من المبادئ الهامّة في الفكر الدّيكارتيّ، فهو النّقطة التي كانت أساس المَعرِفة كلّها فيما بعد، هذا الشّكّ المنهجيّ كان مُرتكَزًا اهتدى به ديكارت لأشهَر مقولة لديه، فيقول: «سرعان ما لاحظت أنّه، بينما كنت أريد أن أعتقد أن كلّ شيء باطل، فقد كان حتمًا بالضّرورة أن أكون أنا صاحب هذا التّفكير، شيئًا من الأشياء. ولما انتبهتُ إلى أنّ هذه الحقيقة: أنا أفكّر، إذًا فأنا موجود، كانت من الثّبات والوثاقة واليقين بحيث لا يستطيع اللّاأدريون زعزعتها، بكلّ ما في فروضهم من شطَط بالغ، حكمتُ أنّي أستطيع مطمئِنًّا أن آخذها مبدأ أوّل للفلسفة التي أتحرّاها»(18)، فاستبعد ديكارت أيّ شيء فيه ذرّة شكّ حتّى يتّضح له، بحيث أصبح لا يثق في العالَم الخارجيّ، فهو مليء بالمَعرِفة الخاطئة، لذا شكّ حتّى في حواسّه بما تنقله من أفكار مغلوطة أيضًا، فَغَرْبَلَ ديكارت المَعرِفة ووَزَنَها في ميزان الشّكّ، لكونها إن كانت خاطئة منذ البداية فلن تعطي الطّريق الصّحيح للحياة الطّيّبة.
وكما يظهر من صياغة الكوجيطو لفظ «الأنا» المتكرّر [أنا أشكّ، أنا أفكّر، أنا موجود]، الذي حاول منه ديكارت إيصال رسالة للكنيسة مفادها: للإنسان حقّ التّفكير واستعمال [أناه] في طريقة حياته، فنزَع سلطان المَعرِفة من رجال الدِّين والكِتاب المقدّس، وأعطاه للفطرة الإنسانيّة المتضمِّنة وحدها فكرة الله أصلًا، والتي تكون سبب الحياة الطّيّبة باعتماد النّور الدّاخليّ للإنسان الذي يقوده لتحقيق السّعادة، فيقول عن معرفة الله هاته: «إنّ الذي أعتمد عليه يملك في ذاته كلّ هذه الأشياء العظيمة التي أشتاق إليها، والتي أجد في نفسي أفكارًا عنها، وأنّه يملِكها(…)، في الواقع وبالفعل وإلى غير نهاية، ومن ثمّ أعرف أنّه هو الله»(19).
سيرسم ديكارت إذًا، حياة طيّبة باعتماد الفطرة والشّكّ في ما سواها كلّه، عدا الإله الذي جعله ضامنًا للحقيقة في مواجهة الشّيطان الماكر المُضلِّل، ليقول مخاطبًا فلاسفة بداية القرن السّابع عشر ميلاديّ: إنّ ما تفعلون كلّه ها هو وجهه الفلسفيّ؛ إنّ فلسفة جديدة تطرأ، وأنا سأعطيكم صياغتَها ولفظها، بمعنى سيتمّ الانتقال من الاشتغال اللّاواعي إلى الاشتغال الواعي، وبعِبارة أخرى، الانتقال من المستور إلى الظّهور. وكأنّه «بَرَادَايَم»(20) جديد تكفّلَ بصناعته، ونطق باسم حقبة بأكملها.
هذه الإنسانويّة ستزدهر مع عصر الأنوار، تحديدًا القرن الثّامن عشر ميلاديّ، بمزيدٍ مِن الحقوق الفرديّة، وبـ«قدرة المرء على اختيار مصيره وإعادة صنع ذاته باستمرارٍ؛ بفضل حُرّيّته وعقله»(21)، ففكرة التّـقدّم في الزّمن الحديث تجلّت في حضور التّماثيل داخل الحياة الغربيّة بشكلٍ كبير، بينما سيطرت فكرة الخلود لدى الجميع بكتابة اسمهم في التّاريخ عَبْرَ مُنْجَز: حضاريّ، فنّيّ، عسكريّ، علميّ، ليكون الإنسان شيئًا مذكورًا.
الجواب الرّابع: الحياة باستنفاذِ الحاضر أو خِفّة الرّاقص
سيتّجه هذا الحلّ رأسًا إلى الفيلسوف نيتشه؛ باعتباره صاحب لقب «فيلسوف المطرقة» التي تضرب لتُزيل القشور عن الإنسان لرؤية لُبّه وفهمه من الدّاخل وتفكيكه(22)، بل وتخليصه من القيود التي تُبعده من عيش إنسانيّته الحقّة، والخالصة بعيدًا عن الالتزامات الإنسانويّة والدّينيّة على السّواء، بمعنى آخر حاول نيتشه إزالة الأقنعة المتعدِّدة التي تُخفي وراءها حقائق عديدة تُظهر الإنسان على فطرته، وما أحوجنا إلى الابتعاد عن المظاهر الخدّاعة لنحيَا حياة طيّبة، إذ المعنى عند نيتشه في الحاضر الذي يعيشه الإنسان.
لا غرو أنّ نيتشه سيذهب لمدىً بعيد بإعلانه «موت الإله»، ولن يكون هذا الإعلان مجرّد نزوة أو فكرة سيطرت على أفكاره، بقدرِ اعتبارها فكرة تمخّضت عن مشروعه، الذي اعتبرَ فيه أنّ الإنسان الذي اجتاز مرحلة الكوسموس اليونانيّ بنجاح، وبعدها جرَّد نفسه مِن القيود الدّينيّة التي حاولت إغراءه بشكلٍ أو بآخر بفكرة الخلود، هذا الإنسان قادر على المُضيّ في حياته مؤتمِنًا حاضره فقط، بغضّ النّظر عمّا يُخفيه المستقبل المجهول.
لأجل هذا، يقصد نيتشه بفكرة الانغماس في الحاضر والحياة الطّيّبة، أنّه عندما يعيش الإنسان أوقاتًا يجد فيها قوّة وحُرّيّة كبيرة، أو حين يُحِبُّ بجنون على قوامٍ متبادل، أو لحظة اكتشافه لإبداع يُغْني التّجربة الإنسانيّة، فالموقف هذا يسميه نيتشه: «خِفّة الرّاقص»، أيّ عندما يحسّ الإنسان بالتّصالح مع الواقع، فيبلغ آنذاك قوّة تجعله يتمسّك بتلك اللّحظات إلى الأبد. إنّها لحظات تجانس تامّ مع الحاضر دون التّفكير في الماضي ولا حتّى المستقبل، إنّها قمّة الخلاَص الإنسانيّ.
الجواب الخامس: الحياة بالحُبّ باعتباره روحانيّة لائكيّة(23)
هي المرحلة الحاليّة التي نعيشها، والتي يسمّيها لوك فيري بـ«الإنسانويّة الثّانيّة» أيّ مرحلة ما بعد الحداثة والأنوار، بمعنى آخر من الحقبة الحديثة إلى المعاصرة القائمة على الحُبّ، «بل أنّه قد أصبح مبدأً ميتافيزيقيًّا جديدًا؛ إذ هو الذي يعطي حياتنا معنى»(24)، فالحُبّ بالأساس يتمّ التّعامل فيه مع طرف بما يخدم الفرد والمجتمع، وهو السّبيل لخَلق مناخ مثاليّ لنا وللأجيال القادمة، وعمومًا لِمَن نُحِبّ.
بعدما سادت الحداثة السّائلة بتجلِّياتها، كما عبَّر زيجمونت باومان (25)، في سلسلة كُتُبه الشّهيرة «السّيولة» نتيجة الإفراط في الحُرّيّة، وضياع المبادئ التي تأسّست على حسابها الحداثة، أصبح في نهاية القرن العشرين، وبداية الألفيّة الثّالثة عهدَ ما سمّاه لوك فيري «زواج الحُبّ»، هذه النّقلة النّوعيّة في أوروبا المعاصرة سمحت بظهور التّضحيّة من أجل الآخر، بمعنى مَن نُحِبّ، ومحاولة إسعاده قدر الإمكان وبالطُّرق كلِّها، «وهكذا فإنّ أولويّة الحُبّ سَتُنَمِّي فينا مجدَّدًا معنى ما هو جَمْعي، بعيدًا عن الدّفع بنا إلى انطواء فردانيّ»(26)، بمعنى تجاوز الفردانيّة إلى المجتمع، بل وأكثر من ذلك إلى العالَم الذي سنتركه بعدنا لمن نحبّهم؛ فالواقع الغربيّ أصبح خواء مِن الدّاخل، وإن لاحظنا البهرجة الخارجيّة من حقوق وحُرّيّة وتضامن وتشارك إلى غيرها مِن الصّفات الإيجابيّة، بمقدار داخل الفرد يكون خرابًا لا معنى له، بحيث سنلاحظ فرقًا فسيحًا بين ما يعيشه الإنسان مع الآخرين، وما يعيشه مع نفسه، «بينما تسعى قوّة الحُبّ بالذّات إلى تأسيس حياة طيّبة على شعور نُحسُّه مباشرة في بداهة المَعيش»(27).
بينما ثورة الحُبّ، حسب لوك فيري، هي بمثابة حداثة أخرى تسعى لتقديم مبدإٍ جديد في المعنى يروم البحث عن الأبعاد الإنسانيّة المُهمَلة إلى حدّ الآن، وإخراجها للنّور مِن خلال الحُبّ الذي نُكنُّه تّجاه مَن نحبّهم جميعًا، آملين تحقيق السّعادة لهم حاضرًا ومستقبَلًا.
وللمفارقات فقد كانت هذه الثّورة الرّومانسيّة، إن شئنا القول، نِتاج ثورة صناعيّة ورأسماليّة، وفي هذا الصّدد بالذّات يَذْكُرُ لوك فيري قصّة فتاة من الأرياف غرب فرنسا، انتقلت للعمل في إحدى المدن الصّناعيّة الكبرى، والتي ستستفيد مباشرة بكمّ هائل من الحرّيّة، والتّغيّرات الجذريّة في حياتها بدءًا بالأجر الذي ستتقاضاه محقِّقة استقلاليّة مادّية، ثمّ الانفلات من مراقبة الآخرين عن تحرّكاتها، بحيث ستعيش حيّزًا كبيرًا من الاطمئنان النّفسيّ والتّخلّص من الإشارة بالأصابع، وأخيرًا ستسعى للزّواج بشابٍّ تختاره؛ تحبّه، وتميل إليه. بمعنى ستستفيد الفتاة مِن الحُرّيّة الماليّة والشّخصيّة والعاطفيّة دفعة واحدة، وهذا ما كان شبه مستحيل إلى عهدٍ قريب؛ وهكذا أصبحت ثورة الحُبّ نتيجةَ ثورة صناعيّة جارفة استعبَدت الإنسان مِن أجل المال، ولكن الحُبّ انتصر عليها.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الإحالات والهوامش:
(1) كان السّؤال حول «معنى الحياة» والغرض منها مُلِحًّا وأساسيًّا دائمًا، أثار أعظم العقول البشريّة لقرون خلَت. وكانت المقاربات على اختلافاتها ترجع لِجذور الأشياء، وأصل الوجود، وأسباب خَلْق البشر، والسّعي لتحسين الذّات، وأخيرًا إلى الدّين. حيث قدّمت العقول العبقريّة تفسيرات مُقْنِعة جدًّا، لما من شأنه قيادة الإنسان إلى «الحياة الطّيّبة»، وجعله سعيدًا. فمثلًا نجد أنّ الفلسفيّة الرّواقيّة كانت ترى الحياة الطّيّبة وفق الطّبيعة، عكس الفلسفة الأبيقوريّة التي تقوم على الميزان المنضبط بين الألم واللّذة. إلّا أنّ لوك فيري طرح السّؤال بوضوح مُستعرضًا مجمل الإجابات على مرِّ التّاريخ، فغطّى المسار الفلسفيّ كاملًا، وقدَّم جوابًا من جانبه تمثّل في «ثورة الحُبّ».
(2) فيلسوف معاصر، وُلد سنة 1952م، عَمِلَ وزيرًا للتّربيّة والتّعليم في فرنسا بين 2002 و2004م، يُعدّ مِن الفلاسفة الجدد المتفائلين بالحداثة وإنجازاتها، والدّاعين لروحانيّة لائكيّة انطلاقًا من حلّ هو الحُبّ.
(3) «أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة»، لوك فيري، ترجمة محمود بن جماعة، دار التّنوير، ط1/2015م.
(4) محايث: تقال مقابل المفارق أو المتعالي، وهي صفة لكلّ ما هو ملازم ومقترن ومتماهٍ مع الوجود، فمثلًا إذا أخذنا الفيلسوف سبينوزا، فهو قدّم فلسفة محايثة، فالله عنده هو العلّة المحايثة للعالَم، فهو كامن كمعقوليّة في الطّبيعة. ينظر كتاب: «موسوعة المفاهيم الأساسيّة في العلوم الإنسانيّة والفلسفة»، محمد سبيلا ونوح الهرموزي، منشورات المتوسط، إيطاليا، ط1/2017م، ص:433-434.
(5) «أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة»، مرجع سابق، ص:7.
(6) لتفاصيل أكثر: نفسه، ص:13.
(7) نفسه، ص:18.
(8) ابن كريثيس ابنة ميلانوفوس ولدته أمّه على ضفة نهر ميليس ضاحية أزمري وسمّته ميليسا جينيس أي: ابن النّهر ميليس، للمؤرّخين أقوال مختلفة في زمن ظهوره تتراوح بين القرن الثّاني عشر والقرن السّابع قبل الميلاد. تُنظر تفاصيل في: الإلياذة، هوميروس، ترجمة سليمان البستاني، مؤسّسة هنداوي، مصر، ط2/2001م.
(9) «أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة»، مرجع سابق، ص:23.
(10) نفسه، ص:29.
(11) نفسه، ص:34.
(12) سورة الضحى، الآية:4.
(13) سورة النّحل، الآية:97.
(14) سورة آل عمران، الآية:38.
(15) سورة التوبة، الآية:72.
(16) سورة إبراهيم، الآية:24.
(17) سورة سبأ، الآية:15.
(18) «مقال عن المنهج»، رونيه ديكارت، ترجمة محمد محمود الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي القاهرة، ط2/1968م، ص:149.
(19) «تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى»، رينيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للتّرجمة، العدد 1297، ط1/2009م، ص:153-154.
(20) مفهوم ابتكره العالِم الأمريكيّ توماس كون (1922-1996م)، يدلّ على النّموذج الموجِّه، أي الإطار النّظريّ والأساس الذي يسمح بطرح المشكلات، وطُرق حلّها عند مُتَّحَد عِلميّ ما. فلا يمكِن للعالِم التّفكير خارج الإطار المتّفق عليه سلفًا، حتّى يظهر نموذج آخر يحلّ محلّ القديم، وهكذا.
(21) أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص:45.
(22) وإن أشار ديكارت لهذه الفكرة التّفكيكيّة في قواعده الأربعة، نختصرها كالآتي:الأولى عدم قَبول أيّ شيء إلّا بعد اليقين منه، الثّانية: تقسيم المُعضلات إلى أجزاء، الثّالثة: البدء بأبسط الأمور معرفة حتّى أكثرها تعقيدًا، والأخيرة: العمل على الإحصاءات الكاملة، والمراجعات الشّاملة. تُنظر تفاصيل في: «مقال عن المنهج»، رينيه ديكارت، ترجمة محمد محمود الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي القاهرة، ط2/1968م، ص:130-131-132.
(23) اللّائكيّة La Laïcité لفظة تُستخدَم عند الفرنسيّين بمعنى العَلمانيّة، وهي كلّ نظرة دنيويّة محايِثة لا تخرج عن هذا العالَم إلى عالَم آخر مفارق.
(24) «أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة»، مرجع سابق، ص:59.
(25) زيجمونت باومان عالِم اجتماع بولنديّ (1925-2017م). استقرّ في إنجلترا منذ 1971م، بعد طرده من قبل حملة معاداة السّامية مِن بلده. عَمِل أستاذًا في جامعة ليدز منذ 1990م حتّى تقاعده. وعُرف عنه أنّه سوسيولوجيّ الحداثة وما بعدها.
(26) «أجمل قصّة في تاريخ الفلسفة»، مرجع سابق، ص:62.
(27) نفسه، ص:65.