– مقدمة
لعل مصطلح “التسامح” من أكثر المصطلحات والمفاهيم الفلسفية التي قد تبدو بسيطة لأول وهلة، لكنه بطبيعته مفهوم معقّد وواسع، ومتعدد المرجعيات والمنطلقات، كما أن دلالاته متشابكة ومتقاطعة وتلقي بظلالها على كل نواحي الحياة الإنسانية وتتداخل في صميم التفاعلات الاجتماعية والعلاقات السياسية والاقتصادية والروابط الثقافية. ومنذ ظهور الإنسان على سطح الأرض وقضية التسامح بين مد وجزر، لاسيما وأنّ الإنسانَ يلازمه دَوْمًا هاجس التحرر من القهر والعنف، في ضوء مساعيه الدؤوبة لنفي كل أشكال التعصب والإكراه والقسر والاستعباد التي يفرضها الآخرون أو يفرضها المجتمع أو الدولة عليه.
والحقيقة إن قضية التسامح قد أدت دورًا مهمًا وحيويًا في حياة المجتمعات ودفعت بها في سلم التقدم الحضاري نحو مُثل الحرية والإخاء والمساواة والسلام والعدل وكلّ ما يقوّي الانتماء والتقارب والتضامن بين البشر. لكن كيف السبيل إلى ذلك، ولدينا الاختلافات الجنسية والعرقية والإثنية والدينية؟ وإذا كان ثمة بعدٌ أو مقوم مشترك يلتقي فيه البشر جميعًا – وهو البعد الإنساني- فهل هذه الاختلافات والتباينات بينهم تكون عاملًا في ترسيخ نزعة التمييز والعنصرية والتعصب، أم أنها اختلافات صحية والتضحية بها يدفع في اتجاه القهر والعنف والتدمير؟ وإذا أضفنا إلى ذلك أن التسامح مرتبط ومرهون بثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، لاتضح لنا مدى تشعب مسألة التسامح وتعقيدها؛ فلكل مجتمع ظروفه وتقاليده وعقائده الموروثة التي قد تتشابه وقد تختلف مع المجتمعات الأخرى على مر العصور قديمًا وحديثًا.
ومن ناحية أخرى، بأي معنى يمكننا الحديث عن القيود والأغلال التي يواجهها البشر، ونحن نواجه كل يوم ثورات في المعرفة والعلم والتكنولوجيا، وهي ثورات من المفترض أن تدفع باتجاه الحرية والسلام والتطور؟ الواقع أنه إذا كان تاريخ الحضارة – بمعنى ما- هو تاريخ التقدم البشري في المقام الأول، فإنه أيضًا تاريخ الصراع بين التحرر والقمع، بين العدالة والظلم، بين الحرية والقهر، بين الإنصاف والاستغلال، بين التنوير والظلام، بين التسامح والتعصب، بين الحوار والاستيعاب والتمثيل في مقابل الدوجما والإقصاء والاستبعاد. وقد شكلت هذه الثنائيات قوالب فكرية مهمة في تاريخ الحضارات الإنسانية، وستظل تُمثِّل محورَ الاهتمام المركزي لكل المجتمعات الإنسانية. لكن تظل ثنائية التسامح والتعصب تحتل موقع القلب من بين كل هذه الثنائيات، نظرًا لارتباطها الشديد بكل هذه المفاهيم والقيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية من حرية وتعددية واختلاف ومساواة وعدالة وتنمية وتقدم…إلخ.
من هنا تبدو أهمية “التسامح”، لكن التسامح ثقافة وسلوك وممارسة قبل أن يكون شعارًا ودعوة نظرية. وهنا بيت القصيد، حيث يواجهنا الفكر السياسي الليبرالي بمصطلحاتٍ ومفاهيم تبدو في ظاهرها لأول وهلة وكأنها مفاهيم أخلاقية بالدرجة الأولى، وترتكز على مرجعيات ودعامات إنسانية، وتحوي دلالات نبيلة، لكن التعمق في أساسها وبنيتها، وكذلك التعمق في استخدامها السياسي يكشف لنا إلى أي مدى يمكن أن تنقلب هذه المفاهيم والمصطلحات إلى نقيضها! ولعل من أكثر هذه المفاهيم التي شاعت في الفكر الليبرالي مفهوم “التسامح”، ذلك المفهوم الذي أضحى من المسلمات، بل ومن قبيل المفاهيم المتعارف عليها ضمن مفردات الأيديولوجيا الليبرالية، والذي لا يمكن لإنسان صاحب عقل أن يشك فيه أو أن يقف ضده.
من هنا تنطلق هذه الدراسة من بحث مفهوم التسامح الليبرالي، ليس كمفهوم نظري تشكلت آفاقه وأبعاده في إطار الحضارة الغربية الحديثة، خاصة في القرن الثامن عشر فيما عُرف بعصر التنوير الأوروبي، وإنما كثقافة وممارسة وعقيدة في ظل بعض المجتمعات المعاصرة التي تدعي طابع الديمقراطية والعلمانية والتعددية كمجتمع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بصفة خاصة. ومن هنا فإننا لا نستهدف التنظير لمفهوم التسامح كمفهوم فلسفي ساد وانتشر في أدبيات الفكر السياسي الحديث والمعاصر باعتباره نقيضًا للتعصب ضد الآخر المختلف عرقيًا أو جنسيًا، أو حتى باعتباره نقيضًا للعنف ضد المرأة أو الأقليات الدينية، وإنما سنحاول أن نكشف عن المرجعيات الأساسية للمفهوم التي شكلت محور تطبيقاته العملية، وهي المرجعيات التي تنطلق من خلفية ليبرالية ذات أبعاد مختلفة ومتشابكة معًا.
من هذا المنطلق يمكن تناول مفهوم «التسامح الليبرالي» من خلال عدة محاور أيديولوجية تنطلق منه وتتشابك معه، ومن خلالها يكتسب دلالته ومعناه، وهي على النحو التالي:
أولًا: المحور الثقافي، الذي يتبدى فيه التسامح الليبرالي بوصفه مقولة أيديولوجية.
ثانيًا: المحور السياسي، الذي تنطلق منه الليبرالية في حروبها باسم الإنسانية.
ثالثًا: المحور الاقتصادي، الذي ترتكز عليه الأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية.
وسيتم تناول هذه المحاور الثلاثة مع التركيز على نقد الخلفيات والمرجعيات الأيديولوجية الليبرالية لمفهوم التسامح في ضوء كتابات الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجيك».
المحور الأول: التسامح بوصفه مقولة أيديولوجية (تسييس الثقافة).
يتكشّف الغموض الذي يتسم به الاستخدام الأيديولوجي الليبرالي لمقولة التسامح إذا توغلنا إلى جوهرها؛ حيث يتم تقديمها كمقابل للتعصب تجاه الأجانب، والنساء، والمَثَليين. وهنا يكمن بيت القصيد: فلا أحد يقف ضد التسامح في حد ذاته (أو هكذا ينبغي أن يكون)، ولكن ما ينبغي مساءلته هو التفسير الآلي الذي يتم تقديمه لأسباب العنف، ونشوء الحركات العنصرية بإطلاق، كمشكلة عدم التسامح([1]). وهنا يتساءل «جيجيك»: لماذا يتم النظر إلى الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية على أنها ناتجة عن التعصب، وليس عن عدم المساواة، أو الاستغلال، والظلم؟ ويجيب بقوله: «إن تقديم التسامح- وليس التحرر، أو النضال، أو حتى الكفاح المسلح- على أنه الحل المقترح، أو الوصفة الجاهزة لمواجهة التعصب، ينبع أساسًا من اشتغال الليبرالية بالتعددية الثقافية، ويتم ذلك عن طريق “إضفاء الطابع الثقافي على السياسة” (Culturalization of Politics). وفي هذه العملية يتم تحييد الخلافات السياسية- والتي تنتج أصلًا عن الاستغلال، وعدم المساواة- والنظر إليها على أنها اختلافات “ثقافية وحضارية”؛ أيّ اختلافات في “طريقة الحياة” التي تعيش المجتمعات وفقًا لها، وهي اختلافات لا يمكن تجاوزها من ناحية، كما لا يمكن سوى التسامح معها من ناحية أخرى»([2]).
من هنا فإن الحل الذي يتم تقديمه لإحلال “الطابع الثقافي على السياسة” من شأنه أن يكون واجهة للتعمية عن أصول العنف الاجتماعي، في حين أن الترويج للتسامح المنطلق من التأكيد على الاختلاف الثقافي، وخصوصية الهوية، يمثل الآلية التي تناسب الرأسمالية، وتساعدها بصفة مستمرة على إعادة خلق نفسها من جديد، وبحيث تصبح الاختلافات الثقافية في النهاية المحرك لاقتصاد السوق الحر.
إن النتيجة الحتمية لهذا النوع من التسامح الليبرالي هي تقسيم الأفراد والمجتمعات وفقًا لثقافتهم ونظمها السياسية من حيث مدى انفتاحها على الآخر، وكما يقول جيجيك: «من أجل أن تنجح الليبرالية، تنزع إلى تقسيم دول العالم أجمع إلى عوالم ثلاثة: عالمين أول وثاني (الدول الرأسمالية)، وعالم ثالث (الدول الشيوعية والاشتراكية). العالم الأول تهيمن عليه الولايات المتحدة بوصفها القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية الكبرى، والعالم الثاني تُمثِّله أوروبا الشرقية (بلدان ما بعد الحقبة الشيوعية) وأجزاء من آسيا وأمريكا اللاتينية لأنها المناطق الأكثر إنتاجًا وتصنيعًا، ويشمل العالم الثالث بقية دول العالم (العالم النامي). وعلى هذا النحو نتج عن الرأسمالية العالمية ظهور شكل جديد من الأنظمة الأوليجاركية (حكم القلة الغنية)، وهذا الشكل يتخفّى وراء ستار “التنوُّع الثقافي”، لكن “المساواة” و”العالمية” فيه تختفيان بشكل متزايد بوصفهما من المبادئ السياسية الحقيقية»([3]).
إن هذا التقسيم بهذا الشكل يؤدي للتعصب المرتكز على أساس تمجيد الذات القومية، كما يضعنا في عملية عكسية تبدأ من “إلباس السياسة ثوبًا ثقافيًا” (Culturalization of Politics) وتنتهي عند “تسييس الثقافات” (Politicization of Cultures)؛ أي إلباس الثقافة ذاتها ثوب الصراعات السياسية. وهنا يظهر أن إدارة السياسة من مداخل ثقافية يُمثِّل إخفاقًا لدولة الرفاه من ناحية، كما يُمثِّل بديلًا ليبراليًا جديدًا، لكنه زائف، للمشروعات الاشتراكية من ناحية أخرى. ومن ثَمَّ فإن التسامح في صورته الليبرالية يُمثِّل في نهاية المطاف البديل المصطنع والحل الانهزامي لرأسمالية عصر ما بعد الحداثة([4]).
ويُعَدُّ «صموئيل هنتنجتون» (Samuel Huntington) (1927-2008) هو من اقترح صياغة “تسييس الثقافات”، وذلك بإرجاعه الصراعات السياسية إلى اختلاف الثقافات؛ الأمر الذي قاده إلى الاعتقاد بأن «الستار الحديدي للأيديولوجيا» في عصر السرديات الاقتصادية الكبرى حل محله «ستار الثقافة المرن» بعد انتهاء الحرب الباردة. ومن هنا كانت الطريقة الوحيدة لتحرير الأفراد من التعصب تتمثل- وفقًا له- في تحريرهم مما أسماه الثقافات المتعصبة ذاتها([5]). لكن الواقع يفرض علينا رفض النظر إلى ثقافة معينة على أنها صاحبة الامتياز، كما أن وصف بعض الثقافات بأنها بربرية وغير متسامحة ليس سوى نوع من تأكيد التفوق لثقافة المجتمعات الغربية الحديثة. ويرتبط بذلك أمرٌ آخر، ويتمثل في تجاهل الأيديولوجيا الليبرالية ذاتها للظلم والاستغلال والعادات اللاإنسانية المترسخة في بعض الثقافات تحت مظلة “احترام ثقافة الآخرين”؛ وهنا نجد أن استحضار حرية الاختيار غالبًا ما يتم بطريقة منحرفة: حيث تواجهنا الليبرالية بضرورة احترام طريقة الشعوب في الحياة حتى لو كانت تضحي بحياة المرأة الأرملة بعد وفاة زوجها([6]).
وهكذا فإذا كان الاختلاف الثقافي قد يؤدي إلى صراع من نوع ما، إلا أنه ليس من الصحيح القول بأنه يخترق المجال الاجتماعي والاقتصادي بأكمله، ليكون المصدر الوحيد لكل الصراعات السياسية، وإنما منشأ ذلك هو التوظيف الأيديولوجي “للاختلاف الثقافي” على أنه مكون من مكونات التناقضات في العملية الاجتماعية والمحرك للتناقضات الطبقية والصراعات السياسية الأخرى كلها([7]). ومن هذا المنطلق فإن رؤية هنتنجتون المتشائمة عن صدام الحضارات، والقائمة على أساس أن صراع الثقافات سيكون الصراع الرئيسي في القرن الواحد والعشرين، خاصة بعد أفول الصراعات الأيديولوجية الكبرى؛ إن رؤيته هذه ليست مناقضة لأفق «فرانسيس فوكوياما» وصياغته الهيجلية الزائفة عن «نهاية التاريخ». فالصياغتان تكمل إحداهما الأخرى؛ لأن صدام الحضارات يظل في نهاية المطاف سياسة أيديولوجية في نهاية التاريخ([8]).
ومن ناحية أخرى فإن مفهوم “الثقافة” في ظل الأيديولوجيا الليبرالية يصبح اسمًا لجميع الأشياء التي نمارسها دون أن نكون مؤمنين بها في قرارة أنفسنا، ودون أن نأخذها على محمل الجد. ويمتدّ ذلك إلى جميع المجالات العامة والخاصة، حتى إلى الدين ذاته؛ حيث لم يَعُدْ الأفراد “يؤمنون على نحو حقيقي”؛ لكنهم ببساطة يؤدّون الطقوس الدينية ويَتبَعون التقاليد كجزء من ثقافتهم واحترامهم “لأسلوب الحياة” الذي يتحكم فيه مجتمعهم([9]).
ومن هنا تمثل الثقافة الموضوع المسيطر والشغل الشاغل لدى الليبراليين بتركيزهم على النظر إلى السياسة بوصفها وسيلة لمكافحة العنصرية، والتمييز، وإقرار التسامح، والتعددية الثقافية. وهنا ينتقل جيجيك إلى نقد الليبرالية، وينصبّ نقده على أساس ما يسميه “هربرت ماركيوز” «فائض القمع»([10]) (Surplus-Repression). ويشير هذا التعبير إلى أنه لكي تُسيطر الطبقة الحاكمة على الطبقات الأخرى، فمن الضروري أن تُشبع احتياجاتها الضرورية لها، وأن تجعلها تعتقد أن لديها ما تحتاجه من النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية. وهذا ما تشتغل عليه الأيديولوجيا الليبرالية من حيث أن الحرية فيها تُمارَس في حدود معينة وإلا تعرض المخالفون إلى قمع شديد بطريقة غير مباشرة([11]).
على هذا النحو يصبح المتنفس الأيديولوجي محركًا أساسيًا في عمل الليبرالية؛ حيث يؤدي وظيفة مهمة تتمثل في إفساح المجال أمام الأفراد للتعبير عن تذمرهم شريطة ألا يؤدي ذلك إلى تغيير الوضع القائم جذريًا. ويشتغل هذا المتطلب عندما تنزع الطبقة الحاكمة إلى توفير مجالًا للطبقات الدنيا للتعبير عن غضبها، بشرط عدم المساس بالمصالح الاقتصادية القائمة، ولهذا فهي تتسامح مع صور معينة من “الحرب الثقافية”، وتنزع إلى توفير المزيد من الحريات الفكرية، وفتح الباب أمام النضال من أجل حقوق المرأة، وحرية الجنس، وتعدد الثقافات، بوصفها مداخل لإبقاء هذه الطبقات تحت السيطرة، وكوسائل للتهرب من مساعدة الفقراء. وهذا يعني أن الاختلافات الثقافية التي تنذر بوقوع صراعات وحروب ثقافية تمثل “حربًا طبقية” في حالة إزاحة، وينطبق هذا على أولئك الذين يَدَّعون أننا نعيش في “مجتمعات ما بعد طبقية”([12]).
معنى هذا أن السلطة الحاكمة في معظم الدول الليبرالية لا ترفض الاختلاف والتسامح مع الأقليات الدينية والعرقية والجنسية، كما أنها قد لا تمانع وقوع التغيير السياسي والاجتماعي، بل بالعكس تدعو إليه وتشجعه. لكن ونظرًا لأن التغيير لا يتعدى حدود المظاهر الشكلية، فإن الأوضاع تظل كما هي عليه وتظل الأيديولوجيا الليبرالية مهيمنة. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الأيديولوجيا الليبرالية بوصفها عاملًا “للتسكين الخيالي” (Imaginary Mitigating) لصدمة ما يجري على أرض الواقع([13]).
المحور الثاني: المحور السياسي (الحرب باسم الإنسانية!).
( أ ) التسامح الليبرالي والحرب الكونيّة على الشر!
تبدو معظم الصور والمفاهيم المتكررة في الخطابات السياسية الأمريكية مثل «التهديد الشيوعي»، و«إمبراطورية الشر»، و«الدفاع عن العالم الحر»، والحرب ضد الإرهاب، وغيرها، تبدو هذه الصور والمفاهيم على أنها تمثل في الواقع التطور الطبيعي للإمبريالية التي تخدم وتبرر الهيمنة الأمريكية التي ترفع دائمًا راية التسامح. ولنا في تعبير مثل (الحرب باسم الإنسانية)، أو (الحرب الكونيّة على الشر!)، الذي تزعمته الولايات المتحدة في عصر بوش الابن نموذجًا ومثالًا واضحًا على ذلك، حيث يُمثِّل استدعاء مفهوم “الإنسانية” في الحرب محاولة زائفة يقف وراءها مصالح وأهداف سياسية واقتصادية معينة، وكم من الحروب التي شُنت ولا تزال تُشنّ باسم الإنسانية ولكنها كانت تستهدف السيطرة والاستعمار والاستيلاء على خيرات الشعوب، وقد صدق المفكر الألماني «كارل شميت» (Carl Schmitt) (1888-1985) حين قال منذ قرن من الزمان (في سنة 1927): «لقد عرفنا اليوم القاعدة الحاكمة وراء هذه المصطلح [الإنسانية]، لقد عرفنا أن أبشع الحروب تُشنّ باسم السلام العالمي، وأكثر الأنظمة القمعية تُمارِس وحشيتها باسم الحرية، وأكثر الممارسات همجية وفظاعة تُدعى: إنسانية»([14]).
كذلك فإذا كانت الهيمنة الأيديولوجية قد دفعت بأمريكا إلى غزو البلدان تحت مظلة حماية نفسها وحماية الشعوب الأخرى من خطر الإرهاب، فإن الإمبريالية الأمريكية بحاجة دائمًا إلى حالة (حرب دائمة)؛ لأنها تعمل في الأساس من منطلقات أيديولوجية وعسكرية، وليست اقتصادية خالصة. ومن خلال الفكرة المزعومة: «الحرب على الإرهاب»، تُقدِّم أمريكا نفسها على أنها الحامي العالمي لجميع الدول([15]).
من هذا المنطلق يمكن القول إن اللجوء إلى الحرب تحت مظلة (الإنسانية)، ومن ضمنها ذريعة “التدخل الإنساني”، فكرة مرفوضة من الأساس، وكما يقول شميت: «ليست الحروب التي تُشنّ باسم الإنسانية حروبًا من أجل الإنسانية نفسها، وإنما وسائل تستهدف عن طريقها دولة معينة فرض نموذجها الكلي. فعلى حساب خصومها، تحاول هذه الدولة المتدخلة أن تجعل من نفسها كِيانًا كليًا مطابقًا للإنسانية بنفس الطريقة التي يمكن لدولة ما من خلالها أن تُسيء استعمال قيم الحضارة، والتقدم، والسلام، والعدالة، فتدَّعي أنها تحتكرها في نفسها وتنكرها على خصومها»([16]).
لقد كان شميت جريئًا وصريحًا حين أعلن أن عصر التكنولوجيا، وعالم الليبرالية، لا يُمثِّلان البديل السلمي للحرب، على عكس زعم الأنظمة الليبرالية الغربية والأمريكية، وإنما هما مجرد غِطاء لشكل أكثر وحشيّة للاستغلال الاقتصادي والقهر الاجتماعي. يقول شميت مُسقطًا الأقنعة التي تتخفى وراءها الأنظمة الديمقراطية الليبرالية: «إن مفهوم الإنسانية مجرد أداة أيديولوجية للتوسع الإمبريالي، وفي صورته المُقَنَّعة وسيلة للإمبريالية الاقتصادية. هذا ما عَبَّر عنه (برودون) (Pierre-Joseph Proudhon) (1809-1865) من أن كل مَنْ يحتجُّ باسم الإنسانية فإنما يغُشّنا. ونضيف إلى ذلك بأن: تصدير هذا المصطلح واستدعائه في الحرب، ربما يكون له آثارٌ سلبية خطيرة، مثل حرمان العدو من السمة الأخلاقية والإنسانية واعتباره كيانًا شريرًا وبشعًا وخارجًا على القانون؛ وبذلك يمكن أن تكون الحرب ضده مدفوعة بأكثر الأساليب عنفًا وتطرفًا»([17]).
علاوة على ذلك ليس ثمَّة حروب باسم الإنسانية في حد ذاتها؛ لأن الإنسانية في حد ذاتها لا تُمثِّل كِيانًا سياسيًا، أو مجتمعًا بشريًا. فمفهوم الإنسانية والذي يعود إلى القرن الثامن عشر ظهر بوصفه إنكارًا انفعاليًا للنظام الأرستقراطي الموجود آنذاك والامتيازات المصاحبة له. ويتسم هذا المفهوم وفقًا للقانون الطبيعي والمذاهب الليبرالية الفردية بالسمة الكلية “universal”؛ أيّ إنه مفهوم اجتماعي مثالي، ونموذج شامل من العلاقات بين الأفراد. لكن ذلك لن يتحقق إلَّا عندما تُمنع الإمكانية الحقيقية والفعلية للحرب([18])، وهو ما يصعب بل ويستحيل تحقيقه على مستوى الدول القومية المتصارعة.
( ب ) إسرائيل وأيديولوجيا القهر تحت راية التسامح!
مثلما تستلزم كل الأيديولوجيات عنصر التّخييل، وتحويل الانتباه، فإنها تستلزم أيضًا «الأنسنة الأيديولوجية» (Ideological Humanization)، وتُمثِّل هذه الآلية استراتيجية فعّالة وشديدة الخصوبة؛ لاستمالة الآخرين إليها، وبحيث يتم ممارسة الأيديولوجيا ليس على أساس أننا معصومون من الخطأ، وإنما على أساس أننا بشرٌ نخطئ أحيانًا ونُصيب في أحيان أخرى.
وانطلاقًا من هذا، يمكننا تحليل الأيديولوجيا المحركة لوسائل الإعلام الإسرائيلية، التي تبدو للعالم وكأنها تقدم لنا إسرائيل كدولة متسامحة، حيث يستهوِيها التطرق إلى عيوب الجنود الإسرائيليين، وحالتهم النفسية، ولا تُظهرهم بأنهم قتلة أو آلات صماء تُنفذ أوامر القادة، كما لا تُقدِّمهم على أنهم أبطال خارقون، وإنما كأشخاص عاديين يحاربون من أجل أُمتهم، ومن ثَمَّ فإنهم قد يُخطئون أحيانًا. وعلى سبيل المثال، عندما هدم الجيش الإسرائيلي في يناير 2003 منزلًا لعائلة “إرهابي” مشتبه به، فعل ذلك بلطف شديد، حتى أنه ساعد أفراد الأسرة على نقل أثاثها قبل تدمير المنزل. والصورة نفسها تتكرر في حادثة مشابهة عندما كان أحد الجنود الإسرائيليين يبحث في أحد المنازل عن فلسطينيين مُشتبَه بهم، فنادت رَبَّةُ البيتٍ ابنتَها باسمها حتى لا يُصيبها الهلع. وعندما سمع الجندي نداء الأم، اكتشف أن اسم الابنة هو نفس اسم ابنته، فما كان منه سو أن أخرج صورة ابنته وأعطاها للأم الفلسطينية في مشهد عاطفي، وكأن لسان حاله يقول: “لا يجب أن تُعمينا الاختلافات السياسية عن أننا جميعًا بشرٌ نَحمِل مشاعر الوُدّ والمحبة، ونتقاسم سويًا الهموم والأحزان”. لكن ليس من الصعب فضح نظرة التعاطف هذه؛ فإِنَّ مثل هذا الرد يُخفي ورائه قِناعًا زائفًا؛ حتى إذا ما سألته الأم: إذا كنتَ حقًا إنسانًا، فلماذا تفعل ما تفعله الآن؟ جاءت الإجابة الجاهزة: إنني لا أحب عمل ذلك، ولكن واجبي هو الذي يَفرِضه عليِّ([19])!
تسعى الأيديولوجيا المحركة لإسرائيل إذن إلى تقنيع ممارساتها وتهذيبها، وخاصة أُفُقها الذي قد يبدو في الظاهر أنه (متسامح) والذي لا تستطيع إلا أن تُجاهر به. ولهذا فهي تستهدف تشويه طريقة إدراكنا لحقيقة ما يجري في الواقع، وذلك عن طريق الزيادة في جرعة الإحسان. ولذلك فإن الطريقة التي يتم بها تقديم صورة الجندي الإسرائيلي في الإعلام أمر بالغ الأهمية؛ لأنها تُقدِّمه على أنه يقوم بواجبه الوطني، ومن ثَمَّ فإنها في حقيقتها تُجسِّد أيديولوجيا القهر والهيمنة في أنقى صورها([20]). مثال آخر يتمثل في التركيز على الخبرة المؤلمة لليهود خلال حكم النازية، ذلك التركيز الذي من شأنه أن يعمل في كثير من الأحيان على طمس الخلفية الأخلاقية- السياسية للصراع الدائر حاليًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بما في ذلك المجازر التي فعلها الجيش الإسرائيلي في لبنان كمذبحة صبرا وشاتيلا وغيرها. ولذلك فإن هذه الأنسنة الأيديولوجية تستهدف التعتيم على القضية الرئيسية المتمثلة في ضرورة التحليل السياسي الصارم لما يجري في ضوء النشاط العسكري الذي فعلته إسرائيل ولا تزال حتى الآن([21]).
وبالنظر إلى هذه الصورة (الإنسانية) المتسامحة التي يتم تقديمها عن الجنود الإسرائيليين، والتي يحاول الكِيان الصَهيوني توصيلها من حين لآخر للعالم أجمع، تتكشف لنا الأهداف الحقيقية التي ترمي إليها، وذلك من جانبين أو زاويتين:
الأولى: تأكيد الفجوة بين الواقع المعقّد الذي يعيش فيه الجندي الإسرائيلي، والدور الذي يتعيَّن عليه القيام به حتى لو تعارض مع القوانين والمبادئ الأخلاقية، أو تنافى مع طبيعته وفطرته الإنسانية، حيث نجد أن الجندي الإسرائيلي، ورغم اعترافه بضعفه الإنساني، فإنه لا يخاف على فقدان حياته بقدر ما يخشى من زوال دولة إسرائيل ذاتها.
الثانية: إضفاء علاقة “روحية” حميمة على الممارسات اللاإنسانية. وفي المثالين السابقين نجد أن الخبرات القاسية التي مرّ بها اليهود (حالة الطوارئ الدائمة التي ظلوا لفترات طويلة يعيشون فيها، والتهديد بالإبادة، وغير ذلك) عادة ما يتم استحضارها لإخفاء الوجه البشع للسياسة الإسرائيلية، وإقصاء الطرف الفلسطيني وتجريده من أرضه، والظهور على مسرح الأحداث من وراء حجاب([22]).
وهكذا تستهدف أيديولوجيا التسامح الليبرالي المزعومة التي يتقنع خلفها الكيان الصهيوني، تهذيب طابعه المتطرف الكامن في جوهر بنيته؛ إنها تستهدف إضفاء سمة إنسانية على “الفعل” و”الفاعل” في الوقت نفسه، عن طريق إظهار نوع من التضامن مع الآخرين. وهنا يكمن الغموض الأيديولوجي المتمثل- على سبيل المثال- في تجسيد الإعلام الإسرائيلي للجنود وكأنهم يقومون بدورهم “كبشر عاديين”، لكنهم يُجسِّدون أقنعة استعمارية عنصرية لإضفاء طابع أخلاقي على الممارسات الإسرائيلية اللاإنسانية. وهذا النوع من التعمية يظهر عند ذُروته الساخرة ويتكشّف لنا في صورته الوقحة جدًا عندما يظهر “شارون” في الإعلام الإسرائيلي كإنسان وديع في صورة مزارع مسالم داخل مزرعته([23])!
لكن ليس من الصعب أن نكشف عن مدى زيف الصورة الإعلامية لتقديم إسرائيل وكأنها تُجسِّد الليبرالية، والتسامح، والدولة التي تحارب ضد الفاشيات الدينية، ذلك أن إسرائيل قامت أساسًا عن طريق “العنف المُؤسِّس” لأصولها “غير الشرعية”، وهي الأصول التي قامت بترسيخها في الماضي البعيد الذي طمسته وحرفته من أجل تدعيم العقيدة الصَهيونية عن طريق مجموعة من الأكاذيب([24]). كذلك فإنه من السهولة فضح الصورة التي تُقدِّمها إسرائيل عن نفسها، خاصة وأنها تُخفي حقيقة بنائها للمستوطنات، ووقوفها ضد قيام دولة فلسطينية موحدة، واستيلائها التدريجي على الأرض من خلال بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وخنق الاقتصاد الفلسطيني، والضغط على المزارعين لترك أرضهم([25]).
وإذا كان الإعلام الغربي يحاول إغفال الطابع العنيف الذي تنتهجه إسرائيل، والتركيز على ممارسات العنف من جانب بعض الفلسطينيين، فإن إدانة إسرائيل لما تسميه العنف الفلسطيني إنما هو في الحقيقة غطاء للتعمية عن المشكلة الحقيقية المتمثلة في عنف الكيان الصَهيوني، وبنائها للحائط العازل، وهي سياسة للتطهير العرقي في أنقى صورها. والصورة نفسها نجدها عندما يُحاصر الفلسطينيون تدريجيًا وتُستقطع مناطقهم، وتُهدم بيوتهم، ويُجردون من حقهم في الإقامة في القدس، ويُضايقون في الحصول على أرزاقهم، فتظهر المحكمة العليا بوجهين مختلفين؛ حيث تَحكُم لصالح فلسطيني واحد، ولكنها تحكم أيضًا بطرد عدد لا يحصى من الفلسطينيين([26])!
المحور الثالث: المحور الاقتصادي (نقد الليبرالية الاقتصادية).
( أ ) الرأسمالية والبنية الأيديولوجية للعنف
انطلاقًا من فكرة “حرية الاختيار” التي تمثل جوهر الليبرالية والتي ترتكز إلى فكرة الذات “النفسية” ذات الطموح والتي لديها ميولًا ورغبات لا متناهية تريد تحقيقها، فإن هذا يضعنا وجهًا لوجه أمام ما يُسمّيه “أولريش بيك” (Ulrich Beck) “مجتمع المخاطرة”، وذلك عندما تسعى الليبرالية إلى مقايضة الناس كما في حالة انعدام الأمن الناجمة عن تفكك دولة الرفاه بوصفها فرصة لإقرار حريات جديدة، وذلك في صيغة: “يتعيَّن على الدولة أن تغير عقود التوظيف كل عام، وأن تعتمد على عقود قصيرة الأجل بدلًا من التعيين الثابت”([27]). ومن هنا تظل حرية الاختيار في الليبرالية “حرية شكلية”، وهي تعمل في صيغة: “لماذا تتذمر وتشتكي؟ ألم تقم أنت باختيار ذلك؟” وهنا تكون الحرية مدخلًا لقبول الاضطهاد والاستغلال([28]).
من هنا تواجهنا مقولة التسامح الليبرالي كشعار يتم استخدامه لتعزيز مشروعية الوضع الاقتصادي- الاجتماعي المُعْطَى، بحيث يمكن أن نَعُدُّ هذا المفهوم، بالصورة الليبرالية التي يتم تقديمها من خلاله، مقولة أيديولوجية، وليس مفهومًا فلسفيًا كليًا؛ لأنه يُركِّز على محاربة “العنف الذاتي”، ويتجاهل “العنف الموضوعي” المتأصل في بنية النظام الرأسمالي([29]). ويشير «العنف الموضوعي» (Objective Violence) إلى ذلك الشكل من العنف المرتبط أساسًا ببنية النظام الأيديولوجي المهيمن، والذي ينطوي دائمًا على عملية من إعادة الإنتاج “الآلية” لأفراد مستبعدين، ومقهورين، ومهمشين. ويشير هذا النوع من العنف إلى كافة صور الإكراه التي تتسبَّب فيها الأنظمة الرأسمالية، التي تُغذِّي علاقات السيطرة والخضوع والاستغلال القائمة وتُعيد إنتاجها باستمرار. أما «العنف الذاتي» (Subjective Violence) فيقصد به الاستخدام المتعمد للقوة لإلحاق الأذى أو الضرر بالآخرين، ويشمل ممارسات العنف التي تقوم بها القوى السياسية والحركات الاجتماعية والدينية المتطرفة. ويمتدّ هذا النوع ليشمل كل الممارسات التي تقع بدءًا من العنف الجسدي المباشر (الجريمة، والإرهاب) إلى العنف الأيديولوجي (العنصرية، والتمييز الجنسي)، وانتهاءً بالقلاقل المدنية، والصراعات الدولية([30]).
يُمثِّل العنف الموضوعي نوعًا من “العنف المُنظَّم” (Systemic Violence)، أو ما يدعوه جيجيك (العنف الغَرَضي الشامل)، في حين أن العنف الذاتي قد يكون عنفًا موجهًا ضد الظلم الاجتماعي باعتبار الأخير يُعَدُّ “عنفًا منظمًا”. وفي الواقع إن العنف الذاتي يُمثِّل في كثير من الأحيان نوعًا من العنف المضاد (Counter-Violence) الذي يرتبط ظهوره بوجود الرأسمالية أساسًا. وهنا يكشف جيجيك بأسلوب بالغ الوضوح، أنه على الرغم من أن تركيز الخطاب الليبرالي ينصبّ على محاربة هذا النوع الأخير من العنف، فإن الليبراليين ذاتهم نسوا- أو بالأحرى تناسوا- أن أصول هذا العنف كامنة في بنية أيديولوجيتهم، وهو ما يُعَدُّ محاولة لتشتيت انتباهنا عن بؤرة الشر الحقيقية، وصرف الأنظار عن المأزق الكامن في الليبرالية ذاتها. وبهذا المعنى تصبح الرأسمالية شريكة في إنتاج الأشكال المختلفة من العنف؛ بل تصبح هي ذاتها مصدر العنف، ويتم ذلك عن طريق تحريف رؤيتنا لأصل العنف ذاته؛ كبداية للدفع بنا (كأفراد وجماعات) لممارسته([31]).
إن التحليل المتعمق للعنف الذاتي يؤكد أنه لا يُوَلَّد من تلقاء ذاته، وإنما يصبح كذلك بفعل العنف الموضوعي النابع من منظومة العلاقات الرأسمالية([32]). وعلى هذا الأساس فإن عنف الرأسمالية هو المحرك لكل صور العنف الأخرى، في حين أن العنف الذي تمارسه الحركات الدينية، والجماعات العرقية والإثنية وغيرها يصبح كذلك نتيجة للهيمنة والاستغلال الرأسمالي. ولذلك فمن الضروري دراسة العوامل البيئية، وكذا الظروف الاجتماعية والسياسية المختلفة، في ضوء الكل الأكبر الذي تشمله الرأسمالية أو الذي تتسبَّب فيه، والتي تُنتج هذه الظاهرة أو تَدفع إلى القيام بها.
تأسيسًا على هذا، فإن الاستغلال الناجم من البنى والمؤسّسات الاقتصادية، جنبًا إلى جنب مع ضعف الوعي السياسي، وحملات التحريض الديني التكفيرية ضد الآخر المختلف، تُشكل جميعها دوائر تنزع إلى ممارسة العنف. ومن هنا تكمن أصول العنف الاجتماعي (ممثلًا في النزاعات، والمذابح الدموية، والفتن الطائفية، وما إلى ذلك) في “العنف الغَرَضي”، والتي تُعَدُّ الرأسمالية أصلًا له. وعلى هذا فإنه من الأهمية تفسير هذا النوع من العنف الذاتي في ضوء إطاره البنيوي الشامل المرتبط بظهور النظام الرأسمالي؛ أي في ضوء العنف الغَرَضي أو الموضوعي. فهذا الأخير يُعَدُّ عنفًا متفردًا في طبيعته وأخطر بكثير من العنف الأيديولوجي للمجتمعات السابقة على الرأسمالية؛ حيث لم يَعُدْ يُعزى إلى أفراد بعينهم وإلى نواياهم الشريرة، بل أصبح عنفًا يكتسي الطابع الموضوعي الخالص، ويعمل بطريقة منظمة، وخفية إلى حد كبير([33]).
ويمضي جيجيك موضحًا أن قيام الرأسماليين بالأعمال الخيرية، والتبرعات، وإعادة توزيع بعض الثروات، وما إلى ذلك؛ لإشباع بعض الاحتياجات المادية للفئات الواسعة من الفقراء والمحتاجين، وتدعيم مستوى معين من الرفاه، إن هذه الممارسات ليست محض إحساس من جانبهم بأن ذلك واجبٌ عليهم، وإنما لكي يَحولوا دون وقوع تغييرات جذرية للواقع، ولكي يبقى النظام الرأسمالي حيًّا، أو على الأقل لكي يتم غض النظر عن الأزمة الكامنة في بنيته. ولذلك فإن هذا المتنفس يؤدي إلى حفظ التوازن الاجتماعي، دون وقوف الرأسمالية في طريق مسدود، أو الدخول في حالة من الاستياء العام والتي من شأنها أن تُهدد بإعادة توزيع كلي للثروة على نحو عادل([34]).
وفي تصوير بليغ يُشبِّه جيجيك التسامح الليبرالي بهذه الصورة بالمنافق الذي يبتسم في وجهك ثُم يطعنك في الظهر! وفي تشبيه آخر، يساوِي بينها وبين مصاصي الدماء الذين يتربصون بك في أماكن عملك، وفي علاقاتك الأسرية ومع أصدقائك؛ لكنهم يستنزفون طاقتك الإيجابية، ويتغذون على دمائك، ويتنكرون لك في صورة أُناس عاديين([35]). وهكذا يمكن القول إنّ الأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية ذات طابع مرن يكفل لها الاستمرار والبقاء وإعادة نسج خيوطها من جديد. ولذلك وانطلاقًا من نظرة جيجيك للرأسمالية على أنها أصلٌ كل الشرور الاجتماعية، فإنه يرى أن عنفها البنيوي- وليس العنف الذاتي- هو المشكلة الأساسية التي تحتاج إلى مُساءَلة، وعلى حدّ تعبيره: «إن عنف الرأسمالية هو المحرك للعنف الذاتي، وهو نفسه ينسحب شيئًا فشيئًا من المجال العام- ولكنه يَبقَى دائمًا على نحو غير مرئي- لكي يُفسح المجال لخلق فضاءات ودوائر جديدة للشر الاجتماعي، بدءًا من العنف الذي تمارسه الحركات الاجتماعية والدينية إلى العنف العرقي، وهذا النوع الأخير من العنف يستفيد بصورة كلية من عنف الرأسمالية، بل هو أساسًا ناتج عَرضي له»([36]).
( ب ) الليبرالية والتعمية عن عنف البنى الرأسمالية
هناك حكاية معروفة تدور بين ضابط ألماني والرسام الشهير “بيكاسو”، وهي تحمل دلالة سياسة واقتصادية بالغة العمق. تقول الحكاية: إن ضابطًا ألمانيًّا زار بيكاسو في أستوديو له في باريس خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. وفي الأستوديو شاهد الضابطُ لوحة لمدينة “غرنيكا” (Guernica) الإسبانية وقد قصفتها القوات الألمانية، وقد صُدِم الضابطُ عندما رأى ما فيها من فوضى حَداثية، فسأل بيكاسو: “أأنت فعلت هذا؟” فرد عليه بيكاسو: “لا، بل أنتم الذين فعلتموه!”
يكشف جيجيك من خلال هذه القصة عن البنية الأيديولوجيا للعنف، كما يقارب نزوع الليبرالية إلى التعمية عن عنف الأنظمة الرأسمالية. فالفكرة ذاتها تُعيد طرح نفسها كل يوم عندما تقع حوادث شغب، وانتفاضات وثورات عنيفة، فنجد الكثير من دعاة الليبرالية يشيرون بأصابع الاتهام إلى اليساريين والثوريين الذين لا يزالون يراهنون على التغيير الجذري: “ألستم من فعل هذا؟ هل هذا ما أردتموه؟” واليساري الحقيقي يجب أن يرد مثلما أجاب بيكاسو: “بل أنتم الذين فعلتموه! فما ذلك إلا نتيجة حتمية لسياستكم الأيديولوجية!”([37]).
والواقع أن الموقف الأيديولوجي الكامن وراء الليبرالية من شأنه يُعمينا عن الإدراك الصحيح لطبيعة وأصل العنف الاجتماعي، وعلى حدّ تعبير جيجيك: «بمعنى من المعاني، كشفت لنا حركات العنف الاجتماعي الأخيرة عن حقيقة عصرنا الليبرالي أو “ما بعد الأيديولوجي” المزعوم؛ حيث أظهرت لنا بطريقة واضحة القوة المادية للأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية. فالمشكلة، إذن، في أعمال الشغب والانتفاضات الاجتماعية الأخيرة لا تتمثل في عنفها ذاته، وإنما في حقيقة أنها ليست سوى رد فعل على عنف الرأسمالية، وتعبير عن الغضب في نفوس ضحاياها في صورة مُقنَّعة كاستعراض للقوة، وتأكيد على خصوصية هويتهم ووجودهم»([38]).
إن الانفجارات “اللاعقلانية” للعنف الثوري لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء “العنف المنظم” الذي تتسبب فيه الرأسمالية، ولكن الليبرالية تعمل على صرف الأنظار عن الأشكال الأساسية لعنف الرأسمالية (وهو أكثر أشكال العنف قسوة ووحشية وتنظيمًا)، وتركز فقط على الأعراض المتمثلة في العنف الذاتي([39]). وبالتالي فإن تجاهل العنف البنيوي في الرأسمالية أمر جد خطير، وهو تجاهل تشتغل عليه الليبرالية لإدامة النظام الرأسمالي وجعله يتحرك في دائرة مغلقة. ولتبسيط هذه المسألة نقول: إن النظام الرأسمالي يخلق الأزمات، ثم يحاول أن يقدم لها الحلول (فهو يتسبَّب في انتشار المرض، وتلوث البيئة، ثُم يحاول أن يوفر العلاج والحل؛ لا لشيء سوى لإدامة دورته الاستهلاكية!). ولهذا يذهب جيجيك إلى أن جميع الحملات المتوهجة لأفعال البِرّ والإحسان تُمثِّل قناعًا يُخفي الوجه العنيف للاستغلال البشع للعولمة الرأسمالية. هكذا يعلنها جيجيك بأسلوب بالغ الوضوح قائلًا:
«إن الانخراط لمكافحة العنف الذاتي، وتجاهل العنف المُؤسَّسي للرأسمالية، يخدم في الأساس كقوة بالغة الأهمية لإدامة هذا النوع الأخير من العنف، الذي يتسبَّب في خلق جملة من الأحوال والظروف لاندلاع العنف الاجتماعي. ولهذا، لا يجب أن ننخدع من قيام بعض الرأسماليين والمستثمرين من المهتمين بالعمل الخيري، بالتبرع بالملايين لمحاربة مرض الإيدز، أو لتدعيم ثقافة التسامح مثلًا؛ لأن تلك الممارسات تُخفي في حقيقتها قناعًا زائفًا بسبب التشوهات المُتسبِّبة فيها الرأسمالية. فأمثال هؤلاء هم من تسبَّبوا في تدمير حياة الآلاف، بل الملايين من خلال المضاربات المالية؛ وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعد على ظهور المرض، وزيادة التعصب، اللذَينِ يعملون على محاربتهما! والأمر نفسه ينطبق على ما نسمعه من أخبار سارة في وسائل الإعلام من قيام الحكومة بإسقاط الديون عن بعض الفئات المتعثرة، أو ما نسمعه عن قيام حملات إنسانية كبيرة للقضاء على هذا الوباء أو ذاك! ومن هنا يتعيَّن علينا أن نقف على جذور العنف الذي يؤدى إلى وقوع هذه الأمراض والشرور (جذور المرض، والتعصب، والفقر)، وهي الجذور التي تكمن أساسًا في البنى الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية»([40]).
وفي هذا الإطار يذهب جيجيك إلى أن الإرهاب الذي تمارسه الحركات الدينية المتطرفة ليس هو وحده المسؤول عن تصاعد وتيرة العنف في العنف؛ فالليبرالية تشترك معه في ذلك، وإلى الحد الذي تكون فيه هي الأصل في ذلك العنف. ولكن التضمين الأيديولوجي ينصبّ على أساس فكرة التحويل؛ أي تحويل جذر المشكلة إلى شيء آخر يُمثِّل في حد ذاته “عرضًا”، وهو عَرض من الأعراض التي ترتبط بالمجال الاجتماعي- الاقتصادي لليبرالية([41]). ويستشهد جيجيك بأفغانستان والتي كانت- قبل أربعين عامًا فقط- بلدًا ذا تقليد علماني يحكمه حزب شيوعي وصل إلى السلطة دون دعم من الاتحاد السوفييتي. فأين ذهب هذا التقليد العلماني؟ وما الذي جعل أفغانستان أسوأ مثال للدول الإسلامية الأكثر تطرفًا؟([42]).
لا شك أن صعود العنف والإرهاب الديني في أفغانستان والعراق وفي غيرهما من الدول الإسلامية يرجع في جزء منه إلى التواطؤ الأمريكي السافر مع الحركات الدينية المتطرفة، ولا شك أن للرأسمالية الأمريكية دورًا في ذلك؛ فنشوء هذا العنف الديني يُمثِّل في جزء كبير منه- فيما يرى جيجيك- انعكاسًا زائفًا على شعور الكثير من الأفراد والجماعات في العالم الثالث بالفشل والإذلال من قبل الغرب من جانب، وتوحش الرأسمالية من جانب آخر، واحتلال الكيان الصَهيوني للأراضي الفلسطينية من جانب ثالث وهو الاحتلال المدعوم من الغرب الرأسمالي، وأمريكا بصفة خاصة. ووفق ما يرى جيجيك، فإن أفغانستان لم تصبح دولة أصولية إلا بعد أن زُجَّ بها في (لعبة الأمم) في السياسة المعولمة؛ أي إن وجودها بالشكل الحالي جاء نتيجة لصراع القوى الأجنبية([43]). وفي هذا الإطار يمكن الكشف عن سطوة العولمة، والربط بين المزاعم الأمريكية حول الحرب على الإرهاب وبين الرأسمالية العالمية التي تسيرها الشركات الكبرى، وكما يقول جيجيك: «ماذا ستعني “الحرب” في القرن الواحد والعشرين؟ ومَنْ سيكونون “هم”- في مقابل “نحن”- إذا لم يكونوا بوضوح لا دولًا ولا عصابات إجرامية؟ وبالمثل، أليست “المنظمات الإرهابية الدولية” هي الوجه الآخر البَذِيء للشركات الكبرى متعددة القوميات والكلية الحضور رغم أنها دون قاعدة إقليمية واضحة؟ أليست الرأسمالية هي القالب الذي استُوعبت فيه الأصوليات الدينية والقومية؟»([44]).
ومن هذه الزاوية يمكننا تحليل طبيعة الصراع الأيديولوجي القائم بين الأصوليات الدينية من جانب والرأسمالية من جانب آخر عن طريق مفهوم «نيتشه» للعدمية. تحاول الرأسمالية (وهي المرادفة “للعدمية السلبية” “Passive Nihilism”) تقديم مُنتَجها من خلال إنتاج العديد من السلع، ومن ثَمَّ فإنها تستند إلى نمط الحياة الاستهلاكي، ومثالها المفضل هو الإنسان المنغمس في الملذات اليومية والمتع الزائفة، في حين أن الأصوليات الدينية (وهي المرادفة “للعدمية الإيجابية” “Active Nihilism”) تقوم على أساس فكرة الكفاح من أجل إقرار عقيدة دينية معينة، ولذلك نجد المتطرفين الدينيين على استعداد للمخاطرة بكل شيء، والمشاركة في النضال لدرجة التضحية بالذات([45]). ومن هذه الزاوية أيضًا فإن العولمة الليبرالية التي أفرزتها الرأسمالية، خاصة في نزوعها الأحادي المتطرف، تعمل كتبرير للقوة والعنف غير المُقيَّدين([46]). كما أن العولمة لا تَرمِز إلى انفتاح الثقافات والحوار فيما بينها، ولكنها ترمز إلى التسطيح الذاتي الذي يفصل الداخل عن الخارج([47]).
لكن إذا كان تحليل جيجيك للعنف يحوي جانبًا من الحقيقة، فإنه في بعض جوانبه يُمثِّل تفسيرًا مغلوطًا بشكلٍ جوهري: فممارسات العنف الديني ناتجة في جانب كبير منها من القراءات المغلوطة، والتأويلات المُبتَسَرة للنصوص الدينية، بقدر ما هي نِتاج لتجاوزات الرأسمالية وتوسعاتها الإمبريالية خاصة من جانب العولمة الرأسمالية؛ إنها أساسًا نِتاجٌ لتشبُّث الحركات الأصولية بجملة من المفاهيم الدينية التي سادت لفترة طويلة- للأسف- في الثقافة الإسلامية، مثل “الجهاد” في شكله التاريخي الأول. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحدود بين هذين النوعين من العنف مختلطة في بعض الأحيان، كما أن قوله بأن العنف الثوري نوع من ردّ الفعل على بنية العنف الكامنة في النظام الأيديولوجي الليبرالي، ليس صحيحًا بالضرورة.
بالنسبة لهذا التفسير الذي يقدمه جيجيك، فإن وجه القصور الكامن فيه يتمثل في الربط الحصري بين الرأسمالية من جانب، والعنف الديني والاجتماعي من جانب آخر، رغم وجود صلات بين الاثنين. فالأخير قد يكون أحد مُنتجات النظام الرأسمالي، لكنه ليس نِتاجًا ضروريًّا له في كل الأحيان. وفي واقع الأمر إن جيجيك في إرجاعه هذا النوع الأخير من العنف إلى الرأسمالية وحدها، نجده يستخدم الليبرالية كفزاعة، كما لو أن هناك مؤامرة كونية تقودها الرأسمالية التي تُمثِّل- وفقًا له- بؤرة الشر الوحيدة في العالم. فأصول العنف الأخرى يعزوها إلى “الرأسمالية” التي تنزع في جوهرها إلى تحقيق المزيد من الثروات والمكاسب المادية، وبحيث تكون الرأسمالية- في نهاية المطاف- هي (الشيطان) الأعظم في نظره!
إن الحركات الدينية المتطرفة، وإذ تُسمَّى بالسلفية الجهادية، فإنها تعتمد على الفعل والممارسة، وليس مجرّد العقيدة الفكرية فقط، والمسافة عندها بين الفكر وبين الفعل مسافة قصيرة جدًا؛ فمن السهل بالنسبة لها أن تنتقل- فقط بآلية سيكولوجية بسيطة جدًا- من حيز التفكير المتطرف إلى حيز التنفيذ المدمر. أما بحسب جيجيك، فإن العنف الذي تمارسه هذه الحركات هو رد فعل على عنف الرأسمالية؛ حيث يزعم أنها توجه عنفها ضد القيم البرجوازية والمفاهيم الليبرالية كالديمقراطية والحرية والمساواة، وأن ممارساتها لها ما يبررها- نسبيًا- لأنها تُمثِّل مقاومة للاستغلال والاضطهاد الاجتماعي اللذَينِ أفرزتهما العولمة الرأسمالية عبر أعوانها الدوليين.
لكن هذه الرؤية ضيقة الأفق، ويغيب عنها الدقة والموضوعية، خاصة الزعم بأن عنف هذه الحركات- ومن بينه الإرهاب الذي تمارسه حركة “داعش”- لا علاقة له بفهم النصوص الدينية، أو التقاليد الإسلامية، وإنما هو ظاهرة حديثة جاءت كردّة زائفة ضدّ الاستغلال والهيمنة الرأسمالية. والأهم من ذلك أن جيجيك يخلط في تحليلاته بين المجتمعات الرأسمالية المعاصرة التي قد تكون شريكة في نشوء هذه الحركات المتطرفة، وبين الرأسمالية كنظام إنتاج اقتصادي يقوم على الملكية الفردية والتبادل الحر، رغم أنه ينطوي على الاستغلال كما وصفه ماركس.
يتضح لنا إذن أن تحليلات جيجيك في هذا الصدد غيُر سديدة؛ فنظرته للعنف الاجتماعي ليس كمرض، وإنما كنِتاج لعنف الرأسمالية، وزعمه بأن العنف الديني هو نتيجة لعنف العولمة الرأسمالية، إن نظرته هذه تُمثِّل مغالطة، بل وتفسيرًا ميكانيكيًا يفتقر إلى أدنى مستويات الإقناع؛ لأنها تفتقر إلى الموضوعية كما تفتقر إلى المنهجية الدقيقة، ولا تضع في الاعتبار الظروف التاريخية والجيوسياسية لهذا النوع من العنف الديني، وكأن مشاريع الحركات الدينية لم تكن لتظهر إلا في التربة الرأسمالية، وهي علاوة على ذلك طريقة غير منطقية لتفسير إخفاقات الرأسمالية والآثار السلبية والوخيمة للعولمة الأمريكية.
– خاتمة
تأسيسًا على هذا، فإن مفهوم التسامح بصورته الليبرالية، أو بالأحرى أيديولوجيا التسامح الليبرالي كما ترفعها أمريكا وإسرائيل- بصفة خاصة- تعمل على تجميل صورتهما لكي لا ينكشف مضمون سياستهما وتظهر بنيتهما القمعية والاستبدادية ضد الشعوب الأخرى؛ كما يحاول الإعلام الأمريكي أن يقوم بغسيل مخ ليُخفي وراءه حقيقة بشعة لدولة تمارس كل أشكال العنف والإرهاب في العالم الثالث، وكما تسعى أيديولوجيا الكيان الصهيوني إلى فرض نظامه بطريقة قسرية، رغم ما قد يبدو على وجهها من سمات النبل. لكن إشكالية زيف الأنسنة سرعان ما تتكشّف إذا تعمّقنا في جوهرها ولم نقف عند مستوى مظاهرها السطحية.
ومن ناحية أخرى يجب التنبه إلى خطورة العولمة، والفكرة الأمريكية المزعومة: «الحرب على الإرهاب»، في ضوء مزاعم الرأسمالية العالمية التي تسيرها الشركات الكبرى متعددة القوميات والكلية الحضور رغم أنها دون قاعدة إقليمية واضحة. فقد دفعت الهيمنة الأيديولوجية بأمريكا إلى غزو البلدان تحت مظلة حماية نفسها وحماية الشعوب الأخرى من خطر الإرهاب، نتيجة لسياسات النظام العالمي الجديد الذي يجسد الوجه الآخر المماثل للفاشيات الدينية والقوميات الإثنية؛ بل إن هذا النظام (والذي تُعَدُّ قوات الناتو فيه الذراع العسكري للرأسمالية متعددة القوميات)، لا يزال إلى الآن يمارس أبشع أشكال الوحشية في الحرب.
وهنا يواجهنا التساؤل: ما البديل عن مقولة التسامح في صورتها الليبرالية هذه؟
للإنسان أن يعتنق أي فكرة يراها ويؤمن بها، والأفكار في حد ذاتها لا تجيز العنف ضد خصومها والمخالفين لها في الرأي والعقيدة، ولكن عندما تتحول هذه الأفكار إلى عقيدة دوجماطيقية في نفوس أصحابها نكون أمام الأيديولوجيا، ويكون العنف هو السبيل إلى فرضها بالقوة، فتصبح من ثم وسيلة لمصادرة حرية الآخرين، وبالتالي يتلاشى التسامح كلية. وعلى سبيل المثال، فإن الناظر والمُدقِّق في تاريخ الأديان يجد أن الدين في ذاته يدعو إلى التسامح، وقد جاءت معظم الأديان مبشِّرة بالمحبة، وداعية إلى توخِّي الحُسْنَى حتى في معاملة الخصوم والمُعْتدين. كذلك نجد أن الدين، في بداياته التاريخية الأولى، ينبذ التعصب واضطهاد الخصوم. ويؤيد هذا النزوع، شعور رجال الدين بحاجتهم في عصرهم الأول إلى سيادة مبدأ التسامح؛ لأنهم كانوا مضطهَدين من جمهرة الناس وأكثر الحكام على السواء. ولكن ما إن تتهيأ لهم السلطة التي تمكنهم من اضطهاد خصومهم، ينسى المُتزمتون منهم مبادئ دينهم السَّمح الكريم، ويجاهرون بالتعصب لمبادئهم، وينزعون إلى التنكيل بالخارجين عليهم وبكل مَنْ يعصي أمرهم أو يخالف رأيهم، ويجدون فيما ورثوه ما يغريهم بالاضطهاد، ويؤيد سياسة الكبح والتنكيل سواء من جانبهم أو من جانب الملوك والحكام، فيضيع في خضم ذلك مبدأ التسامح والحرية الدينية.
( [1] ) Žižek, Slavoj: Living in the End Times, London & New York: Verso, 2010, PP. 4-5.
( [3] ) Žižek, Slavoj: The Year of Dreaming Dangerously, London & New York: Verso, 2012, P. 18.
( [4] ) Žižek, Slavoj: Violence: Six Sideways Reflections, New York: Profile Books Ltd, 2008, P. 140.
والإشارة هنا إلى حرق الأرامل لأنفسهن، بعد موت أزواجهن، أو ما يُعرف بطقس الإلهة الهندوسية (السُتي)، حيث تقوم فيه المتوفى زوجها- طوعًا، أو كرهًا- بحرق نفسها مع جثة زوجها المتوفى. وفي بعض المجتمعات الهندوسية، كان يتم دفن الأرملة حية مع زوجها في مراسم تشبه كثيرًا مراسم السُتي. وقد ظلت هذه العادة سائدة في كثير من حقب المجتمعات الهندوسية المعاصرة حتى صدر القانون بإلغائها عام 1987.
( [7] ) Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, PP. 32-33.
( [8] ) Žižek: Violence, P. 141.
( [9] ) Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, P. 31.
( [10] ) يقصد ماركيوز بهذا التعبير القمع الذي تقتضيه المصلحة المستثمرة في التمسك بالمجتمع القائم، والتي تؤدي إلى تبرير الاستغلال والسيطرة المنظمين. ومن هنا تنزع السلطة إلى الاستفادة من “فائض القمع” في ترسيخ النظام القائم وإضفاء المشروعية عليه. فإذا كان “القمع” من شأنه أن يخلق نزاعات وضغوطًا على الأفراد، فإنه عادة ما يجري استخدام “فائض القمع” في تعزيز التكيف والخضوع (على سبيل المثال، الخوف من فقدان العمل أو المكانة، أو تهميشهم في المجتمع). (انظر، هربرت ماركيوز: فلسفات النفي: دراسات في النظرية النقدية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط. 1، 2012، ص. 252).
( [11] ) Žižek, Slavoj: The Universal Exception: Selected Writings, edited by: Rex Butler and Scott Stephens, London & New York: Continuum, 2006, P. P. 162, 294.
( [12] ) Žižek, Slavoj: The Parallax View, Cambridge: MIT Press, 2006, PP. 360-361; Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, P. 31.
( [13] ) Žižek, Slavoj: The Indivisible Remainder: An Essay on Schelling and Related Matters, London & New York: Verso, 1996, P. 111.
( [14] ) Schmitt, Carl: The Concept of the Political, foreword by: Tracy B. Strong, notes by: Leo Strauss, Chicago: The University of Chicago Press, Expanded Edition, 2007, P. 95.
( [15] ) Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, P. 18.
( [16] ) Schmitt: The Concept of the Political, P. 54.
( [19] ) Žižek, Slavoj: First as Tragedy, Then as Farce, London & New York: Verso, 2009, P. 41.
( [20] ) Žižek, Slavoj: Enjoy Your Symptom!, P. 84; Žižek, Slavoj: The Puppet and the Dwarf: The Perverse Core of Christianity, Cambridge, MA: MIT Press, 2003, P. 151.
( [21] ) Žižek: Living in the End Times, P. 58; Žižek, Slavoj: Less Than Nothing: Hegel and the Shadow of Dialectical Materialism, London & New York: Verso, 2012, P. 278.
( [22] ) Žižek: First as Tragedy, Then as Farce, PP. 41-42.
( [24] ) Žižek: Violence, P. 117.
( [25] ) Žižek: Living in the End Times, P. 147.
( [27] ) Žižek: On Belief, P. 116.
( [28] ) Žižek: Violence, P. 147.
( [32] ) Žižek, Slavoj: “Neighbors and Other Monsters: A Plea for Ethical Violence”, in: idem, The Neighbor: Three Inquiries in Political Theology, Chicago: University of Chicago Press, 2005, P. 140.
( [33] ) Žižek: Violence, PP. 12-13.
( [35] ) Žižek: First as Tragedy, Then as Farce, PP. 44-45.
( [36] ) Žižek: Violence, P. 27.
( [38] ) Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, P. 60.
( [39] ) Žižek: Violence, PP. 206-207.
( [41] ) Žižek: The Parallax View, P. 19.
( [42] ) Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, P. 73; Žižek: First as Tragedy, Then as Farce, P. 73.
( [43] ) Žižek, Slavoj: Welcome to the Desert of the Real! Five Essays on September 11 and Related Dates, London & New York: Verso, 2002, P. 55.
( [44] ) Ibid, PP. 37-38. Žižek: The Universal Exception, PP. 276-277.
( [45] ) Žižek: Welcome to the Desert of the Real, P. 40.
( [46] ) Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, P. 31.
( [47] ) Žižek, Slavoj: The Courage of Hopelessness: Chronicles of a Year of Acting Dangerously, London: Allen Lane, 2017, P. 5.