الأبعاد الثقافية للألوان (مقاربة أنثربولوجية) ديفيد لوبروتون – ترجمة: فريد الزاهي
حين يواجه الواحد منا لوحة تجريدية كثيرة الألوان، خاصةً إذا كان فنانًا تشكيليًا أو روائيًا، يقف عاجزًا عن وصف تدرّج الألوان والتلاوين المحيطة بلون أساس. فالثقافة اللونية لدى الإنسان العربي هزيلة ولا تتجاوز الألوان الأساسية المعروفة. وأتذكر أني حين كنت طفلًا، كانت ثقافتي ذات الأصول البدوية العربية لقبيلة بني هلال تتعامل تعاملًا غريبًا مع الألوان. فقد كنا نصف الأزرق بالأسود، والأسود بالأدهم، والأخضر بالأزرق… وحين انتقلت صبيًا للعيش في مدينة فاس العريقة التي كانت فيما مضى تحضن النازحين من الأندلس واليهود، بحضارتها الراقية التي اندثرت مع الوقت، دُهشت لإتقان النساء وتجار الألبسة والأثواب لجميع التلوينات وتسميتها في العربية الدارجة باسم يميزها.
وهذا المقال لعالم الاجتماع والأنثربولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون يضع اليد على عجز اللغة عن تسمية التلاوين في تعددها المدهش. كما أنه من ناحية أخرى يعلمنا أن الألوان ليست مسألة كونية، وإنما أنثربولوجية وثقافية بامتياز. إنه يطرح على علاقتنا بالألوان أسئلة جديدة لم ننتبه لها من قبل…
(المترجم)
إدراك الألوان بين الائتلاف والاختلاف
يصعب اللون بشكل خاص على التسمية، فهو يخيّب ظن اللغة خاصة حين يتعلق الأمر بالتّلاوين وتدرُّج الألوان[1]. اللوْن يلمع في العينين، غير أن ليس ثمة من بديهة تأتي لوصْفه بدقة. والكلام يدور حوله من غير أن يتوصّل تماما لقوله. نيران اللون تُدخل الاضطراب على الاشتغال الهادئ للغة بتذكيره بنواقصه. التلاوين تنفلت من اللغة ووحدها فئات لوْنية كبرى تغذّي العالم الملوّن مع إضافة ممكنة لصفات ونعوت جديدة (فاتح، غامق، شاحب، الخ). “إذا ما طُلب منا: ما الذي يعنيه “الأحمر” و”الأزرق” و”الأسود” و”الأزرق” والأبيض”؟ يمكننا بالتأكيد الإشارة إلى أشياء مُلوّنة على تلك الشاكلة، لكن ذلك هو كل ما نقدر عليه: فقدرتُنا على توضيح الدلالات لا تسير أبعد من ذلك”[2]. كل شخص يمكنه افتراضيًا أن يتعرَّف على آلاف الألوان المختلفة. غير أنه بحاجة لمقولات ذهنية للتعرُّف عليها، وإلا فإنه يدور حولها من غير أن يتوصَّل إلى تحديد خصائصها. إن تعلُّم عمليات تمييز جديدة يوسّع من مجال التعرُّف على الألوان. لكن، إذا كان المعجم اللوني لمجتمعاتنا قد توسَّع مبدئيًا بشكل كبير، فنادرون هم الناس الذي يستعملونه بشكل كبير.
يسبق الإحساس الغامض باللون لدى الطفل اكتساب الكلمات لقوله والتعبير عنه. فعليه تعلّم تمييز سلم الألوان التي تطابق مجتمعه. إنه يدخل حينها في بُعد آخر من خلال التشكيل الاجتماعي لوعيه بالأشياء. وهو يبدأ بالتمييز وبتسمية الأشياء، ومن خلال الاعتماد عليها يتعلم تدريجيًا التمييز بين ألولنها (إنه مثل الحليب، الخ). وحده اكتساب معجم للتفكير في العالم، وبخاصة الألوان (أو المقولات التي ترافقها)، يبلور عملية تعلّمه. ففي الأصل، يكون الطفل قابلًا بالقوة للتعرُّف على لانهائية من الألوان كما تكلُّم عدد كبير من اللغات، لكنه بالتدريج لا يمسك بغير تلك التي توجد في لسان بني قومه. يغدو إدراك الألوان متصلًا بانتماء اجتماعي وثقافي، وبحساسية فردية معينة. الاسم يثبِّت الإدراك، بالرغم من أن هذا الأخير لا يفقد مَعينه في ذلك. “كيف يعرف أنه يرى الأحمر (أو أن له عنه صورة بصرية)، أي كيف يُقيم ترابطا بين كلمة “أحمر” و”لون معين”؟ ما الذي تعنيه هنا عبارة “لون خاص”؟ ما هو المعيار الذي يمكّن من الربط الدائم للكلمة بالتجربة نفسها؟ [3]. إن السهولة في عبور سُلَّم لوني بالتعرف على كل التلاوين وبمعرفة تسْميتها يتطلَّب حساسيةً وتكوينًا صلْبين مرتبطيْن بانتماء اجتماعي وثقافي معيّن. فكل مجموعة بشرية تنظّم رمزيًا العالم المحيط بها وخاصة إدراك الأشياء وخصائصها اللونية.
ترتبط تسمية الألوان باللغة. ليس هناك من إدراك أو تواصل حول الألوان إلا لأن فردًا معينًا تعلم كيف يمنحها معنىً بالإحالة إلى نظام علامات مجموعته. الفلاح أو الخبّاز لا يتوفّران على السلَّم اللوني نفسه الذي لدى المصمِّم الصناعي أو الفنان التشكيلي. ولدى المجموعة نفسها، لا يتم الإجماع بالضرورة على خصائص الألوان. فإذا كانت الحساسيات الفردية تتفق إجمالًا فإنها تُدخل ما لا يُحصى من التّلاوين.
يعود إدراك الألوان للتربية المتصلة بالتاريخ الشخصي لفرْد معين. يلاحظ م. بّاستورو عن حق أن المؤرخ ليس عليه ” أن ينغلق في تعريفات ضيّقة للون، ولا أن يُسقط بشكل غير زمني تلك التي نعرفها اليوم على ألوان الماضي. فتلك التعريفات لم تكن تعريفات الناس الذين سبقونا وقد لا تكون تعريفات الناس الذين سيلحقون بنا […]. ففي نظر المؤرخ كما الإثنولوجي يمكن تصور سلّم الألوان التي تدركها العين كنظام رمزي من بين أنظمة رمزية أخرى، لتصنيف الألوان” [4]. لا يوجد اللون خارج نظر الإنسان الذي يفصل الأشياء عن النور. إنه ليس فقط أمرًا بصريًا فيزيائيًا أو كيميائيًا، بل هو أولًا مسألة إدراك. ولا يُستنبط اللون آليًا من الطرائق المختلفة لشبح نيوتن، إنه معطى شخصي متشبّع بالتربية. يتأوّل الإنسان الألوان، وهو لا يسجلها. فهي أولًا وقبل كل شيء مقولات معنى ولا يتم إدراكها على النمط نفسه في المجتمعات الإنسانية.
الألوان ليست مُعطىً كوْنيّا
إن مفهوم اللون، كما نفهمه في مجتمعاتنا بمعنى سطح مُلوَّن، مفهوم غامض، فهو ليس كونيًا ويجعل من المستحيل إقامة مقارنة صريحة مع الثقافات الأخرى، التي تسمي أحيانًا أشياء مختلفة تمامًا.
يكون إدراك الألوان، من مجال ثقافي إلى آخر، خاضعًا للتغير. وصعوبات الترجمة من لسان لآخر أو من نظام لآخر عديدة ولا تُحصى. يعدّد لنا م. بّاسطورو بعضها وهي متصلة بترجمات الكتاب المقدس: ” تتوفر اللغة اللاتينية الوسيطية بالأخص، على كمّ كبير من مصطلحات اللون، ثمة حيث اللغة العبرية والآرامية والإغريقية لا تستعمل إلا كلمات مادة ونور وكثافة وخاصية. فحيثما تقول العبْرية لامع، تقول اللاتينة أبيض وأحيانًا أحمر. وحيثما تقول العبرية وسِخ أو معْتم، تقول اللاتينية niger أو viridis واللغات التي تحدّرت منها تقول: إما أسود أو أخضر. وحيثما تقول العبرية “غنيّ”، تترجمه اللاتينية عادة بـ”أحمر قان” وكلمة “أحمر”. في الفرنسية والألمانية والإنجليزية تُستعمل كلمة “أحمر” كثيرًا لترجمة كلمات لا تحيل في اللغة الإغريقية أو العبرية على فكرة تلْوين، وإنما إلى فكرة الغنى والقوّة والهيبة بل أيضا الحب والموت والدم والنار”[5].
في عام 1858، لا حظ و. أ. غلادسطون Gladstone أن كتابات هوميروس أو اليونانيين في ما قبل التاريخ لم تكن تتوفّر على المعجم نفسه لأناس عصره. فالكلمة نفسها لدى هوميروس تعيّن الأزرق والرمادي والألوان الغامقة. ويستنبط غلادسطون من ذلك، على الطريقة التطورية، أن الإغريق كانت لهم حساسية لوْنية ضعيفة تركّز بالأخص على التعارض بين الفاتح والغامق. ثمة مؤلفون آخرون من العصر نفسه، لاحظوا أيضا أن الأزرق غائب في معجم التوراة والقرآن وبلاد اليونان القديمة والعديد من المجتمعات التقليدية. وهم يروْن في ذلك شذوذًا في الإدراك يُنسب للنقص في المقولات البصرية. لقد تمّ تطبيع إدراك الألوان على يد هؤلاء المؤلفين المتشبّعين بالمرجعيات البيولوجية، والذين يعتبرون أن الشعوب تُصنَّف على سُلّم تطوّر يقود بالضرورة للمقولات الثقافية الأوروبية المطروحة في المطلق. و”الشيخوخة” التدريجية للشعوب تمنحها فسيولوجيًّا اكتمالًا أكثر. ولا نرى من ثمّ الألوان تُطرح في أي لحظة باعتبارها مقولات رمزية.
مع ذلك، ومن قبل في 1879، كان النّوبيون، باعتبارهم نموذجًا لتلك الحساسية اللونية التي تُعتبر “فقيرة”، يتعرّفون من غير صعوبة على أشياء أو عيِّنات من الورق الملون بعد وقت قصير من التعلّم. إنها تباشير نقاش طويل حول كوْنية إدراك الألوان أو نسْبيتها. في عام 1881، تمّ عرض عشرة من الفوجيّين الآتين من أرض النار في حديقة “الأكليماتاسيون” بباريس، وتمّت ملاحظتهم وقياسهم من كل الاتجاهات من قِبل علماء ذاك الوقت. كان الفوجيون حينها يُعتبَرون شعبا “متخلّفا” صنَّفهم داروين “من بين المتوحّشين الأكثر تدنّيا في الحضيض”[6]. وقد ضاعف مانوفريي Manouvrier مثلا التجارب بخصوصهم وسجّل أن “أن الفوجيين أنفسهم قد برهنوا على قدرة كاملة على تمييز التلاوين الدقيقة، من غير أن يكونوا مضطرين لتسمية تلك التلاوين لأن معجمهم طبعا لم يكن من الغِنى بمكان”[7]. وقد توصّل هيادس Hyades من جانبه إلى استنتاجات قريبة من ذلك: “لا يمكننا قَبول أن الفوجيين لا يعرفون بوضوح ألوانًا أخرى. وإذا كانت تلك التلاوين قد تنوّعت في أسماء الأصْواف لدينا، فذلك يعود إلى أن التلاوين التي كنا نعْرض عليهم لا تتجاوب بالضبط مع التلاوين التي اعتادوا النّظر إليها، أو إلى أنهم كانوا يرغبون في تسمية نسيج ومظهرَ الصوف لا لونَه. إنهم لا يملكون كلمات لتسمية اللون عموما، وهذا أمر كان يجعل فُحوصنا عسيرة” [8]. لا يميز الفوجييون الألوان تبعًا للتعريفات الأوروبية. إنهم لا ينتمون إلى “فكر النظر” نفسه[9].
لم يقلق نيتشه لهذه الاختلافات في الإدراك، وهو يرى فيها بالأحرى شكلاً خاصًا من أنْسنة الطبيعة. “كم كان الإغريق يرون الطبيعة بطريقة مختلفة، بحيث (ولنعترفْ بذلك) كانت عيونهم عمياء إزاء الأزرق والأخضر، وإذا هم رأوا عوض الأزرق لونًا أسمر غامقًا، وعوض الأخضر لونًا أصفر، (أي إذا هم عيّنوا بالكلمة نفسها، مثلًا لون الشعر الغامق، لون المائل إلى الزرقة ولون البحر المتوسط،أو أيضًا ودومًا بالكلمة نفسها، لون النباتات الأشدّ خُضرةً ولون البشرة الآدمية، ولون العسل والاسْترنجات الصفراء، إلى حد أن رساميهم الكبار لم يرسموا عالمهم إلا بالأسود والأبيض والأحمر والأصفر)، كم ستبدو لهم الطبيعة مختلفة وأشدّ قربًا من الإنسان […]. إنه ليس فقط عيْبًا. فبفضل هذا التقريب وهذا التصنيف، نراهم يمنحون للأشياء تناغمًا من الألوان بالغ الجاذبية يمكنها أن تشكل إغناء للطبيعة. وربما كان ذلك السبيل الذي من خلاله تعلمت البشرية التمتع بفرْجة الوجود”[10].
لقد سجل الإثنولوجيون باستمرار التمايُز في إدراك الألوان في المجتمعات الإنسانية. وقد لاحظ واليس Wallis أن “قبائل الأشانتي لها أسماء متمايزة للأسود والأحمر والأبيض. واسم الأسود يُستعمل أيضا لأيّ لون غامق كالأزرق والأحمر القاني وغيرهما، في حين أن كلمة “أحمر” تُستخدم للوردي والبرتقالي والأصفر”[11]. ويرى د. زاهان Zahan أن المنطقة الإفريقية عموما تقتطع الألوان إلى أحمر وأبيض وأسود. فقد كتب أن “أناس قبائل البمْبارا في مالي يصنّفون كافة الأشياء الخضراء أو الزرقاء في فئة ‘الأسود’؛ والأصفر الغامق والبرتقالي في خانة ‘الأحمر’؛ والأصفر الفاتح في خانة ‘الأبيض'”. أما أناس قبائل الندمبوس في زامبيا فإنهم يطابقون أيضًا بين الأزرق و’الأسود’، وبين الأصفر والبرتقالي و’الأحمر’. وقد اندهش جونود Junod في العشرينيات من القرن الماضي من فئات الألوان لدى قبائل البارونْغا في جنوب إفريقيا، التي تُعتبر مختلفة جدًا عنها لدى الأوروبيين: فـ””نَتيما” يعني في الآن نفسه اللون الأسود والأزرق الغامق؛ و”الليبونْغو” هو القرمزي والأحمر وأيضا الأصفر؛ أما الأصفر فلا يُدرك باعتباره لونًا مستقلًا؛ و”البّوسكا” يعيّن لون السماء في الفجر ولون الشمس في الصبح؛ و”نكوشي”، وهو الاسم الذي يُمنح للطّحالب، يطبّق على لون السماء؛ و”نكْوالالا” هو الرمادي؛ أما “لِبلازا” فهو الأخضر خُضرة العشب اليافع في الربيع، والكلمة المقابلة لها في اللغة دْجونغا هي “ريلامبيانا”، أي حرفيًا ما يجعل الكلاب تنبح: فالعشب الأخضر لدى الأهالي له هذا التأثير على الكلاب”[12].
وفي مجتمع في غينيا الجديدة، يمزج تصنيف الألوان “الأصفر والأخضر الزيتوني، والأزرق المخضرّ والأزرق الخبازي باعتبارها تنويعات على اللّون نفسه”[13]. والمعجم اللوني لسكان كاليدونيا لا يحتفظ بأكثر من أربعة أسماء تُقارب بشكل أو بآخر الألوان التالية: الأحمر والأخضر والأسود والأبيض. تعيِّن كلمة ‘ميي’ في الآن نفسه الأصفر الباهت والأصفر الفاقع والوردي والأحمر الفاقع والعقيقي والأحمر البنفسجي والبنفسجي. وتعني ‘بووير’ أنواع الأسود والأزرق المسودّ. وتجمع كلمة ‘كونو’ أخضر النباتات، واليشْبي وأزرق البحر والسماء، الخ. وتتضمن المجموعة الأخيرة الأبيض، لكن المختلف عن الأبيض الواضح والأبيض الشفاف[14].
الألوان ومعْضلة الترجمة
يتقبَّل الأبيض العديد من التلاوين لدى قبائل الإنْويت. لا لأنهم يتوفرون على حاسة أفضل للملاحظة من الناس الآخرين بل لأن محيطهم والسجلّ الثقافي الذي يتوفرون عليه يسمح بهذا الترّف. يميز الماووري في نيوزيلاندة مائة من التلاوين الحمراء لكن بالعلاقة مع تعارضات خاصة بالشيء: جاف/رطب، ساخن/بارد، لين/صلب، الخ. يرتهن إدراك الأحمر ببنية الشيء، لا العكس كما هو في المنظور الغربي. فلغة بلاد الغالي الأدبية لا تتوفر على كلمات تطابق تمامًا الأخضر والأزرق والأسمر. اللغة الفتنامية والكورية لا تقيم أي ميْز ظاهر بين الأخضر والأزرق والأسود. وبهذا الصدد، يلاحظ لوي جيرني أن “الإحساس باللون يؤثر على إدراك اللون، وبشكل ما ينقّله”[15].والكلمة العبْرية “ياراق” تعني تارة الأصفر وتارة الأخضر. فهي تنطبق على خضرة الأشجار أو النباتات، لكن الجذر نفسه يعيّن مرضًا “يصفّر” النباتات. ويستعمل جيريميا العبارة نفسها لتعيين الشحوب المنتشر على الوجوه المصابة بالرعب[16].
ويمكن أن نلاحظ أن فالترجمة حتى بين الفرنسية والإنجليزية لا تكون يسيرة: فكلمة “purple” مثلاً تُترجم بشكل مغاير إلى الفرنسية إذا كان اللون يميل نحو الأزرق (البنفسجي) أو نحو الأحمر (الأحمر القاني). وإذا كانت كلمة ‘brun’ (أسمر) تقابل إلى حدّ ما كلمة ‘brown’، فهي حين تتعلق بالأشياء في الحياة العادية كالأحذية أو الشعر أو العيون، لا تكون مقابلة لها. فإذا كانت الأحذية brown مثلا فهي بالأحرى بنّية. أما الشعر “الأسمر” فهو بالأحرى ‘dark’ بالإنجليزية وليس ‘brown’ (باتشيلور، 2001، 95-96). تحيل الكلمة الصينية القديمة ‘تسينغ’ إلى الأزرق الذي يُستقى من النيلة، لكن أيضا إلى أخضر الشجر أو فرْو بعض الحيوانات. لا يخلط أشخاص يتكلمون الإنجليزية بين البرتقالي والأصفر المتمايزيْن بسجلّهما اللساني. وليس الأمر كذلك لدى قبائل الهنود الزّوني الذين لا يملكون في لغتهم إلا كلمة وحيدة لتعْ يين اللونيْن والذين لا يميزون فيما بينهما[17].
في خلاصة ندوة هامة، قام مييرسون بمقارنة تسمية الألوان لدى مختلف الثقافات، ولاحظ “أن هذه الأنظمة لا تتطابق من لغة لأخرى. ثمة بالتأكيد وقائع تسمية مشتركة كما أن ثمة وقائع انتباه إدراكي مشتركة. يبدو أن كل اللغات تسمي الأبيض والأسود والأحمر. لكن حتى بخصوص هذه المفاهيم الثلاثة، لا يبدو أن التوسُّع والفهم يكونان نفسهما في كل مكان. فالأسود يمكنه أن يشمل أوْ لا يشمل الأزرق والأخضر؛ وهو يمكنه أن يعني الغامق عمومًا أوْ لا. كما أن الأبيض يمكن أن يعيِّن المضيء واللامع والفضة بل الذهب أيضًا، لكن ذلك لا يتمّ دائمًا ولا في كل مكان. قد يَقْضِم الأحمر من البرتقالي والأحمر الأشقر من الأصفر بعضًا من خصائصه. إننا خارج هذه المفاهيم الثلاثة، نلاحظ الاختلافات في كل مكان […]. فتارة يعيِّن اسم ملموس تلوينًا دقيقًا، وتارة يعيّن مقولة عاطفية أو اجتماعية، وأحيانًا الاثنين معا”[18]. والثقافات التي لا تملك غير بعض الألوان، كالأبيض والأسود والأحمر مثلاً، تحيل كافة الألوان لديها إلى محيطها. وقوس قزح بهذا الصدد اختبار كاشف رائع على مستوى الشعوب. فإذا نحن قسمناه إلى سبعة ألوان تبعا لنيوتن[19]، فإن الإغريق والرومان كانوا يروْن فيه ثلاثة أو أربعة أو خمسة ألوان. الوحيد الذي ميَّز فيه ستة ألوان هو أمْيان مارسُلان (الأحمر القاني، البنفسجي، الأخضر، البرتقالي، الأصفر والأحمر) أما كزينوفانيس وأنكسمانيس، وبعدهما لوقريطس، فيرون فيه الأحمر والأصفر والبنفسجي؛ ويرى فيه أرسطو الأخضر. ويرى فيه سِنيك خمسة ألوان (الأحمر القاني والبنفسجي والأخضر والبرتقالي والأحمر)[20]. وقد تابع العلماء العرب والأوروبيون في القرون الوسطى هذه الملاحظات باللَّبس نفسه في النَّظر، لكن لا أحد منهم تعرَّف فيه على الأزرق. “فمن بين الألوان السبعة لقوس قزح، ثلاثة لا تملك اسمًا خاصًا بها في العربية: البنفسجي، وأزرق النيلة والبرتقالي. إنها ألوان غير محدّدة، غامضة و”لا تُسمّىى”. بالمقابل ينفصل الأحمر والأخضر باعتبارهما لونيْن ممتلئين وإيجابيين، ويحسمان مع الريبة الماقتة التي عرفتها الثقافة العربية إزاء الأصفر وبخاصة إزاء الأزرق. والألوان الوحيدة التي منحتها اسما على وزن “أفْعَل” أي ما يسميه النحاة العرب أسماء الألوان هي الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والأبيض والأسود أو الأكحل[21].
يعتقد برْلين وكاي، من خلال مقارنة لألفاظ اللون استقياها من 98 لسان أو لهجة، أن الألوان الأساسية التي تعرّفت عليها المجتمعات الإنسانية تتراوح بين لونيْن وأحد عشر لونًا. واللون الأساس حسبهُما هو لون يُحيل إلى لفظ بسيط في اللسان، لا يدخل في لفظ لون آخر، ولا في فئة من الأشياء، ويكون واضحًا بارزًا في إدراك الفاعلين له، أي لفظ يظل موجودًا في كل الظروف. واستنادًا إلى المعطيات السيكوفزيائية، فهما يجْرُآن على طرح خطاطة تطورية من سبع مراحل. فإذا كان لونان أساسيان لهما اسم فسيكونان هما الأبيض والأسود؛ وثمة لون ثالث هو الأحمر. وإذا ما تمّ اعتماد ألوان أخرى فسيكون اللونان الرابع والخامس هما الأخضر والأصفر، بحيث يُضاف إليهما الأزرق في المرتبة السادسة، ثم الأسمر، وفيما بعد الأحمر القاني والرمادي والورْدي والبرتقالي.
ومع أهمية هذه المقاربة فإنها قابلة للرفض، أولًا لأنها تطرح تطورًا للمجتمعات من البسيط إلى المركّب ومن العام إلى الخاص، ومن الواضح إلى المتدرّج، كما لو أن الأمر يتعلق هنا بـ”تقدُّم” للنظر البشري. وهكذا فإن الإنسان يتطوّر من دونية المجتمعات التقليدية إلى عُلْوية الحضارة تبعًا لنموّ أخلاقي تُعتبر الثقافة الأوروأمريكية مُنتهاه، في نمط تندِّد الأنثربولوجيا الثقافية بطابعه العرقي المركزي وباكتفائه الذاتي منذ بواس Boas في بدايات القرن العشرين. ثم بالأخص لأن المؤلفيْن يعزلان مفهوم اللون عن أي مرجعية أخرى، كما لو أن من البديهي أن تسمي مجموع المجتمعات “الألوان” وتميِّز بينها تبعا للنموذج الغربي.
يمكن اعتبار دراسة الألوان التي قام بها برلين وكاي تطبيعًا للعالم. وفي الواقع فإن المعجم اللوني للعديد من المجتمعات البشرية لا يعزل أبدًا الألوان عن سياقها المحدّد الذي ظهرت فيه. فهي بالأحرى مجتمعات حساسة للنور وللتعارض بين الجاف والرطب، والليّن والصلب، والساخن والبارد والكامد والصقيل، أو أيضًا حسّاسة للخواص الأخلاقية للموضوع، سواء كان منظورًا إليه من الرجل أم من المرأة. الألوان تتشابك في نظام من القيم أو من الرمزيات المحلية التي تُلحق كل تسمية بسياق معين. كل اصطلاح لوني يحيل إلى فكر خاص عن العالم. من ثمَّ فإن فصل الألوان عن موضوعاتها، والإمساك بها باعتبارها تلوينات خالصة، هي رؤية للعالم تفترض العديد من الاعتراضات، وفي الأول إلى تجريد بعيد عن الحياة الواقعية. فنحن لا نسمي الألوان وإنما نسمي المعنى. “ألا يمكن أن نتصوّر أن يكون لبعض الناس هندسة أخرى للألوان غير هندستنا؟ وهو ما يعني في النهاية القول: ألا يمكن أن نتصوّر أناسًا لهم مفاهيم أخرى للألوان غير مفاهيمنا؟ وهو ما يعني بدوره: أيمكننا أن نتصوّر أناسًا لا يملكون مفاهيمنا عن الألوان؟”[22].
في اليابان، أنْ نعرف أننا أمام لون أزرق أو أحمر أو أي لون آخر، لا أهمية له مقارنة مع التعرُّف عليه كلوْن كامد أو لامع. ثمة العديد من الألوان البيضاء تتدرّج من الكامد الأكثر خشونة إلى اللامع الأكثر وضاءة، وهي تدرّجات كثيرة تجْهَد العين الغربية غير المتعوّدة عليها في تمييزها[23]. بيْد أن هيمنة اليابان في مجال الصناعة الفتوغرافية قد حسَّست الغربيين بالتمييز بين الكامد واللامع على الأقل في مجال سحْب الصور الفتوغرافية. فاللون لا يمكن اختزال وجوده في كونه فقط لونًا، إذ أن أخضر أوراق الشجر ليس هو الأخضر المرسوم على الفخار.
يكون أناس أيّ مجتمع قادرين في ظروف تجريبية على الاحتفاظ في صيغة ملائمة بشرائط ملوّنة منفصلة عن أي إحالة على الواقع. إنها لعبة أطفال لا تؤدي بعيدًا، لأن الممارسة في شروط الوجود الواقعي للأفراد، في قلب ثقافتهم، لا معنى له. وكونكلين Conklin، حين طلب من أناس من قبائل “الهانونو” بالفلبين أن يسمّوا لون بعض الأشياء المعزولة عن كل سياق محلي أو أوراق مصوَّرة، لاحظ لدى مخبريه العديد من حالات الخلط والحيْرة والتردُّد. بالمقابل فإنه قد توصّل بإجابات مباشرة تتعلَّق بالأشياء العادية، حين صاغ بشكل مغاير أسئلته، طالبًا من مخبريه ما الذي تشبهه، الخ. إنه يقوم بتحْيين تشخيص للألوان في مستويات أربعة تمتزج فيها بالتأكيد أبعاد بالغة الاختلاف. وإذا ما تمَّ فَرْض دخول معجم قبائل “الهانونو” عسفًا لسجلّ غربي معيّن فإن الألوان الأربعة المميَّزة هي الأسود والأبيض والأحمر والأخضر. بيد أننا سنكون بعيدين عما يراه أناس “الهانونو”: “أولًا ثمة تعارض بين الناصع والغامق […]. ثم هناك تعارض بين الجافّ والرَّطب”[24]. فعبارة “لون” لا توجد في هذا اللسان، كما في عدد من الألسن غيره، مثلا في الصين القديمة[25]. يلاحظ باستورو، وهو يلخص أبحاثًا تمت في إفريقيا السوداء أن النظرة التي تُلْقى على العالم أقلّ حساسية للحدود التي تفصل سلالم الألوان منها لمعرفة ما “إذا ما كان الأمر يتعلق بلون جاف أو لون رطب، بلون رقيق أو بلون صلب، بلون صقيل أو بلون خشن، بلون صامت أو بلون صائت، وأحيانًا بلون مرح أم بلون حزين. اللون ليس شيئًا في ذاته، ولا ظاهرة تتعلق فقط بالبصر”[26].
الألوان والرؤية للعالم
الإنسان الذي ينظر لألوان العالم لا يهتم أبدًا بالمعطيات الفزيائية أو الكيميائية أو البصرية. إنه يكتفي بالرؤية ويتجاهل اللاوعي الثقافي الذي يتشرّب به نظره. فما كان يبدو بسيطا في البداية، أي المقارنة بين إدراكات الألوان، صار يبدو ذا تعقُّد لانهائي لأن الناس لا ينظرون للأشياء نفسها تبعا لانتمائهم الاجتماعي والثقافي. إن مركز جاذبية تسْمية الألوان لا يوجد في الألوان نفسها، وإنما في معطيات الثقافة. وهي لا معنى لها إلا في الظروف الخاصة اللصيقة بإدراك الموضوع. كما أنها لا تفصح كثيرًا عن تمييز الألوان بقدر ما تُفصح عن تمييز من نوع آخر ينتمي للثقافة. فنحن حين نعتقد أننا نقارن الألوان لونًا لونًا، فإننا نقارن في الحقيقة وبلا جدوى رؤىً للعالم. وبالرغم من أن الأنثربولوجي يعتبر أن تعارضات السلوك تفصح أكثر عن تعارضات طول الذبذبات وتكون أفضل لمنحنا معلومات ثقافية، فإن كل نوع من الدراسة يلزم أن يتعاون مع أنواع أخرى لاقتراح علاقات جديدة واستدعاء فرضيات وتفسيرات جديدة[27].
إن الواقع الفيزيائي الموضوعي (لكن لمن هو موضوعي؟) ينمحي أمام مقولات المعنى التي يُسقطها عليه الإنسان. فاللون يتم النظر إليه عبر مِصفاة خصوصية. وكل مجموعة بشرية تتمكَّن من بعض الخصائص للموضوع المنظور له. فإذا كان مصطلح واحد يعيّن ألوانًا مختلفة، فإن الناس سيدركونها كألوان متقاربة، بالشكل نفسه الذي نعيّن به تدرّجات لونية للأخضر مثلاً. والاختلافات يمكنها أن تُدرَك في مُنتهى مجهود تركيز، غير أن سلوكًا كهذا في الحياة اليومية لا يكون أبدًا أمرًا جاريًا. إذا كانت الإدراكات البصرية (أو السمعية أو الشمّية أو اللمسية أو الذوْقية) موسومة بميْسم الانتماء الثقافي الخاص بفرادة الشخص، فهي ليست أبدًا ثابتة. فالإنسان الذي يخرج من لسانه أو ثقافته، والذي يتفاعل مع الآخرين، يتعلّم النظر للعالم بطريقة مغايرة، ويوسّع معارفه اللونية أو إدراكه البصري.
تدور الألسُن حول الأشياء محاولةً وصفها، غير أن لا لسان يتوصَّل إلى حجْزها في علامات. فكلمة “كلب” لا تعضّ الناس، وكلمة “أحمر” لا تلوّن الناس بالأبيض. الألسن هي إنسيَّة العالم لا العالم. والحديث عنها يضيف لها قوةً على قوةٍ. فامتلاك ألسن عديدة يمكّن المرء من خزّان للمعنى ويوسّع القدرة على التفكير وقوْل تعدّدية الواقع. كل لسان يفكر العالم على طريقته، فهو أصلا مِصْفاة و”مُتَأَوِّل” (على حدّ قول بنفنيست). ولا لسان يفعل ذلك كما الألسن الأخرى، غير أنها لا تتكامل فيما بينها. إنها أبعاد ممْكنة للواقع.
[1] أنا لا أتطرق هنا للقضية الهامة للقيم التي تُمنح للألوان أو لرمزيتها.
Cf. M. Pastoureau (2002), Zahan (1990), Turner (1972), Classen (1993).
[2] L. Wittgenstein, Remarques sur les couleurs, Ter, Paris, 1983, p. 39.
[3] L. Wittgenstein, Notes sur l’expérience privée et les sens data, TER, Paris, 1982, p.29-30
[4] M. Pastoureau, « Une histoire des couleur est-elle possible, in Ethnologie française, vol. XIX, n° 4, 1990.
[5] M. Pastoureau, Bleu, histoire d’une couleur, Seuil, Paris, 2002, p. 19.
[6] N. Dias, La Mesure des sens, les anthropologues et le corps humain au 19e siècle, Aubier, 2004, p 213 sq.
[7] المرجع نفسه، ص. 128.
[8] المرجع نفسه.
[9] M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Gallimard, Paris, 1945, p. 463.
[10] F. Nietzsche, Aurore, Gallimard, Paris, 1970, p. 304.
وللتذكير بتاريخ هذا النقاش، انظر: دياس، 2004، مرجع سابق، ص. 75 وما يليها.
[11] O. Klinberg, Psychologie sociale, PUF, Paris, 1987, p. 231.
[12] D. Zahan, « L’Homme et la couleur »in J. Pirier (éd.) Histoire des mœurs, T. 1. Gallimard, La Pléiade, 1990, p. 141.
[13] Margarett Mead, Mœurs et sexualité en Océanie, Plon, 1955.
[14] P. Métais, « Vocabulaire et symbolisme des couleurs en Nouvelle calédonie », in Meyesron, Problèmes de la couleur, SEVPEN, Paris, 1957, p. 350-351.
[15] L. Gernet, « Nomination de la couleur chez les Grecs, in Meyerson (1957), p. 319
[16] A. Guillaumont, « La désignation des couleurs en hébreu et en araméen, in Meyerson (1957), p. 342.
[17] E. Lenneberg, J. M. Roberts, « The language of experience. A study on methodology, supplement to International Journal of American Linguistics, Vol. 22, N° 2, 1956.
[18] مييرسون، 1957، مرجع مذكور، 358.
[19] خلال مداخلة أولى لنيوتن أمام الجمعية الملكية للعلوم بلندن، قسّم قوس قزح إلى خمسة ألوان متمايزة (الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي)، غير أن همه كان، ويا للمفارقة، التوافق مع التناغمات الموسيقية. فبما أن لنا سبع نوتات في السّلّم الموسيقي، فمن اللازم أن يكون لدينا سبعة ألوان في قوس قزح. وفي المنشور النهائي عام 1728، أضاف للائحته البرتقالي وأزرق النيلة، وهما لونان يصعب التعرّف عليهما في قوس قزح، حتى لمن ينظر لها بانتباه تبعا للمعايير الغربية.
[20] باستورو، 2002، مرجع سابق، ص. 30.
[21] A. Bouhdiba, « Les Arabes et la couleur », in Collectif, L’Autre et l’ailleurs. Hommage à Roger Bastide, Berger-Levrault, Paris, 1976, pp. 8, 347.
[22] فتغنشتاين، 1983، مرجع مذكور، ص. 19
[23] باستورو، 2002، مرجع مذكور، ص. 153.
[24] H. C. Conklin, « Hanunôo colors categories », in D. Hymes (éd.), Language in Culture and society, Harper, New York, 1966, p. 191.
[25] Gernet, op. Cit., p. 297.
[26] M. Pastoureau, Couleurs, images, symboles. Etudes d’histoire et d’anthropologie, Le Léopard d’or, Paris, 1989, p. 15.
[27] H. C. Conklin, “Color categorization”, in American anthropologist, N° 75, 1873, p. 940-941.