مقابلات وحوارات

في هوية العرب المحدثين – حوار مع فتحي المسكيني

حاوره: إبراهيم الكلثم

لتحميل الحوار [wp-svg-icons icon=”file-pdf” wrap=”i”]:حوار فتحي المسكيني – منصة معنى

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

– دكتور فتحي المسكيني، نشكرك جزيل الشكر على تلبية الدعوة، ونتطلع إلى حوار مثمر وممتع فكريًا معك.

 

منذ سنواتك الجامعيّة الأولى بدأت بالاشتغال بهيغل، وأوضحت في «هيغل ونهاية الميتافيزيقا» ( دار الجنوب، 1997) أهمية العودة إليه، وقد سألت في موضع آخر: «من هو هيغل بالنسبة إلينا؟»، ما طرافة الطرح الهيغلي لمن هم -بحسب عبارتك- يقطنون «جنوب الحداثة»؟

 

بدأ لقائي مع هيغل سنة 1986-1987 عندما أنجزت أوّل بحث جامعي لي وكان بالفرنسية عنوانه «مفهوم الذات وعمل السالب في فينومينولوجيا الروح». كان سببي الشخصي للاهتمام به (خارج الواجب «الأكاديمي» الذي تمليه وتحدّده فكرة «الجامعة» عندنا) هو الحاجة إلى تطوير فهم دقيق لمعنى أن نكون «أنفسنا»، ليس فقط أن ننتمي إلى أمّة مخصوصة تفرض علينا هوية جاهزة، بل أن نمارس لقاءنا بأنفسنا بوصفه تجربة متميّزة جدّا اسمها «الذات». وهذا يعني أنّ لقائي بهيغل واهتمامي به لم يكن مجرّد مشكل مدرسي عليّ أن أنجزه وأمرّ إلى غرض آخر: وجدت لدى هيغل ادّعاءً مثيرا بأنّ «المطلق» هو «ذات» مثلنا، وبالتالي أنّ على الفلسفة «أن تدرك الحقّ وأن تعبّر عنه ليس بوصفه جوهرًا، بل كذلك بوصفه ذاتًا»[1].

– ماذا يعني هيغل بذلك؟

 

يعني ذلك أنّ «الله» مثلا ليس «شيئًا» بل هو «ذات» علينا أن نؤرّخ لها بوصفها شكلًا من الحياة، وليس هوية مغلقة تقع خارج مداركنا أو بعيدًا عن عالمنا؛ أنّ المطلق أو المقدّس ليس شيئًا يمكننا أن ندخل في علاقة «مباشرة» معه. لا أحد يحقّ له أن يدّعي علاقة مفضّلة مع الله أو مع المطلق أو مع الحقيقة. علينا أن نستمع إلى هيغل قليلًا. يقول:

«إنّ الجوهر الحيّ هو الكينونة التي هي في الحقيقة ذاتٌ، أو وهو ما يعني نفس الشيء، هو الكينونة التي هي في الحقيقة فعليّة، ولكن فقط من حيث أنّ هذا الجوهر هو الحركة التي بها يطرح ذاته، أو هو التوسّط بين أن يصير شيئا آخر غيرَ ذاته وبين أن يكون ذاته. ومن حيث هو ذاتٌ فإنّ الجوهر هو السلبيّة البسيطة، وبذلك هو انقسام البسيط، أو التضاعف المتضادّ، الذي هو من جديد سلبٌ للتباين اللامبالي وتضادّه؛ وحده هذا التطابق المصلح لذاته أو الانعكاس في كينونة الغير داخل ذات نفسه؛ وليس وحدة أصلية بما هي كذلك، أو مباشرة بما هي كذلك، وحده هو الحقّ. إنّ الحقّ هو صيرورة ذات نفسه، الدائرة، التي تفترض وتمتلك منذ البداية نهايتَها بوصفها مقصدها، وهو ليس فعليّا إلاّ عبر تحقّقه وعبر نهايته.

وبذلك فإنّ حياة الله والمعرفة الإلهية قد يمكن الإفصاح عنهما بوصفهما نوعًا من لعبة المحبّة مع ذات نفسها؛ لكنّ هذه الفكرة قد تسقط إلى مجرّد الوعظ وحتى إلى السخافة، عندما ينقصها الجدّ والألم والأناة وعمل السالب».[2]

هذا درس فلسفي، «نحن» الذين نسكن «جنوب الحداثة» -كموقع ميتافيزيقي متميّز، وليس بوصفه لعنة كولونيالية- في حاجة ماسّة إلى تفهّمه من الداخل: نعني من داخل أنفسنا أو من داخل المشاكل التي يطرحها التزامنا بأن نكون أنفسنا وليس مفعولًا تابعًا لأيّ شكل غريب من «الذات». يعني هيغل بلفظة «الجوهر» كلّ «ما ليس ذاتًا». الجوهر هو كل ما نعامله بوصفه «شيئًا». إنّ الله جوهر بقدر ما نعامله بوصفه «شيئًا» يمكن لأحدهم أن يستولي عليه لنفسه. لكنّ هيغل يعتبر أنّ ما هو «حقيقي» لا يمكن أن «يكون» جوهرًا فقط؛ يجب أن «يصير» ذاتًا. هيغل هو من أدخل الصيرورة إلى الحقيقة. وهو يقرأ «الصيرورة» في أفق فهم مسيحي عميق: إنّها نوع من «الجدّ والألم والأناة وعمل السالب». لا يتعلق الأمر هنا بمجرد انفعالات حزينة بل علينا أن نتأوّل ذلك في ضوء المفهوم المسيحي للإله: الإله الذي يموت متألمًا على الصليب. هيغل هو من أخذ جدّيًا معنى أن يدخل الألم في ماهية الإله، ولم يفعل غير ترجمة هذا الألم بوصفه تجربة. مفهوميًّا، »فينومينولوجيا الروح «هي تاريخ هذا الألم بوصفه وقد صار «تاريخًا مفهوميًّا» للمطلق الذي يريد أن يكون بيننا، ويرفض أن يمثل أمامنا بوصفه «شيئًا». وكل ذلك غير ممكن التصوّر من دون تجربة «الإله الإبراهيمي» بعامة، بوصفه هو «من» نقل الإله من نطاق «الجوهر» (الوثني)  إلى أفق «الذات» (التوحيدية) التي تريد أن تكون بيننا أو التي تخاطبنا.

حسب هيغل، وحده الإنسان «الحديث» (حديث = مسيحي) شعر بهذه الحقيقة وتبنّاها من الداخل، وذلك فقط لأنّه ذاتٌ وليس «جوهرًا» فقط. كل أنواع البشر السابقة كانت «أفرادًا». لكنّ الذات ليست فردًا. الذاتي لدى هيغل يمكن أن يكون الله أو الدولة أو الفن أو المقدس أو الحقيقة … ولذلك هو الصفة التأمّلية للمفهوم بما هو كذلك. من يفكّر في شكل مفهومي هو «يتذوّت» بشكل مطلق.

ولذلك سوف يظلّ ما نحبّه أو نؤمن به «شيئًا» فقط طالما لا نفهمه بوصفه «ذاتًا». الذات هي كل كائن ينمو، كل كائن صار يستمدّ حقيقته من حركته، أي من كل الممكن الذي بحوزته. الذات هي كل جوهر اكتشف طريقته في أن يصير ذاته. الذات هي شكل الحياة التي نصيرها بعد أن كنّا مجرّد جواهر، أي مجرد موادّ لأنفسنا. ولذلك لا يكفي أن «أكون» نفسي فقط بل عليّ أن «أصيرها». لا أريد أن أرث نفسي، أريد أن أكتشفها. وهذا يعني أنّني على استعداد كي أتعامل مع نفسي ولكن أيضا مع الله أو الحرية أو الحب بوصفه «تجربة» وليس «شيئًا». كل ذات هي مجرد تجربة لكنها هي كل ما نملكه عن أنفسنا. وفجأة تتحوّل التجربة إلى هوية، أي إلى شكل من الحياة حيث يصبح التمييز بين «المعنى» و«المعاناة» ترفًا منهجيًّا.

ذلك هو السياق الذي أحببت فيه هيغل بوصفه «حيوانًا فلسفيًا» كبيرًا يعلّم الناس كيف يصيرون ذواتًا. لكنّ هذا لا يعني أنّ هيغل كان يقصد ذلك. ربما كان له قصة أخرى مع نفسه. قال جورج باطاي ذات مرة: «إنّ هيغل لم يكن يعرف بأيّ وجه هو كان على حق».

ذلك أنّنا نلتقي بهيغل في أفق لم يكن يخاطبه. وهو ما سمّيته في أوّل محاضرة فلسفية لي ألقيتها سنة 1991 تحت عنوان أزعج أساتذتي في ذلك الوقت، هو «التفكير مع هيغل ضدّ هيغل»؛ ما سمّيته «جنوب الحداثة». كانوا يتهيّبون ويرتعبون من التفكير «ضدّ» الغرب الذي جمعه هيغل في «فينومينولوجيا الروح» بوصفها «نهاية تاريخ» المعنى بالنسبة إلى الفلاسفة. كان قراري عندئذ هو أنّ «التفكير» ضرب من «مقاومة المفهوم» وليس مجرد «إقصاء للآخر وبناء حوانيت التراث في عقولنا»[3]. وهو تمرين فلسفي وجدت أنّ هيغل – الذي نقرأ نصوصه وليس هيغل في ملخّصات الشرّاح- هو أوّل معلّم كبير أدخل «المقاومة»، أي فنّ التناقض الحرّ، في لحم المفهوم. من يفكّر هو يقاوم، أي يتحمّل تناقضه بشكل حرّ. التناقض الحرّ هو «لعبة المحبة مع نفسها».

– ما المقصود بـ«جنوب الحداثة»؟ وكيف هي مقاومة؟ هل هي مقاومة ضد »الحداثة«؟

 

إنّ عبارة «جنوب الحداثة» لا تعني بناء سردية «ديـ-كولونيالية» (decolonial) حزينة في فن العداوة تخوّل للمثقّفين غير الغربيين ممارسة ضغينة ميتافيزيقية ضدّ «الحداثة» بوصفها «ظلامية» إبستيمولوجية غير قادرة على أيّ نوع من «الصفح» تجاه المستعمر السابق الذي حوّل الأرض إلى مستعمرة أوروبية. بل فقط: التدرّب على التفكير من «موقع آخر»، وليس بشكل «آخريّ» انعزالي. «الجنوب» صفة إبستيمولوجية وليست مهربًا جغرافيًا خارج أفق الإنسانية. إنّ هيغل قد عثر على خيط سردي مناسب لإعادة كتابة تاريخ «الروح» المسيحي بشكل علماني. ربّما نعثر نحن أيضا في ذلك على دروس سردية أو مفهوميّة، بسبب النسب التوحيدي الذي يجمعنا مع هيغل، لكنّ ذلك لا يجعل منه النموذج الوحيد أو «العالمي» لتفكير غير الغربيين. وهذا ما علّمتنا إيّاه كتابات فرانس فانون وإدوارد سعيد وسمير أمين. لقد وجدتُ في استعارة «الجنوب» مقامًا للتفكير الذي يمكّن من «التفكير مع هيغل» (لأنّه لا معنى للخروج عن أفق الإنسانية) «ضدّ هيغل» (لأنّ «الغرب» هو بدوره مجرّد استعارة جغرافية آن الأوان لتنسيبها).

– أشرت للتو إلى كتابك الأول «فلسفة النوابت» ( دار الطليعة، 1997)، وفي ذلك الكتاب، طرحتَ سؤالًا بالغ الأهمية: «كيف نستأنف البحث الفلسفي الذي شرع فيه أسلافنا، ولكن بخاصة في الأفق الإشكالي للفلسفة المعاصرة بالذات؟» ويبدو أن ذلك السؤال يحرك كل عملك سواء كان إنتاجًا خاصًا أم ترجمةً، ماذا تقصد بشرط «الكونية» الذي أُهدر مع قراء التراث؟ وما الفارق بين قارئ التراث والمتفلسف؟ مع ملاحظة أن هنالك موجة جديدة في الاشتغال الفكري شعارها «المحلي» لا «الكوني»، فالكوني ليس إلا ستارًا لما هو غربي (وهذه «الموجة» تمتد من مفكري العرب المحافظين إلى منظري ما بعد الاستعمار).

 

لم يكن كتاب «فلسفة النوابت» أوّل كتبي فقد صدر في بيروت في أيلول 1997 وكان قد سبقه كتاب «هيغل ونهاية المتافيزيقا» الذي صدر في تونس في مارس من نفس العام. لكنّ ما يجمع بين الكتابين هو المشكل المزدوج الذي خيّم على أبحاثي في تلك الفترة بداية من 1990 تاريخ التحاقي للتدريس بالجامعة التونسية. وكان أوّل تعبير عن ذلك المشكل المزدوج هو نشر مقالين متقابلين وينتميان إلى أفقيْ استشكال متنازعين: من جهة نشر مقال في الفلسفة الغربية عنوانه «هابرماز أمام هايدغر أو كيف الكلام على الفلسفة؟»،[4] ومن جهة نشر بحث في الفلسفة العربية عنوانه «جبران والحداثة أو النسخة العربية من العدمية»[5].كان «الازدواج» في المشكل الذي كان يدعوني إلى التفكير الفلسفي واقعة روحية وليس ترفًا منهجيًّا. وكنت أتساءل: ماذا يمكن أن تكون عليه طبيعة العلاقة بين ما يشير إليه الكتابان المنشوران سنة 1997 كلّ على حدة؟ نعني: كيف نستأنف تجربة التفلسف العربية (وليس قراءة التراث) في عصر هيمن فيه السؤال عن نهاية الميتافيزيقا الغربية (عصر هيغل)؟ لكنّني كنت على وعي شقيّ بأنّ المقال الأوّل عن هابرماس وهيدغر هو مقال من نوع «كولونيالي»؛ أمّا المقالي الثاني عن جبران ونيتشه هو من نوع «ديكولونيالي». لم يكن ذلك ترفًا منهجيًّا بل محنة ميتافيزيقية تفرض على من يشعر بها «تدبيرًا جديدًا للمتوحد».

هذا القلق «غير الغربي» أو هذا الشعور «الجنوبي» بأهمّية الفلسفة قد قادني إلى هذا الافتراض: إنّ أسلافنا قد شعروا بأنّ «الفيلسوف» جسم غريب عن سردية الملة (نعني تأويل «الآدمية» بوصفها «استخلافًا» عامًا على الأرض)، وأطلقوا عليه اسمًا أصيلًا هو «النابتة». ومن ثمّ فإنّ استئناف التفلسف لا يمكن أن يتمّ «عندنا» إلاّ تحت صورة «النوابت»، سواء فهمنا ذلك في مصطلح الفارابي، أي بشكل سالب (حيث يمكن لفقهاء الملة أن يعتبروا الفلاسفة «نوابت» في معنى «الشوك بين الزرع») أو تصوّرنا ذلك في اصطلاح ابن باجة (حيث النابتة هو الفيلسوف نفسه بوصفه «متوّحدًا» يعيش في ملة لا تؤمن به ولا تراه).

إلاّ أنّ تكويني «الأكاديمي» في الفلسفة الغربية -«أكاديمي» لفظ يعود بنا إلى أفلاطون- كان يعلّمني شيئًا آخر: أنّ الفلسفة جنس خِطابي أنتجته المدينة اليونانية بحيث هو يعبّر عن ماهيتها، وليس جسمًا غريبًا عنها. ولذلك كان ظهور الفلاسفة في تاريخ الغرب حدثًا طبيعيًّا وأصليًّا، ومن ثمّ ليس على الفيلسوف أن «يبرّر» حقيقته. وذلك على عكس فيلسوف الملة الذي يجد نفسه ملقى به في سردية تفرض عليه أن يتحوّل تفكيره، من دون أن يشعر، إلى نوع من الاعتذار الميتافيزيقي الخجول. كأنّ التفلسف فضيحة أخلاقية عليه أن يداريها مخافة أن تنقلب إلى تهمة سياسية أو تجديف ديني.

هذا الوضع الإشكالي جعلني أنظر عندئذ إلى «قرّاء التراث» على اختلاف مناهجهم وتأويلاتهم (الذين سيطروا في أواخر الثمانينات على ما يمكن أن نسمّيه «ساحة التفكير» لدينا) وكأنّهم قد أعفوا أنفسهم من المعركة الحقيقية التي هي معركة «كونية» وعوّضوها بحرب داخلية ضد مصادر أنفسهم.

– رغم ذلك، في النقاشات ما بعد الكولنيالية، يوجد تحسس لا يخفى على المتابع من مصطلح «الكوني» و«الكونية». بمَ نتعامل مع هذا التوجس؟

 

«كونية» نسبة إلى «الكون»، وهي كما نرى ترجمة حرفية للمصطلح الغربي كما تقوله الانجليزية «universal» نسبة إلى «universe». لكنّ هذا المعنى الحرفي يخفي أنّه كان أيضا في تاريخ المصطلح مجرّد ترجمة لاتينية (universum, universalis من «vertere» و«unum» أي «ما هو موجّه تماما، دفعة واحدة، نحو» ) للفظ يوناني (to katholou) عرفه العرب القدامى عند نقل نصوص أرسطو وترجموه بلفظة «الكلّي» في مقابل «الجزئي» (to kath’hekaston). الكلي اكتشاف فلسفي ينسبه أرسطو إلى سقراط[6]. لكنّ لفظ «universum» والجمع «universa» كان يعني لدى سيسرون «جملة الأشياء» ومن ثمّ جملة «الكون». «الكوني» إذن ليس «كليًّا»، وهو ليس واحدًا بل وجهة نحو الواحد الذي يجمع الأشياء بناء على «الاتساق» وليس على «الحصر». هنا علينا أن نستعمل «المعنى» (الجهد البشري للتفاهم بوصفه أفقًا «كونيًا») وليس «الماهية» (التي تدّعي أنّها «كلية»).

هذه النظرة السريعة على تاريخ المصطلح في مختلف اللغات الميتافيزيقية للفلسفة تضعنا رأسًا أمام التصادم المفهومي بين معنيين لا يراهما (أو لا يريد أن يراهما) المتكلّم الغربي «الحديث» الذي كرّس اختيارًا اصطلاحيًا واحدًا هو «the universal» : المعنى الأوّل لاتيني يطرح «الكوني» نسبة إلى «الكون» من جهة، ومعنى يوناني يعيد «الكلي» إلى «الكلّ» أو «الجملة» من جهة أخرى. ومن اليسير أن نرى أنّ الفارابي أو ابن سينا لم يعرف معنى «الكوني» بل فقط معنى «الكلي».

تكمن نكتة الإشكال في المماهاة التي فرضتها «الحداثة» بين المعنيين، الحداثة من حيث هي سياسة للحقيقة، وليس مجرد حقبة زمنية. ولدينا مثالان على هذا العنف التأويلي. مثال كلاسيكي هو معنى «المثال» الأفلاطوني الذي نقده أرسطو قائلًا: «ليس ثمّة أي صفة كلية (καθόλου) هي جوهر (οὐσία)»[7]. الكلي إذن ليس جوهرًا. يعني ذلك أنّ ما ندّعي أنّه «كلي» لا يعني أنّه كذلك في «وجوده». الكلي ظاهرة اسمية وليست واقعة أنطولوجية. قد يبدو هذا النقاش ترفًا ميتافيزيقيًا لكنّ المسيحية استولت عليه وحوّلته إلى سياسة للحقيقة. وذلك عندما حوّلت «katholon, to katholou» («الكلي» أو «العام» بالمعنى المنطقي) ومنه «koinon» أي «المشترك»، وذلك إلى «katholikos» («الجامع» بالمعنى الديني، وهو ليس بعيدًا عن معنى «الجامع» الإسلامي)، إلاّ أنّه مصطلح لم تستعمله الفلسفة[8] بل هو من اختراع الكنيسة منذ مجمع نيقية الأول سنة 325 القائم على قانون العقيدة القائل «أنا أؤمن بالكنيسة الواحدة (unam)، المقدسة (sanctam)، الجامعة (catholicam) والرسولية(apostolicam)». لفظة «katholikos» مركّب من «kata» (بِ أو حسب أو على) والصفة «holos» (أي «الجمع» أو «الجميع» أو «الجملة»).

علينا أن نسأل: متى دخل معنى «الهيمنة» في مفهوم «الكوني»؟ من الواضح أنّ المصطلح المنطقي اليوناني («الكلي» – «to katholou») هو الذي قصده الغزالي عندما تحدّث عن «المنطقيات» وخصّص له كتاب «معيار العلم». الكلي إذن ليس موضع نزاع لأحد وهو أساس الحقيقة في العلوم. وهو أمر لا يمكن أن نواجهه بأيّ اعتراض «ديكولونيالي». لكنّ المشكل يبدأ عندما نلاحظ أنّ الكنيسة المسيحية قد حوّلت «to katholou» إلى « katholikos»، نعني حوّلت «الكلي» إلى «كلّياني» أو منصب «جامع»، من خلال مؤسسة جديدة للحقيقة لم يعرفها الفلاسفة اليونان هي «الكنيسة الجامعة» (katholikê ekklêsia). يقول إغناطيوس الأنطاكي، أحد آباء الكنيسة الرسوليين (35-107):«حيثما يظهر الأسقف، ها هنا تكون الجماعة، كما أنّه حيثما يكون يسوع المسيح، هاهنا تكون الكنيسة الجامعة»[9]. لقد تمّ الاستيلاء اللاهوتي على «الكلي» اليوناني وتحويله لغويًّا ودلاليًّا واصطلاحيًّا منذ القرن الثاني الميلادي إلى «كوني» كنسي. وهي صفة لكنيسة وليست صفة لديانة.

في هذا السياق الصامت أتى المحدثون إلى مصطلح «الكوني» بوصفه منصبًا يقع في مفترق الطرق بين «الكلي» الذي في العلوم و«الكوني» الذي في الكنيسة. كان النزاع على أشدّه بين تأويلين للكوني: هل هو «كلّي» علمي أم «جامع» كنسي؟ كان الحل الذي اقترحه كانط هو تنشيط عبارة يونانية أخرى مأثورة عن الفيلسوف الكلبي ديوجان (421-323 ق.م.) وطوّرها الرواقيون لاحقًا، ألا وهي «kosmopolitês»، وهو مصطلح مركّب من «kosmos» أي «العالم» ومن « politês» أي «المواطن». إنّ المعنى الذي اقترحه كانط وعصر التنوير معه هو أنّ «الكوني» لا يجدر به أن يعني سوى «مواطنة العالم». إذْ كانت إجابة ديوجان، حين سئل «من أين أتيت؟»، أن قال: «أنا مواطن من العالم (kosmopolitês)». وفي سنة 1795 اقترح كانط اختراع إرساء «حقّ/قانون كسموبولتاني» (ius cosmopoliticum) ينظّم نوعًا من «الضيافة الكونية» بين المحدثين.

كان ذلك أفضل ما منحتنا إياه فكرة «الجامعة» الحديثة لدينا والتي ظلّت تواصل التقليد الأوروبي في ترتيب درس الفلسفة بوصفه جنسًا أدبيًا لابد أن ينضوي تحت مشروع «الأنوار» كما تبدّى خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكنّ هذا النوع من «الكوني» الميتافيزيقي والأخلاقي قد انقلب فجأة منذ 1800 (مع عودة انتصاب مفاجئ لفكرة تقول بأنّ الغرب هو بتعبير إدوارد سعيد «واقعة إمبراطورية» وليس «عصر تنوير») إلى جهاز استعماري للهيمنة على الشعوب «غير الغربية» التي تمّ استثناؤها من برنامج التنوير الميتازيزيقي أو الأخلاقي للحداثة ومعاملتها بوصفه «موضوعًا» للحداثة وليس «ذاتًا» لها. في هذا الإطار تحديدًا كان اهتمامي بهيغل بوصفه علامة «إمبراطورية» تسللت إلى جسم المفهوم الفلسفي ومعه فقدت الفلسفة كل براءتها التنويرية وتحوّلت إلى سردية لم تعد «كونية» وإنما صارت «كونانية» (universalist) تفرض «الكوني» ولا تنتجه. كان هيغل متّسقًا مع نفسه عندما عرّف الفلسفة سنة 1821 في تصدير كتابه «الخطوط الأساسية لفلسفة القانون» (وهو كتاب كنت قد ترجمته سنة 1989 ولم أنشره إلى حدّ الآن) قائلًا: «أن نتصوّر ما هو كائن هو مهمّة الفلسفة، وذلك أنّ ما هو كائن إنّما هو العقل. وفيما يتعلق بالفرد فإنّ كلّ واحد من الناس هو على كل حال ابن عصره؛ كذلك الفلسفة، فهي عصرها مدرَكاً في الفكر»[10].

لقد وضعنا هيغل أمام وضع «عالمي» يتطلب منّا أن نفكّر بشكل «عالمي». والمشكل هو مدى قدرتنا على أن نأخذ هيغل بجدّية، ولا نتعامل معه كمادة مدرسية. وهذا الأمر شخّصه فلاسفة غربيون من قبيل نيتشه وهيدغر ومرلوبنتي وباطاي وليفناس ودريدا ودولوز وفوكو وهابرماس وبتلر. وهنا نعثر على خيط يمكن أن يساعدنا على تعريف «قارئ التراث» في مقابل «المتفلسف»: هو كل كاتب يطرح مشاكله بشكل «محلّي» معزول. أمّا «المتفلسف» فهو ذاك الذي أخذ هيغل بجدّية، ليس هيغل الذي أسّس خطاب الهيمنة «الكونانية» للغرب بل هيغل الذي «فشل» أيضا كما أشار إلى جورج باطاي. إنّ «فشل» هيغل أكثر طرافة من نجاحه التأمّلي. ونحن نقرأ هذا الفشل بأنّه لا يرانا.

 وهذا العمى الميتافيزيقي تجاه «غير الغربيين» لا يجب أبدًا أن يتحوّل إلى تعلّة «ديكولونالية» متهافتة للخروج من براديغم «العصر» باتجاه «العصور الأخرى» أكانت عصور الهندي الأحمر أو «الزنجي» الإفريقي أو «التابع» التنموي أو الفقير «الجنوبي» أو «الآخر» الصليبي، إلخ. وذلك أنّ «المحلّي» هو مجرد خدعة سردية وليس مفهومًا: إذا أخذنا هيغل بجدّية، نعني إذا أخذنا بجدّية واقعة أنّ الغرب قد هيمن على العالم الحالي لأنّه نجح في اختراع سردية كبرى للعصر وفرضها على قراءة غير الغربيين لمصادر أنفسهم بلا رجعة؛ فإنّنا سوف نشعر عندئذ بأنّ «المحلّي» قد سُرق منّا دفعة واحدة وتحوّل إلى غريب داخل بيته، وبات عليه أن يعيد اكتشاف نفسه في مفردات لم يكلّم نفسه بها من قبل. وهنا تفيدنا الفلسفة في تشخيص الحالة: إنّ «المحلّي» الجنوبي قد تذوّت في الأثناء وصار يشكّل هويته من درجة خضوعه لمنوال الهيمنة الإبستيمولوجية للشمال.

ولذلك كان السؤال الهادي في مقدمة كتابي «فلسفة النوابت» هو هكذا: «’ما العمل’ في نهاية الميتافيزيقا؟». وقد وجدت أنّ المحاولة المناسبة عندئذ هي أن أرسم خطًّا لامرئيًا ومستحيلًا بين فاتحتين فلسفيتين أثبتهما في رأس المقدمة: بين هيدغر (الذي يقول سنة 1946 ضمن «رسالة في الإنسانويّة»: «إنّنا لم نتدبّر ماهية الفعل بما يكفي من الحسم بعدُ») وبين ابن باجة (الذي يقول سنة 1138 ضمن «تدبير المتوحّد»: «فأمّا من وقع على رأي صادق لم يكن في تلك المدينة أو كان فيها نقيضه هو المعتمد، فإنّهم يسمّون النوابت»). كان المشكل الكبير إذن -ذلك الذي يمكن أن يدعو جيلنا إلى التفلسف وليس إلى قراءة التراث- هو: أن نستشكل العلاقة الممكنة بين «أزمة» الغرب حيث أخذ يعيد منذ مطلع القرن التاسع عشر كتابة تاريخه الروحي ويتفحّص أدواته تحت عنوان «نهاية الميتافيزيقا» وبين «استئناف» العرب تحت وطأة العلاقة «الكولونيالية» لعمل التفكير الذي تعطّل منذ ابن خلدون. الغرب في أزمة- هذا واضح منذ الرومانسيين- لكنّنا لا نملك أفقًا للاستقلال عنه إلاّ بالعبور الميتافيزيقي والأخلاقي في أفق المشاكل التي فرضها على الإنسانية. ولأنّ الإسلام جزء لا يتجزّأ من السردية التوحيدية التي تُعدّ الحداثة الكولونيالية تتويجًا معلمَنًا ومعولَمًا لها، فإنّه لا يحقّ لنا أبدًا أن نُعفي أنفسنا من أيّ تورّط ميتافيزيقي أو أخلاقي في نفس التقليد. وبالتالي نحن ممنوعون سلفًا من أيّ ملجأ «ديكولونالي» خارجي حقًّا وهو «تباعد ميتافيزيقي» يتمتّع به مثلًا مفكّرون في تقاليد أخرى مثل الفلاسفة الأفارقة أو الفلاسفة «الأمريكيين-الأصليين» أو البوذيين.

إذن المشكل هو: كيف نبني «كونيًّا» بلا إرادة هيمنة «كلّية»؟ كيف نميّز بين «الكونية» (universality) و«الكليّة» (totality)؟ – وهنا يمكننا أن نستفيد بشكل كبير من كتابات إيمانويل ليفناس. علينا أن نقرأ «الكوني» بوصفه «مطلقًا» أو «لامتناهيًا». كلّ ما يشعر به شعب بشكل مطلق هو كوني، نسبة إلى «الكون» كما يأتي إلى أفق البشر. وهذا يعني أنّه نوع من «الخارجيّة» التي لا يمكن لأي طرف أن يحصرها في «هوهو» أو في «كلية» مغلقة تدّعي التفوّق على غيرها باسم «مفهوم» الكوني. علينا أن ننظر إلى ما هو «كوني» على أنّه «كثرة بلا كلّي» (une multiplicité sans total) كما يقول ليفناس[11]. وهي كثرة ليس لها من محلّ سوى اللغة: هناك حيث لا يمكن لأيّ متكلّم أن يدّعي أنّه يملك «باطنيّة» تتفوّق علينا. ويلخّص ليفناس هذا النوع من اللقاء مع الآخر في استعارة «الوجه لوجه» في الخطاب، حيث لا أحد يمكنه معاملة الآخر بوصفه «موضوعًا» لوعيه. ويؤكّد أنّه «ليس ثمّة أيّ مفهوم يمكنه أن يدرك الخارجيّة»[12] التي يلاقيها.

– لننتقل إلى إشكال ذي صلة بموضوع الهوية كذلك: لقد عرضت في كتابك «الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة» (جداول، 2011) لثنائية «الهوية» و«الحرية»، و«الحيوي» و«الهووي» وبينت أن الحيوي قبل الهووي والحرية سابقة على الهوية. كيف تقابل هذا بما يطرحه فلاسفة الهوية من الجماعاتيين -على اختلاف مشاربهم وفلسفاتهم- من أن حرية الفرد (أو ربما بمصطلحاتك: «الحيوي») غير مفهومة ما لم تعاش في سياق هوية جامعة («التقليد»، «التراث»، «مصادر الذات»؛ إلخ) وبعبارة مشاغبة: أن «الحيوي» لن يفهم دون «الهووي»؟

 

ينبغي التنبيه هنا إلى معضلة منهجية ترزح تحتها كل محاولات التفكير في أفق فهمنا الحالي لأنفسنا: ألا وهي استعمال »المصطلحات» الغربية في سياقاتنا وكأنّنا نتكلّم عن «نفس الشيء». لنأخذ مثالًا على ذلك مصطلح «الهوية». فحين نقرأ نصًّا غربيًّا كتبه تشارلز تايلور في كتابه «مصادر النفس» (The Sources of the Self) عن «الطريقة الحديثة في صنع الهوية» (1989)[13]، ونصًّا عربيًّا-إسلاميًّا للفقيد حسن حنفي عن «الهوية» ضمن كتابه «مقدمة في علم الاستغراب» (1991)[14] عن «دعوته إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر، وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلًا من أن يكون مصدرًا للعلم»، وهو موقف يجمّعه تحت مصطلح «الاستغراب» بوصفه الشكل الوحيد لمقاومة «التغريب»[15]، أي وضعية من «لا هوية له»[16] حيث نلاحظ «كيف تحوّل الأنا إلى آخر»[17]– إذا قرأنا هذين النصّين على منصّة تفكير واحدة سوف نكتشف أنّنا لا نتحدّث عن «نفس الشيء»: إنّ مشكلة تايلور هي كيف نؤرّخ للهوية الأوروبية بوصفها «تاريخ نفسها»، وهو تاريخ يجري عبر تكوّن وظهور معنى «الباطنيّة» المميّزة للذات (التي تجري حسب تأويله من أفلاطون وأغسطينوس إلى المحدثين مثل مونتانيي وديكارت ولوك)، ثمّ عبر دعوة الإصلاح البروتستانتي إلى إقرار القيمة «الإتيقية» لدائرة «الحياة العادية» المركّزة على العائلة والعمل، ثمّ عبر اكتشاف المحدثين منذ القرن السابع عشر لما سُمّي «صوت الطبيعة» الثاوي في صلب «الوعي»، ومن ثمّ بناء الصورة الموجبة لتاريخ الوعي بوصفه «تقدّمًا أخلاقيًا».

أمّا في حالة حسن حنفي فنحن نجد محاولة للاستغراب في مواجهة التغريب: إنّه يقدّم تاريخًا للآخر بوصفه خصمًا جرّدنا من هويتها الأصيلة وعلينا أن نواجهه، وذلك بأن نحوّله إلى «موضوع» للعلم بدل أن يكون «مصدرًا» للعلم. نحن لا نعثر على أيّ «تذويت» لأنفسنا هنا بل على عمليّة «موضعة» للغرب بوصفه «آخر». وهو يعتبر هذا الإجراء شرط إمكان أيّ تعرّف على الطريق إلى «إبداع الأنا» الخاص بنا. كان تايلور يفكّر «بلا آخر» أمّا حنفي فهو «يستغرب» (يدرس الغرب) «بلا أنا».

لو أعدنا الآن صياغة المشكلة التي تهمّني: «الحرية قبل الهوية». وفحصنا الاعتراض «الجماعوي» القائل بأنّ «الحيوي لن يُفهم دون الهووي». لنلاحظ أوّلا أنّ مفردات السؤال قد تغيّرت. «قبل» الهوية لا تعني «دون» الهوية. لا يتعلّق الأمر بقرار عدمي للتغريب (القضاء على الهوية أو الاستغناء عنها) بل بترتيب منهجي للأولويات، أي بتقويم لما سمّاه كانط ذات مرة «مصلحة العقل» وليس «إدراك المصالح بالعقل» كما يتصوّر الفقهاء. إنّ «الحرية» هي مفهومة هنا في معنى «شكل الحياة» المنشودة من قِبل جيل من الناس، الحياة التي تكون حسب تعبير جوديث بتلر «قابلة للحياة» وليس عبًأ أخلاقيًا على أجسادهم. ما تفترضه الفلسفة هنا هو أنّه لا شيء يسبق الحياة: في البدء كانت الحياة ثم جاءت المؤسسة البشرية من أجل تنظيم النسل وتحديد الهوية ورسم مساحة العقل وضبط جملة مقولات أرسطو. ولأنّ الحرية هي شكل الحياة فإنّه لا يحق لأحد أن يشرّع لنا هويتنا قبل أجسادنا، نعني قبل تشكّل حياتنا التي نحياها بكل جدارة أنطولوجية. كل ما أتى بعد أجسادنا هو جهاز هووي مشتقّ وليس أصليًّا. وحدها الحياة تأتي بلا هدف جاهز. وهذا هو المعنى البريء للحرية: إنّها حرية البراءة أو لا تكون. الحرية بوصفها نوعًا من البراءة التي لا تقبل التفاوض مع أحد، مهما كان دوره الهووي.

هنا نتبيّن أنّ «الجماعاتيين» الغربيين هم «مثقّفون» ينطلقون من «موقع» هووي جاهز هو موقع «الجماعات» أو «الأقليات» التي تعاني من اختزالها في «عنصر» تمييزي مخجل أو قاهر من قبيل «الطائفة» أو «العرق» أو «اللون» أو «الجنس» أو «الجندر» أو «الجنسانية» أو «اللغة» أو «الثقافة» أو «الهجرة» أو «الحدود» … إلخ. نحن لسنا «جماعاتيين» أو «أقليّين» كما هو حال الهنود الحمر أو السود أو المثليين أو الأجانب … بل نحن نعاني من نزعة «جماعويّة» مرعبة تخيّم على «فرديّتنا»: نحن نجد أنفسنا غارقين في أتون «جماعة كبرى» لا تزال تمانع التحوّل الحديث إلى «مجتمع مدني» يدّعي إمكانية تأسيسه على مدوّنة «كونية» لحقوق الإنسان والمواطن. نحن لا زلنا جماعة روحية عملاقة تتوفر على روافد هووية عملاقة لأنّها نجحت في فرض مماهاة مثيرة بين «الجماعوي» وبين «المقدّس»، بحيث أنّه تمّ تعديل مفهوم «الهوية» (الجماعاتي) بحيث ينقلب إلى سياسات «جماعوية» تقوم على عملية دمج مرعبة بين الهوية والجماعة الكبرى، ثمّ بين الهوية والسياسة، ثمّ بين الهوية والدين، وربما بين الهوية والله، إلخ … وهكذا تمّ تجنيد «الهوية» من أجل مراقبة حدود «الجماعة الكبرى» وعدم التردد في استعمالها العنيف بوصفه جهاز تكفير أو تخوين … قد تشرف عليه الدول بنفسها.

وحدها جماعة مرعبة تقنع «الفرد» بأنّ حريته غير قابلة للعيش من دون هوية. هي تكون قد سرقت منه أفق المعنى المتاح له في جسده وفي عصره، ووضعت مكانه نطاقًا هوويًّا مراقبًا ومنقّى من كل عناصر الاعتراض. إنّ أخطر ما تقوم به الجماعة الكبرى أو ما يسمّى «الأمة» هو «تشييء» الهوية بحيث يمكنها احتكار ملكيتها أو التكلّم باسمها. وهي لا تفعل ذلك لأسباب واهية بل لأسباب أنطولوجية خطيرة جدّا، ألا وهي معاملة «الكينونة» نفسها، وبالتالي معاملة «المقدسات» و«الحقيقة» و«الألوهة» نفسها بوصفها «شيئًا» تملكه سلطة ما. لكنّ الهوية ليست «شيئًا» بل تلك القدرة على تشكّل «الذات» وهي تخوض صراعًا مع نوع معيّن من «التشيّؤ»، قد يكون تشيّؤ المعرفة أو تشيّؤ السلطة أو تشيّؤ الدين أو تشيّؤ الجنس، إلخ. ولذلك ليس من البديهي أن يكون أحدهم «ذاتًا». بل عليه أن يصير كذلك بقدر استعداده لتجريب هذا المستحيل الصغير: إنّ شكل حياتك ليس معطى من أحد، بل هو ما تبنيه بنفسك داخل قصّتك التي لن تكتبها أبدًا إلاّ عرضًا. وهذا يعني أنّ الفرد نفسه لا يسيطر على هويته أو على «من» سيكون. وهكذا فإنّ ما يمكن للفلسفة أن تساعد على ارتسامه هو حرية الحياة، وليس فقط الدفاع عن جدار هووي ليس لك إلاّ لأنّ الجماعة الكبرى قد قرّرت ذلك منذ مئات السنين. حرية الحياة هي حق الناس في أن يختاروا أنفسهم بعيدًا عن أيّ إكراه هووي، قد يأتي من الدين أو من الدولة أو من الجندر، إلخ؛ نعني من «الآخر» بعامة. ولذلك فإنّ الرهان الحقيقي هو العودة إلى «الإنسان» نعني عودة الناس إلى أجسادهم وإلى قصصهم الخاصة بوصفها «ثروة أخلاقية» لا يمكن لأي جهة أن تسرقها منهم باسم مؤسسة «جماعوية» لا تراهم.

– إنّ استقبال العلمانية لدينا يبدو غريبًا إنْ قلبنا النظر في الأمر. فالعلمانية عادةً ما ترى بوصفها ضربًا من الهوية والالتزام السياسي الاجتماعي، حيث يوضع «المتدين» أو «الإسلامي» إزاء «العلماني» دون وجود أي أطر جامعة بينهما. بينما لا يبدو استعمال المصطلح مماثلًا -مثلًا- في الغرب؛ حيث معارضة «المتدين» لغيره لا تأتي في سياق أسس تنظيم الدولة الحديثة أو «شكل السلطة وتداولها» أو «المواطنة» أو بعض المسلمات الاجتماعية الضمنية؛ وإنما تطال أمورًا من قبيل القرارات السياسية التفصيلية؛ وفي لبها، هي اختلاف حول «الخيرات» الأصلح للـ«مواطن». إذْ يبدو  لي الأمر وكأننا نستعمل الكلمة «خطأ تصنيفيًا» (Category mistake). هل تتفق مع هذا التوصيف؟ وبمَ نفهم هذا الاختلاف بين «العلمانيتين»؟

 

هذا توصيف مقبول. طالما أنّ مهمّة الفلسفة هي التمييز بين «المقولات».

يقول رايل في مقالة نشرها سنة 1938 تحت عنوان «مقولات»: «نحن نكون في ظلمة فيما يتعلق بطبيعة المشاكل والمناهج الفلسفية إذا كنّا في ظلمة حول الأصناف أو المقولات»[18].

المشكل هو استعمال بعض المصطلحات دون أن نتبيّن أنّها تنتمي إلى «صنف» دون آخر أو تقع تحت «مقولة» دون أخرى. وهو ما أطلق عليه رايل في الفصل الأول من كتابه «مفهوم الذهن» (1949)، والذي عنوانه «أسطورة ديكارت»، اسم «الخطأ في المقولة» أو «الخطأ التصنيفي».[19]

تبدو مهمّة الفلسفة هنا قائمة على التمييز بين «الفئات» أو «المقولات» التي تندرج تحتها «المفاهيم» التي نستعملها. نحن لا نأتي إلى الألفاظ في معانيها النحوية بل في دلالتها «المقولية»، أي تلك التي تستمدّها من نوع من التصنيف على مستوى القضايا أو الخطاب.

وكان خطأ ديكارت هو كونه قد عرّف الذهن في ضوء النموذج الميكانيكي الذي صار هو مقياس المعرفة العلمية في عصره. فصار الذهن نوعًا من «الشبح داخل الآلة»: إنّه ليس آلة في الجسم لكنّه آلة.

لو طبّقنا هذا «الخطأ التصنيفي» على العلمانية لوصلنا إلى نتيجة مشابهة: هي لدينا قد تحوّلت إلى نزاع هوويّ بين «مواطن» الدولة القانونية و«مؤمن» الدين الجماعوي. والحال أنّ الغرب قد شهد «عصرًا علمانيًا» حسب تعبير تايلور، يدور فيه نقاش عمومي بين «مواطنين»، بعضهم «متديّن» وبعضهم «غير متديّن»، وهذا يعني حسب توصيف هابرماس أنّ النزاع السياسي هو مجرّد نزاع في «الترجمة»: ترجمة «المضامين الدينية» في لغة القانون الحديث وترجمة «المصطلحات القانونية» في لغة التعبير الديني. لكنّ هذه الترجمة لا تمسّ المنزلة الدستورية والمدنية لصفة «المواطن».

ولكن هل »نحن» مواطنون؟ أم «رعايا»؟ إنّ تكلّم معجم الدولة الحديثة هو الذي سمح لنا «سهوًا» أن نعتبر أنفسنا «أفرادًا» و«أشخاصًا» و«مواطنين». ولكن هل نحن كذلك فعلًا لو فحصنا الأمر فحصًا دقيقًا، نعني نضع في الاعتبار «واقعة» الإنسان كما نعيشها، وليس كما تحدّثنا عنها الدولة؛ أعني دولة «الأمر الواقع»، أي الدولة من جهة ما هي سلطة دنيوية ويومية دون أي تعليق أخلاقي آخر. هناك عنف تأويلي هو الذي نصّب صفة «المواطن» في سجّلاتنا الإدارية وأسّسها «قانونيًّا» باعتبارها قائمة بداهة على «الهوية» أو «الجنسية» التي هي أيضًا مجرّد تنصيبات إدارية فرضها منطق الدولة الحديثة ولم يتمّ بناؤها والاشتغال عليها فعليًّا. لا تزال هذه المفاهيم تُعطى في شكل «منح» هووية لنوع من المحكومين الذين تمّ تجميعهم تحت عنوان قانوني من اختراع المحدثين منذ هوبس يحمل اسم «الشعب». وكان ذلك عنوانًا رسميًّا تمّ وضعه مكان عنوان سابق هو «جمهور المؤمنين» في نطاق دولة «الملة».

لو نظرنا الآن من زاوية النقاش بين «العلمانيين» و«الدينيين» لوجدنا أنّه من حيث المصطلح نقاش مستورد. وهذا يعني أنّه ظاهرة محلّية وريفية خاصة بتطوّر المجتمع الأوروبي المسيحي تحديدًا. وهو مجتمع كان مهيّأ من حيث بنيته المتنازع عليها بين «الزمني» و«الروحاني» أو بين مؤسسة «الكنيسة» ومؤسسة «الحكم» لرصد تلك المسافة أو الهوّة أو الانفصال المكرّس ثقافيًا وقانونيًا وأخلاقيًا بين منطقة «religio» (التي نترجمها بشكل متسرّع على أنّها تعني «الدين») ومنطقة «status rei publicae» («حالة الشأن العام» أي «شكل الحكم»). وعلى الرغم من ظهور الدولة الحديثة بعد معاهدة واستفاليا سنة 1648 فهي لم تغيّر كثيرًا من جوهر النزاع بل نظّمته بتكريس مبدأ «cujus regio, ejus religio» («مثل الأمير، مثل الدين»، أي «كما يكون الأمير، يكون الدين»): لقد استولت الدولة الحديثة على منطقة الدين وصارت مؤسسة من مؤسساتها، وذلك باعتبار أنّ ذلك هو المخرج الوحيد المتاح من عصر «حرب الأديان» في أوروبا.

ذلك يعني أنّ نقاش «المثقفين» حول العلمانية هو موقف متأخّر، وهو مفعول خطابي لنزاع سياسي سابق بقرون. ولذلك فإنّ التحاق «المسلمين» بالنقاش هو نفسه ظاهرة يجب دراستها. مثلًا: قد يكون النقاش مجرّد تمديد إبستيمولوجي لنقاش كولونيالي لا نملك رهانه الداخلي. وتمّ استيراده وفرضه على عقولنا كما تمّ فرض كل «إبستيمولوجيا الشمال». لكن المربك هو أنّ الملة الإسلامية لم تعرف ذلك الفصل البنيوي والمؤسساتي المشار إليه بين الكنيسة وشكل الحكم، ومن ثمّ أنّ الدفاع عن العلمانية أو نقدها هو نقاش ريفي ومحلي خاص بالأوروبيين، قد يكون ملهاة تاريخية عن لبّ الإشكال السياسي الذي لدينا: نحن نعاني من نوع آخر أو معاكس من سياسة الحقيقة. فحيثما كانت المسيحية ترسم جدار الفصل بين الروحي والزمني، وبالتالي تحرج الحاكم لأنّها تجزّء ماهية السيادة وتقتطع منها جزءًا تطالبه بالاعتراف به بوصفه منطقة تقع «خارج» سلطته، وهو ما أدّى به بعد قرون طويلة إلى الاستيلاء «القانوني» عليه ومأسسته باسم «العصر العلماني»؛ فإنّ الإسلام لم يكن «religio» بالمعنى المسيحي بل هو «دين» بالمعنى العربي: أي شكل من «الطاعة» الاستخلافية المطلقة حيث يغيب أيّ فاصل بين الروحي والزمني بل يقع «تسييس» كل مساحة الفعل البشري ليس فقط في حدود «الحياة» بل في العلاقة «بالموت» أيضًا. ومن ثمّ لا معنى لأيّ «علمنة إسلامية» فهي تناقض في الألفاظ. أمّا الجدال بين العلمانيين العرب والإسلاميين فهو نزاع خارجي وشبه كولونيالي لأنّه ناتج عن وضع اضطراري، وليس له سوى فائدة «دفاعية» أو «تفاوضية» لتحسين شروط الحرية في فضاءاتنا العمومية. ذلك أنّ الاحتجاج بمكاسب العلمانية الغربية ضد تخلّف حجج الإسلاميين حول الحياة المشتركة هو نصر كولونيالي عليهم، وليس استشكالًا أصيلًا للمشكل السياسي لدينا. هو تكريس مجّاني لإبستيمولوجيا الشمال دون مساعدة حقيقية لنمط تفكيرنا على تحرير نفسه من الداخل.

بدلًا من النقاش حول العلمانية كان يجدر بنا، مثلًا، أن نجذّر أسئلتنا حول «الاستخلاف»: لماذا تمّ تنصيب فكرة الاستخلاف بوصفها ماهية السلطة في أفق المؤمنين بالإله الواحد؟ وهل أنّ ثلاثية الأب/الملك/الإله (الواحد) لا تزال صالحة لبلورة تصوّر للحرية على الأرض؟ لماذا لا يزال رهط من الناس في هذا القسط الأول من القرن 21  «ينجح» في استدعاء آلة الاستخلاف وفي تنصيبها مثل شاشة مرعبة في أفق حياتنا الهشّة وعدم التردّد في مطالبة ملايين المسلمين بالاستجابة إلى دعواه كأنّه يملك تفويضًا إلهيًّا في الغرض؟ لماذا نواصل تحاشي هذا الصدام مع مصادر أنفسنا؟ ونعوّضه بانتصارات علمانية وهميّة عليها من خارج أفقها؟ يبدو أنّ كل سجال علماني في أفقنا هو تأجيل للأسئلة الجذرية حول سياسة الحقيقة التي تحكمنا جميعا والاستعاضة عنها بمرافقة سياحيّة ما بعد-كولونيالية للنقاش الغربي حول تاريخه الخاص بعد استيراده وتطبيقه في شكل من التنوير العنيف.

ما يجب أن ندافع عنه هو «المواطنة» بوصفها صفة تقع ما وراء النزاع بين العلمانيين والدينيين. المواطنة ليست عقيدة تعادي عقيدة مضادة هي الدين. الدين لم يعد أفقًا للنقاش حول أنفسنا الجديدة إلاّ من جهة سياسات الذاكرة أو سرديات الهوية أو نماذج العيش أو تصوّرات الخير. هذا ما يمكن أن نستفيده من الفلسفات الجماعاتية. لكنّ المواطنة، أي النقاش العمومي حول «حرية» الفرد أو حول «العدل» في «المجتمع المدني» وليس «المجتمع-الجماعة» -الذي يحتفظ بقدر هائل من قيم الملة ويحضنها حتى بعد موتها التاريخي- فهي مشكل غير هووي وغير سردي ولا يمكن أن يُحسَم بالتعويل المخاتل على سياسات الذاكرة أو سرديات الهوية أو نماذج العيش أو تصوّرات الخير. المواطنة هي الاستعمال الحر لمساحة المشترك بين الأجساد-الأفراد المتساوين أخلاقيًا وقانونيًا.

– يبدو أن كتابك الأخير «الإيمان الحر أو ما بعد الملة» (مؤمنون بلا حدود، 2019) كان إجابة طويلة عن سؤال علاقة الهوية بالدين؛ حيث ميزت بين «الإيمان الحر» و «حرية المعتقد». بمَ يختلف الأول عن الثاني؟

 

الفرق بين أن تؤمن بشكل حرّ، دون أي إملاء لاهوتي محصور للمعتقد، ودون أيّ حصر مسبق لما يمكن للناس أن يؤمنوا به من عند أنفسهم، وبين أن تدع المؤمنين «الآخرين» والمختلفين يمارسون «حقّهم» في ما يؤمنون به دون أيّ إكراه، باسم «حرية الضمير»؛ هما مشكلان مختلفان تمامًا. المؤمن الحرّ يخلق ما يؤمن به ويختار نفسه، وبهذا المعنى هو يخترع علاقته بتراثه الخاص أو بمصادر نفسه العميقة. ولذلك هو في خصومة حادّة مع كلّ توريث للمعتقدات لأنّ كلّ معتقد تحوّل إلى «مؤسسة» دينية هو ينتهي إلى تكفير «الآخرين» أو محاكمتهم أو نفيهم أو البراء منهم. وفي تقديري أنّ المتصوّفة هم بمعنى ما مؤمنون أحرار وذلك أنّهم ليسوا «مؤمنين نظاميين» إلاّ عرضًا. المؤمن الحرّ ليس مؤمنًا تقليديًا ولا مؤمنًا رسميًّا ولا متديّنًا بالمعنى التقني. بل هو «مستمع حرّ» لخطاب فقدنا الصلة بأفقه الأصلي بعد أن تحوّل إلى «نصّ» (بالمعنى الحديث) مكرّس باسم نوع معيّن من السلطة، أكانت سلطة «الفرقة» أو «الطائفة» أو «الخلافة» أو «الدولة». المؤمن الحرّ يقع «خارجًا» بكل قصد لأنّه صار «فردًا» بلا رجعة ولم يعد «عضوًا» في أي «جماعة» أكانت سياسية أم تأويلية.

 وهذه «الخارجية» ليست عداء هوويّا لأيّ مؤسسة دينية، لكنّها تعطّل كلّ «طاعة» بالمعنى اللاهوتي. وعندما نلاحظ الأجيال الجديدة، لدينا وحتى في الغرب، نشعر أنّ الأغلبية الساحقة منها قد مرّت، دون استشارة أحد ودون ضجة كبيرة، إلى  تجربة «الإيمان الحر» المفرغ تمامًا من أيّ محتوى لاهوتي مكرّس. لكنّه إيمان يمتلك أصالته الخاصة القائمة في جزء واسع منها على «المحبة»: محبة الانتماء الحرّ إلى نوع من مصادر الذات. هي إذن محبّة بلا موضوع جاهز، لأنّ المحبّ يخترع ما يحبّه في كل مرة. وهذا هو المعنى الأصلي لما يسمّى «عبادة»: هي نوع خاص من المحبّة. وأنا أفترض أنّ ترك الأجيال الجديدة تختار طريقتها الخاصة في محبّة مصادر أنفسنا هو الفرصة الوحيدة المناسبة كي لا تشعر بالاختناق الهووي وتقرّر «الرحيل» الميتافيزيقي بلا رجعة. لم يعد يمكن فرض الطاعة الدينية على أحد، وذلك فقط لأنّ شكل الحكم، حكم البشر بعامة، قد تغيّر بلا رجعة. حتى الطبيعة، بعد أزمة المناخ، لم تعد تقبل أن يحكمها البشر، نعني «أن يسخّروها» كما تقول سردية الملة لدينا، كما فعلوا طيلة عصور «الاستخلاف» التي سنّها الإله الواحد.

أمّا «حرية المعتقد» فهي شيء آخر: هي مكسب حقوقي لنوع من المعجم السياسي الذي أسّس نفسه على فرضية «القانون الطبيعي»، وهو بذلك مرتبط في دلالته بوجود الدولة الليبرالية الحديثة، تلك التي استولت على منطقة الدين وحوّلته إلى إحدى مؤسساتها الرسمية. وتعني حرية المعتقد أو حرية الضمير «حق» كل «شخص» أو كل «فرد» في اعتناق نوع من المعتقدات التي «يريد» اعتناقها وممارستها بكل حرية. بيد أنّه من دون إقرار مقولة «الفرد» فإنّ الحديث في دساتير الدولة الحديثة عن «حرية المعتقد» هو تنويع أسلوبي فقط. وهو ما تفعله أغلب الدول حتى الغربية منها. وذلك أنّ لبّ المشكل لا يكمن في المعتقد نفسه بل في الحرية. تعني «الحرية» هنا احتفاظ الفرد بحقّه في اختيار ما يؤمن به أو تغييره أو عدم الإيمان به. لكنّ ذلك سرعان ما يصطدم بسلطة الدولة نفسها، تلك الدولة التي كانت قد احتفظت لنفسها بعلاقة مميّزة مع هذا المعتقد أو ذاك. ومن ناحية فلسفية يوجد إشكال في مفهوم «حرية المعتقد» في حالتين: إمّا أنّ «الإنسان» مفهوم لم يظهر بعد، نعني لم يتمّ تكريسه بوصفه هو الأساس الوجودي الوحيد والكوني لما نسميه «طبيعة بشرية»، وليس مجرّد «أثر» لإرادة إلهية تمتلك «حقوقًا متعالية» يجب تقديسها بإطلاق؛ وإمّا أنّ «الحرية» التي يطالب بها مؤمن ما سوف تهدّد الجهاز الروحي الذي أقامت عليها الدولة القائمة شرعيتها.

ومن ثمّ نحن أمام مشكلين: إمّا أنّ حرية المعتقد غير ممكنة لأنّ «الإنسان» الذي نتحدث عنه لم يصبح «فردًا» بعد، وبالتالي فإنّ حقّه مؤجّل إلى جيل آخر؛ وإمّا أنّها حرية ممنوعة لأنّها حرية خطيرة تغيّر العلاقة بالمعتقد وبالتالي تضع شرعية الدولة موضع تهديد. الحالة الأولى هي الحالة السائدة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ أمّا الحالة الثانية فيمكن أن توجد حتى في الدول الغربية. ولو ألقينا نظرة سريعة على الفقرة 18 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي صيغ سنة 1948، بالإنجليزية، لوجدناه يقول:

«لكل أو لأيّ واحد (everyone) الحق في حرية التفكير والضمير (conscience) والدين؛ وهذا الحق يتضمّن الحرية في تغيير دينه أو معتقده، والحريّة، إمّا بمفرده أو باشتراك مع آخرين وبشكل عمومي أو خاص(in public or private)، في إظهار دينه أو معتقده في التعليم والممارسة والعبادة وإقامة الشعائر».

لو قرأنا الترجمة العربية التي تعتمدها، مثلًا، «مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان» ضمن «المعاهدات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان” بالعربية[20]،- للاحظنا التحويرات التالية:

أ- «كل واحد» من الناس صارت «لكل شخص»: وعلينا أن نسأل: ماذا لو أنّ مقولة «الشخص» ليست مقصودة هنا لأنّها تفترض تطوّرًا أخلاقيًا خاصًا بنوع من الثقافات؟ ب- تمتّ ترجمة مصطلح «conscience» بعبارة «الوجدان» ( يُقال بالعربية:  «وِجْدَانُ الْمَرْءِ : نَفْسُهُ وَقُوَاهُ البَاطِنِيَّةُ، وَمَا يَتَأَثَّرُ بِهِ مِنْ لَذَّةٍ أَوْ أَلَمٍ»)؛ والحال أنّ ما تشير إليه الانجليزية هو المصطلح المسيحي الذي صرنا نشير إليه بعبارة «الضمير» الخلقي، وهو مفهوم مكرّس في الثقافة الغربية ولا معنى له خارج تلك الثقافة. ج- تمّت ترجمة التمييز بين «الفضاء العمومي» و«الحياة الخاصة» بعبارة «أمام الملأ أو على حدة». وهو ما يطرح مشكلًا تأويليًا خطيرًا: لأنّ الفرق هنا حادّ بين معجم الملة (حيث يتم التفريق بين ما يُقال على «الملأ» وما يُقال «على حدة») وبين معجم الدولة الليبرالية الحديثة (التي تميّز بين «العمومي» الذي تسنّه القوانين العامة لسلوك المواطنين جميعًا و«الخاص» المتعلق بالحياة الخاصة «للفرد» في بيته أو فضائه الخاص).

كل هذه الملاحظات السريعة تجعلنا نتشكّك في قدرة ثقافتنا على فهم ما يشير إليه البند 18 من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». ومكمن الصعوبة من الناحية الفلسفية هو في تقديري أنّها ثقافة تفضّل أن تترجم «the universal» (الكوني) بعبارة «العالمي». وعلينا أن نرى نوعية الحرج الميتافيزيقي والسياسي الذي يقع تفاديه. أنّ «حقوق الإنسان» ليست «كونية» (أي مستمدّة من «الطبيعة البشرية» بما هي كذلك باعتبارها جزءًا لا يتجزّأ من طبيعة «الكون» بعامة)، بل هي «عالمية» (أي نسبة إلى «العالم» كما هو قائم اليوم تحت سلطة نوع من الدول التي لا تملك أيّ حق في أن تفرض على الدول الأخرى كيف تعرّف ماهية «الإنسان» بسبب مبدأ السيادة الحديث، ولكن يمكنها بسبب قوتها الكولونيالية أن تشجّع فقط على اعتناق مجموعة من المبادئ والقيم العامة دون فرضها).

وبالمقارنة مع «حرية المعتقد» التي لا تُطبّق في أيّ مكان إلاّ شكليًّا فقط، لأنّها مكسب «حقوقي» لا تحترمه الدول غالب الأمر، كلّما اصطدم بشرعيتها أو بسلطتها، فالدولة متورطة أيضا هي بدورها في تأسيس نفسها على الدين، فإنّ «الإيمان الحر» هو شكل من الحياة، ولا يحتاج إلى أيّ تفويض قانوني كي يعيشه أي كان. هو نوع من حرية الحقيقة تجاه الكينونة في العالم بوصفها مشكلًا خاصًا، وليس بوصفها سلوكًا عموميًا تحت إشراف الدولة. فالدولة لا ترى العالم إلاّ عرضًا.

– يلاحظ القارئ في كتاباتك تعاطفًا واشتباكًا تحليليًا مع كتابات أدباء عرب (درويش، المسعدي، جبران) أكثر من غيرهم من المفكرين والباحثين العرب الذين تكلفوا -صراحةً- ببحث مسألة الحداثة العربية، وكأنك تتلمس في هؤلاء الأدباء «حداثةً عربية» لم تجدها عند غيرهم. أتتفق مع هذا التوصيف؟ وهل تؤيد الرأي الشائع الذي مفاده أن «حداثة العرب» لم تتحقق إلا في الأدب؟

 

يفترض هذا التوصيف أنّ «الحداثة» هي الأفق الشعري الذي نبحث عنه أو نسعى إلى التطابق معه. وهذا نفسه مشكل مزعج والأمر المطروح أكثر تعقيدًا. ربما كان هناك جيل واسع من الشعراء والأدباء الذين رغبوا بشدّة في تأسيس «حداثة عربية» على منوال الحداثة «الغربية». إلاّ أنّه من النادر أن نلاحظ أنّ مقولة «الشاعر» أو «الأديب» نفسها هي في أفقنا ما بعد الكولونيالي قد تغيّرت بشكل خطير. نحن لم نعد نلتقي بشخصية الشاعر أو الأديب «التقليدي» رغم أنّه مازال يظهر دونما خجل يُذكر. ثمّة قدر جديد للشعراء قد أخذ يرنو في الأفق.

يؤكّد فيلسوف مثل آلان باديو في كتاب له يحمل عنوانا له «فيم يفكّر القصيد؟»[21]، أنّه، منذ القرن الثامن عشر، قد ظهر في التقليد الأوروبي نوع من الشعراء «المضادين للفلسفة». كان الفلاسفة عندئذ متغطرسين إذ تحوّلوا في الأثناء إلى أصحاب أنساق ومنظومات تأمّلية مطلقة. وردّ الشعراء عليهم بتدشين ما سمّاه باديو «عصر الشعراء» الذي هو عصر يقصد أن يكون «فلسفيًّا مضادًّا» حيث يمكن «التفكير» بلا مفهوم. وهو عصر يمتدّ في كتابات شعراء (ما بين 1870 و1960) مثل رامبو ومالارميه وبوسوا وسيلان.

أمّا نحن فلا نملك هذا الترف الميتافيزيقي. إذْ يبدو أنّ شعراءنا وأدباءنا من جبران إلى درويش لم يكونوا يعانون من تغطرس أو صلف الفلاسفة، فهم لم يظهروا بعد، ولذلك لا يمكن قراءتهم وكأنّهم «فلاسفة مضادّون» (antiphilosophes). لنقل: نحن لم نوزّع الأدوار بعد. أو لم تستقرّ لدينا أجناس خطاب تصل العداوة فيما بينها إلى حدّ الصراع حول الحقيقة.

وفي غياب الفلاسفة تحوّل «الكتّاب» (وهو توصيف مقصود لأنّه بمثابة الدرجة الصفر من الجنس الأدبي) إلى أبطال «شعريين» مهمّتهم هي قيادة ثقافة فقدت طريقتها الخاصة في تعليم نفسها وبالتالي دخلت في مرحلة الصيانة أو هي قيد المراجعة بشكل مؤلم. ذلك أنّ الثقافات «غير الغربية» قد وجدت نفسها (حتى بعد الاستقلال) تعاني من تهميش كولونيالي داخلي تقوده النخبة ما بعد الكولونيالية نفسها، وصار «الكاتب» بعامة يعاني من «شبحيّة» عالمية ومحلّية في نفس الوقت، وذلك أنّ اللغة نفسها التي يكتب بها هي لغة تعاني من قصور إبستمولوجي ودونية أخلاقية أمام نظيراتها الغربية. من جهة هو كاتب يشبه المهرّبين لأنّه قارئ متمرّس باللغات الغربية وليس له مصدر كوني سواها؛ وهو من جهة كاتب هجين لأنّه فقد نسبه الداخلي إلى نفسه.

وهكذا هو صار يخوض معركة الإبداع على جبهتين: واحدة ضد نموذج كولونيالي مستمرّ فرضته النماذج الحديثة وأخرى ضد الجهاز التقليدي الذي انسحب لكنّه ترك فراغًا هوويًّا مرعبًا. فماذا يمكن أن يكون «الشعر» عندئذ؟

صحيح أنّه قد ظهر في أفق العرب المعاصرين شعراء استعادوا القدرة على الإبداع «الكوني» (الذي لا تضرّه الترجمة) مثل جبران أو درويش. لا يعني ذلك أنّهم تحوّلوا فجأة إلى كتّاب «غربيين» أو حقّقوا «الحداثة الشعرية» بالنسبة إلينا. هم فقط قطعوا أشواطًا هائلة باتجاه تهيئة الأفق لنوع غير مسبوق من اللقاء الكبير بأنفسنا وبمصادر أنفسنا وبالتالي لنوع قويّ من الممكن البديل أو من الآتي.

طبعًا، كان سؤال باديو ينخرط في تقليد غربي قديم حول الصراع أو التنافس المستمرّ بين الشاعر والفيلسوف كرّسه أفلاطون. وهو صراع صار جزءًا من قدر الفلسفة والشعر كليهما. ويبدو أنّ نيتشه قد لخّص المسألة ذات حديث من أحاديث زرادشت عندما اعترف بمرارة قائلًا: «والحق إنّي لأخجل من أنّه مازال ينبغي عليّ أن أكون شاعرًا». لكنّ الفلسفة اليوم يمكن أن تعيب على باديو أو هيدغر أنّ رجوعهما إلى الشعراء كان من أجل تحميلهم مهمّة غريبة عنهم، ويبدو أنّ الفلاسفة قد عجزوا عنها، ألا وهي مهمّة «التفكير» في الكينونة، أو في الحدث في عصر التقنية. لكنّ التفكير ليس مهمّة الشعراء. وعلينا أن نسأل: لماذا اعتبر الأفلاطونيون من أفلاطون إلى باديو أنّ «التفكير» هو أكثر الأفعال الإنسانية نبلًا وفضلًا؟ هذا الاعتبار يعكس تصوّرًا يونانيًا للتفاضل بين النظر والعمل أملاه الشكل الأرستقراطي للحكم. وفي تقديري هذا الاختزال لكل علاقة جوهرية بالحقيقة في مهمّة «التفكير» هو في واقع الأمر مجرّد مرض ثقافي «غربي» وليس مطلبًا «كونيًا» يجب على كل شاعر على الأرض.

ما نريد إثباته هنا هو أنّ الشاعر له قدره الخاص. وربما يكون لنا مخرج من أفق الحداثة الكولونيالية بالشعر. وليس بالسياسة أو بالعلف الإبستمولوجي الذي نستمرّ في استهلاكه.

صحيح أنّه ليس لدينا بعدُ «شاعر محض» كما أنّه ليس لدينا بعد «فيلسوف محض». الشاعر المحض هو الذي ينجح في إبقاء الشعر داخل مهمّته الخاصة دونما تورط هووي في معركة غريبة عنه. والشعراء عندنا فهموا «الالتزام» الوجودي فهما هوويًّا: بوصفه التزامًا تجاه «الأرض» أو تجاه «الشعب» أو «الأمة» … وهي قضايا مصيرية لكنها ليست قضايا شعرية إلاّ عرضًا. ربما لا يزال الشاعر خائفًا من أن يصبح بلا انتماء أو بلا جمهور أو بلا هوية. وكما لا يجدر بالشاعر أن يصبح «مفكّرًا» كما رغب في ذلك باديو، كذلك ليس عليه أن يصبح «مثقّفًا» يناضل من أجل هوية جاهزة لمجتمعه. إنّ للشاعر قدره الخاص. وكل تدخّل هووي في مهمّته مثل أيّ تدخّل فلسفي في موضوعه هو تشويه ميتافيزيقي لقدره.

ومع ذلك فإنّ الشاعر لدينا قد وجد نفسه مطالبًا بأن يملأ الفراغات التي تركها أصحابها: أنّ عليه أن يشغل مهمّات «النبي» و«الفيلسوف» و«الفتى» وربما «القائد» الرمزي … الغائبين أو المستحيلين …كما تحدّث الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد عن «القيادة الشعرية للثورة» التونسية. لكنّ الواقع هو أنّ شعراءنا قد كتبوا دومًا تحت اضطرار هووي مريع ولم يتفرّغوا لتجربة أنفسهم الجديدة إلاّ نادرًا.

ولأنّ الحداثة هي اليوم «هوية» كولونيالية للغربيين، ولم تعد أفقا خصبًا لتجريب الكونيات، فإنّ علينا أن نكفّ عن انتظار «الحداثة العربية» وكأنّها خبر سار. شعراؤنا لم يحققوا الحداثة ولا ينبغي لهم ذلك. هذا حلم كولونيالي مدسوس في عقول النخبة وآن الأوان للتحرر منه ليس بتنصيب عداوات تأويلية مع الغرب بل من خلال معارك ذاتية مع أنفسنا السائدة إلى حدّ الآن.

على الشعراء أن «يكتبوا» فقط. وتعني «الكتابة» (منذ النصف الثاني من القرن العشرين) مجرّد التجريب/التخريب الجذري لإمكانية أن نكون أنفسنا دون أي ضمانات أخرى. ذلك أنّه لا توجد وصفة جاهزة لمن سنكون. لا أحد يملك صندوقًا هوويًا وبالتالي يمكنه أن يزايد علينا في الانتماء. ربما التقصير الأخلاقي الوحيد للشاعر هو أنّه مازال يريد أن يُعترف به بوصفه كذلك.  إنّه لا يزال يخاف المشي في الظلام وحيدًا من دون رفقة تحكي قصّته. والمرعب أنّ طاقة «التخريب» التي يُفترض أنّها خاصة بالشعر قد تمّت سرقتها من الشعراء. ربما سرقتها الدولة الحديثة بالسلطة التي تملكها على الحياة والموت والاستثناء؛ لكنّ من سرقها حقّا هم «الإرهابيون»: هذا الرهط من الحيوانات العدمية التي تريد تغيير العالم بدون مساعدة الشعراء، أي بدون حلم ولا استباق ولا مستحيل ولا تهكّم الآتي. إذ يبدو الإرهاب شعرًا عدميًا بلا شعراء. هو رهط يزعم أنّه يترجم غضب الإله التوحيدي في عصر صار فيه ممنوعًا من الكلام. وهذا الاستغناء عن الشعراء في اختراع المستقبل هو الإرهاب. إنّ الشاعر هو الذي لن يتوقف أبدا عن البحث عن «السماء الأخيرة» بعبارة درويش؛ لكنّ الإرهابي هو من يريد إغلاق السماء علينا بلا رجعة.

– يلاحظ بعض المنظرين العرب سباتًا مقلقًا فيما صار يسمى «الفكر العربي»، وهذا السبات رافقته موجة عارمة من الترجمات التي احتلت مكانها. وقبل عقدين، في عملك الموسوم بـ«الهوية والزمان» طرحت السؤال التالي: «هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟». دعني أعيد طرح السؤال عليك في ضوء ما قلتُ للتو: ما حال الفلسفة لدينا اليوم؟ وكيف تقيّمون الأعمال الحالية؟ وهل العدد المتزايد من الترجمات إشارة طيبة أم سيئة في علاقتها بالفلسفة العربية؟

 

لنعد قليلًا إلى الأشياء كما كان يقول هوسرل. كان أفلاطون يعرّف «الفكر» بأنّه «الخطاب الذي تقوم به النفس مع نفسها حول الأشياء التي تفحص عنها» (محاورة «تيتاتوس»، 189 هـ) ثمّ عرّفه بكونه «الخطاب الباطني الذي تقوم به النفس مع نفسها بشكل صامت» (محاورة «السفسطائي»، 263 د). ماذا يعني عندئذ أن ندّعي أنّ «الفكر العربي» (وهذه تسمية علينا مساءلتها) قد دخل في «سبات مقلق»؟

في درسه الشهير «ما معنى أن نفكّر؟»[22] أشار هيدغر إلى أنّ الفعل اليوناني «noeîn» لم يكن يدلّ في أصله على معنى «التفكير»، وبالتالي فإنّ قرارًا ميتافيزيقيًا متأخّرًا هو الذي جعل «قول» (légein) الكائن يتحوّل إلى «منطق» (Logik) صار يعرّف نفسه عندئذ بأنّه «ماهية التفكير». كان التفكير يعني أن «ندرك» شيئًا ما بالمعنى الحرفي، أي أن نظفر به وليس في معنى مجرّد «تسجيل» حضوره. أن ندركه يفترض أنّنا فاجأناه حيث هو، واستبقناه أو سبقناه إلى نفسه، أنّنا انتبهنا له ونبّهنا عليه. وفي واقع الأمر يتعلّق الأمر، كما بيّن مؤرّخو اللسان اليوناني، وهيدغر يذكر ذلك بدوره، بمجاز بدائي هو شعور الصيّاد بأنّ فريسته في الجوار وهو «يشتمّ» أو «يستشعر» (wittern und Witterung) وجودها. يقول هيدغر: «ومن أنّ noos وnoûs لا يدّلان في الأصل على ما سوف يتشكّل لاحقًا بوصفه العقل؛ إذْ يعني ‘النوس’ الإحساس، الذي يتملّكه شيء ما في حسّه ويأخذه من كلّ قلبه».[23]

ولذلك علينا أن نسأل: متى صرنا نتكلّم عن »الفكر» بوصفه جوهرًا يحمل بصمة «هووية» أو «قومية»؟ أي «ذاتًا» ننسب إليها «صفات» من قبيل «العربي» أو «اليوناني» أو «الألماني»؟ من المعلوم أنّ «القومية» هي اختراع سياسي حديث نشأ في القرن الثامن عشر يهدف إلى «شرعنة» وجود «الدولة-الأمة»؛ حيث يصبح مفهوم «الشعب» نواة أخلاقية للانتماء، وهو مسار أدّى إلى بناء مقولة «الأمة» التي تجمّع خصائص ثقافية من قبيل «اللغة» و«الدين» و«التاريخ» و«العرق»، إلخ … هذا السياق «الرومانسي» هو الذي اخترع تسميات من قبيل «المثالية الألمانية» (ظهرت العبارة في عنوان مقالة تُنسب إلى هيغل وشيلنغ وهلدرلين جميعا، حوالي 1795 عنوانها «البرنامج الأقدم للمثالية الألمانية»). وهو السياق الذي يمنح عبارة من نوع «الفكر العربي» دلالتها.

ولكن من قال إنّ «الشعوب» تفكّر؟ وخاصة: من قال إنّ «الفكر» يحمل توقيع هوويًّا أو قوميًّا؟ وأكثر من ذلك: إلى أيّ مدى يمكننا «جوهرة» الفكر والتعامل معه بوصفه «ذاتًا» يمكن عندئذ أن تحتمل استعارة كانط عن «السبات»؟

نقول في العربية الكلاسيكية: الفكر هو إعمال النظر أو العقل أو الخاطر في الشيء. وفكّر في الشيء تأمّله وتفكّر فيه. بل نحن نعثر على مقابل للمعنى اللاتيني للفظة «pensare» الذي يعني في أصله «وزن» الشيء بالميزان، وذلك في كتاب «البحر المحيط في أصول الفقه» للزركشي حين عرّف مفهوم «القياس». حيث جاء ما يلي:«قِيس الرأيُ، وامرؤ القيس، لاعتبار الأمور برأيه» ثمّ :«…فيقول المفكّر: قست الشيء إذا تفكّر فيه».

لكنّ هذا المعنى ربما كان مشتقًّا ومتأخّرًا وليس هو بالمعنى الأصلي. مثلًا: نعثر على عبارة عربية نراها واعدة هنا، ألا وهي: «مالي في الأمر فكرٌ» أي ما لي فيه «حاجة ولا مبالاة» أو «لا أحتاج إليه» أو «لا أبالي به». ما يثير الانتباه هنا هو أنّ «الفكر» ليس جوهرًا أو ذاتًا حتى تدخل في سبات دغمائي أو سردي. الفكر حاجة تنبثق نتيجة شكل من الحياة. ومن هنا هي تدعونا إلى نحو من «المبالاة» أو العناية بأنفسنا.

إنّ عبارة «الفكر العربي» قد كرّسها مثلا محمد أركون بعنوان كتاب تحت هذا الاسم نشره بالفرنسية سنة 1975، والحال أنّه يخلط خلطًا حادًّا وشاملًا بين «الفكر العربي» وما يسمّيه «العقل الإسلامي» بحيث هو لا يرى أيّ معنى لمقولة «الفكر» خارج ما قيل تحت عنوان «الإسلام»[24]. وفي آخر التحليل هي عبارة «غربية» أو حتى «كولونيالية» تريد أن تصنّف نوعًا من «الثقافة» المنسوبة إلى نوع من المجتمعات وكأنّها تقع خارج أفق التفكير بما هو كذلك، أي التفكير كما يمارسه الفلاسفة والعلماء في الغرب من أفلاطون إلى هيدغر. في واقع الأمر لا يوجد عقل إسلامي ولا عقل عربي لأنّ العقل مفهوم والتفكير بواسطة المفاهيم ليس عملًا قوميًا ولا هاجسًا هوويًا. ولذلك فإنّ المكسب الوحيد لمشاريع من نوع «نقد العقل العربي» أو «نقد العقل الإسلامي» هو مكسب «ديكولونيالي» عرضي، تفاوضي أو نقدي، لكنّه مؤقّت ونضالي، نعني موقفًا يعمل على تنسيب هيمنة إبستمولوجيا الشمال وعلى التحرّر من ادّعاءاتها ومقولاتها. لكنّ ذلك لا يعني أنّ علينا أن «نجوهر» أو «نذوّت» الفكر «غير الغربي» على أساس أنّه يملك «هوية» خارج أفق الإنسانية الحالية كما تشكّلت ملامحها الكبرى في الأديان والعلوم والفلسفة والفنون وأشكال الحكم ونظريات الحب منذ الإنسان النيوليثي.

من هنا نستطيع أن نعيد النظر في الأحكام المسبقة ضد الترجمات المعاصرة وكأنّها تأتي كي تسدّ ما عجز عنه الفكر العربي. يبدو لنا أنّه لا يوجد فرق جوهري بين من يفكّر ومن يترجم. في الحالتين نحن نشتغل على استعمال تداولي للخطاب أو للغة بعامة في نطاق نوع معيّن من سياسة الحقيقة داخل ثقافة ما. ثمّ نحن نمارس هذا النشاط في لحظة تاريخية ذات توقيف عال، ألا وهي اللحظة «الديكولونيالية»: اللحظة التي أخذت فيها الثقافات تستعيد دورها المحلي وتراجع الرواسب الكولونيالية في نمط تفكيرها.

وبما أنّ الاستعمار ليس عنفًا عسكريًا فقط بل هو عملية هيمنة لغوية وأخلاقية ومفهومية ناعمة فإنّ جميع الشعوب التي خضعت للاستعمار قد صارت تتكلّم «لغات» مجروحة من الداخل، مشوّهة إلى حدّ ما نحويًّا واستعاريًّا، وبالتالي فإنّ من يكتب بالعربية اليوم هو كمن يترجم، نعني أنّه يكتب في لغة خضعت لهيمنة لغوية «غربية»، وليس ذلك عن طريق الترجمة كعمل تقني، بل عن طريق شكل الحياة الكولونيالية التي مازالت مستمرّة عبر التبعية المفهومية والمقولاتية، والتي هي شيء مختلف عن مجرّد تكلّم اللغات الأجنبية. إنّ الاستعمار لم يخضع إرادة الشعوب فقط بل أخضع إرادة اللغات وجرّدت من براءتها الخطابية ما قبل الكولونيالية، بلا رجعة. ولذلك فإنّ تحرير الشعوب لن يكتمل من دون تحرير اللغات.  نحن ندرّس بواسطة لغة عربية هي في أغلب مقولاتها واستعاراتها النظرية لغة مترجمة وليست لغة أصلية. لقد فقدنا العربية الكلاسيكية بشكل كامل. وعلينا أن نعيد تملّك هذه اللغة في سياقات لا تزال خاضعة للغات الغربية ومقولاتها.

إنّ عبارة «أنا أفكّر إذن أنا موجود» متى كتبناها بالعربية الكلاسيكية هي عبارة لا معنى لها تمامًا. وعبثا يحاول المترجمون تبيئة هذا «المفهوم» وتعريبه. إنّه يقع دوما خارج حواسّنا القديمة. ولا نعني بذلك أنّها ترجمة غير دقيقة أو غير أمينة. بل إنّها اشتغال على حدث مفهومي لم يقع بعدُ بالنسبة إلينا. نحن لا نعتبر بعد أنّ فعل «التفكير» هو وحده المبدأ الميتافيزيقي الذي يشكّل يقيننا حول «أنفسنا» أو حول «الله» أو حول «العالم». لا تزال هناك سرديات قوية وعنيدة تفتكّ من عقولنا طريقة تأسيس الحقيقة. إنّ «الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان» الذي يزعم الغربيون أنّه حدث لديهم، في القرن السابع عشر مع ديكارت، ربما هو لم يصبح «حاجة» فلسفية أو روحية أو أخلاقية بالنسبة إلينا. نحن نواصل «المبالاة» بشيء آخر.

لقد تساءلت منذ عشرين سنة : «هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟». وكان ظنّي عندئذ أنّنا نحتاج إلى هذا النوع من الإنجاز. لكنّني اليوم أقل تفاؤلًا. وليس ذلك لأنّ «الفكر العربي» دخل في سبات، بل لأنّ مطالب التفكير تغيّرت بشكل مرعب. وذلك لسبب ضخم: ألا وهو أنّ «الغرب» نفسه لم يعد يشكّل «السماء الأخيرة» لمن يفكّر. إنّ مرحلة «ما بعد الغرب» قد بدأت فعلًا. ومنذ «فلسفة النوابت» كنت قد أستشعرت مهمّة أكبر من مجرّد «نقد العقل الهووي» الذي أشرت إليه في كتاب «الهوية والزمان». ما كنت أستشرفه هو بناء «حقول مفهومية للمقاومة» من موقع محدّد هو ما سمّيته عندئذ «جنوب الحداثة»، وذلك منذ مقالتي «التفكير مع هيغل ضد هيغل» المنشورة سنة 1991، وهو موقع صار يسمّى في الغرب باسم «الخيار الديكولونيالي».

– سّرنا الحديث معك دكتور فتحي، فقد كان تطوافًا ممتعًا في المفاهيم الفلسفية وتاريخها وتأثيلها. أود أن أختم الحوار بسؤالك عما تعكف عليه الآن ترجمة وتأليفًا؟

لقد فرغت منذ فترة من ترجمة كتاب جوديث بتلر «قلق الجندر»، وها أنا الآن أعكف على كتابة مقدّمة لها. وكان دأبي دوما أن أعمل على نقل أمّهات الكتب التي تخلق عالمًا جديدًا في لغة ما، وليس مجرّد نقل كتب ثانوية هي أقرب إلى العلف الإبستيمولوجي منها إلى النظريات المؤسّسة في مجالها. وقد فعلت ذلك مع هيدغر وهابرماس وكانط ونيتشه من قبل. لا أترجم إلاّ ما أراه جزءًا من ماهية العصر، يقبض على حقيقة مجتمع أو دين أو جيل أو جماعة كبيرة ويحوّلها إلى ورشة تفكير. وقد وجدت في كتاب جوديث بتلر الذي ترجمته تمرينًا رائعًا على إعادة طرح القضايا النسوية على نحو وضع مقولة «النساء» نفسها موضع سؤال، بحيث أنّ تحرير «النساء» من الهرميّة المعيارية التي تأسّست على الفرق بين «الجنسين» من الذكر والأنثى، وتجسّدت في «النظام الأبوي» وشبكة «السلطة» الجنسية والسياسية التي تمخّضت عنه، هو معركة رمزية تظلّ عرضيّة أو معطوبة طالما لم يتمّ تحرير «الذات» التي يُفترض أنّها موجودة خلف هذه التسمية. إنّ «هوية» الجندر هي عبارة عن «فعل إنجازي» وليست «جوهرًا»، بيولوجيًا أو ماهية اجتماعية مستقرّة بلا رجعة. «فعل إنجازي» أي شيء لا «نكونه» بل «نفعله». شيء لا «يقع» بل دور «نؤدّيه». وهو لا يبدو لنا أمرًا «طبيعيًّا» إلاّ لأنّه تماهى مع البنية «النحوية» التي نعبّر بها عن أنفسنا.

لكنّ ورشة الترجمة عندي مفتوحة دائمًا انطلاقًا من موقف فلسفي أساسي لديّ، ألا وهو أنّ لغتنا القديمة قد عادت إلى المعاجم وانسحبت متوارية عن شعورنا بأنفسنا الجديدة. لقد تركتنا وحدنا بمعنى ما. ولذلك كل ما نقوله اليوم، قصدنا ذلك أم لم نقصد، هو محض «ترجمة» حتى ولو واصلنا استعمال الفصحى «دون تكلّمها» من الداخل أو بالأصالة. نحن صرنا فجأة يتامى لغويين نواصل استخدام لغتنا لكن في غيابها. ولغة الغياب هذه هي لغة الترجمة. صارت لغتنا تقنية غياب عن عالم صار لا يكلّمنا إلاّ عرضًا، لقد تغيّر «نحو» العالم وفرض علينا أن «نترجم»، أي أن نستعمل ألفاظًا لا تقول ما نتكلّم عنه إلاّ «تجوّزًا». ربما ما فقدناه هو قدرة لغتنا القديمة على «المجاز»، وصارت ثروتنا الوحيدة هي لغة «التجوّز»، نعني لغة تستلف استعارات جديدة من اللغات الغربية حتى لا تموت اختناقًا من العجز عن قول كينونة تقع خارج أفقها.

لكنّ هذا أمر واقع ربما في اللغات غير الغربية جميعًا، ولذلك هو لا يدعو إلى الحزن. ذلك أنّ العلاج المناسب ليس شيئًا آخر سوى إعادة التفكير في الترجمة: فهي لم تعد تبادلاً في الجمل بين لسانين متكافئين، بل صارت معركة غير متكافئة بين لغات مهيمنة «تتكلّم» نحوَ العالم كما نطقت به الحداثة الكولونيالية وبين لغات مهيمن عليها «تقول» عالمًا بمقولات صنعتها «تجوّزًا» للغرض، ولم تخلقها من عند نفسها. طبعًا، كان الخيار السيّء هو: بين أن نواصل تكلّم لغتنا القديمة وهي تتحدث عن عالم قد انسحب من أفقنا منذ زمن طويل، وبالتالي صار مجرّد حنين «عنيف» إلى هويات لم تعد قابلة للسكن؛ وبين أن نحاول صناعة لغة جديدة عن طريق الترجمة. ومن المحيط إلى الخليج كل الناطقين بالعربية الحالية – الفصحى الحديثة واللهجات المرافقة- هم «مترجمون» ميدانيون، حيث فقدوا الصلة باللغة القديمة وتحوّل الكلام عندهم إلى «فعل إنجازي»، أي إلى «أداء» دور ما في مسرحية العالم الحديث «الإجبارية» بقدر المستطاع. وأنا أدرّب طلبتي على «تكلّم» لغة العصر داخل لغتنا، وليس الاكتفاء بمجرّد «قوله» من خارج تجاربه أو أفعاله. لا يكفي أن «نقول» ما يقوله الغربيون بلغتنا، فهذا سوف يؤجّل طويلًا معركتنا مع أنفسنا، بل علينا أن نتمرّن يوميّا على «تكلّم» لغة العصر بوصفها إنجازًا متعدد اللغات، ويمكننا أن نشارك به بوصفنا «مترجمين أساسيين». ليس ثمة شخص اليوم لا يسكن أكثر من لغة. حتى الإنجليزي الذي لا يجد فائدة في تعلّم لغة أخرى.

وبهذا المعنى أنا لا أميّز حقّا بين «الترجمة» و«التأليف». إنّ الجزء الأعظم ممّا يسمّيه أصحابه «تأليفًا» هو في واقعة الأمر تمارين عرضيّة وغير مباشرة في «الترجمة الإنجازية» التي أشرت إليها. ومن النادر جدًّا أن نعثر على «نص محض»، أي مكتوب بالعربية دون أيّ استنساخ من لغة مترجم عنها. يبدو لي أنّ العرب المعاصرين لم يبدؤوا بعد في «التأليف» بالمعنى الجذري. هم مترجمون فقط، ولا فرق إن كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ونعني بالتأليف الجذري القدرة على صناعة حدث روحي أو فلسفي أو شعري أو سياسي أو علمي لا يدين للمدوّنة «الغربية» بأيّ نواة مفهوميّة. وبما أنّ هذا وضع قاهر فإنّه لم يبق لنا سوى أن ندفع براديغم الترجمة إلى أقصاه: أن نصبح «مترجمين جيّدين» قدر ما يتطلّبه ذلك من الوقت الميتافيزيقي. «المترجم الجيّد» ليس هو من ينقل الكتب من لغة أخرى بشكل أمين -فهذه مجرّد وظيفة إجرائية تجري في ظروف عادية بين لغتين متساوتين- بل هو من ينجح في «تكلّم» لغة العصر دون لكنة كبيرة. ليس المطلوب أن «يقول» العصر كما قالته الإنجليزية -اللغة الكولونيالية المهيمنة والتي تدّعي الكونية- بل كما يمكن لأيّة لغة غير غربية أن «تنطق» به نطقًا «حيوانيًّا» أصيلًا. وهو فعل «حيواني» لأنّه مجرّد احتمال لشكل الحياة كما نعيشها، وليس كما نصفها بواسطة لغة قديمة انسحب عالمها. وهذا يعني أنّ الترجمة فعل إنجازي: «جسدي» و«جندري» و«جنسي» و«سياسي» و«اقتصادي» و«تقني»، إلخ … وهي كلّها «أفعال» حيويّة لا تحتمل التأجيل إلى جيل آخر.

وفي الوقت الراهن أنا أعكف على تجميع حدوسي وأسئلتي باتجاه تأليف كتاب ينقل الفلسفة خارج دروسها التي تعوّدت عليها في جامعاتنا. وموضوع هذا الكتاب سوف يكون «الفقر». إنّ هدفي هو إحراج «الفلاسفة» من زاوية السؤال عن الفقر بوصفه على الأرجح هو البؤرة الأنطولوجية المتردّمة تحت كل مقولاتهم عن «اللاوجود» أو «العدم» أو «الشر» أو «القلق» أو «الذنب» أو «الخطأ» أو «العدل» أو «السلطة» … إلخ. ما يقضّ مضجع الإنسانية في كل العصور ليس «الحقيقة» بل «البقاء»، وهذا يعني أنّ خلود «الجسم» وليس «النفس» هو بؤرة الإشكال. لم تكن «النفس» غير تقنية بقاء نسينا الاستعارة التي اشتقّت منها.

وإنّ رفع الفقر إلى رتبة المقولة الميتافيزيقية من شأنه أن يلقي ضوءًا جديدًا -مثلًا- على إعلان نيتشه لحدث «موت الإله». فجأة يبدو لنا أنّ نيتشه قد أعلن عن حزنه وليس عن تحرّره. يبدو نيتشه لاهوتيًّا حزينًا. ولذلك لا زال يطمع في تجديد العلاقة مع الإله الكتابي والتحوّل إلى «نبيّ» ما بعد مسيحي. إنّ نيتشه لم ير مكان الجريمة: الفقر المحض بوصفه بنية كينونة، وليس حالة بؤس عارض. وبهذا المعنى فإنّ إعلان موت الإله قد كان شعارًا حزينًا، وليس انتصارًا أخلاقيًا على أحد. إنّ الإله التوحيدي لا يموت لسبب بسيط، ألا وهو استمرار وجود أولئك الذين اخترعوه: الفقراء. إنّ الفقر هو الأفق الروحي لكل أنواع استدعاء الآلهة إلى الأرض. إنّ الفقر هو ما يجعل الإله الكتابي في صحّة ميتافيزيقية جيّدة.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

[1] – G. W. FR. Hegel, Phänomenologie des Geistes (Hamburg: Felix Meiner Verlag, 2011), p. 13

[2] – Ibid. p.-14-15

[3] – فتحي المسكيني، “فلسفة النوابت” (بيروت: دار الطليعة، 1997)، ص 32.

[4] – ف. المسكيني، “”هابرماز أمام هايدغر أو كيف الكلام على الفلسفة؟”، ضمن: الفكر العربي المعاصر، العدد 84-85 (1991)، ص21-25.

[5] – ف. المسكيني، “جبران والحداثة أو النسخة العربية من العدمية”، ضمن: الفكر العربي المعاصر، العدد 88-89 (1991)، ص 120-128.

[6] – Aristotle, Metaphysics, A, 6, 986b 4-7; M, 4, 1078b 27-29 ; M, 9, 1086 2-4.

[7] – Ibid. Z, 13, 1038b 35

[8] – Cf. Georges Mailhos, « De la construction de l’uiversel », in : Horizons Maghrébins- Le droit à la mémoire/ Année 2007/ 56/ p. 162.

  1. Ignace d’Antioche, Lettre aux Smyrniotes, VIII, 2.

[10] – Hegel, Grundlinien der Philosophie des Rechts (1821), Verlag von Felix Meiner, Leipzig 1911, p. 15: „Das was ist zu begreifen, ist die Aufgabe der Philosophie, denn das, was ist, ist die Vernunft. Was das Individuum betrifft, so ist ohnehin jedes ein Sohn seiner Zeit; so ist auch die Philosophie, ihre Zeit in Gedanken erlaßt.“

[11] – Emmanuel Levinas, Totalité et infini. Essai sur l’extériorité (Paris : Le Livre de Poche, 1990), p. 327.

[12] – Ibid. p. 329.

[13] – Charles Taylor, Sources of the Self: The Making of the Modern Identity (Cambridge: Harvard University Press, 1989).

[14] – حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب (القاهرة: الدار الفنية للنشر والتوزيع، 1991).

[15] – نفسه، ص 22

[16] – نفسه، ص 23

[17] – نفسه، ص 25

[18] – G. Ryle, “Categories”, in: Proceedings of the Aristotelian Society, New Series, Vol. 38 (1937 – 1938), pp. 189.

[19] – G. Ryle,  The Concept of Mind (London: Hutchinson University Library, 1949), p. 16.

[20] – مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، المعاهدات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان ( نيويورك وجنيف: الأمم المتحدة، 2006)، ص 5.

[21] – A. Badiou, Que pense le poème ? (Paris : Nous, 2016), p. 29 sqq.

[22] – M. Heidegger, Was heißt Denken (), p. 210.

[23] – Ibib. P. 210 : « Daher bedeuten noos und noûs ursprünglich nicht das, was sich später als die Vernunft herausbildet;  Noos  bedeutet das Sinnen, das etwas im Sinn hat und sich zu Herzen nimmt.“

[24] – M. Arkoun, La Pensée arabe (Paris : PUF, 1975).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى