مقالات

اللّغة بوصفها واقعًا: قراءةٌ عامّةٌ في فلسفة لورنزو فالاّ

جوزف بوشرعه

عرفت النّهضة الإيطاليّة ثورةً في مجالات العلوم كلّها. فقد استفاد النّهضويّون من الكتب الكلاسيكيّة التي أُعيد اكتشافها في الأديرة أو التي أحضرها معهم الرّوم بعد سقوط عاصمتهم القسطنطينيّة، فدرسوا أسسها، وفكّوا أسرارها، ثمّ قلّدوها محاكاةً لا تقليدًا نسخًا. وظهرت تباعًا كتبٌ علميّةٌ ونقديّةٌ إمّا تلخّص الموروث، إمّا تعيد صياغته في قالبٍ مسيحيٍّ حديثٍ يُحاكي ضرورات العصر، وإمّا تنقده أو حتّى تنقضه. ولكنْ ثمّة ثورةٌ في مجال فلسفة اللّغة لم يتنبّه إليها معاصرو النّهضة، ويرفضها بعض الدّارسون، والتي تتمثّل بكتابات لورنزو فالاّ «Lorenzo Valla» (1406-1457) اللاّهوتيّ والفيلسوف وعالم الفقه الإيطاليّ الذي عبّد في أعماله الفلسفيّة أوّل دربٍ في مسار نقد الأرسطوطاليسيّة، حيث استطاع بسبب اطّلاعه الواسع على الثّقافة اللاّتينيّة أنْ يضعَ نقدًا للفكر الاسكولائيّ (أو المدرسيّ) منطلقًا من الاستعمال اليوميّ للّغة، وهو القائل: «يا معشر المشّائينَ، يا محوّرو المعاني الطّبيعيّة» (Valla, 2012, V. 1, p. 198-199). والحقّ أنّ فالاّ لم يكن أوّل ناقدٍ للمنطق الاسكولائيّ فقد سبقه إنسانويّون في نقدهم أمثال بيار باولو فيرغريو «P. P. Vergerio» وليوناردو بروني «Leonardo Bruni» وغيرهما (2000: Jardine, p. 176-178). لقد قام نقد الإنسانويّين عمومًا على تفضيل البلاغيّين الرّومان على المناطقة الأرسطوطاليسيّين الذين لم يستندوا إلى أعمال أرسطو الأصيلة واكتفوا بالتّرجمات والشّروحات القروسطيّة (وأوّلها بُوِتيوس «Boethius» وصولاً إلى كتابات توما الأكوينيّ «Thomas Aquinas»)، لكنّهم لم يتجرّؤوا على استبدال هذا العلم، بل قلّصوا مكانته في المناهج التّعليميّة الإنسانويّة. وهنا يأتي لورنزو فالاّ الذي استطاع أنْ يطرح نظامًا بديلاً ومتكاملاً عن المنطق، وفي سياق ذلك وضع ملاحظاتٍ حول طبيعة الواقع واللّغة (أي كون اللّغة واقعًا قائمًا في ذاته)، وأشار إلى قوّة اللّغة في تحديد أنماط تفكير الأذهان، وسبق مور «G. E. Moore» وراسل «B. Russell» في الاختزال الأنطولوجيّ ومقارعة غلوّ الميتافيزيقا، كما سبق فلسفة فيتغنشتاين الثّانية «L. Wittgenstein» في اعتبار المعنى قائمًا في الاستعمال…. ولكنْ هل كان فالاّ حقًّا رجلاً عبقريًّا اكتشف هذه البصائر كلّها التي أخفق معاصروه والمؤرّخون اللاّحقون في التّنبّه لها، أم أنّ هذه الطّروحات ليست سوى نتاج تأويلٍ معاصرٍ لأعماله يسعى إلى إسقاط مفاهيمَ تمّ تطويرها في القرنينِ التّاسع عشر والعشرين؟

النّهضة واللّغة

لم يهتمَّ رجال النّهضة باللّغة بوصفها موضوعًا قائمًا في ذاته بل درسوها كأداةٍ للتّعبير السّلس والطّبيعيّ الخالي من التّكلّف أو الرّتوبة التي يعثر عليها القارئ في الكتابات اللاّتينيّة لأدباء القرون الوسطى. وتعدّت هذه الدّراسة إلى مرحلة النّقد، أي المراجعة الكاملة للأعمال اللاّهوتيّة والفلسفيّة القروسطيّة ونقدها انطلاقًا من الاستعمال العمليّ للّسان اللاّتينيّ. وهنا يرى بعض المتخصّصين في فلسفة النّهضة، أمثال لودي نوتا «Lodi Nauta» (See: Nauta: 2009)، أنّ أولئك النّهضويّين تعدّوا المراجعة السّطحيّة للاتينيّة الاسكولائيّين وبلغوا مرحلة النّقد الفلسفيّ لطروحاتهم انطلاقًا من الاستعمال العاديّ الشّائع للّاتينيّة «consuetudo». إنّما يعتبر البعض الآخر أنّ دراسة اللّغة التي أولاها النّهضويّون اهتمامًا خاصًّا لم تتعدَّ حدود الأسلوب والتّعبير، فاعترضوا على محاولات الرّبط بين اللّغة والمشكلات الفلسفيّة، وتحديدًا في مراجعتهم حالة لورنزو فالاّ. فقد رأى هؤلاء، ومن بينهم برتراند راسل «B. Russell» في تاريخه (See: Russell: 2004)، أنّ افتراض فلسفةٍ للّغة عند أعلام النّهضة الإيطاليّة الذين لم يكونوا سوى خطباءَ، وشعراءَ، ونقّادٍ، ومترجمينَ، وعلماء فقهٍ… هو افتراضٌ لا صحّةَ له، بل محاولةٌ لاتاريخيّةٌ لإلحاق أفكار مدرسةٍ فلسفيّةٍ نشأت في أواخر القرن التّاسع عشر، وطبعت نفسها في العالم الأنكلو-ساكسونيّ بذهنيّة النّخبة المثقّفة الإيطاليّة ما بين القرن الرّابع عشر والسّادس عشر.

وممّا لا شكَّ فيه أنّ اكتشاف مخطوطات الأعمال الكلاسيكيّة «الوثنيّة» اللاّتينيّة قد أدّى إلى تكوين هذا الاهتمام عند الكتّاب الإنسانويّين باللّغة وأساليب التّعبير الصّافية والواضحة والسّلسة. فمن يكون أفضل مثالٍ عن الاستعمال العاديّ للّاتينيّة لمحاكاته سوى شيشرون «Cicero» وسينيكا «Seneca» في النّثر، ووِرغليوس «Vergilius» وقطلّوس «Catullus» في الشّعر، وغيرهم. والحقّ أنّ مسألة الاختيار بين تلك الأساليب النّثريّة قد أشعل إحدى الجدالات الكبرى في النّهضة (Dellaneva & Duvick, 2007).

لقد كان اهتمام الإنسانويّين باللّسان اللاّتينيّ وتراكيبه (ومن ضمنها القضايا والمقاييس المنطقيّة) اهتمامًا عمليًّا، إذ ارتبطت اللّغة بحسن استخدامها في المحاكم والخطابة. ورأى أولئك الإنسانويّون أنّ العائق أمام تحقيق أيّ تقدّمٍ إصلاحيٍّ في هذا المجال متمثّلٌ حصرًا بالاسكولائيّة المتسلّطة فكرًا وأسلوبًا، فبروا أقلامهم النّقديّة ليشرعوا في تفحّص مكانتها وشذب مساوئها في المنطق واللّغة.

الاحتفال بعيد ميلاد أفلاطون في فيلاّ لورنزو دي ميدتشي في كاريغي – لوحة بريشة لويدجي موسّيني «Luigi Mussini» (1813-1888)

تحطيم قلاع المنطق الاسكولائيّ

لقد هيمن الفكر الاسكولائيّ على كتب المنطق في الوقت نفسه الذي سيطر فيه النّهضويّون الإنسانويّون على مجال علم الأخلاق، فتعايشت المدرستان الفلسفيّتان مع بعضهما في الجامعات، وحدث ما يشبه التّنافس بينهما وصل إلى العداء أحيانًا (Seigel, 1968, p. 226-229). وكان الطّلبة يدرسون المنطق في كتب بطرس الإسبانيّ «Peter of Spain»، وبولس البُندقيّاني «Paul of Venice»، وغيرهما من أعلام الاسكولائيّة. وعلى الرَّغم من الانتقادات والملاحظات التي كان يخطّها الكتّاب الإنسانويّون في رسائلهم وأعمالهم فقد بقي تدريس المنطق قائمًا على الكتب الدّراسيّة القروسطيّة وعلى الأورغانون الأرسطوطاليسيّ (مترجمًا)، وربّما هذا ما دفع بلورنزو فالاّ إلى وضع كتاب رونق اللّسان اللاّتينيّ «Elegentiae Linguae Latinae» (Valla, 1999) حيث هاجم فيه الاستخدام الهجين للّسان اللاّتينيّ على أيدي الاسكولائيّين وتشويه التّعبير الطبيعيّ الذي يعثر المرء عليه في كتبهم (Valla: 2012, V. 1, Copenhaver & Nauta, intro. p. viii-ix). ولكنْ ما المقصود بتشويه التّعبير الطبيعيّ؟ أي ما هي مشكلات الاسكولائيّة التي أثارت هذه الاعتراضات عليها؟

خلافًا لغايات الإنسانويّين التّوضيحيّة/التّربويّة لم يهدف الاسكولائيّون في منطقهم إلى تعليم النّاشئة أصول هذا العلم فحسب بل سعوا أيضًا إلى الإحاطة تفصيلاً بجوانب المنطق الصّوريّ كلّها، ولو سقطوا في التّركيب المعقّد الذي بلغ حدّ الإبهام. إذ لم يطوّر أولئك الاسكولائيّون منطقًا يعتمدون فيه على الرّموز المنطقيّة بدلاً من وصف القضايا باللاّتينيّة (Ashworth, 1974, p. 8-9)، وهذا ما أدّى إلى تكوين صورة «محوّرو المعاني الطّبيعيّة» «depravatrix nativarum significationem» (Valla: 2012, V. 1, p. 198) في ذهنيّة الإنسانويّين. سعى الاسكولائيّون من خلال المنطق إلى فهم البنى اللّغويّة، ومحتويات الألفاظ وارتباطها بالعالم… ولكنّهم أخفقوا في استعمال لسانٍ لاتينيٍّ سليمٍ فعرّضوا عملهم بكامله لسخريّة واستهزاء المتأخّرين الذين اعتبروها لغةً متخيّلةً ومتأصّلةً في التّجريد الفلسفيّ، وبعيدةً عن الواقع والاستعمال الطّبيعيّ للّسان، ذاك الاستعمال العاديّ الذي نجده في أعمال كبار المؤلّفين اللاّتين (2007: Nauta, p. 194-195)، أي يكمن معيار الاستعمال الطّبيعيّ للّسان اللاّتينيّ في محاكاة الألى، والابتعاد عن “بربريّة” اللاّتينيّة القروسطيّة (Waswo: 1987, p. 88-99).

لقد أراد فالاّ كغيره من الإنسانويّين تعليم المنطق بلغةٍ بسيطةٍ على نحوٍ يشجّع وضوح التّفكير، فاصطدم بما اعتبره عقبةً لا بدّ من تجاوزها، وهي المنطق الأرسطوطاليسيّ. والحقّ أنّ العديد من إنسانويّي النّهضة قد هزأوا من مكانة المنطق وعدم جدوى تدريسه، كمثل فرانشسكو بتراركا «Francesco Petrarca» الذي استفاد من مخطوطات شيشرون الخطيب ليقدّم علم البلاغة على الجدل، إذ كتب في محاورته المتخيّلة مع القدّيس أوغسطينوس:

Ista quidem dyaleticorum garrulitas nullum finem habitura, et diffinitionum huiuscemodi compendiis scatet et immortalium litigiorum materia gloriatur: plerunque autem, quid ipsum vere sit quod loquuntur, ignorant.” (Petrarca, 2016, p. 40-41)

«لا نهايةَ لثرثرة مدرّسي الجدل الذين يبقبقون أشباه هذه التّعريفات المقتضبة، ويفرحون في خوض مواضيعَ دائمٌ خلافها؛ إنّما معظمهم بما ينطق به جاهلٌ.»

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لفظة الجدل «Dialectica» تعني في هذا السّياق المنطق «Logica»، إذ إنّ اللّفظتين مترادفتان، وغالبًا ما استخدم كتّاب تلك المرحلة لفظة الجدل للإشارة إلى المنطق. وما لبث أنْ طغى استعمال مصطلح «Logica» للإشارة إلى هذا العلم، بينما ارتبط مصطلح «Dialectica» بجزءٍ محدودٍ منه، أي دلّ على نوعٍ من المحاججة المنطقيّة، وهي الدّلالة التي يلحقها الاستعمال الحديث والمعاصر بهذه اللّفظة (Ashworth, 1974, p. 22).

فرانشيسكو بتراركا – لوحة جداريّة بريشة أندريا ديل كاستَنيو (1419-1457)

وعلى هذا النّحو سار الإنسانويّون في نقدهم، فلم يضعوا طرحًا جديدًا للمنطق، كما لم يحاولوا صياغة ما يجب أنْ يكون عليه هذا العلم، إلى أنْ وضع فالاّ كتابه المحوريّ «المجادلات الجدليّة» «Dialectical Disputations» الذي نشر نسخته الأولى سنة 1439 ليعود ويعدّلها مرّةً ثانيةً في نسخة سنة 1448 وثالثةً سنة 1452 (Celenza: 2018, p. 170)، حيث يمثّل العمل قمّة التوجّه الإنسانويّ في الدّفاع عن مكانة البلاغة وعلمها. وعمومًا إنّ الكتاب نقدٌ للغة الاسكولائيّينَ (أي تراكيبهم ومصطلحاتهم)، وقد نال شهرةً واسعةً، ونُشر مرارًا تحت عناوينَ مختلفةً (Perreiah: 2014, p. 43):

– Repastinatio Dialectice et Philosophie.

– Reconcinnatio totius dialecticae et fundamentorum universalis philosophiae.

– Retractio totius dialecticis cum fundamentis universae philosophiae.

يتألّف العمل من ثلاثة كتبٍ (أو أجزاء)، حيث يستهلّ فالاّ كلامه بنقاشٍ طريفٍ حول لفظة الفيلسوف «Philosophus» يعكس الرّوح الموسوعاتيّة لأدب النّهضة، ثمّ ينتقل بحذاقةٍ إلى مقارعة مواقف «المشّائيّين المعاصرين» «recentes Peripatetici» نازعًا عنهم احتكار الحكمة وحصرها بالمعلّم الأوّل (Valla: 2012, V. 1, p. 5). يناقش الكتاب الأوّل الفلسفة الاسكولائيّة والأرسطوطاليسيّة عمومًا وقيمة الأصول الميتافيزيقيّة للمنطق الاسكولائيّ تحديدًا، حيث يتطرّق إلى المقولات العشر عند أرسطوطاليس، والكلّيّات السّتّ (وهي «ens»، «aliquid»، «res»، «unum»، «verum»، «bonum»)، وغيرها من المفاهيم المحوريّة (كالخير). ويعتبر فالاّ أنّ هذه المفاهيم التي نستوعب بوساطتها العالم هي مفاهيمُ تعقّد عمليّة الفهم المبسّط بدلاً من توضيحها… أي إنّ الاستخدام الغريب للّاتينيّة وتحميلها تراكيبَ غير مألوفةٍ لدى هذا اللّسان قد أنتج تعقيدًا وصل حدّ الغموض. خذ مثلاً:

– Socrates currit

– Socrates est currens

– (سقراط يركض)

– (سقراط هو راكضٌ)

يفرض استخدام الرّابطة «copula» (الضّمير المنفصل في العربيّة) على الكاتب تحوير التّركيب المألوف والطّبيعيّ للجملة اللاّتينيّة، حيث يلجأ إلى تحويل فعلها المضارع إلى اسم فاعلٍ (أي ما يعادل «present active participle» في النّحو اللاّتينيّ) ليلبّي حاجة التّركيب النّظريّ للقياس. والحقّ أنّ هذه الظّاهرة لم تكن محصورةً عند الاسكولائيّين، إذ نجدها عند أرسطوطاليس الذي استخدم لغةً رمزيّةً (أحرف يونانيّةً) إلى جانب اعتماده على لسانه الإغريقيّ في كتاباته المنطقيّة (وتحديدًا في كتاب القياس أو الأنالوطيقا الأولى)، لكنّ يونانيّته لم تكن يونانيّة السّاحات العامّة بل كانت يونانيّةً مصطنعةً لتلبّي حاجة التّنظير الفلسفيّ (Valla: 2012, V.1, Copenhaver & Nauta, intro. p. xii-xiii). والأمر نفسه ينطبق على المناطقة اللاّتين القروسطيّين الذين طوّعوا لسانهم ليناسب الفلسفة، فقلّلوا اعتمادهم على اللّغة الصّوريّة وأكثروا من استنادهم على اللّغة العاديّة (أي التّراكيب اللّغويّة لا الرّموز)، فتحوّل المنطق من علمٍ واضحةٌ مبادئه إلى مادّةٍ مبهمةٍ في ذاتها.

أمّا الكتاب الثّاني فيفرده فالاّ لتحليل القضايا والبرهان. بينما يعالج الكتاب الثّالث أشكال المحاججة المختلفة (كالاستقراء)، بالإضافة إلى أنواع القياس، حيث يلجأ إلى «بلغنة» «rhetoricization» المنطق (2007: Nauta, p. 202). إذ يرفض فالاّ التّعريف التّقليديّ للقياس بأنّه خطابٌ «oratio» يتألّف من ثلاث قضايا «propositiones» (المقدّمة الكبرى «maior»، المقدّمة الصُّغرى «minor»، والنّتيجة «conclusio») ويستعيض عنه بالتّعريف الذي قدّمه الرّومانيّ قوينطليانوس «Quintilianus»، وهو أنّ القياس بيانٌ «elocutio» من جملٍ «enunciationes» ذو ثلاثة أقسامٍ: القضيّة «propositio»، المزعم «assumptio»، والنّتيجة «conclusio» (Perreiah: 2014, p. 53). وهذا التّعريف يعكس البعد العمليّ الذي هدف إليه فالاّ، فلا قيمةَ لأشكال المحاججة التي يدرسها المناطقة لأنّها مصطنعةٌ، أي غير عمليّةٍ وطبيعيّةٍ:

De veris loquor syllogismis: nam eorum maior pars contra naturam atque omnium usum traditur.” (Valla: 2012, V.2, p. 230)

         «إنّني أتحدّث عن القياسات الحقّة: لأنّ معظم ما يُدرّس عنها يخالف الطّبيعة والاستعمال العامّ.» (التّأكيد مضافٌ)

لهذا السّبب يتخطّى فالاّ المنطق القياسيّ الذي تميّز به المنطق الأرسطوطاليسيّ/الاسكولائيّ ليدرس أشكالاً أخرى غير قياسيّةٍ «non syllogistic» من المحاججة (كالمفارقات «paradoxes») قد تفيد الخطيب في التّوصّل إلى التّأثير الذي يبتغيه من خلالها. وتتضّح مشاكل القياس تباعًا عبر الأمثلة المختلفة التي يستعين بها علماء المنطق، إذ إنّها سخيفةٌ وتافهةٌ بحسب فالاّ، ولا تقدّم شيئًا جديدًا إلى معارفنا، خذ مثلاً القياس المعروف:

        سقراط هو إنسانٌ

         الإنسان كائنٌ فانٍ

         إذن سقراط هو فانٍ.

إنّ معرفتنا المسبقة بأنّ سقراط هو إنسان وأنّ الإنسان فانٍ سيسخّف محاولتنا للمحاججة بأنّ سقراط هو فانٍ…. وفي هذا الإطار تابع فالاّ مقاربته الاختزاليّة حيث اختزل الأشكال المنطقيّة السّتّة «logical modals» المتعارف عليها عند الاسكولائيّين، وهي: الضّروريّ «necessary» والمُتوافق «contingent»، الممكن «possible» والمستحيل «impossible»، الصّادق «true» والكاذب «false»، وحصرها في ثلاثة: الممكن، والمستحيل، والصّادق (Valla: 2012, V.1 , Copenhaver & Nauta, intro. p. xxviii-xxix).

        لقد دعا فالاّ في التّحليل العقلانيّ إلى اعتماد مقاربة الخطيب القائمة على الإقناع بدلاً من المقاربة المنطقيّة القائمة على العرض الصّوريّ المتمثّل بأشكالٍ معيّنةٍ من القياس «syllogism»، واستمدّ مثاله من كتاب قوينطليانوس التّأهيل لفنّ الخطابة «Institutio Oratoria» (Losonsky: 2006, p. 35-36). إذ تمثّلت غاية الفيلسوف في اعتماد ما يشبه منطقًا عقائديًّا «doxastic logic» ذي درجاتٍ في قيمته يمتاز بليونة الخطابة بدلاً عن ثنائيّةٍ محدودةٍ تلتزم بقوانينَ منطقيّةٍ صارمةٍ.

اللّغة بوصفها أداةً في المشروع النّقديّ للأرسطوطاليسيّة

لقد أقام فالاّ في كتابه ترابطًا أساسيًّا ما بين المنطق والبلاغة والنّحو، لكنّه لم يقف عند هذا الحدّ بل رفض المقولات الأرسطوطاليسيّة العشر (الجوهر، الكمّ أو الكميّة، الكيف أو الكيفيّة، المضاف أو الإضافة، المكان، الزّمان، الوضع أو النّصبة، المُلك، الفعل أو أنْ يفعل، التّأثّر أو أنْ ينفعل) التي رأى فيها غلوًّا ميتافيزيقيًّا وتوسّعًا لا ضرورةَ له، فارتأى حصرها في ثلاثة مفاهيمَ: الجوهر «substantia»، والكيف «qualitas»، والفعل «actio»، كما رفض القياس كلّه. (Ashworth: 1974, p. 9). وقد استمدّ عمليّته الاختزاليّة من الفئات النّحويّة الثّلاث «grammatical categories»: الاسم «noun»، والنّعت (والظّرف) «adjective»، والفعل «verb». إذ كتب في الفصل الثّالث عشر من «المجادلات»:

“Cetera novem praedicamenta Aristoteles uno complexus est nomine, συμβεβηκός, quod transferunt accidens. Mihi duo tantum placet esse et in haec recidere cetera – qualitatem et actionem. […] Εgo distinxi substantiam ab usia, quo res magis intelligeretur. Ita nunc consuetis quam captiosis verbis agere malo, et qualitate uti quam forma ut alia sit qualitas nauralis, alia non naturalis.” (Valla: 2012, V.1, p. 200)

«وضع أرسطوطاليس المقولات التّسع الأخرى تحت مسمّى واحدٍ وهو سيمبابكوس الذي ترجموه [أي الاسكولائيّين] [بلفظة] عرض. برأيي لا يوجد سوى اثنتين [من المقولات] والباقي يندرج تحتهما – [وهما:] الكيف والفعل. […] لقد ميّزت [لفظة] الجوهرsubstantia»] عن [المصطلح اليونانيّ] أوسيّا، وهو ما يوضّح ما يكون عليه الشّيء. وعلى هذا النّحو أفضّل الاعتماد على الكلمات المألوفة عوضًا عن المراوغة، فأستعمل [لفظة] الكيفqualitas»] بدلاً من لفظة الصّورةforma»]، بحيث ثمّة الكيف الطّبيعيّ والكيف غير الطّبيعيّ.» (التّأكيد مضافٌ)

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاسكولائيّين اعتمدوا لفظة «praedicamenta» للإشارة إلى المقولات، ولفظة «essentia» للإشارة إلى الجوهر، وهو أوّل المقولات، لكنّ الفيلسوف يرفض هذه التّسمية ويتّبع قوينطليانوس في استخدامه لفظة «substantia». (Valla: 2012, V.1 , p. 14-16)

انتصار القدّيس توما الأكوينيّ – لوحة جداريّة بريشة أندريا دا فيرنزي «Andrea Da Firenze» (1343 – 1377)

وعمومًا كان فالاّ معاديًا للتّجريد الفلسفيّ. ولعلّ المفهوم المحوريّ الذي يتوسّط هذه المقاربة الاختزاليّة هو مفهوم الشّيء «res» (See: Mariani-Zini: 2001, p. 275-291)، فالأشياء هي أولى العناصر التي ندركها، وقد تكون إمّا أشياءَ ذهنيّةً إمّا مادّيّةً (2007: Nauta, p. 198). إذ يكتب فالاّ:

Quae res autem ad Omnia spectat praedicamenta quoniam singular illorum sunt res.” (Valla: 2012, V.1, p. 26)

«ولكنّ [سؤال] ما هو الشّيء ينطبق على المقولات كلّها لأنّ كلّ واحدٍ منها هو شيءٌ.» (التّأكيد مضافٌ).

ومفهوم الشّيء وحده هو الذي يتعالى عن هذه المقولات الثّلاث، مثلاً، تصوّر رجلاً سمينًا يأكل طعامه. بحسب مقاربة فالاّ الاختزاليّة نحن أمام جوهرٍ (ما يكون عليه الشّيء، أي الشّيء ذاته)، وكيفٍ (كيف يبدو هذا الشّيء)، وفعلٍ (ما الذي يفعله هذا الشّيء)، ولكن أليس الكيف والفعل شيئينِ أيضًا؟ إذن الشّيء وحده هو المفهوم المتعالي، أي إنّه خاصّيّة كلّ موجودٍ، أو الكلمة الكلّيّة «verbum universale» على حدّ تعبيره، وذلك خلافًا للتّقليد الاسكولائيّ الذي قال بستّة مفاهيمَ متعاليةٍ «transcendentia» استنبطت من كتاب الميتافيزيقا لأرسطوطاليس (MacDonald: 1991, p. 56). وفي هذا السّياق يكتب فالاّ:

Inter quae ens ut  maximam ad optinendum regnum prae se speciem fert, ita clam maximo vitio laborat. De quo ut dicam pluribus, dicam brevissime quia nihil habet dubitationis quaestio de aliis. An non aliquid significat aliqua res? Unum una res; verum vera res aut veritas, quae etiam res est; bonum bona res sive bonitas vel probitas, quae et ipsa res est ? Ita ens ea res quae est.” (Valla: 2012, V.1, p. 18)

«وفيما [مفهوم] الوجود هو الذي يظهر على أنّه يؤمّن سلامة المملكة، فهو يحتوي على أكبر فجوةٍ مخفيّةٍ فيها. وفي الوقت الذي أطنب فيه كلامي، لا بدّ أنْ أقول أنّ التّحقيق [في المسألة] لا يترك [للمفاهيم] الأخرى مجالاً للشّكّ. ألا يشير شيءٌ ما إلى شيءٍ محدّدٍ؟ [وكذلك ألا يشير مفهوم] الواحد إلى شيءٍ واحدٍ، والصّحيح إلى شيءٍ صحيحٍ أو إلى الصّحّة، والتي تكون بدورها شيئًا، والخير إلى شيءٍ خيّرٍ أو إلى الطِّيبة أو الاستقامة، والتي تكون بذاتها شيئًا؟ وعلى هذا النّحو يشير [مفهوم] الوجود إلى ذاك الشّيء الذي يكون.» (التّأكيد مضافٌ).

إنّ اعتماد الشّيء مفهومًا متعاليًا يعني اختزال الأنطولوجيا الكلاسيكيّة لصالح مقاربةٍ عمليّةٍ تجريبيّةٍ. وممّا لزم عن هذا الاختزال تغييرٌ براديغميٌّ في مفهوم الإنسان السّائد آنذاك، أي النّظرة الأرسطوطاليسيّة القائلة أنّ الإنسان حيوانٌ عاقلٌ «animal rationale»، لأنّ المقاربة الأرسطوطاليسيّة نصّت على تعريف الموضوعات أو الألفاظ بالجنس «genus» والفصل «differentia»، وهو الذي يحتوي على جزءٍ من ماهيّة النّوع (كالإنسان) الذي يفصله عن الأنواع التي تشاركه الجنس نفسه (كالحيوان). لكنّ فالاّ انطلاقًا من القواعد اللاّتينيّة بنى التّعريف على الشّيء «res» وكيفيّاته (أو صفاته) «qualitas»، إذ بالإنسان يصبح حيوانًا عاقلاً، ولغويًّا، وناطقًا… (Copenhaver: 2005, p. 512). لذا يعني سؤالك «ما الإنسان؟» «ما الذي يسمّى إنسانًا؟»، وبمعنى آخر «ما الذي يعنيه كون الإنسان إنسانًا؟» وهو سؤالٌ محوريٌّ عند الفلاسفة التّحليليّين، ويوضّح فالاّ هذه المقاربة في ختام الفصل السّادس عشر من الكتاب الأوّل:

Homo est animal, rationale, mortale, idest his nominibus appellatur.” (Valla: 2012, V.1, p. 240)

«الإنسان هو فانٍ، وعاقلٌ، وحيوانٌ، أي أنّه يُدعى بهذه المُسمّيات.» (التّأكيد مضافٌ).

أرسطوطاليس الاسطغيريّ – لوحة بريشة يوس فان فاسنهوف «Joos Van Wassenhove» (1430-1480)

إذن رغب فالاّ في إعادة تأسيس المنطق على بنيان قواعد اللّغة عوضًا عن الميتافيزيقا، فتخلّص من العلاقة الميتافزيقيّة القائمة في الحدّ، حيث استبدل الجوهر وخواصّه بالشّيء وصفاته. وفي هذا الإطار ناقش الفيلسوف أصول دلالة لفظة «λόγος» اليونانيّة، حيث استبدل الدّلالة الميتافيزيقيّة للّفظة بمعنًى محسوسًا:

Nam et λόγος prius orationem sive sermonem significavit quam rationem. Quod nisi nollem esse prolixus, plurimis testimoniis confirmarem, contentus hoc solo argumento, quod λόγος a verbo venit λέγω, quod significat dico seu loquor, non autem cogito seu ratiocinor. (Valla: 2012, V.1, p. 124)

«لأنّ [لفظة] لوغوس دلّت أيضًا على الخطاب أو الكلام وذلك قبل أنْ تحمل دلالة العقل. وبإمكاني أنْ أثبت ذلك بأمثلةٍ عدّةٍ، إنّما لا أودّ أنْ أطيل الكلام، لذا سأكتفي بعرض حجّةٍ واحدةٍ، وهي أنّ [لفظة] لوغوس مشتقّةٌ من الفعل ليغو، والذي يحمل دلالة القول أو التّكلّم لا التّفكير أو التّحليل العقلانيّ.» (التّأكيد مضافٌ).

هكذا اتّخذت مقاربة فالاّ منحًى راديكاليًّا مشحونًا بروحٍ انتقائيّةٍ «eclectic»، فتحوّل إلى ثورةٍ شاملةٍ على التّقليد المشّائيّ في الفلسفة الذي ابتدأ مع الأورغانون الأرسطوطاليسيّ والإيساغوجي الفورفيريّ وصولاً إلى كتيّبات المنطق اللاّتينيّة القروسطيّة. وبحسب كريستلر «P. O. Kristeller» هنا تكمن أصالة فالاّ الفلسفيّة (Kristeller: 1964, p. 19-36)، فيما يعيب عليه آخرون «إفساد» المنطق (Kneale and Kneale: 1971, p. 300). والحقّ أنّ شجاعته وجرأته على مهاجمة الأرسطوطاليسيّة التي اعتبرت في عصره جزءًا أساسيًّا من العقيدة الكاثوليكيّة وأداةً بيد رجال الكنيسة هي مثالٌ احتذى به فلاسفةٌ وعلماء لاحقون أمثال جوردانو برونو «G. Bruno»، وغاليلي «G. Galilei»، وديكارت «R. Descartes»، وغيرهم. سعى فالاّ إلى إزالة الميتافيزيقا فانتهى به الأمر بإخضاعها لقواعد اللّسان اللاّتينيّ (أي للّغة العاديّة)، لكنّه لم يقف عند هذا الحدّ، بل تطرّق إلى اللّغة (العاديّة) بوصفها عالمًا قائمًا في ذاته، أي واقعًا حيًّا حيث تتّحد فيه الكلمة بالعالم.

تجاوز ثنائيّة الدّال/المدلول

لقد أقام فالاّ تمييزًا ما بين الطّبيعيّ والعرفيّ، (وهو أمرٌ سيبني عليه دو سوسّور «De Saussure» مقاربته للعلاقة الاعتباطيّة «arbitrary» القائمة ما بين الدّال والمدلول تمهيدًا لنظريّته في السّميولوجيا)، إذ كتب في الفصل الرّابع عشر من الكتاب الأوّل:

Vox humana naturalis illa quidem est, sed eius significato ab institutione – quae significatio et ipsa est qualitas. Verum et vox haec licet a natura oriatur, tamen ab institutione descendit. Homines enim rebus cognitis voces quas adaptarent invenerunt, et propterea signa appellaverunt, quorum primus fuit Adam, Deo auctore. Easque cum suis significationibus posteros docuerunt, ut soni quidem sint a natura, voces autem sive signa et significationes ab artifice.” (Valla: 2012, V.1, p. 218)

«إنّ الصّوت النّطقيّ البشريّvox humana»] طبيعيٌّ، إنّما يكون الذي يدلّ عليه [أي على هذا الصّوت] عرفيًّا، وحتّى الدّلالة نفسها تكون كيفًا. وعلى الرّغم من أنّ العمليّة الصّوتيّة منشأها الطّبيعة، فهي مستمدّةٌ من العرف. لأنّ البشر ابتكروا الأصوات النّطقيّة التي اعتمدوها [للإشارة] للأشياء المُدركة التي دعوها علاماتٍ، وأوّل البشر [ممّن قام بذلك] كان آدم عندما خلقه الله. ثمّ علّم [أولئك البشر] المتحدّرين منهم [تلك الأصوات] ودلالاتها، لذا تولّدت الأصوات من الطّبيعة لكنّ الأصوات النّطقيّة أو العلامات ودلالاتها تولّدت من صانعٍ لها.» (التّأكيد مضافٌ).

فالصّوت النّطقيّ البشريّ هو في الأصل صوتٌ طبيعيٌّ (sonus)، ويصبح على ما هو عليه بعد إلحاق الدّلالة به (significatio) (2015: Nauta: p. 139-140). وتبعًا لذلك لا يمكن بناء وجودٍ بشريّ واعٍ في الحالة الطّبيعيّة من دون تسمية الموجودات والبناء عليها لتوليد المعرفة. إذ ارتبطت الكلمات المنطوقة بالأشياء المدركة «rebus cognitis»، أي الدّوالّ بالمدلولات، وهذا ما يشير إلى أنّ قيمة الأشياء أو الموجودات مرتبطةٌ بعقلٍ واعٍ يقوم بتحديد قيمتها، إذ لا قيمةَ لها في الطّبيعة، فهي بحسب فالاّ ليست سوى موجوداتٍ جامدةٍ. ولعلّه بذلك عبّر عن فكرٍ إغريقيّ قديمٍ سبق المذاهب الفلسفيّة اليونانيّة واللّاتينيّة المتأخّرة، أي ذلك الفكر المتمثّل بالسّفسطائيّينَ عمومًا، وغورغياس خصوصًا صاحب مقولة «الإنسان هو مقياس كلّ شيءٍ» (Trinkaus: 1993, p. 305).

نقشٌ للفيلسوف وفقيه اللّغة لورنزو فالاّ (1457-1407)

إنّ اللّغة هي مقياس الحكم، أي الحكم على الواقع، لأنّ المعاني لا تسبح في سماءٍ أفلاطونيّةٍ، و«الكلمات هي مفاهيمُ، إنّها الوسائل التي ننظّم و”نقيس” العالم بوساطتها. ويصرّ فالاّ على أنّنا “نحن” من نقوم بهذه المهمّة لا اللّه، فالعمليّة الإدراكيّة التي تصوّر العالم في اللّغة هي بشريّةٌ» (Waswo: 1987, p. 101). وقد يظنّ المرء أنّ فالاّ فيلسوفٌ إسمانيٌّ «nominalist» لمعارضته الشّديدة لغلوّ الميتافيزيقا الاسكولائيّة، وابتعادها عن التّجربة البشريّة «التي هي مولّدة الألفاظ» «qui verborum est auctor» (Valla: 2012, V.1, p. 30)، وقد يعدّه البعض تلميذًا لويليام الأوكاميّ «William of Ockham»، وتكفي مراجعةٌ دقيقةٌ لكتابات الأوكاميّ وفالاّ لتبيان اختلافٍ في المنهجيّة والمقاربة والمفاهيم المعتمدة وتمايزٍ في الاختزال الأنطولوجيّ (See: Nauta: 2003). والحقّ أنّ موقفَ فالاّ لم يكن اسمانيًّا، إذ لم يرَ الواقعَ قائمًا في الشّيء ذاته، أي أنّ المعنى قائمٌ في جزئيّات «particulars» العالم المادّيّ، ولا موجودًا على نحوٍ مستقلّ عن الأذهان، أي يكمن المعنى في واقعٍ خاصٍّ كما نادت الواقعيّة «realism». أضف إلى ذلك أنّه لم يقف موقفًا وسطًا واعتبر أنّ الواقعَ قائمٌ في عقلٍ واعٍ على قول المذهب التّصوّريّ «conceptualism». إنّما اتّخذ موقفًا متميّزًا، فقال بأنّ الواقع يكمن في اللّغة، أي إنّ الواقعَ هو وليد الكلمة ذات الدّلالة الواضحة والمحدّدة. فالواقع هو صناعةٌ بشريّةٌ محضةٌ ابتدأها آدم أبو البشر وتابع مساره البشر المتحدّرين منه، ما يعني أنّ اللّغة، أو اللّسان، هو ما يولّد المعنى، وليس اللّه الذي لا تتعدّى وظيفته سوى جعل هذه العمليّة بكاملها ممكنةً بفضل هبة الإدراك والكلام (Waswo: 1987, p. 107). وعلى ضوء هذه المقاربة بإمكاننا فهم معالجته لأصول لفظة «res» اللاّتينيّة:

“Nostrum autem nomen non a dicendo venit sed dab opinando – videlicet a supino verbi reor, quod est firme opinor. […] Ipsum autem reor forte a nomine res derivatur quod e re ipsa atque e veritate trahimus opinionem. Verum nunc non loquimur de ratione cum significat ratam opinionem […] sed cum vim animae ad talem opinionem excogitandam.” (Valla: 2012, V.1, p. 124-126).

«ليس الاسم اللاّتينيّ [أي «res»] مشتقًّا من القول بل من الإدلاء [إدلاء الرّأي]، أي من مصدر الفعل حكم [أبرم/أقرّ]، أي أنْ تدليَ [رأيك] حازمًا. […] ولعلّ [الفعل اللاّتينيّ] حكمreor»] مشتقٌّ من الاسم [اللاّتينيّ] الشّيءres»] وذلك لأنّنا نستمدّ رأينا من الشّيء نفسه والحقيقة. إنّما عندما نقول العقل فنحن لا نعني به الآن الرّأي القائم […] بل قدرة النّفس على توليد هذا الرّأي.» (التّأكيد مضافٌ).

وتبعًا لذلك ثمّة ترابطٌ عضويٌّ بحسب فالاّ ما بين الكلام أو اللّغة وما بين الشّيء أو العالم، أي أنّ الكلمة المنطوقة هي دالٌّ يكون بذاته مدلولاً أيضًا. وليس هذا الموقف غريبًا إذا سلّمنا بأنّ الإنسان هو مولّد الدّلالة وأنّ المعنى عرفيٌّ. إذ لا يقوم كلٌّ من الدّال والمدلول في عالمه الخاصّ، بل إنّهما متّحدان في عالم البشر (إذا ما جاز التّعبير). ولعلّ أكثر مقاطع «المجادلات» اقتباسًا، وتحليلاً، وغموضًا هو المقطع الذي يطوّع فيه فالاّ حدود لسانه اللاّتينيّ للتّعبير عن مسألة تجاوز ثنائيّة الدّال/المدلول، أو الكلمة/العالم، أو لفظة «الشّيء»/الشّيء القائم في العالم، فيقول:

Itaque res significant rem; hoc significatur, illud huius est signum vel nota; illud non vox, hoc vox est ideoque definitur : res est vox sive vocabulum omnium vocabulorum significationes sua complectens.” (Valla: 2012, V.1, p. 218-220).

«إذن يدلّ الشّيء [أي لفظة الشّيء] على شيءٍ، ويكون هذا علامة أو أمارة ذاك، وليس ذاك صوتًا نطقيًّا، فيما يكون هذا صوتًا نطقيًّا، وتاليًا يُعرّف بالآتي: إنّ الشّيء هو صوتٌ نطقيٌّ أو لفظٌ منطوقٌ يضمّ بذاته دلالات الألفاظ المنطوقة كلّها.» (التّأكيد مضافٌ).

وتتجلّى المعضلة البارزة في هذا النّصّ في فهمنا المعاني المقصودة بأسماء الإشارة، أي «هذا» «hoc» و«ذاك» «illud». وقد شكّل غموض التّركيب اللاّتينيّ محورَ جدالٍ طويلٍ بين مؤوّلي فلسفة فالاّ (See: Copenhaver: 2005, p. 521-525).

إذن ليس ثمّة من علاقةٍ إحاليّةٍ في هذه الثّنائيّة، حتّى أنّ مفهوم الثّنائيّة التّقليديّ لم يعد له وجودٌ، لأنّ العلاقة الرّابطة بين القطبينِ قد انتهت (إذا ما جاز التّعبير)، واستبدلت بمقاربةٍ قائمةٍ على الحسّ المشترك «common sense» مفادها أنّ الكلمة تدلّ على ما تدلّ عليه من دون الحاجة إلى الإحالة إلى واقعٍ مجرّدٍ أو محسوسٍ، وهذا ما قد يدفع نحو اعتبار فالاّ فيلسوفًا للّغة العاديّة. وحتمًا يلعب العقل دورًا في هذه العمليّة، حيث يتمثّل دوره بالوسيط المدرك والمؤوّل ما بين الدّال (أي الخطاب) والمدلول (أي الشّيء).

وهذا ما يشير إلى أنّ الحقيقة ليست علاقةً ميتافيزيقيّةً ما بين الموضوع «object» والقضيّة «proposition»، إنّما خاصّيّة اللّغة، أي تكمن الحقيقة في اللّغة (Copenhaver: 2005, p. 511). وهنا يتحوّل فالاّ من تجريبيٍّ يقدّم وصفًا تاريخيًّا للتّغيّر الدّلاليّ «semantic change» إلى فيلسوفٍ يربط اللّغة بالحقيقة، وتاليًا بالمعرفة، بحيث يقوم الإدراك على عمليّة الحكم على الأشياء بوساطة اللّغة (أي تسميتها). إذ ليست عمليّة تسميتها (أي تسمية هذا الشّيء كرسيًّا وذاك طاولةً) سوى دليلٍ ضمنيٍّ على تأكيد صحّتها (أي كون هذا الشّيء كرسيًّا حقًّا…) وزيادة الحصيلة المعرفيّة، أمّا الحكم المغاير فيتمثّل باعتبار الأحكام السّابقة على هذه الأشياء باطلةً، وتاليًا يتصوّرها أشياءَ أخرى (Waswo: 1979, p.261-262). فالحقيقة (أو الصّحّة) ليست في الموضوع لأنّ الموضوع لا يقدّم إلاّ الموضوع (حتّى لو كان باطلاً)، إذ تقوم الحقيقة في كلام النّاطقينَ بلسانٍ محدّدٍ، ما يعني أنّها ليست موضوعًا ثابتًا بل عمليّة تحقّقٍ دائمٍ، لأنّها غير قابلةٍ للتّحقّق النّهائيّ تمامًا كالمجتمعات البشريّة، وهو موقفٌ شكوكيٌّ بامتيازٍ. لذا لا بدّ من تهذيب اللّغة عبر الابتعاد عن نحت الألفاظ المجرّدة البربريّة (أمثال «quiditas»، «perseitas»، و«entitas») وتوضيح المعاني والتّراكيب على نحوٍ مستمرٍّ للتّوصّل إلى الصّحّة (Giard: 1982, p. 14-15).

ولكنْ يحمل تجاوز هذه الثّنائيّة مدلولاتٍ أبعد من المثاليّة اللّسانيّة «Linguistic idealism»، ربّما قد لمّح إليها فالاّ في كتابه ولم يطرحها علنًا. أضف إليها رفضه المولّدات الاسكولائيّة «Scholastic neologisms»، وتمسّكه بالمعاني الصّافية الأصيلة (أو الطّبيعيّة على حدّ تعبيره)، واختزاله المقولات العشر إلى ثلاث، مع ما يحمله ذلك الاختزال من معانيَ ضمنيّةٍ مفادها أنّ حذف هذه الأسماء سيحتّم إزالة مراجعها في العالم الخارجيّ (أو المادّيّ)، هي دلائلُ على اشتراطه اللّغة عنصرًا حصريًّا في بناء المعرفة، وتاليًا الواقع (Perreiah, 2014, p. 58-60). إذ إنّ تحديد مكانة اللّغة في محور ومحيط الإدراك يشير بالضّرورة إلى حتميّة دورها الفعّال في عمليّة الوعي البشريّ، أي إنْ كانت اللّغة تشكّل عالمًا في ذاتها حيث يكون المعنى قائمًا في الكلمة نفسها فهل يصبح التّفكير ممكنًا خارج هذا الإطار اللّسانيّ البشريّ؟ وبمعنى آخر هل طوّر فالاّ شكلاً بدائيًّا من فرضيّة «سابير-ورف» «Sapir-Whorf hypothesis»؟ أي هل اعتبر اللّسان مسؤولًا عن تحديد الإطار الإدراكيّ للنّاطقينَ به، وتاليًا تأطير ثقافتهم؟

هل نحن أمام حتميّةٍ لسانيّةٍ؟

بناءً على سياق النّصوص التي ذكر فالاّ فيها مواقفَ أُوّلت على أنّها أفكارٌ تعبّر عن طروحات الحتميّة اللّسانيّة «Linguistic Determinism» على نحوٍ منظّمٍ، لا يمكن اعتبار تلك الآراء أكثر من ملاحظات فقيهٍ لغويٍّ. فعلى الرَّغم من أنّ فالاّ قد أقرّ بأنّ اللّغة تعبيرٌ عن ثقافةٍ محدّدةٍ فهو لم يعتنق استعمال الألسن المحكيّة لتستعيض عن اللاّتينيّة، بل حتّى فضّل اللّاتينيّة الكلاسيكيّة بوصفها النّموذج الأمثل للتّعبير. إذ رأى اللاّتينيّة لسانًا تعدّى الحدود الزّمكانيّة، أي أداةً جيّدةً ومُحكمةً للتّعبير. ولم يعتبر التّنويعة اللّسانيّة الرّومانيّة المحكيّة والشّائعة في عصره (volgare) لغةً قائمةً بذاتها بل لهجةً فاسدةً مشتقّةً من اللّسان اللاّتينيّ (2015: Nauta: p. 144). لذا أخذ موقفه مسارًا هجينًا جمع ما بين اللّغة بوصفها وسيلةً متأصّلةً في ثقافةٍ محدّدةٍ تخطّ معالمها وتحوي تراثها، وبين اللّغة بوصفها أداةً مجرّدةً للتّعبير عن الأفكار، أو عن الثّقافة (الثّقافات)، بقطع النّظر عن وجود متحدّثينَ بها (أي كونها لسانًا حيًّا)، وهو ما رآه في اللاّتينيّة، أي كونها اللّسان الأمثل لتولّي هذه المهمّة (2007: Nauta, p. 197).

من اليسار إلى اليمين: إدوارد سابير (1884-1939) وبنجامين لي ورف (1897-1941)

وليس هذا الموقف المتناقض بعيدًا عن مواقف فالاّ الأخرى، فالرّجل كان انتقائيًّا وشكوكيًّا في مقارباته للمسائل. إذ وضع كتابًا في الأخلاق الأبيقوريّة تحت عنوان «De Voluptate» «في اللّذّة» في عصرٍ كانت لفظة أبيقوريّ «Epicurean» مرادفةً للرّذيلة وفساد الأخلاق، وربط فيه مفهوم اللّذّة «pleasure» عند أبيقور بلذّة عبادة اللّه وتمجيده، فيما رفض نظريّته المادّيّة في الذّرّة (Celenza: 2018, p. 158-161). كما شكّ في الكوزمولوجيا الأرسطوطاليسيّة قبل ولادة غاليليو (See Trinkaus: 1993)، وحارب الاسكولائيّين مهاجمًا اتّخاذهم مقاربة «ipse dixit» (قالها بنفسه) الدّغمائيّة (Nauta: 2009, p. 270)، ولكنّه في الوقت نفسه اقتبس من نصوص الكتاب المقدّس وسلّم تسليمًا بوقائعها، وذلك شرط كونها مدقّقةً لغويًّا، ومثبتةً فقهيًّا. ولكنْ ماذا عن المزعم القائل أنّ فالاّ فيلسوفٌ للّغة العاديّة؟

تحاملٌ لاتاريخيٌّ؟

لا ريبَ في أصالة فالاّ الفلسفيّة، ففي نقده اللّغويّ للفلسفة وضع فلسفةً للّغة. ولكنْ إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار ملاحظاته في المجادلات الجدليّة مواقفَ متماسكةً وسابقةً لعصرها؟ لقد شدّد فالاّ في أكثر من موضعٍ في كتابه على أهمّيّة الاستعمال العاديّ/الطّبيعيّ بوصفه حلًّا للمشكلات النّظريّة التي نشأت في الفلسفة الاسكولائيّة نتيجة سوء استخدام اللّسان اللاّتينيّ:

Et ut sunt varii mores variaeque leges nationum ac populorum, ita variae naturae linguarum, apud suos unaquaeque intemerata et sancta. Itaque consuetudine, tanquam quodam more civili, standum est.” (Valla: 2012, V.2, p. 88-90).

«وكما تملك الأمم والشّعوب أعرافًا مختلفةً وقوانينَ مختلفةً، كذلك تختلف طبائع الألسن، حيث يكون كلّ واحدٍ منها مقدّسًا وطاهرًا [عند المتحدّثينَ به]. لذا لا بدّ من الاعتماد على الاستعمال الشّائع بصفته ضربًا من الممارسة القائمة في المجتمع» (التّأكيد مضافٌ).

ولكنْ أشار جون مونفساني «J. Monfasani» إلى اختلاف التّأويل الذي قد يفرضه فهمٌ محدّدٌ للنّصّ اللاّتينيّ، وقد ذكر في مقاله أمثلةً عدّةً على ذلك. كما سلّط الضّوء على بعض الأخطاء الأكاديميّة الفاضحة التي وقع فيها البحّاثة في تأويلهم لفلسفة فالاّ بحيث نسبوا إليه كلامًا كان قد هاجمه الأخير بوصفه تافهًا أو خاليًا من المعنى، كجملة

Non est verbigena nisi vera sophia”.

والتي ترجمتها جيرل «H. B. Gerl» بالآتي: «تولد الحكمة الحقّة عبر الكلمة»، فيما يرى مونفساني أنّه من الأنسب قراءتها على هذا النّحو: «لا تتولّد الكلمة من دون الحكمة الحقّة»، والتي تعود في الأصل إلى النّحويّ ألكسندر دو فيللوديو «De Villedieu» لا إلى فالاّ (Monfasani: 1989, p. 312). وحتّى فالاّ نفسه قد ميّز ما بين الحقيقة وما بين الاستعمال، وشدّد على أهمّيّة عدم الخلط بينهما، وهذا ما قد يزيل فرضيّة كونه فيلسوفًا للّغة العاديّة (Nauta: 2009, p. 43):

Sed aliud est loqui ad legem ipsam veritatis, aliud ad consuetudinem popularem”.

«إنّ الكلامَ تبعًا للحقيقة هو أمرٌ، أمّا الكلام تبعًا للاستعمال الشّائع فهو أمرٌ آخر». (التّأكيد مضافٌ).

هكذا يصعب ضمّ فلسفة لورنزو فالاّ إلى المذهب التّحليليّ، أو إلى إحدى مدارسه، أي مدرسة اللّغة العاديّة والتي تعود أصولها إلى فتغنشتاين (كما ويمكن ردّ أصولها إلى فلسفة جورج مور)، إذ رفضت هذه المدرسة الماهيّويّة «essentialism» التي شكّلت مدماك البراديغم القروسطيّ الذي نشأ فيه فالاّ (المذهب القائل بأنّ الشّيء، أيّ شيءٍ، يملك ميزةً أساسيّةً أو كيفةً تحدّده وتميّزه عن غيره من الأشياء أو تجمعه معهم، ويستعيض فيتغنشتاين عن هذا المفهوم بطرحه فكرة الشّبه العائليّ «family resemblance» أي ثمة نمطٌ من التّشابهات المتداخلة، عوضًا عن وجود ميزةٍ مشتركةٍ واحدةٍ…).

ولكنْ على الرَّغم من الالتباس الحاصل في النّصّ اللاّتينيّ يتّفق الدّارسون على موقفين يمتاز بهما فالاّ ويشاطرهما مع راسل وفيتغنشتاين (تحديدًا في الموقف الثّاني) وغيرهما من أعلام المدرسة التّحليليّة:

(1) تنشأ المشكلات الفلسفيّة من استعمالٍ مغلوطٍ ومتكلّفٍ للّغة (وهي متمثّلةٌ عند فالاّ بلاتينيّة الاسكولائيّين).

(2) الاستعمال العاديّ للّغة يسهّل عمليّة التّفلسف ويزيل الإبهام واللّبس (وهو متمثّلٌ بمحاكاة الأساليب اللاّتينيّة الكلاسيكيّة واتّخاذها أنموذجًا للتّراكيب الواضحة والسّلسة).

وقد شدّد فالاّ في مقدّمة الكتاب الثّالث من «المجادلات» على هاتين النّقطتين بوصفهما دعائمَ أساسيّةً لتحقيق أيّ تقدّمٍ في مجال الفلسفة في المستقبل:

Proinde nolint posthac dialectici isti atque philosophantes in suorum quorundam vocabulorum inscitia perseverare, sed ad naturalem et a doctis tritum sermonem se convertere, cum praesertim nihil sint, si aliter faciant, profecturi, patefacta per me plurimorum verborum in quibus maxime errabatur veritate, ut deinceps etiam patefiet. Hoc tamen an facere velint ipsi viderint.” (Valla: 2012, V.2, p. 208-210).

«إذن لا يجب على هؤلاء المناطقة أو المتفلسفون أنْ يعتصموا بجهل بعض الألفاظ التي يستعملونها، وينبغي عليهم التّلفّت إلى الخطاب الطّبيعيّ، أي الخطاب الشّائع الاستعمال بين المثقّفينَ، لأنّهم [أي المناطقة] لن يحدثوا أيّة تقدّمٍ في حال لم يقوموا بذلك، خصوصًا أنّني قد أجليتُ حقيقة العديد من الكلمات التي شكّلت مصدر معظم الأخطاء، وهي التي ستتّضح مجدّدًا بالآتي [أي بسياق هذا الكتاب]. وعلى أيّة حال، يعود الأمر لهم ما إذا رغبوا في القيام بذلك أم لا.»

والحقّ أنّ الحكم المسبق على المقاربة النّقديّة التي اتّخذها فالاّ والقول إنها وليدة ذوقٍ عامٍّ استهجن مصطلحات الاسكولائيّينَ الرّاطنة هو اجتزاءٌ للوقائع والسّياق. فقد تمتّع الفيلسوف بروحٍ نقديّةٍ برزت مسبقًا في كتاباته اللّغويّة الفقهيّة، فهو من استخدم مقارباتٍ نصّيّةٍ لإثبات زور إحدى أهمّ الوثائق التّاريخيّة، أي «هبة قسطنطين» ونشرها تحت عنوان «De Falso Credita et Ementita Constantini Donatione» (وهي وثيقةٌ ظهرت في القرون الوسطى، واستعملت لدعم السّلطة البابويّة والصّلاحيّات السّياسيّة لأسقف روما) (See Valla: 2007). وليست مقاربته النّقديّة الاختزاليّة للفلسفة الاسكولائيّة (ومن ورائها التّقليد المشّائيّ) سوى دليلٍ على تمعّن فالاّ في مادّة هذا الموضوع واطّلاعه الواسع على جوانبه اللّسانيّة والفكريّة. وكذلك ليس تشديده على أهمّيّة السّياق في قراءة النّصوص سوى دليلٍ آخر على مقاربته التّأويليّة المبتكرة في فقه اللّغة آنذاك، بحيث مدّد نظريّته الفقهيّة لتشملَ المشكلات الفلسفيّة التي تنشأ من القراءة غير السّياقيّة للنّصوص، وإثر ذلك يمكن فهم مقصد فالاّ بالاستعمال العاديّ/الطّبيعيّ الذي ينطلق من الحسّ المشترك لا من التّنظير المجرّد (كمثل معالجته لمسألة الرّقم واحد عند أرسطوطاليس) (2015: Nauta: p. 145-149).

خاتمة

من الواضح أنّ كتّاب النّهضة لجأوا إلى اللّغة في استعمالها الكلاسيكيّ لمقارعة الهيمنة الاسكولائيّة، أي كانت اللّغة عندهم وسيلةً للمحاججة لا موضوعًا قائمًا بذاته، أي لم يتّجهوا إلى حلّ المشكلات الأبستمولوجيّة والميتافيزيقيّة بوساطة اللّغة كما هي الحال في المقاربة التّحليليّة الحديثة للفلسفة ومسائلها المعقّدة. ولا عجبَ في ذلك، فقد قدّم أولئك الإنسانويّون الخطيب على الفيلسوف، ووقفوا موقفًا معاديًا من المنطق، ورفعوا مكانة الممارسة العمليّة للّغة مقابل أبعادها النّظريّة (أي المتمثّلة بالمشكلات الفلسفيّة). كما أنّهم لم يخرجوا عن الإطار الأرسطوطاليسيّ القائل بأنّ اللّغة مشوّهةٌ للفكر المرتبط بالإلهيّ والمثاليّ، ولم يتّخذوا منحى جون لوك والفلاسفة اللاّحقين في إقامة ترابطٍ أساسٍ ما بين الفكر/العقل واللّغة لمعالجة ومناقشة المشكلات الفلسفيّة (Losonsky, 2006, p. 41-42). وعلى الرَّغم من ذلك تبقى حالة لورنزو فالاّ الفلسفيّة قضيّةً مفتوحةً أمام التّأويلات المتعدّدة التي تدعمها شخصيّة الرّجل الموسوعيّة والإبداعيّة، وهي حالةٌ يُستحقّ النّظر فيها لما تحتوي عليه من غنًى وبصائرَ لا يزال أثرها متسرّبًا في التّيّارات والاهتمامات الفلسفيّة الحديثة والمعاصرة.

المراجع:

English (Books)

– Ashworth, E. J., Language and Logic in the Post-Medieval Period, Synthese Historical Library Vol. 12, D. Reidel Publishing Company: Holland, 1974.

– Celenza, Christopher S., The Intellectual World of the Italian Renaissance Language, Philosophy, and the Search for Meaning, Cambridge University Press: USA, 2018.

– Group of Authors, Being and Goodness: The Concept of the Good in Metaphysics and Philosophical Theology, edited by MacDonald, Scott, Cornell University Press: Ithaca and London, 1991.

– Group of Authors, The Cambridge Companion to Renaissance Philosophy, edited by Hankins, James, Cambridge University Press: USA, 2007.

– Group of Authors, The Cambridge History of Renaissance Philosophy, edited by Schmitt, Charles B. & Skinner, Quentin, Cambridge University press: USA, 2000.

– Group of Authors, Ciceronian Controversies, edited by Dellaneva, Joann, translated by Duvick, Brian, Harvard University Press, I Tatti Renaissance Library: USA, 2007.

– Group of Authors, Linguistic Content: New Essays on the History of Philosophy of Language, edited by Cameron, Margaret & Stainton, Robert J., Oxford University Press: Oxford, 2015.

– Kneale, William, Kneale, Martha, The Development of Logic, Clarendon Press: Oxford, 1971.

– Kristeller, Paul Oskar, Eight Philosophers of the Italian Renaissance, Stanford University Press: Stanford, 1964.

– Losonsky, Michael, Linguistic Turns in Modern Philosophy, Cambridge University Press: USA, 2006.

– Nauta, Lodi, In Defense of Common Sense Lorenzo Valla’s Humanist Critique of Scholastic Philosophy, I Tatti Studies in Renaissance History, Harvard University Press: USA, 2009.

– Perreiah, Alan, Renaissance Truths Humanism, Scholasticism and the Search for the Perfect Language, Ashgate: England, 2014.

– Petrarca, Francesco, My Secret Book, translated by Nicholas Mann, Harvard University Press, I Tatti Renaissance Library: USA, 2016.

– Russell, Bertrand, History of Western Philosophy, Routledge Editions: New York and London, 2004.

– Valla, Lorenzo, Dialectical Disputations, Vol. I-II, translated by Copenhaver, Brian P. and Nauta, Lodi, Harvard University Press, I Tatti Renaissance Library: USA, 2012.

– Valla, Lorenzo, On the Donation of Constantine, translated by Bowersock, G. W., Harvard University Press, I Tatti Renaissance Library: USA, 2007.

– Waswo, Richard, Language and Meaning in the Renaissance, Princeton University Press: Princeton, 1987.

English (Articles)

– Copenhaver, Brian P., Valla Our Contemporary: Philosophy and Philology, in Journal of the History of Ideas, USA: University of Pennsylvania Press, 2005, Vol. 66, No. 4, p. 507-525.

– Monfasani, John, Was Lorenzo Valla an Ordinary Language Philosopher?, in Journal of the History of Ideas, USA: University of Pennsylvania Press, 1989, Vol. 50, No. 2, p. 309-323.

– Nauta, Lodi, William of Ockham and Lorenzo Valla: False Friends. Semantics and Ontological Reduction, in Renaissance Quarterly, USA: University of Chicago Press, 2003, Vol. 56, No. 3, p. 613-651.

– Trinkaus, Charles, Valla’s Anti-Aristotelian Natural Philosophy, in I Tatti Studies in the Italian Renaissance, USA: University of Chicago Press, 1993, Vol. 5, p. 279-325.

– Waswo, Richard, The Ordinary Language Philosophy of Lorenzo Valla, in Bibliothèque d’Humanisme et Renaissance, Genève: Librairie Droz, 1979, T.41, No. 2, p. 255-271.

French (Books)

– Groupe d’auteurs, Penser entre les Lignes Philosophie et Philologie au Quattrocento, édité par Mariani-Zini, Fosca, Presses Universitaires du Septentrion: Paris, 2001.

French (Articles)

– Giard, Luce, Lorenzo Valla: La Langue comme Lieu du Vrai, in Histoire Épistémologie Langage, Paris: Société d’Histoire et d’Épistémologie des Sciences du Langage, 1982, Tome 4, fascicule 2, p. 5-19.

Spanish

– Vallensis (Valla), Lorentii, De Linguae Latinae Elegantia, tomo I-II, Grammatica Humanistica, Serie textos 3, traducción por S. L. Moreda, Universidad De Extremadura: Cáceres, 1999.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى