مقالات

تحت أنظار الآخرين

كتب «جان بيير فرنان»، وهو أحد أهمّ المختصِّين في الدراسات الإغريقية: «إنّ الإغريق لم يكونوا ليميّزوا، على غِرار ما نفعله نحن، بين ما يجعلنا ما نحن عليه وبين ما لنا، بين وجودنا الحميميّ وبين انتماءاتنا. فما يوجد خارجًا عنّي يمكنه أن يكون لي، إلا أنه لا يمكن أن يكون أنا. أما بالنسبة للإغريقيّ، فعلى العكس مِن ذلك، الفرد لا يتميّز عمّا أنجزه وقام به، وما يشكّل امتداده: أعماله، والمنجزات التي حققها أبناؤه وأقرباؤه وعائلته وأصدقاؤه. الإنسان كائن في ما قام به وما يربطه بالآخرين. لذا فاللفظ نفسه يمكن إطلاقه على الخطأ في الحكم، وعلى الخطيئة الأخلاقية التي اقترفها المرء، وكذا على الفشل وعدم النجاح اللذين تلقاهما خارجًا».[1]

الإنسان عند الإغريق هو ما قام به وهو ما يشدّه إلى الآخرين. لا يصحّ هنا حتى الحديث عن امتدادٍ للذات في الموضوع، أو للباطن في الخارج. إذ لا مسافة هنا تفصل «الذاتي»، عن الموضوعي، والباطني عن الخارجي، والأخلاقي عن السياسي، ولا فارق إطلاقًا بين الخطأ والخطيئة والفشل.

ذلك أن هذا الإنسان كان يعيش في مجتمع ضيق مغلق يحيَا فيه الناس «وجهًا لوجه»: «المدن الإغريقية مدن مِن حجم صغير نسبيًا، مادامت تشكل مجتمعاتِ «وجهًا لوجه». مبدئيًا الجميع فيها يتعارفون، والجميع يتحدّثون فيما بينهم. يتوجه سقراط نحو الساحة العمومية، الآغورا، لكي يتحاوَر مع كلّ واحد عمّا هي الفضيلة وما هي الشجاعة وما التقوى وما العدالة وما الخير».

يعيش الفرد هنا تحت أنظار الآخرين، وهو يوجد بدلالة ما يراه الآخرون فيه، وما يقولونه عنه، ومن التقدير الذي يحسّون به نحوه، «فما يكونه الإنسان، قيمته وهويته، كلّ ذلك يستلزم أن يكون معترَفًا به مِن طرف جماعة أمثاله. فإذا ما طُرد الفرد مِن مدينته، إذا ما أبعده المنفى ودنّسه، لا يعود شيئًا. إنه يكفّ عن الوجود».

لا نعني بذلك أن عبارة «وجهًا لوجه»، تدل على أن المجتمع اليوناني كان مجتمع مواجهة وصراع، بل ربما العكس هو الصحيح. إنه، ظاهريًا على الأقل، مجتمع تناغم وانسجام يعيش فيه كلّ فرد على مرأى مِن الجميع و«تحت أنظارهم». فهو يتصرّف وفق ما يرتضونه ويعمل حسب ما «يرونه»، قيمة المرء وهويته تُستمدان مِن اعتراف أمثاله داخل المدينة. وعندما يسيء هو التصرف، لم يكن ليشعر بـ«أزمة ضمير»، وإنما كان يحسّ بالحاجة إلى أن «يغرب بوجهه» عن الناس ويختفي عن أنظارهم. وربما لهذا السبب كانت الغربة والمنفى خارج المدينة تتخذ عند الإغريق دلالة كبرى، أخلاقية وسياسية، بل أنطولوجية. كان الإبعاد عن المدينة نفيًا لإنسانية الإنسان وعدم اعتراف بقيمته ومحوًا لهويته. لقد كان إبعاده عن الأنظار إعدامًا حقيقيًا.

ولكن، هل هذا الأمر وقفَ على الإغريق وحدهم؟ فمَن مِنا اليوم مَن لا «ينهل مِن معين الآخرين؟»، كلنا نحيَا، أو نودّ أن نحيَا، على مرأى مِن الجميع. صحيح أنّ مجال الرؤية قد اتسع، وأن «المدينة» غدت عالمًا هو أشبه بالقرية الصغيرة، إلاّ أن مجتمع الإعلام، يجعل كلاً منّا، شاء أم أبى، يلقي بنفسه، عبر وسائل الاتصال، تحت أنظار جمهور لا ينفك يتسع. لذا يتساءل فرنان:

 «هل مِن الممكن أن نقرّب بين هذا وبين ما نلحظه اليوم: أيّ الرغبة في النجاح مهما كان الثمن، والسّعي وراء الشهرة التي تجعل المرء، عبر الوسائط الإعلامية، تحت أنظار الجمهور الواسع؟» فيجيب: «ربما العكس بالأحرى. فنحن لا نعيش في مجتمع «وجهًا لوجه»، وإنما في «مجتمع الفرجة». فما يبديه كلّ منّا للأنظار على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، ليس هو ذاته كما يعرِف نفسه في مكنون ضميره الشخصي، وإنما صورة مصطنعة، وقد أُخرجت إخراجًا مسرحيًا وفق الحاجة التي يفرضها الوقت، إنها صورة مخادعة مثل صور الإعلانات والإشهار. هذه الصورة هي بالتحديد صورة عابرة. وذيوعها لا ينتصر وينجح إلاّ لكي يُخليَ المكان لتلك التي سرعان ما ستحلّ محلها كي تشبع حاجة التغيير والتجديد التي يبديها المشاهدون والمتفرجون».

ما يمليه «مجتمع الفرجة»، مخالف أشدّ الاختلاف لما يمليه مجتمع «وجهًا لوجه»: «النجاح الذي يسعى إليه الإغريقي أمرٌ آخر: إنّ له بعدًا بطوليًا. وهو تحقيق إنجاز يضمن لصاحبه «المجد الخالد». في حياة بشرية حيث كلّ شيء معرّض للفناء، وحيث كلّ شيء عابر وانتقالي، شيء واحد يفلت من الفناء: وهو ليس النفس في داخلنا، ولا جسدنا الذي سيبعث، وإنما المجد، الذي يجعل من اسمك، ومن منجزاتك الخير العام المشترك بين كلّ الأجيال القادمة. هناك يمثُل الخلود: في ذاكرة البشر».

إنها ثقافة الخجل والشرف في مقابل ثقافات الخطأ والواجب.[2] «عندما يقوم إغريقي بفعل قبيح، لا يتولّد عنده شعور بأنه اقترف خطيئة، كما لو أنها مرض داخلي، وإنما يلازمه إحساس بأنه لم يكن أهلاً لما كان هو نفسه أو غيره ينتظرونه منه. إنه «يفقد وجهه». وعندما يحسن السلوك والتصرف، فليس وفقًا لإلزام فُرض عليه، أو بحسب قاعدة من قواعد الواجب سنّها الأمر الأخلاقي لعقل كوني. وإنما انجذابا نحو القِيم الجمالية والأخلاقية على السواء: قيمتي الحسن والقبح. ليست الأخلاق خضوعًا لإكراه، وإنما هي انسجام باطني للفرد مع نظام العالم وجماله».

مجتمع «وجهًا لوجه» تتحكم فيه أخلاق الشرف، أما الثاني فأخلاق الضمير. ثقافات المجتمع الثاني تميّز، على عكس الأول، بين الذاتي والموضوعي، بين الباطني والخارجي، بين الأخلاقي والسياسي. فما نعرضه اليوم على مرأى ومسمع من الآخرين ليس هو حياتنا الباطنية، أو على الأقل، ليس هو كلّ حياتنا وإنما هو صور مفبركة، وإخراج سينمائي يتلون بحسبِ الحاجيات الظرفية، وهي، بطبيعة الحال، صور ما تفتأ تزول لتدع المكان لأخرى تنقضها.

الصورة التي ترتسم في أعين الآخرين، في المجتمع جزء مِن هوية صاحبها وبعد مِن حياته الباطنية-الخارجية، وتحقيق لبطولة ورسم لمعلمة هدفها البطولة والترسّخ في الذاكرة. أما الصور التي تتناقلها وسائل الاتصال في مجتمعات الفرجة فهي تنتج بعد «إخراج»، في انتظار صور أخرى تحلّ محلها.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

[1] Jean-Pierre Vernant, Œuvres, Religions, rationalités, politique. Seuil, pp2049-2050

[2]يشير فرنان هنا إلى أن الفضل في تسليط الأضواء على فحوى هذا التقابل يعود إلى دودس Dodds ، العالم الإنجليزي المختص في الحضارة اليونانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى