مقاربات الحضارة في العالم العربي: تحوّلات مفهوم – عبد السلام الشدّادي
ترجمة: محمّد الحاج سالم

للتحميل بصيغة PDF: مقاربات الحضارة في العالم العربي (*): تحوّلات مفهوم- الشدادي
كلمات مفاتيح: حضارة، دين، فلسفة، جغرافيا، نهضة، عالم عربي
مفهوم الحضارة في العالم العربي في العصرين الكلاسيكي والوسيط
بعد ظهور الإسلام، طوّرت الثقافة العربيّة في العصر الكلاسيكي (من القرن التاسع إلى الحادي عشر للميلاد)، ثلاث مقاربات على الأقلّ لما نُسمّيه الآن “الحضارة”، كانت دينيّة وفلسفيّة وجغرافيّة، رغم أنّ المفهوم لم يكن حينها واضحًا بذاته، إذ لن يتطوّر نظريًّا إلاّ في القرن الرابع عشر مع ابن خلدون. وقد تمّ الجمع بين هذه المقاربات ومواءمتها في أكثر اللحظات ازدهارًا في التاريخ الإسلامي، أي في العصر الكلاسيكي، في بغداد وقرطبة والقاهرة، قبل أن يُصيبها الجمود تدريجيًّا في العصر الوسيط، رغم احتفاظها ببعض الحيويّة في الإمبراطوريّات الكبرى العثمانيّة والصفويّة والمغوليّة، حتّى عشيّة الحداثة. ومنذ القرن الثامن عشر وإلى أيّامنا، تعدّدت محاولات إحياء تلك المقاربات وتجديدها، ولكن دون سعي حقيقي نحو تجاوزها. ومقابل تدنّي المقاربة الفلسفيّة والعلميّة ثمّ موتها بسبب عجزها عن الالتحام بالفلسفة والعلوم الحديثة، أضحت المقاربة الدينيّة اليوم هي الأكثر قدرة على فرض نفسها، أو على الأقلّ على تصدّر المشهد.
المقاربة الدينيّة للحضارة
تُمثّل المقاربة الدينيّة بلا شكّ، وهي وريثة التراث اليهودي المسيحي، أكثر المقاربات أهميّة وديمومة. وبتطوّرها في إطار العلوم الدينيّة الإسلاميّة (الحديث، الكلام، الفقه، التصوّف)، ودون شكّ كذلك في الأعمال الأدبيّة والتاريخيّة، يبدو أنّها مارست في العصرين الكلاسيكي والوسيط وصولاً إلى أيّامنا، تأثيرًا هائلًا على تصوّرات مجتمعات العالم العربي حول الحضارة والمصير البشري والعلاقات بين البشر. وبقيامها على فصل العالم البشري عن العالم الإلهي وعلى خضوع الإنسان لسلطة متعالية ومطلقة، فقد ربطت مصيرهم بالوحي الإلهي وبدرجة طاعتهم له. وتسمح ثلاثة مفاهيم رئيسيّة تتعلّق بتعريف الذّات والآخر، وبالعلاقات مع بقيّة العالم، وبتنظيم الأمّة، من الوقوف على هذه المقاربة الأولى بأكبر قدر ممكن من الدقّة، وهي مفاهيم “الإسلام” و”الملّة” و”الأمّة“.
أمّا مصطلح “الإسلام“، الذي يعني الخضوع للإرادة الإلهيّة وارتهان الحياة الدنيا للحياة الآخرة، فيُستخدم من أجل تحديد هويّة الأمّة المسلمة، كما يُعبّر أيضًا عن نوع من الإسقاط لما كان يجب أن يكون عليه العالم في الماضي وما ينبغي أن يكون عليه في المستقبل. ولذلك، يُعتبر الإسلام الشرط المثالي للإنسان في سياق رؤية شاملة للتاريخ البشري. وقد صيغ نظام الإسلام – مجتمعًا وحضارة – على ثلاثة مستويات لاهوتيّة وقانونيّة وسياسيّة، وهو مكوّن من أتباعه الذين يُسمّونه “دار الإسلام“، مقابل نظام رافضيه المسمّى “دار الكفر” ونظام مُحاربيه المسمّى “دار الحرب“.
ولم يتحدّد موقع الإسلام هذا منذ الوهلة الأولى، بل كان نتيجة تطوّر بطيء تحوّلت خلاله القوّة العربيّة الجديدة، بعد اجتياح الجيوش العربيّة السريع للإمبراطوريّتين الفارسيّة والبيزنطيّة، إلى ما يُمكن اعتباره بحقٍّ أوّل إمبراطوريّة عالميّة ([1])، حيث اندمجت في الإسلام العديد من شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى وآسيا الوسطى والهند والشرق الأقصى، بما مكّنه من أن يتبوّأ موقع المهيمن على العالم طوال قرون عدّة. ولعلّ هذا الموقع يُذكّرنا في نواحٍ كثيرة، بموقع الإمبراطوريّة الوسطى الذي احتلّته روما في القديم، أو يحتلّه الغرب الحديث راهنًا. وقد ظلّ الإسلام قائمًا في العصر الوسيط على الرغم من تفكّك الإمبراطوريّة العباسيّة، وحافظ إلى يومنا هذا على مكانته الراسخة في تشكيل العقيدة الدينيّة الإسلاميّة وفي الفكر السياسي العربي الحديث.
أمّا مصطلح “الملّة“، فيُستخدم ببساطة في تصنيف الإسلام بوصفه دينًا أو رابطة دينيّة. وهو بهذا أقلّ تخصيصًا من مصطلح الإسلام، رغم أنّ المسلمين يكتفون عادة بمصطلح الملّة عند الإشارة إلى دينهم. وقد كان على الإسلام منذ نشأته أن يدخل في جدل مع الأديان الأخرى، ولاسيّما اليهوديّة والمسيحيّة والمانويّة، ولكن أيضًا مع إلحاد بعض الفلاسفة. وقد كُتبت رسائل منهجيّة حول الديانات الأخرى (كتب المِلَل والنِّحَل) في العصر الكلاسيكي؛ كما تواصلت حتى عشيّة العصر الحديث، كتابة أعمال في تمجيد الإسلام ودحض المسيحيّة واليهوديّة بشكل منتظم. ويُوجد عمل فريد يستحقّ الذكر هنا، وهو الرسالة المنهجيّة للرياضي والفلكي والفيلسوف البيروني (973-1048) حول دين الهند وفلسفاتها، والتي يُمكن اعتبارها أوّل عمل “علمي” غير مسبوق على الإطلاق حول دين مخالف ([2]).
وأخيرًا، يُحدّد مصطلح “الأمّة” المحوري في الفكر اللاهوتي والقانوني والسياسي الإسلامي، بشكل أدقّ طبيعة الإسلام وعمله. أوّلاً بوصفه مجتمعًا روحيًّا، وثانيًا بوصفه مجتمعًا سياسيًّا. وبما أنّ الأمّة الإسلاميّة التي تتشكّل من جميع المؤمنين غير مرتبطة بأرض محدّدة، فهي تتجاوز الزمان والمكان، لأنّها تشمل “مسلمي” الماضي كما مسلمي الأزمنة القادمة، وفي جميع أصقاع الأرض. كما أنّها تتسامى على الاختلافات العرقيّة واللغويّة والاجتماعيّة، وتعتبر نفسها من خلال زعمها علاقة مميّزة مع الله أنّها “خير أمّة أُخرجت للنّاس” وأنّها موعودة بالدّوام إلى قيام الساعة.
وفي علاقتها بنفسها، تعترف الأمّة بوجود انقسامات واختلافات مذهبيّة وسياسيّة داخلها وتعتبر ذلك من باب الرحمة الإلهيّة بها، وفي أسوأ الأحوال، شرًّا لا بدّ منه، لكن شرط عدم تجاوز تلك الاختلافات حدَّا معيّنًا، وإلاّ صارت محلّ رفض وباتت زندقة وكفرًا، وهو ما يُوجب حينئذ محاربتها. وقد شهدت بدايات الإسلام ولادة العشرات من النِّحل الدينيّة والمدارس العقائديّة والكلاميّة والفلسفيّة والفقهيّة، لكنّ عددها تقلّص تدريجيًّا لتنحصر لاحقًا في مذاهب اعتبرت قويمة. وطوال تاريخ الإسلام، قامت حركات إصلاحيّة لا تُعدّ ولا تّحصى وبدرجات متفاوتة من النجاح، وأدّت إلى ولادة معظم الممالك الإسلاميّة الكبرى. أمّا تجاه الخارج، فقد عرفت الأمّة الإسلاميّة رغم زعمها احتكار الدين الحقّ وأنّها مشمولة بالعناية الإلهيّة، تيّارًا قويًّا من التسامح، لاسيّما في الأوساط العلميّة والأدبيّة والصوفيّة.
وعلى الرغم من محدوديّة انتشاره جغرافيًّا طوال تطوّره، إلاّ أنّ الإسلام يُؤكّد، بمصطلحات دينيّة، بُعده الكوني المطلق بصفة لا تنقص في شيء عمّا يُعبّر عنه نظام الحضارة الغربيّة الحديثة بمصطلحات علمانيّة. فنحن نجد في كلتا الحالتين، نفس فكرة الانتشار على نطاق عالمي، ونفس فكرة قراءة التاريخ بأثر رجعي، ونفس الاهتمام بتجاوز اللغات والأعراق، ونفس التسامح تجاه الآخرين، ثمّ وبصفة خاصّة، نفس الميل إلى الزعم بأنّه أفضل نظام بشري ممكن. أمّا الفرق بين النظامين، فهو في ترجيح الأبعاد الدينيّة والروحيّة للإنسان من جهة الإسلام، والأبعاد العقلانيّة والماديّة من جهة الغرب.
وبما أنّ الأمّة هي في المقام الأوّل رابطة روحيّة مشكّلة من أفراد (المؤمنون المسلمون)، فهي تُعبّر عن نفسها بصفتها تلك عند حدوث ظرفين: أ) عند صياغة الشريعة الدينيّة (الكلام، الفقه) وتعيين أحكام جديدة عند الحاجة تُستمدّ من مصدري الشريعة الأساسيّين، القرآن والسنّة، عن طريق إجماع علماء الأمّة؛ ب) عند تعيين الخليفة، القائد الأعلى للأمّة، عن طريق أهل الحلّ والعقد، أي المجموعات أو الشخصيّات ذات الوجاهة الدينيّة أو الاجتماعيّة أو العسكريّة البارزة. وفي كلتا الحالتين، وعلى الرغم من الاعتراف بمبدأ المساواة على المستوى الديني، فإنّها تعمل من خلال نخبة فكريّة أو اجتماعيّة، وتُنشئ بالتّالي في داخلها انقسامًا بين “خاصّة” و”عامّة“، دون قدرة على التدخّل بشكل حاسم في طبيعة هذا الانقسام وتشكّله وتطوّره، إذ هو ضارب بجذوره في أعماق المجتمعات التقليديّة (القبليّة أو الحضريّة) التي انغرس فيها الإسلام تاريخيًّا.
وهكذا نرى أهميّة الدور السياسي النسبي للأمّة: السهر تحت إشراف رئيسها الأعلى على تطبيق الشريعة المنزّلة وتكييفها مع ما يستجدّ من ظروف؛ وإدارة الصراعات والخلافات داخلها والحفاظ على ازدهارها وسلمها وأمنها ووحدتها؛ وإدارة العلاقات داخليًّا مع الطوائف الدينيّة غير المسلمة (أهل الذمّة)، وخارجيًّا مع القوى الأجنبيّة، ولاسيّما التعامل مع القوى المعادية عن طريق الجهاد، أي الالتزام الديني بالقتال من أجل العقيدة، سواء من أجل نشر الإسلام في بقاع جديدة أو الدفاع عن أراضيه.
لكن الأمّة لا تحوز أيّ آليّة داخليّة منتظمة من شأنها أن تجعل منها رابطة سياسيّة. فبما أنها مشكّلة من مؤمنين، أي من أفراد بصفتهم تلك، فلا جذور اجتماعيّة لها ولا هي نتاج توافق بين عناصرها، وهذا ما يجعلها مجرّد رابطة روحيّة تعتمد العلاقة المباشرة لكلّ فرد مع ربّه وخضوع الجميع للشّريعة الإلهيّة. وإذا كان للعامل الاجتماعي (مع جميع العناصر الثقافيّة التقليديّة التي تُسنده) أن يلعب دورًا أساسيًّا في تشكّل الأمّة ويُنتج آثارًا حتميّة وحاسمة، فهو لا يتدخّل إلاّ بصفة عرضيّة لا تُوجبها الشريعة. وهذا ما يجعل وحدة الدين والسياسة التي تُنسب عمومًا إلى الإسلام، مجرّد صورة عقليّة أو في أقصى الحالات طوبى حالمة. ولعلّ هذا ما يصدقه حديث منسوب إلى النبيّ تبنّاه ابن خلدون وأعاد صياغته نظريًّا ([3]) مفاده أنّ نظام الخلافة الذي يتّحد فيه الديني والقانوني والسياسي لن يدوم بعد النبيّ إلاّ ثلاثين عامًا. وبهذا يكون التاريخ السياسي للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة هو تاريخ البحث عن توفيق بين متطلّبات الواقع على مستويين مختلفين: مستوى النظام المثالي الذي تحكمه الشريعة الإلهيّة، ومستوى الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعيّنت تاريخيًّا في مختلف مناطق العالم الإسلامي.
وقد استمرّ هذا الطابع المزدوج لنظام الإسلام بوصفه رابطة روحيّة موحّدة بشكل مثالي من جهة، ومجتمعات متعدّدة واقعيًّا من ناحية أخرى ويتضمّن بالتالي تناقضًا غير قابل للحلّ، في أشكال مخفّفة أو متحوّلة حتّى أيّامنا، وذلك على الرغم من التقلّبات الناتجة عن المواجهات المباشرة منذ القرن التاسع عشر مع القوى الغربيّة. وقد أدرك مؤلّفو كتب الأدب السياسي (نصائح الملوك والآداب السلطانيّة) هذا التناقض وحاولوا إيجاد حلول عمليّة له، كما توسّع فيه ابن خلدون بالتحليل في إطار نظريّته حول المجتمع والسلطة، لكن دون أن يجد له حلاًّ كما سنرى في المقاربة الفلسفيّة.
المقاربة الفلسفيّة
لم تستخدم الثقافة العربيّة في العصرين الكلاسيكي والوسيط بشكل صريح مصطلحات تُشير إلى “الحضارة” إلاّ في المقاربة الفلسفيّة، وهي “التمدّن“، و”المدينة“، و”العمران“.
فبعد ما يزيد قليلاً عن قرن من ظهور الإسلام، ترسّخت الفلسفة في الإمبراطوريّة العربيّة الجديدة في إطار حركة واسعة من اقتباس علوم البلدان المفتوحة وصنائعها، كما علوم القوى المعاصرة حينها مثل الهند والصين. وقد تمّ ترجمة أهمّ معارف العصور القديمة وتطويرها، ولاسيّما ما تعلّق منها بالطبّ والمنطق والرياضيّات وعلوم الفلك والهندسة الزراعيّة والجغرافيا. وقد بنت الفلسفة العربيّة، من الكندي إلى ابن رشد، نموذجًا مثاليًّا للفكر العقلاني الذي يشمل جميع جوانب الحياة الفكريّة والاجتماعيّة، وحاولت إعادة التفكير في الدين ومكانته في المدينة بطريقة عقلانيّة. وبذلك انتشرت ثقافة علميّة حقيقيّة على نطاق واسع، ممّا ساهم في تطوير تقنيات جديدة، وتحسين الصحّة العامّة، وتنظيم الإنتاج الزراعي والصناعي، إضافة إلى تحسين أساليب الإدارة وتدبير الشأن العامّ. كما أثّرت الفلسفة بعمق على مساحات واسعة من الثقافة العربيّة، ابتداءً من علم الكلام وصولاً إلى الأدب والنحو والتصوّف. وقد انتشرت المراكز العلميّة الرئيسيّة في جميع أنحاء أراضي العالم الإسلامي، وخاصّة في المدن الكبرى مثل بغداد وبُخارى وغزنة والقاهرة وقرطبة والقيروان وفاس، ثمّ لاحقًا في تمبكتو. ومنذ القرن الحادي عشر، عرفت العلوم التي نمت في العالم الإسلامي، من خلال إشعاعها على أوروبّا، توسّعًا لم يسبق له مثيل في التاريخ، مؤكّدة بذلك عالميّتها.
وقد طوّر الفلاسفة العرب، متابعين في ذلك التقليد اليوناني والهيليني، وجهتي نظر حول الإنسان: مثال أخلاقي يهدف إلى الكمال الروحي على المستوى الفردي من جهة، ومن جهة أخرى ضرب من الطوبى السياسيّة التي تقترح نموذج مدينة “فاضلة” أو “مثاليّة” بقيادة حكيم وتهدف إلى تحقيق سعادة أعضائها. وبالنّظر في مختلف أنواع الاجتماعات البشريّة، من المجتمع الإنساني ككلّ وصولاً إلى الأمّة، ومن التجمّعات الحضريّة الكبرى بتعدّد أجزائها وصولاً إلى الأسرة، استنتج الفارابي أنّ أكثر أنماط الاجتماع البشري اكتمالاً هو “المدينة“، وكتب حول هذا الموضوع عدّة رسائل. وعلى نقيض “المدينة الفاضلة“، حاول العديد من الفلاسفة تحديد مختلف أنواع المدن “الفاسدة“، انطلاقًا هذه المرّة من دراسة حالات ملموسة لُوحظت في المجتمعات الإسلاميّة. أمّا الفيلسوف ابن باجّة، وهو طبيب وعالم رياضيّات وشارح لأرسطو، فيعكس وجهة النظر هذه لينطلق من الفرد المتوّحد، محاولاً وصف وتحليل درجات ارتفاع الإنسان نحو الله.
أمّا ابن خلدون، فيكشف عمله في القرن الرابع عشر عن احتفاظ الفلسفة، أو بشكل أدقّ “العلوم الحِكَميّة”، ببعض قوّتها، وذلك على الرغم من تراجعها الواضح خلال القرنين السابقين وتزايد العداء الصريح تجاهها من جانب المتكلّمين والفقهاء. ومن وجهة النظر التي تهمّنا هنا، فإنّ تاريخ ابن خلدون، ولاسيّما المقدّمة التي تُمثّل مدخله النظري، هو أهمّ معبّر عن الثقافة العربيّة والإسلاميّة، سواء من جهة التفكير النظري حول “الحضارة” بشكل عامّ، أو من جهة كونه شهادة حيّة على الحضارة العربيّة.
فمن خلال تبنّي مقاربة فلسفيّة وتاريخيّة في آنٍ، يقترح ابن خلدون دراسة “المجتمع البشري” (الاجتماع الإنساني) أو “الحضارة” (العمران البشري) في جوهرها، وتفحّص مظاهرها الملموسة في التاريخ من خلال “حوادثها” (العوارض).وبهذه المقاربة التوليفيّة غير المعهودة، أنتج ابن خلدون أوّل محاولة غير مسبوقة مطلقًا في التنظير المنهجي للحضارة البشريّة عبر التاريخ، وفي دراسة المجتمع في مختلف جوانبه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
وإذ يصعب هنا عرض هذه النظريّة، حتى في خطوطها الكبرى ([4])، فإنّنا نكتفي في سبيل غرضنا بذكر أبرز النقاط التي تخصّها. ونُشير أوّلاً إلى مقاربته العامّة ومنهجه في البحث: فبإقامته “علم المجتمع والحضارة” على أساس الملاحظة والاستقراء والاستنتاج ومن ثمّ بناء سلسلة من النماذج التوضيحيّة، نلحظ وجود تشابهات لافتة للنّظر مع منهج “العلوم الإنسانيّة” التي ستتشكّل لاحقًا في أوروبّا بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. ثمّ نُشير إلى طابعها الشمولي: فرغم اعتماد ابن خلدون معرفته بمجتمعات شمال أفريقيا البربريّة والعربيّة، مع قلّة معرفته بالمجتمعات الواقعة خارج الأراضي الإسلاميّة، ولاسيّما الهند والصين وأوروبّا، إلاّ أنّه سعى مع ذلك إلى الاطّلاع على جميع المصادر الوثائقيّة المتاحة في عصره من أجل رسم صورة إناسيّة وتاريخيّة للبشريّة في مجملها. ويُمكننا اليوم الجزم بأنّ نموذج الأداء السياسي والاجتماعي الذي قام ابن خلدون بتطويره، رغم بعض النقاط القابلة للنقاش، ما يزال ملائمًا لتحليل المجتمعات الزراعيّة الرعويّة في حوض البحر الأبيض المتوسّط والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وهو يُواصل إلهام المؤرّخين وعلماء الإناسة وعلماء الاجتماع المعاصرين في هذه المناطق من العالم. فهذا النموذج، مع بعض التعديلات، يُمكنه أن يُشكّل قاعدة مثمرة لفهم اشتغال جميع المجتمعات البشريّة وتطوّرها ([5]).
ثمّ إنّ ابن خلدون يتجنّب مأزق تحديد المجتمعات بوصفها ماهيّات، وهو ما وقع فيه في العصر الحديث مؤلّفون مثل أوزوالد شبنغلر (Oswald Spengler) أو أرنولد توينبي (Arnold Toynbee). فمن خلال فهم البشريّة ككلّ منذ أوّل ظهورها إلى زمنه، فإنّه اعتبر الحضارة نظامًا واحدًا ينتقل من أبسط التعبيرات وأقلّها تطوّرًا إلى أكثرها تعقيدًا وثراءً. فالحضارة كما يرى، لا ترتبط بمجتمعات أو مناطق جغرافيّة بعينها، بل تتشكّل بالأحرى من مجموعة سِمَاتٍ أو مكوَّنات متماسكة ومتكاتفة يُمكن أن تشهد درجات مختلفة من البلورة والصقل، وخاصّة ما تعلّق منها بتطوّر السلطة والدولة، والتي يمكن أن تنتقل من مجتمع إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى من المعمورة.
ويُسلّط ابن خلدون الضوء على إيقاعين من الحضارة: أحدهما بطيء وثابت تقريبًا، يُحسب بالقرون إن لم يكن بآلاف السنين. ففي ظلّ ظروف مواتية ومحدّدة مثل اعتدال المناخ ووفرة السكّان ووجود دولة قويّة، يُطوّر الإنسان تدريجيًّا إمكاناته الإبداعيّة في مجالات إنتاج الموادّ والفنون والآداب، وكذلك في ميادين العلوم والأديان، لينتقل من مرحلة تلبية الضروري من الحاجات إلى مرحلة أكثر تعقيدًا، يطغى فيها الولع بالتّرف والكماليّات. ولا يعتمد هذا التطوّر الإيجابي في نظر ابن خلدون على العرق أو الموقع الجغرافي أو نوعيّة المعتقد. أمّا الإيقاع الثاني، وهو الأسرع والأكثر دوريّة، فهو مرتبط بالسلطة السياسيّة وبقيام الدّول والممالك وسقوطها في عالم معولم بالفعل، حيث تُشكّل مختلف الأجزاء “المتحضّرة” ما يُشبه الشبكة التي تترك خارجها المناطق التي لا تسمح ظروفها المناخيّة أو البيئيّة بظهور الإبداع الإنساني. ويصف ابن خلدون عبر مسار التاريخ، تناوب الممالك من أجل الاستيلاء على الثروات ومختلف مقوّمات الحضارة. ويُفسّر التناوب بتآكل السلطة، وبقابليّة مكوّنات الحضارة للفساد والارتداد.
ويُمثّل التوليف الذي يقترحه ابن خلدون للحضارة الإسلاميّة عبر التاريخ أمرًا بليغًا أيضًا. فهو يُسلّط الضوء على نشوئها بوصفها نتاج اقتران العصبيّة العربيّة بانبثاق الدين الإسلامي، ويُؤكّد ما ضمنته تلك الحضارة من مكانة للعمران الحضري الموروث عن الشعوب التي دخلت الإسلام ولإسهام كلّ منها على المستويات العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. ثُمّ هو يصف الأداء الاجتماعي والسياسي لمختلف المجتمعات التي تُشكّل الأمّة، ولاسيّما العلاقات بين قطبيها الريفي والحضري، ودورة نشأة الدول وتطوّرها وسقوطها، بالإضافة إلى تشكّل أهّم مؤسّساتها السياسيّة والعسكريّة والدينيّة والقانونيّة والتعليميّة وتطوّرها. وأخيرًا، فهو يرسم جدولًا عامًّا للظّروف الجغرافيّة والبيئيّة للبلدان الإسلاميّة، ويصف ما فيها من أنشطة اقتصاديّة (الإنتاج والتبادل والتوزيع) وأهمّ إنجازاتها العلميّة والأدبيّة والفنيّة.
والحقّ أنّه لا يمكن فهم نظريّة ابن خلدون بمعزل عن الخلفيّة الفكريّة والثقافيّة لعصره، الفلسفيّة منها والعلميّة والدينيّة والأدبيّة والتاريخيّة. ولكن نظريّته على المستوى العملي، كما كان يدرك هو نفسه، لم يكن لها كبير أهميّة عند معاصريه. لذلك، ولئن لم يتمّ رفضها، إلاّ أنّها لم تُدمج إلاّ بشكل ضعيف في معارف عصره والقرون التي تلت وفاته، إلى حدود العصر الحديث. وهي وإن فتنت عددًا من المؤرّخين الأتراك في القرن السادس عشر والعديد من المفكّرين العرب انطلاقًا من نهاية القرن التاسع عشر، إلاّ أنّها ما تزال أبعد ما تكون عن الفهم والتوظيف الأمثل في العالم العربي اليوم.
المقاربة الجغرافيّة
لعبت الجغرافيا العربيّة، وهي وريثة المعارف الهنديّة والفارسيّة واليونانيّة، دورًا رائدًا في تنظيم الإمبراطوريّة العربيّة وإدارتها، وبصفة خاصّة في تشكيل الوعي الذاتي للمسلمين ورؤيتهم الملموسة للعالم ولمكانتهم فيه. وبوصفها مؤشّراً على التقدّم العلمي الذي حقّقته الثقافة العربيّة في مجال دراسة الأرض من وجهة نظر علوم قيس الأطوال والمساحات والفيزياء والخرائط، فهي تهمّنا هنا بصفة خاصّة في جانبها الإيديولوجي المتعلّق بتصوّر الحضارة. وعلى الرغم من أنّ العادة تقتضي إدراج المقاربة الجغرافيّة ضمن المقاربة الفلسفيّة، نظرًا لأنّ الجغرافيا كانت جزءًا من “العلوم الحِكَميّة”، فقد بدا لنا من الأنسب تقديمها بشكل مستقلّ بسبب أهميّتها الخاصّة في تحديد هويّة الحضارة العربيّة في العصر الكلاسيكي.
وقد قسّم الجغرافيّون المسلمون العالم وفق تصوّرين: الأوّل طولي أو مناخي، والثاني محوري. ففي الحالة الأولى، وضعوا الإسلام في الإقليم الأوسط أو المعتدل، وهو الأنسب لازدهار الحياة الروحيّة والحضارة. وفي الحالة الثانية، قدّموه على أنّه مركز العالم أو سُرّته. ويُؤكّد تقسيم أنساب البشريّة المكانة البارزة للمسلمين، إذ يجعل العرب (وأحيانًا الفُرْس) من نسل سام بن نوح الذي انحدر منه، حسب الروايات التوراتيّة، جميع الأنبياء بعد الطوفان.
ووفقًا لمفهوم سياسي أكثر صرامة، قسّم المسلمون العالم إلى ممالك، وعرّفوا مملكة الإسلام في العموم بالتضادّ مع ممالك الهند والصين وبيزنطة، بل واكتفى بعض الجغرافيّين بالإشارة إليها باسم “المملكة” حصرًا وقسّموها إلى أقاليم يسهل التعرّف عليها من خلال حدودها الطبيعيّة وتشكيلاتها الماديّة وتقاليدها، ووصفوها بشكل منهجي وفق تصنيف ثلاثي: الأوّل حسب الظروف الماديّة والموارد الطبيعيّة؛ والثاني وفق أنشطة السكّان وعاداتهم؛ والثالث تبعًا لتنظيمها السياسي وإنجازاتها الاقتصاديّة والثقافيّة. أمّا تعريف العالم غير الإسلامي، فقد تقاسمته رؤيتان: إحداهما مفيدة على المستوى الدبلوماسي والتجاري وهي الأقرب إلى الواقع؛ والأخرى يطغى عليها الطابع الغرائبي أو الوعظ الأخلاقي، ولا تسلم في الغالب من الانزلاق نحو الخرافة. وفي العموم، فقد اعتنت هذه الأدبيّات الجغرافيّة شديد العناية بسمات الحضارة أينما ظهرت الكتابة والفنون والعلوم والتقنيات والحرف اليدويّة والمنتجات الزراعيّة؛ والسلطة وتنظيمها ومظاهر أبّهتها وإحساسها بالعدالة؛ والمدن ودرجة التحضّر؛ ومختلف أشكال التفنّن في العيش. كما شدّدت، دون معارضة “حالة التحضّر” مع “حالة التوّحش”، على وجود تدرّج بين ما يُعتبر قاعدة وما يُعتبر زيغَا، وبين ما يُعتبر مبتذلاَ وما يُعتبر غريبًا أو عجيبَا. ومن ناحية أخرى، فقد نظرت إلى “الحضارة” دومًا، وهي تعدديّة في جوهرها، بأنّها نسبيّة ومندرجة ضمن سياق عامّ يتميّز بالضرورة بالتنوّع، وأنّه يمتنع على أيّ دولة أو أمّة أن تأخذ بجميع جوانبها في وقت واحد. أمّا إذا دعت الضرورة إلى التأكيد على أهمّ سمة من سمات التفوّق الإسلامي، فهي الدين: فلا معنى للعالم إلاّ باعتناق الإسلام الحقّ.
مفهوم الحضارة في العالم العربي في العصر الحديث
وهكذا انبثقت عن الفكر العربي والإسلامي في الفترة الكلاسيكيّة رؤية شاملة للحضارة، ثريّة ومتناقضة إلى حدّ ما، دون أن يُلغي ذلك تماسكها الواضح. وقد كان من شأن تداخل الركيزتين اللتين استندت إليهما، وهما الركيزة الدينيّة من ناحية والركيزة الفلسفيّة والعلميّة من ناحية أخرى، أن أخصبت كلتاهما الأخرى بما أدّى إلى تشكّل إمبراطوريّة عالميّة مزدهرة اقتصاديًّا وثقافيًّا. وخلال العصر الوسيط، لم يؤدّ تنامي التعارضات بين الفلاسفة والمتكلّمين والفقهاء، والتناقضات التي لم يتمّ حلّها بين التنظيم الاجتماعي العميق والنظام السياسي، والانقسامات الداخليّة والهجمات الخارجيّة (الحملات الصليبيّة المسيحيّة والغزوات المغوليّة)، إلى أيّ تعديل أساسي في المقاربات الثلاث التي وصفناها للتوّ، لكنّها شوّهتها أو طمست بعض جوانبها وأعطتها أشكالًا أكثر عقائديّة. وبالتالي، فإنّ استئناف هذه المقاربات في العصر الحديث لن يكون بالضّرورة سوى استئناف لها في أفقر أشكالها وأشدّها جمودًا.
لكنّنا لن نفهم شيئًا عن الصياغات الجديدة التي عرفها مفهوم الحضارة في العالم العربي ما لم نأخذ في الاعتبار وبشكل كافٍ، علاقاته مع أوروبّا. فقد كانت تلك العلاقات في البداية تحكمها الهيمنة الإسلاميّة حتّى القرن الخامس عشر، قبل أن تخضع للتّوازنات العالميّة الجديدة التي بدأت ترتسم منذ ذلك الحين، لتُضحي منذ القرن الثامن عشر خاضعة بشكل متزايد لتأثير الأفكار والمفاهيم القادمة من أوروبّا وللهيمنة الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة الأوروبيّة.
على أنّ أوروبّا لن تُطوّر رؤاها للعالم ومفاهيمها للحضارة إلى نظام أو أنظمة متماسكة إلاّ بطريقة تدريجيّة. ولن يُدرك العرب والمسلمون بشكل عامّ في البداية من هذه القوّة الجديدة سوى بعض جوانبها الجزئيّة والمتباينة التي ارتبطت في الغالب بالتفوّق العسكري والبحري، وبالمنافسة التجاريّة والكفاءة التكنولوجيّة. ومع ذلك فقد تسلّحوا، رغم ما كانوا يواجهون من صعوبات، بتصوّرات تقليديّة للحضارة أكثر شمولًا وتماسكًا بدت لهم حينها أكثر صوابًا، وهو ما مكّنهم من أن يقاوموا بكلّ قوّة تصوّرات خصومهم، مع محاولة استيعاب ما بدا لهم منها مقبولاً ونافعًا.
وقد كشف تنامي قوّة الدّول الأوروبيّة الساحقة أمام المفكّرين العرب نقاط ضعف ثقافتهم القائمة. غير أنّ الصياغات الجديدة لمفهوم الحضارة التي حاولوا من خلالها استعادة المبادرة ما تزال إلى اليوم منفعلة بشكل أساسي أكثر منها فاعلة، وهي لا تستجيب لحركيّة تطوّر داخلي بقدر ما تُحاول سدّ ثغرات نظام قديم يخشون انهياره الوشيك، والردّ على تحديّات خارجيّة ضاغطة بشكل متزايد. ومن ناحية أخرى، فإنّ وقوعها في سياق الاستعمار الأوروبي ثمّ في إسار الأنظمة العربيّة الاستبداديّة التي حلّت محلّها بشكل دائم، جعلها تُعاني بشكل خاصّ من ظروف فكريّة وماديّة صعبة وهشّة.
المقاربة الفلسفيّة والعلميّة في العصر الحديث
لم تتجدّد الجغرافيا العربيّة الكلاسيكيّة التي ظلّت حيّة حتى القرن الرابع عشر، بشكل كبير في القرون التالية، ربما باستثناء ما شهدته الإمبراطوريّة العثمانيّة من تطوير نسبي في أساليبها، لكن دون أن يرقى ذلك إلى درجة حصول تحوّل حقيقي. وبذلك لم يعد لديها ما تُقدّمه في سبيل معرفة الأرض والبشر، ولاسيّما ما تعلّق منها بأوروبّا والعالم الجديد اللّذين ظلاّ غريبين عنها، حيث لم تُبذل أيّ جهود لاستيعاب المعارف الجغرافيّة والإناسيّة الجديدة التي راكمتها أوروبّا منذ القرن السادس عشر. لقد تخلّت بكلّ بساطة عن أنماطها القديمة المتجاوَزة، تاركة العالم العربي والإسلامي دون بوصلة فكريّة لمواجهة التوسّع الأوروبّي أو افتكاك موقع في العالم.
أمّا الفلسفة ([6])، فقد تحوّلت في أعقاب اضطهاد ابن رشد وتلاميذه، إلى شبح في الغرب الإسلامي، حيث اختفت تمامًا مع نهاية القرن الخامس عشر بعد وفاة ابن خلدون؛ كما أنّها لم تدم طويلاً في الشرق، بما في ذلك بلاد فارس التي لم تشهد سوى حيويّة فلسفيّة محدودة مع مفكّرين أمثال السهروردي والشيرازي اللذين قاما بمحاولة أخيرة للتوفيق بين الفلسفة واللاهوت. والأسوأ من ذلك، أنّ العلوم والتقنيات، المرتبطة تقليديًّا بالفلسفة، انهارت بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر ولم تتمكّن من منافسة العلم الأوروبّي الذي كان يتقدّم حينها بخطوات عملاقة. أمّا علوم الإنسان الجديدة، وخاصّة الجغرافيا والتاريخ والإناسة وعلم الاجتماع والعلوم السياسيّة والاقتصاد وعلم النفس، وهي عماد تنظيم المجتمع الحديث وفاتحة آفاق جديدة للتاريخ البشري والحضارة، ولئن لم تواجه رفضًا، غير أنّ استيعابها ضمن الثقافة العربيّة لم يتمّ إلاّ بصفة جدّ محدودة، وهي ما تزال تُواجه إلى اليوم مقاومة قويّة، في ظلّ نسيان تامّ تقريبًا لإسهامات ابن خلدون الرائدة في هذا المجال.
وقد عكست حركة النهضة بين عامي 1850 و 1914 وعي العرب بالفجوة الفاصلة بين ثقافتهم المتكلّسة وثقافة الغرب الحديث المزدهرة. وقد كان لجمال الدين الأفغاني (1839-1897)، أوّل فيلسوف مسلم حداثي بحقّ وأحد أبرز ممثلّي هذه الحركة مع تلميذه محمّد عبده، وكان لها تأثير هائل في كلّ من تركيا ومصر وفي دول عربيّة أخرى. وبما أنّ الأفغاني إصلاحي سلفي، فإنّ مقاربته للحضارة تبدو لنا اليوم، على الرغم من عقلانيّته، أقرب إلى المقاربة الدينيّة منها إلى المقاربة الفلسفيّة. فقد دافع عن الإسلام كدينٍ يُمكن فهم عقائده الأساسيّة بطريقة عقلانيّة وخالية من كلّ غموض، وتميّز تفسيره الجديد لتاريخ الأمم برؤية تجعل الدين حافزًا لتقدّم البشريّة ([7]).
أمّا تلميذه محمّد عبده (1849-1905) وبعد أن تلقّى في بداياته تعليمًا تقليديًّا، فقد أوغل بتأثير منه في عقلنة الدين، واقترح تفسيرًا عقلانيًّا للقرآن الكريم وانتقد بشدّة الفصل بين الدين والعلم. ومع ذلك، فإنّ نقده لعقلانيّة الفلاسفة العرب يُظهر أنّ هدفه الأساسي كان مثل هدف أستاذه الأفغاني، أي الدّفاع عن إسلام متجدّد ومتكيّف مع ظروف العصر الحديث، لكنّه متّسق مع عقائد “السلف الصالح” ([8]). ونحن نلحظ مثل هذا التوجّه على وجه الخصوص في ردّه على وزير الخارجيّة الفرنسي آنذاك جبرائيل هانوتو (Gabriel Hannotaux) الذي أثار مسألة قدرة الإسلام على مواجهة متطلّبات الحضارة الحديثة وتوتّراتها ([9]). وقد كان هذا التوجّه “الأصولي” أكثر وضوحًا عند رشيد رضا (توفّي عام 1935) الذي نذر نفسه من خلال مجلّة “المنار”، التي خلفت مجلّة “العروة الوثقى” التي برزت فيها كتابات الأفغاني وعبده، لخدمة قضيّة الوحدة الإسلاميّة وإنشاء إمبراطوريّة إسلاميّة جامعة تحت راية السلطان العثماني.
وطوال القرن العشرين، ظلّ التفكير في مسألة الحضارة في العالم العربي مرتبطًا بشكل أساسي بالتغيّرات التي يجب إدخالها على النظام الإسلامي لتكييفه مع العالم الحديث، وبالدّفاع عن الشخصيّة الإسلاميّة في مواجهة منتقديها. ووقد كان شعور العالم العربي بأنّه ما يزال مهيمنًا عليه سياسيًّا واقتصاديًّا، وأنّه يُقارع صعوبات بناء دول واقتصاديّات حديثة، وراء وقوفه المستمرّ في موقف المدافع، ولم يتمكّن من إنتاج تصوّرات جديدة للحضارة سواء لنفسه أو للعالم.
وقد قام بعض المؤلّفين، مثل سيّد قطب ومحمّد البهيّ ([10])، بتجذير مواقف أسلافهم في القرن التاسع عشر وتغذية تيّار واسع من الجدل المعادي للغرب استهدف الغرب بقدر ما استهدف المفكّرين العرب المتّهمين بالتبعيّة الذليلة له مثل محمّد إقبال وطه حسين، أو المتّهمين بكونهم من أنصار العلمانيّة، مثل عليّ عبد الرازق وخالد محمّد خالد. أمّا عبّاس محمود العقّاد ([11])، فكان أكثر اعتدالاً إذ صرف جهده تحديدًا في الدفاع عن العقيدة الدينيّة بشكل عامّ ضدّ اللاأدريّين الذين اعتبروا الدين غير ضروري أو من باب الوهم، وفي إظهار تفوّق الإسلام بتميّزه على بعض الأديان مثل المسيحيّة أو الوثنيّة بتصوّره الحياة كلاًّ لا يتجزّأ، بدل القول بانفصال الجسدي عن الروحي، والسماوي عن الأرضي.
ومع عبد الرحمان بدوي في مصر (دراسة في الفلسفة الوجوديّة، 1961) ورينيه حبشي في لبنان (فلسفة لزمنيّة الحاضر، 1964)، أضحى لدينا مفكّران من أبرز من تمثّل التيّارات الفلسفيّة السائدة في الغرب. فقد حاولا من خلال تبنّي أهمّ قضايا الفلسفة الوجوديّة تكييفها مع السياق الثقافي للمجتمعات العربيّة، واقترحا بمصطلحات حديثة التفكير في الإنسان وفي المصير البشري بشكل مستقلّ عن المسلّمات الإسلاميّة التقليديّة. ومن ناحية أخرى، وجدت الفلسفة الوضعيّة مدافعًا متحمّسًا في أعمال الكاتب المصري اللبناني شبلي شميّل الذي كان لأفكاره تأثير كبير خلال النصف الأول من القرن العشرين على دوائر المثقّفين والكتّاب العرب مثل قاسم أمين وفرح أنطون ويعقوب صرّوف وسلامة موسى الذين انحازوا إلى علمانيّة مستوحاة من النموذج الأوروبّي. وفي العقود التالية، عمّق الفيلسوف المصري زكيّ نجيب محمود ([12]) أفكار الوضعيّة المنطقيّة في العديد من أعماله، مؤكّدًا على وجه الخصوص أنّ قرننا هو قرن العلم ولا مكان فيه للتأمّلات المجرّدة والإلهام الإلهي، واقترح “علاجًا” من أجل “تجديد الفكر العربي“، وهو عنوان أحد آخر أعماله (1971). وقد جادل بأنّ مبدأ كلّ تقدّم في الفكر العربي هو القطع مع السلطويّة والتقليديّة والشقشقة اللفظيّة التي تمنع عبوره نحو التقدّم والابتكار، ودعا إلى التخلّي عن المفهوم القديم للّغة العربيّة الذي يجعلها موضوع تبجيل بدلاً من اعتبارها أداة تواصل وتعبير علمي أو رمزي فنّي، والشروع بحزم في سياسة تطوير علمي وتقني بوصفها الشرط الأساسي لكلّ تقدّم.
أمّا مواقف المثقّفين العرب إزاء الأفكار الاشتراكيّة والماركسيّة، فقد بدت للحظة وكأنّها علامة تحوّل حقيقي في الفكر العربي نحو مقاربة كونيّة للحضارة، حيث تبنّوا رؤية نقديّة لحضارتهم واعتمدوا مبادئ رؤية ماديّة للتّاريخ، باحثين عن الإستراتيجيّة الأكثر فاعليّة في تحقيق تحرّر الشعوب العربيّة وتقدّمها. غير أنّ الجدل حول الاشتراكيّة الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر واستمرّ حتى النصف الثاني من القرن العشرين، أدّى إلى تذبذب المواقف بين الإدانة الكاملة والقبول التامّ، حيث أزعجت الأمميّة المعلنة للماركسيّة المدافعين عن الوحدة العربيّة، كما صدمت ماديّتها ومعاداتها للغيبيّات مؤيّدي الوحدة الإسلاميّة والمتدينّين التقليديّين. وقد قدّم الفيلسوف السوري صادق جلال العظم في كتابه “نقد الفكر الديني” (1969) أحد أهمّ العروض حول المذهب الماركسي.
وعلاوة على ذلك، جرت محاولات لإعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي وكذلك تاريخ الفكر العربي في ضوء التصوّر المادّي للتّاريخ، وخاصّة مع مؤلّفين مثل السوري طيّب تيزيني (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، 1971)، والمغربي عبد الله العروي (أزمة المثقّفين العرب، 1974)، واللبناني حسين مروّة (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، 1978). وإلى جانب ذلك، نجد بعض المواقف القريبة من هذا الطرح عند عدد من المؤلّفين الآخرين الذين دعوا إلى النظر بشكل أكثر شموليّة وأكثر صرامة في البعد التاريخي، ومنهم على وجه الخصوص المصريّان فؤاد زكريّا وحسن حنفي. وقد اقترح هذا الأخير اعتماد استغراب عربي في مواجهة الاستشراق الغربي، وطوّر مفهوم التوحيد الذي ينطوي على مبدأ وحدة ومساواة يصلح لجميع الشعوب، وانتقد المحافظين الأصوليّين والإسلامويّين، ودافع عن فكرة إعادة تفسير الوحي بمصطلحات حديثة، تلبية لمتطلبّات عالم اليوم.
ومن المفارقات، أنّ المقاربة التي تمّ حشدها بشكل مكثّف لإعادة التفكير في مفهوم الحضارة من بين المقاربات الثلاث للحضارة التي تمّت صياغتها في العصر الكلاسيكي، لم تكن المقاربة الفلسفيّة، ولا المقاربة العلميّة التي تستند إلى معطيات الجغرافيا البشريّة أو النياسة الوصفيّة (الإثنوغرافيا)، بل كانت كما أشرنا من قبل، المقاربة الدينيّة التي سنفصّل الحديث عنها لاحقًا. ولقد كان بإمكان المقاربتين الأوليين، بوصفهما أكثر انفتاحًا على العقلانيّة وأكثر تفاعلاً مع السياق التاريخي والجوانب الماديّة والمحسوسة لحياة المجتمعات، وبطريقة ما، أقرب إلى المفاهيم الأوروبيّة الجديدة (ولنفكّر بشكل خاصّ في نظريّة الحضارة عند ابن خلدون!)، أن تُساعدا العرب على مواكبة الاتّجاهات الحديثة. ولئن بُذلت محاولات في هذا الاتّجاه، إلاّ أنّها لم تتجاوز مستوى الدراسات العامّة أو الجدل الإيديولوجي، وفشلت في تحقيق “التحام” حقيقي بين الموروث الفلسفي والعلمي العربي وبين العلوم الحديثة. فنحن نلحظ حاليًّا أنّ تقبّل هذه العلوم ما يزال ضعيفًا في العالم العربي بدرجة لا تسمح له مطلقًا بدخوله في منافسة متكافئة مع الأمم الأكثر تقدّمًا، أو المشاركة الفاعلة في ما يشهده العالم من إعادة تعريف مصير الإنسان والحضارة.
المقاربة الدينيّة في العصر الحديث
دون استبعاد التفكير المتجدّد في الدين بوصفه روحانيّة ذات رؤية عميقة، يجب أن نفهم المقاربة الدينيّة للحضارة التي تمّت صياغتها على عجل في العالم العربي منذ حوالي القرن الثامن عشر ([13]) على أنّها صدى ردّ فعل دفاعي، وهذا ما نُصرّ عليه مرّة أخرى، تجاه صعود أوروبّا ونزعتها التوسعيّة. أضف إلى ذلك، أنّه كان من السهل على كلّ من القوى الغربيّة والأنظمة العربيّة الاستبداديّة وبعض ما يُسمّى الحركات “الإسلامويّة”، التلاعب بالدّين من أجل تعزيز الهيمنة أو السلطة أو الحفاظ عليها، أو توظيفه من أجل الحصول على ذلك. وقد كان من شأن تنمية اقتصاديّة بطيئة وضعيفة نسبيًّا، وسياسة تعليميّة وعلميّة وثقافيّة غير فعّالة، إضافة إلى تنظيم سياسي ثيوقراطي أو استبدادي، أن أوجدت ظروفًا مواتية لنشر مفهوم وثوقي للدّين وتعزيزه لكي يغدو هو المهيمن راهنًا.
وقد رأينا كيف صاغ الإسلام في العصر الكلاسيكي رؤية شاملة ومتّسقة للحضارة راعت جوانب الهويّة، وأنّها اقترحت أيضًا نموذجًا للتّنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، وفنّ عيش ومُثُل فكريّة وروحيّة عالية، وكذلك نظرة كونيّة للتنوّع البشري. وحين اكتشف العالم العربي بمرارة واستغراب مدى ضعفه في مواجهة القوى الغربيّة الجديدة، وجد أنّ أفضل وسيلة للدّفاع هي التماهي مع الإسلام الذي شكّل منذ ظهور العرب على الساحة العالميّة المحور المركزي لشخصيّتهم العميقة ولعلاقتهم بالآخرين. وقد كانت الإيديولوجيا التي بُنيت على هذه الدعامة، والتي لم تتغيّر إلاّ قليلاً طوال قرون، تستند إلى عناصر معادلة لتلك التي ستُبنى عليها الهيمنة الغربيّة، وهي الكونيّة، والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة للحضارة، والمكانة البارزة الممنوحة للعقلانيّة، وتأكيد التفوّق على الآخرين مع الاعتراف بقدر من النسبيّة الثقافيّة، والتعدديّة والتسامح الديني النسبي، والدفاع عن كونيّة العلم والتقنيات، وتجاوز الانقسامات العرقيّة واللغويّة، وصولاً إلى ادّعاء تجسيد أفضل نظام بشري ممكن. ولذلك كانت إعادة تنشيط قاعدة الهويّة العربيّة أمراً طبيعيًّا وضروريًّا. لكن التشبّث بها، منع العالم العربي من فهم الاختلافات بين الأسس التي بُنيت عليها هيمنته السابقة وتلك التي أقام عليها الغرب الحديث هيمنته. وبذلك حكم على نفسه بأن يظلّ منجذبًا إلى الماضي أكثر من المستقبل، معتقدًا عدم جدوى إعادة التفكير في قواعد جديدة لمواجهة العالم الجديد، والاندماج فيه، واحتلال المكانة التي يستحقّها جنبًا إلى جنب مع بقيّة الشعوب التاريخيّة العظيمة.
ولقد سمح العالم العربي لنفسه بالتخلّف في مسار تأسيس الحداثة على جبهتين، أوّلها جبهة التنظيم المادّي والاقتصادي القائم على الثورات العلميّة والتقنيّة التي تتابعت في أوروبّا انطلاقًا القرن الخامس عشر؛ والثانية هي جبهة التنظيم الاجتماعي والسياسي القائم على الثورات التي أخرجت أوروبّا من الفيوداليّة ومكّنتها بعد عدّة قرون من الأزمات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة العميقة والحروب شبه الدائمة، من بناء نموذج جديد للمجتمع، وهو الدولة القوميّة. بيد أنّ الإيديولوجيا القائمة على الإسلام، رغم شبهها في جوانب كثيرة مع إيديولوجيا أوروبّا الحديثة، لم تكن فاعلة فيما يتعلّق بهاتين الرافعتين للقوّة الأوروبيّة، ولم تتمكّن في أحسن الأحوال إلاّ من توفير دعم معنوي للعرب وزرع بعض الأمل فيهم. غير أنّها بدلاً من أن تكون مجرّد مرحلة انتقاليّة، فإنّها استمرّت حتى القرن العشرين. ومن ناحية أخرى، كما يُوضّح مثال مصر في عهد محمّد عليّ باشا أو جمال عبد الناصر، فإنّ القوى الأوروبيّة التي هيمنت على العالم العربي منذ نهاية القرن الثامن عشر لم تُفسح له المجال للقيام بكلّ ما يحتاجه من إصلاحات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة عميقة، وأن يكون قادراً على تجديد مفهومه للحضارة.
وبهذا، فقد كانت الأفكار الجديدة التي صاغها العالم العربي بشكل ضمني أو صريح حول مفهوم الحضارة، ناتجة عن رغبة في التحصّن والمقاومة أكثر منها عن رغبة في اقتحام المستقبل والتجديد والطموح الكوني في عالم حديث كان منذورًا منذ ظهوره لكي يتجانس ويتعولم. وقد قامت أغلب تيّارات الصوفيّة الإصلاحيّة، والإصلاحيّة الإسلاميّة الليبراليّة منها والاشتراكيّة، والقوميّة العربيّة والعالميّة الإسلاميّة، بتبنّي مرجعيّة دينيّة. وبالطّبع، فإنّ الإسلام الحديث على ما أشار العديد من المؤلّفين، ليس مجرّد استنساخ بسيط لإسلام جامد لم يتغيّر على مرّ القرون. فحركة التحديث المكثّف منذ القرن الثامن عشر في اتّجاه نقد المعرفة الدينيّة المؤسساتيّة ومحاربة التزمّت العقائدي واحتكار السلطة الدينيّة وتبسيط مفاهيم الدين ومقولاته، والتطبيع مع أحكامه وعقلنة عقائده وتصوّراته الأساسيّة، أعطت الإسلام وجوهًا جديدة وحديثة بحقّ، هي ما تجسّد في مختلف حركات الإصلاح والتجديد الدينيّة، والحركات القوميّة والاشتراكيّة، وغيرها من الحركات. وقد أدّت “أدلجة” الإسلام هذه إلى تحويل معاييره وقواعده وأحكامه، بل وعقيدته، إلى نظام أفكار يُمثّل قيمًا عامّة، بما أدّى إلى صياغة جديدة لعلاقة الإنساني بالإلهي من أجل إعادة البناء الاجتماعي والأخلاقي للعالم. كما أدّى كذلك دون قصد منه أو تفكير مسبق، إلى إعادة بناء المقدّس، بوصفه رحم الديني، كموضوع للتّاريخ وللفكر والعمل، أي بعبارة أخرى، إعادة بناء الدّيني باعتباره سُموًّا، وباعتباره محايثة. لكن الديني، وقد تعيّن عليه الامتثال أوّلاً لمقتضيات المصلحة الاجتماعيّة، ولّد تلاعبًا سياسيًّا مكثّفًا. فقد عملت الدول التي تدّعي الحقّ الحصري في هذا التلاعب، على خلق أشكال جديدة من التشدّد الديني معتقدة أنّها قادرة من خلال مقاومة رياح الإصلاح السياسي والاجتماعي وإهمال البحث والتفكير في التغيّرات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تمرّ بها مجتمعاتها، على أن تُواصل تعزيز سلطتها، كما في عهد الغزالي، بالاستناد إلى الفقهاء في “سياسة الناس وإخضاعهم“.
ومع ذلك، فإنّ هذه “العودة إلى الدين” لا ينبغي أن تخدعنا إذا ما اختزلت في مجرّد رديف سياسي، إذ أنّ ذلك لا يجعلها قادرة على أن تُشكّل منظورًا قابلاً للحياة والديمومة سواء بالنّسبة لاستقرار الدّول أو لتطوير المجتمعات العربيّة وازدهارها، ناهيك عن مساهمتها في رسم آفاق جديدة للعالم وللإنسان بشكل عامّ. لذا، فإنّ الدّول العربيّة الاستبداديّة باعتمادها سياسة تجهيليّة مقصودة تطمس تراثها العلمي والفلسفي وتُغلق الأبواب أمام الفلسفة والعلوم الحديثة، إنّما تحكم على مجتمعاتها بالتبعيّة والعُقْم، بل بتفاقم البؤس والقصور.
* – عبارتا “الحضارة العربيّة” و”العالم العربي” مجرّد صيغتين لواقع غير محدّد جغرافيًّا وتاريخيًّا وفكريًّا. والنصوص والمؤلّفون ووجهات النظر التي سيتمّ الاستشهاد بها والتي لن تكون عربيّة دائمًا، ستكون بالضّرورة جزئيّة. ولمقتضيات الإيجاز، سنقتصر على عدد محدود من الاعتبارات العامّة المتعلّقة بالمفاهيم والرؤى في العموم، دون خوض في التفاصيل.
[1] – انظر:
Fowden (Garth), Empire to Commonwealth, Princeton University Press, Princeton (NJ), 1993.
[2] – البيروني (أبو الريحان، محمّد بن أحمد الخوارزمي)، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، دائرة المعارف العثمانيّة، حيدر آباد الدكن، الهند، 1958.
[3] – انظر:
Cheddadi (Abdesselam), Ibn Khaldûn : l’homme et le théoricien de la civilisation, Gallimard, Paris, 2006, pp. 349 sq.
[4] – من أجل عرض شامل لنظريّة ابن خلدون حول الحضارة، انظر:
Cheddadi, Ibn Khaldûn: l’homme et le théoricien de la civilisation, op. cité.
[5] – حول هذه النقطة، انظر:
Cheddadi (Abdesselam), « Le monde post khaldûnien », conférence inaugurale prononcée dans le colloque « Pour une relecture de la mondialisation », tenu à la Fondation du roi Abdul Aziz à Casablanca les 17-18 décembre 2009.
[6] – حول تاريخ الفلسفة الإسلاميّة الحديثة، انظر:
Fakhry (Majid), Histoire de la philosophie islamique, trad. De l’anglais par Marwan Nasr, éd. Du Cerf, Paris 1989.
[7] – انظر: الأفغاني (جمال الدين)، رسالة الردّ على الدهريّين، نقلها من الفارسية إلى العربيّة: محمّد عبده، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1955؛ الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، جمع وتحقيق: محمّد عمارة، ط 1، مكتبة دار السلام، القاهرة، 2016.
[8] – انظر عمليه الأساسيّين: عبدة (محمّد)، الإسلام دين العلم والمدنيّة، القاهرة، 1984؛ رسالة التوحيد، القاهرة، 1963.
[9] – انظر:
Adams (Charles C.), Islam and Modernism in Egypt: a study of the modern reform movement inaugurated by Muḥammad ʻAbduh, Oxford University Press, London, 1933.
[10] – انظر: قطب (سيّد)، الإسلام ومشكلات الحضارة، دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة، 1963؛ البهيّ (محمّد)، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مكتبة وهبة، القاهرة، 1957.
[11] – انظر بالخصوص: العقّاد (عبّاس محمود)، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، الدار القوميّة للطباعة والنشر، القاهرة، 1962.
[12] – انظر بالخصوص: محمود (زكيّ نجيب)، نحو فلسفة علميّة، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة، 1958؛ تجديد الفكر العربي، دار الشروق، بيروت، 1971.
[13] – حول أدلجة الإسلام، انظر بالخصوص:
Picaudou (Nadine), L’islam entre religion et idéologie, Essai sur la modernité musulmane, Gallimard, Paris, 2010; Waardenburg (Jacques), Islam, Social and Political Perspectives, Waler de Gruyter, Berlin-New York, 2002; Al-Azmeh (Aziz), Islams and Moderneties, Verso, Londres-New York, 1993.
المصدر:
Cheddadi (Abdesselam), « Les approches de la civilisation dans le monde arabe: Les avatars d’un concept », Critique Économique, n° 28-29, 2012, pp.229-244.