إننا على عتبة مرور مئتي سنة منذ ميلاد الصورة الفوتوغرافية الأولى، تلك الصورة الضوئية، المحبوسة في صفيحة معدنية فضية (بفضل جوزيف نيسيفور Nicéphore، 1826). إنها ضوء إذن، نور photo، ضوء محفور graphie –من حيث ما تحمله الكلمة من معنى- على صفيحة إسفلتية، أي «كتابة بالضوء» بهذا المعنى. إنها تجسيد للاَّمرئي (الضوء)، باعتبار الصورة «هي دائمًا لامرئية: فليس هي التي نراها»[1]. وأما الضوء الذي تم التقاطه هو نفسه الضوء الذي سيتم إلقاؤه على الإيزار الأبيض، المعلق على الجدار، بينما يجلس المرء بين المنبع ومسقط الصور / لضوء، جالسًا في غرفة مظلمة، وسط القمرة / الكاميرا إن أردنا القول، أو لعله داخل كهف أفلاطون حيث تأتي الظلال من الخلف من منبع الضوء من حيث لا يَعلم! لكن لا ظلال هناك، ضوء فقط.
قد تكون الصور الفوتوغرافية الملتقطة، «المحفورة / المكتوبة»، صورًا لأشخاص أو مناظر طبيعية أو أشياء عادية يستخدمها الإنسان في حياته أو غير ذلك من المواضيع .. ولتكن أي شيء! فهي تلعب أدوارًا متنوعة ومختلفة، منذ ظهورها الأول، سواءً على المستوى الفني أو كسند إشهاري أو تذكاري (الصور السياحية، بطائق بريدية)، أو المستوى التوثيقي أو القانوني أو الأبحاث القضائية أو حتى في المجال العلمي.
إن الصورة الفوتوغرافية تعطينا القدرة على التفكير في كون ما نراه «قد كان حقًا»، ومن هنا تستمد قوتها السيكولوجية التي تحدثها على المتلقي. شأنها شأن «شقيقتها» السينماتوغرافية (الصورة المتحركة). وإنها بقدر ما تنقل الواقع وتصوّره وتسجّله، فهي تسمح بتزييف العالم وتزويره، إذ تخلق شخوصًا وأماكن وكائنات غير موجودة، إنها بهذا المعنى تحول العالم. وقد جسدت السينما تلك الأمور في مختلف مراحلها، ولعل هذا هو السحريّ الذي فيها، والذي يأسرنا ويجذبنا إليها. و«التحول أو التحويل جوهر السحر، وهو جوهر الخيال، وجوهر السينما الخيالية أيضًا، وما يحدث في هذه الحالات كلها، هو تحويل لشيء معين إلى شيء آخر، أو إخراج لشيء معين من شيء آخر، وهكذا فإن صُناع السينما الخيالية هم سحرة أو حواة، بالمعنى الحرفي والمعنى المجازي أيضًا»[2]، أليس أبو السينما الروحي المخرج الفرنسي جورج ميليه، قد اعتمد الخيال والسحر (عبر المونتاج) في أعماله الرائدة التي حولت كل شيء إلى أشياء أخرى وأخفت بتحويلات خيميائية بصرية الشخوص والأغراض؟ ورغم ذلك فإننا رغم كل هذا نتغاضى سوء الظن بالصورة، بكل أنواعها، لكن الفوتوغرافية خاصة؛ لعل ذلك يكمن في كونها تحمل عكس الصورة الصباغية (الرسم)، خاصية الإشارة؛ فإنها دائمًا تشير. تأمر الناظرين فتقول (انظروا!) إلى شيء معين ومحدد في الغالب، شخوص، شيء ما، مكان ما «فالتشكيل ينتمي إلى الأيقونة، والصورة الفوتوغرافية إلى الإشارة»، كما يقول رجيس دوبري. فالإشارة جزء من الموضوع أو مجاورة له، إنها الجزء من الكل أو تأخذ مأخذ الكل. أما الأيقونة تشابه الموضوع من دون أن تكون منه. الصورة الإشارة الفاتنة. فهي تكاد تدعو إلى المداعبة واللمس، وهي ذاتها قيمة سحرية، أما الصورة الأيقونة فهي مداعبة للمتعة، وهي ذاتها قيمة فنية[3].
1. الغرفة المظلمة la Camera Obscura:
يحدثنا التاريخ بأن أول صورة (توضيحية) illustration نُشرت كانت من غرفة (قُمرة) مظلمة Camera Obscura[4]، تمّ إنشاءها أول مرّة سنة 1544 لرؤية كشوف الشمس. هذا المبدأ الذي كان معروفًا مسبقًا لدى أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد (أو لعله كان قبل التاريخ، مع تلك الانعِكاسات للعالم الخارجي على جدران الكهوف. كما لاحظ أفلاطون!). وقد تحدث عنها ابن الهيثم في القرن 11 ميلادي، وروجر بايكون Roger Bacon في القرن 13 ميلادي، وأيضا ليوناردو دافنشي في مخطوطاته بداية القرن 16. أما الوصف الكامل للغرفة المظلمة فقد تمّ تقديمه في أواسط القرن السادس عشر من قِبل جيوفاني باتيستا Battista في مؤلفه «Magie Naturali» (طبيعة ساحرة)، بينما استعمل باربارو Barbaro عدسة لتحسين صفاء الصورة في القمرة المظلمة، أول مرّة حوالي سنة 1568. من ثم ستتوالى بعد ذلك الشروحات وأنواع الغرف المظلمة. لقد كان لتشريح العين الدور البارز في بزوغ ضوء الغرفة المظلمة.
وها نحن في حدود سنة 1816، حيث سيعمد الأخوان نييبس Niépce إلى تجارب متكررة للحصول على صورة انطلاقًا من عناصر حساسة للضوء (كلوريد الفضة…)، ثلاث سنوات من بعد سيستعين جون هيرشيل Herschel بعنصر الصوديوم hyposulfite de sodium لتثبيت الصورة. وعند نهاية سنة 1826 سيتمكن نسيفور نييبس من التقاط أول صورة على صفيحة معدنية فضية.
إنه ليس الظل ما قد تم تثبيته بل الضوء، لقد تم تجاوز أفلاطون وأشباحه إذن، ولم تعد «الآلهة» هي من ترسل الظلال على جدران الكهوف، بل صار الإنسان يلتقط الضوء في غرفة مظلمة، التي مع مرور السنوات ستصير أصغر وأصغر، إلى أن تصير جزءًا من العين البشرية: عدسات لاقطة. وإن كانت، أي الغرفة المظلمة، منذ 1850 قد صارت ممكنة الحمل وتمتلك عدسات متنوعة البؤر البصرية.
لقد استغل الفن الظل لحسابه قبل اختراع أول آلة فوتوغرافية لتغدو الـ«سيلويت silhouette»، شكلاً فنيًا (بورتريه ظلي). فالفزيائي السويسري جون كابلر لافاطر J.k. Lavater، أخذ عن فن التقطيع Découpage في المنتصف الأول من القرن 18، تقنية السيلويت (=الصورة الظل)[5]، حيث يجلس العارض le modèle، بين ستار (شاشة) ومنبع الضوء (الشمس أو شمعة)، فيعمد الرسام إلى تشكيل الخطوط (ملامح الوجه أو الجسد) على ورقة ليملأها، في ما بعد، بالحبر encre. لقد وُلِدت مع لافاطر، نظرية جديدة سيسميها بـ physiognomonie التي تشير إلى «قراءة» ملامح شخص عبر قراءة خطوط وجهه. سيعرف هذا الاتجاه الفني نجاحًا باهرًا في وقته. غير أنه كان محدودًا في الزمن. لقد تم إحياء أفلاطون هنا إلا أنه سيختفي سريعًا! إذ صارت النسخ (السيلويت) متشابهة جدًا ولم يعد يوجد ما يميز الأصل عن الأصل الآخر، كل النسخ تشابهت علينا! لكن ليس تشابه النسخ ما شكل المعضلة؛ بل تشابه الأصول. حيث أصبحتُ أملك صورتي الظلية وصورة ظلية لآخر لا أعرفه (كل الظلال ظل واحد)؛ فهل أنا هذا الذي في الصورة (=الظل) أم الآخر؟ ويا لها من صدمة أوجبت العودة إلى الألوان، إلى الضوء.
سيولد بعد عقود صراع بين الرسم وآلة التقاط الصور، التي سيسميها فلورونس H. Floence بالفوتوغرافيا في بداية عام 1834، أربع سنوات قبل الميلاد الرسمي لهذه «العجائبية الجديدة» مع نموذج داغير daguerréotype (1839)، وقبلها تم اختراع تقنية الديوراما Diorama (1822)، قبيل أول صورة للإخوة نييبس، وبفعل كل هذه الأحداث دخلت الصورة بالتالي، إلى «العهد الآلي الجديد»: عصر من الضوء. ونتذكر هنا دولاكروا الذي أسرع إلى شمال إفريقيا، إلى المغرب بالتحديد ليلتقط الضوء في صوره الزيتية؛ الضوء الآن، في متناول الجميع!
2. الغرفة المضيئة:
العهد الآلي الجديد بدأ فعليًا عند تلك النقطة المشار إليها، معلنًا عن موت الفن «فهل خطف الموت أنفاس الفن فعلاً؟» ألم يقل هيغل بذلك قبله؟ فعن أي موت نتحدث؟ وأليس «في كل صورة عودة إلى الموت»، كما يقول رولان بارت؟ من حيث إن الصورة Imago هي القناع الذي يوضع على وجه الميت. وعلى الأقل قد تم إعلان موت الفن كما كان متعارفًا عليه قبل الفوتوغرافيا، ولم نرى أي جنازة مهيبة لهذا المسمى موت، بل أرواحًا جديدة.
لقد مرّت الصورة الفوتوغرافية من الاستعمال الذاتي subjective، من التقاط الذكريات الشخصية والمعالم السياحية، والاستعمال الموضوعي objectif من كونها أداة صحفية تسجل المستجدات، وتوثق الأحداث، إلى الاعتراف بكونها فنًا[6]. فإنها كما يقول دوبري لم تكن «الأولى في مجال المضاعفة والنسخ»، بل «عوضت يد الفنان». لقد جاءت في الوقت المناسب لتحرير التشكيلي من كل أدب ومن الحكاية، بل من الذات أيضًا.
كان لفن البورتريه، سواءً الملون أو المرسوم أو المنمنم، محدودية كبيرة حتى انتشار الفوتوغرافيا .. فهو لا يضاهيها.[7] فهل تنبّأ إذن، بول دولاروش Delaroche بالأمر حينما خرج يردد «من اليوم يمكن اعتبار التشكيل في عداد الأموات»؟. إلا أنه وبالرغم من ذلك، وفي المدى القصير سوف ينتعش ويزدهر هذا الفن. في ذلك الوقت كان التشكيلي يشتهر، بينما الفوتوغرافي يقترف ذنب المهنة والصنعة. لقد ظهرت على خشبة العرض فنون صباغية جديدة، انطباعية والتعبيرية وتجريدية، وتكعيبية، وسريالية، ودادائية، والوحشية، والمستقبلية … لقد انتعش عالم الفن الصباغي وصارت له أرواح متعددة، فكان من اللازم انتظار حتى سنة 1957، لاعتبار الفوتوغرافيا فنًا، وكونها من «المآثر الروحية».
سيتعرف التشكيل على نفسه من خلال الفوتوغرافيا، سيجد مآزقه ومنزلقاته، وسيطرح على نفسه الأسئلة التي ستحكم عليه بالقفز نحو عصر جديد. إنّ الأمر شبيه بما فعلته السينما بالمسرح وما فعله التلفاز بالمذياع، وما يفعله الإنترنت بهم جميعًا. إن الموت هنا ليس موتًا مُنْهِيًا للوجود (الفناء) بل إنه قتْل رمزي لميلاد جديد ومغاير، إنه «انتعاش بالفيتامينات»، على حد تعبير دوبري، واستبدال الهواء، وتغيير الرؤية، وإصلاح الثقوب والعيوب.
بعد عقود من ميلاد الصورة الفوتوغرافية من الملح المضاف إلى نترات الفضة؛ إنه ملح البيت ما أعطى الصورة مذاقها (روحها / وجودها)، ويا لها من صدفة! ستنقلب أنطولوجيا الصورة رأسًا على عقب. سيظهر مواجه جديد ليد الفنان؛ إنها الآلة. فالعالم يتم التقاطه عبر عدسات آلية عجائبية. بلا أي تدخل إنساني. لقد بتنا نخلد العالم المرئي في لحظته بلا تلف أو رجوع إلى الذاكرة، بلا تدخل لتَغْيِيرات الزمن وتَغَيُّراته؛ فقد بات الزمن سريعًا ومتحكمًا فيه. ما سيترتب عنه ميلاد تلك ماكينة الأخرى التي ستقلب عالمنا رأسًا على عقب (أضع هذه الجملة في سياق الجدلي ماركسي حيث نفي النفي هو تحول transformation)، الحديث عن السينماتوغرافيا (1895). هذا الجهاز الذي سيجعل العالم الثابت الذي تصنعه الصورة الفوتوغرافية (على الأقل في بدايتها) متحركًا (شريط بسرعة متغيرة film à vitesse variable). لقد ولدت لحظتها السينما، أكيد ليس كما نعرفها اليوم، لكنها كانت اللحظة الفارقة في تاريخ الفوتوغرافيا. كان الفضل للأخوين أغوست ولويس لوميير Lumière، ويا لها من صدفة أن يكون لقب من سجن الضوء وحركة صوره هو الضوء عينه (الضوء=Lumière). بل تأخذنا صدفة الألقاب المتشابهة إلى «نسيفور» الذي هو نفسه لقب من صنع أول صورة فوتوغرافية ولقب أول من نظّر للصورة «المصنوعة بيد الإنسان». ماذا يحدث إذن؟ إن التاريخ يصنع نفسه من جديد بأشكال مغايرة، نوع من العود الأبدي!
أما السينما: «فن الصورة المتحركة»؛ فقد أخرجت الحي من الميت، من الثبات إلى الحركة، ومنه إلى الزمن. إن السينما إذن، تصنع صيرورة وديمومة بقدر ما تصنع حياة. أما الفوتوغرافيا فقد نقلت الفن التشكيلي إلى مستوى آخر. وإن كانت العلاقة بينهما، أي التصوير الفوتوغرافي والصباغي، ملتبسة. فمع ميلادها أخذت الصورة الآلية التشكيل لوجوب طرح الأسئلة، حول إمكانية اعتبار ما تنتجه هذه التقنية الجديدة فنًا.
وكم يهمنا هنا الوقوف عند أحد أهم نقاد وكتاب القرن التاسع عشر، الذين مهدوا إلى الوعي بأهمية بالتصوير الفوتوغرافي؛ الحديث عن إميل زولا Zola. يحدثنا ميشيل تورنيي M. Tournier، عن زولا قائلاً بأنه «يكتب بدماغه وخياله، ويصور il photographie (من الفوتوغرافيا) بقلبه»[8]. صارت بالتالي، الصورة الفوتوغرافية شيئًا حميميًا، نابعًا من القلب.
إميل زولا الذي لم يعتبر نفسه يومًا إلا ناقدًا فنيًا critique d’art -عكس بودلير الذي كان يعتبر ناقدًا جماليًا esthète- يدعو التشكيلي (الصباغي) أن يحدو حدو الفوتوغرافيا ويثور على الأكاديمي، أن «يصنع فنًا من الواقع المعاصر»[9]. الواقع عينه الذي ينقله في رواياته، واقع يستمده من بيئته ومحيطه. يريده ألا يفوته من الواقع في لحظته أي شيء. أن يُدخِله في إطار ويشير إلى الشخوص والأشياء والأماكن، بلمحة مليئة بما هو شخصي وحميمي ورهيف، بما هو إنساني .. فما يهمه سوى الإنسانية، فنسمعه يقول «ما يهمني، أنا الإنسان، هو الإنسانية، جدتي؛ وما يمسني، وما يسعدني ravit (يخطفني)، في الإبداعات الإنسانية، في الآثار الفنية، هو إيجاد في عمق كل منا فنانًا، أخًا، يمثل لنا الطبيعة تحت وجه جديد، بكامل القوة والرهافة الشخصية»[10].
سيجد زولا نفسه في الفوتوغرافيا ما هو أكثر حميمية: زوجته Jeanne؛ أن يصورها شبه عارية، مغطاة بإيزار أو يلتقط لها بورتريهات مقربة. سيستعيد بالتالي شبابه وحميميته، إلى جانب صور عائلية، لم يضيع زولا أي تفصيل إلاّ وصوره؛ فأين يمكن تصنيف أعمال زولا الفوتوغرافية، هل هي أعمال أكاديمية خالصة أم أعمال جرئية وخلاقة؟ إنها بكل بساطة قد فتحت الباب بمصرع أمام الفن الفوتوغرافي.
كل ما هو «طبيعي» هو واحد ومتاح للكل؛ كما الأفكار، أما ما هو «إنساني فهو لا متناهي». وهذا هو الفن، الذي سيعيد ترتيب نفسه، ويعيد تشكيل غاياته المثلى، وليس تلك «التي فقدها ليفقد حياته» (كما يتصور هيغل). وهذا ما أدركته الفوتوغرافيا لتصير فنًا. بل إنها منذ ميلادها مع داغير Daguerre «قدمت خدمة كبيرة للفن». لم يعد هناك إذن، «شيء جوهري يُميّز الصورة الفوتوغرافية مهما كانت واقعيتها، عن لوحة مرسومة»، بل لا بد أن الشخص الأول الذي رأى الصورة الأولى (لو استثنينا نييبس Niépce، الذي أظهرها) تصوّر أنها صورة زيتية: نفس الإطار، ونفس المنظور. كانت الفوتوغرافيا، ولا تزال مهمومة بشبح الصورة الزيتية؛ لقد جعلت الفوتوغرافيا الرسم من خلال نسخها ونزاعتها، مرجعها المطلق، الأبوي، كما لو كانت وليدة لوحة. [11]
3. الفوتوغرافيا التشكيلية:
إننا إذن، أمام «الفوتوغرافيا التشكيلية» photographie plastique، حينما تصير الفوتوغرافيا فنًا وأداة تشكيلية، كما هو الحال عليه اليوم مع الفن المعاصر. لقد عوّضت الصورة الفوتوغرافيا الصورة الصباغية في أعمال عدة، بل إن العمل الفني لم يعد في حاجة لإطار وقماشة ليصير خالدًا، بل إلى الفوتوغرافيا والسينماتوغرافيا، (فن الفيديو أقصد). فنحن نصنع أعمالًا فنية اليوم، قابلة للتلاشي في لحظة الانتهاء منها، وما يجعلها مرئية وخالدة هي الصورة الفوتوغرافيا أو الصورة المتحركة السينماتوتغرافية (الفيديو).
فإن كانت الصورة الفتوغرافية وليدة التشكيل، فالعكس أيضًا صحيح، في منحى تاريخي، لنأخذ نموذجًا، الحركة التصويراتية pictorialiste، التي ظهرت بين 1890 و1914، والتي احتلت مكانًا مهمًا في تاريخ الفوتوغرافيا. إنها مشتقة من المصطلح الإنجليزي «picture» (رسم/يُصوّر)، تجمع بين التصوير والرسم في الآن نفسه وبين الصورة بنوعيها (الفوتوغرافية/اللوحة)، هذه الحركة تَمحْورَت حول فكرة جعل الفوتوغرافيا تُعرف جديًّا على كونها فنًا. فاتخذت مفهومًا عكس المفهوم الاعتيادي للصورة الناتجة عن هذه الثورة التقنية. لقد وضعت هذه الجماعة تصورًا جماليًا للصورة الفوتوغرافية خالصًا، وعوضت الفعل والتفكير الفني، في قلب التطبيق الفوتوغرافي.
بينما بالمقابل، أي من منظور آخر أقول، أن الصورة الفوتوغرافية الفنية، قد أخذت ملامحها التشكيلية، بتوضيب الفضاء واللعب على الوتر الحساس. الرهيف، وإعادة تشكيل الموضوع البصري، وذلك انطلاقًا من رؤية فنية، همها الأول الأسُس الإبداعية والقيّم الجمالية والثقافية. لقد وسعت الفوتوغرافيا مداركها وصنعت لها فنونًا أخرى منبثقة منها، فن الإضاءة، الفوتو-مونتاج، فن الوضع pose، فن التأطير، والفن العفوي؛ كلها تندرج وتنعرج نحو تعددية فنية متولدة من فن الفوتوغرافية التشكيلية.
إن الصورة الفوتوغرافية تصير فنية حينما «تلغي عن الفضاء حياده»، أي أنها تعيد تركيبه حسب ما تبتغيه الرؤية الفنية، ولا يقتصر الأمر على خاصيات التصوير الآلي وآلات التصوير. إنها تصير مقترنة بالخطاب الذي تحمله، بالرسالة التي تريد التبليغ عنها، أو البحث عنها، أو الكشف عنها، أو حتى عدم الكشف عنها حينما تخلق غموضًا، المراد منه إعادة تشكيل الرؤية كاملة. فماذا عن المعنى؟ إنه مطلوب بشدة في المجتمع، إنه لن ينتعش إلا بوجوده، لكن المعنى يصير مستهلَكًا وزائلاً حينما يكشف عنه، وحينما يصير متاحًا… إن ما يجعل الصورة مرئية، ليس ما تحتويه من شخوص وأشياء وأماكن وخطوط وألوان… بل إنه التأويل، سلاحها الفتاك، سلاحها للديمومة، بل للكينونة. أما المعنى المباشر فيقتلها، لأنه يخندقها في خندق واحد، ويصنع لها قبرها ليدفنها فيه .. هكذا تجاوز الفن المعاصر المعنى، وبات صانع العمل هو المعنى فقط، أم العمل الفني له معان، له دلالات، معرضًا للتأويل المتعدد، فيصير نصًا، نصًا مفتوحًا.
ماذا عن العلاقة بين السينما والفوتوغرافيا؟ المتحرك والثابت، الجمود والصيرورة، اللا زمن والزمن. إن السينما تخلق زمنها الخاص، المونتاج، الذي لا يمكن أن يظهر مع الصورة إلا في ظروف «الصورة-الزمن» المباشر.[12] الزمن الذي تصنعه المشاهدة، إن السينما تكثف الزمن وتضغطه. إنها إذن غير جامدة، لها زمنها، وتتحرك. أقف هنا لبرهة لأتذكر ذلك الفيلم التاريخي للمخرج والسيناريست كريس ماركر Chris Marker، (الرصيف 1962 La jetée)، ما هذا الفيلم؟ إنه مجرد تعاقب لصور (ثابتة) مع لقطة متحركة واحدة قصيرة المدة. قَلَب ماركر الموازين، وجعل من الفوتوغرافيا سينما. حَرَّك الثابت، وكسر مفهوم الجمود في الصورة الفتوغرافية، لقد منحها حياة. إننا أما فيلم قصصي-مصور photo-roman، إننا بصدد الفوتوغرام photogramme الذي يصير متحركًا. لقد مزج ماركر بين المؤثرات الصوتية والفوتوغرافية والحكي والخيال fiction، بالضغط على وتر الذاكرة. ليخلق إيهامًا بديعًا بالزمن. بل لقد صنع الزمن. ولم تعد الصورة الفوتوغرافية جامدة بل متحركة، صارت زمنية وصارت حية، وتتنفس.
إن الفوتوغرافيا حية وتتنفس، مثلها مثل السينما، لقد تجاوزت تحنيط الزمن، فصارت فعلًا فنيًا. وبما أنها وليدة الفوتوغرافيا، فعلى هذه الأخيرة هي أيضًا، فعل ذلك، ألا تحنط الزمن. وهذا ما سعت إليه الصورة الفوتوغرافية الفنية أو المسماة «الفوتوغرافيا التشكيلية»la photographie plastique، التي تحول اللحظة إلى مدة، إلى زمن. وكسرت مفهوم «الزمن الجامد». فاللحظة هي أيضًا، امتداد زمني، ولو قصير، إنها جزء من زمن يحوي حركة ظاهرة أو خفية، تكشف عنها الفوتوغرافية التشكيلية. إنها تصنع فضاءها وزمنها الخاص، إنها تصنع حياتها.
[1] رولان بارت، الغرفة المضيئة، ترجمة هالة نمّر، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2014، ص 12.
[2] شاكر عبد الحميد، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، عالم المعرفة-الكويت، عدد 360، فبراير 2009.
[3] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، افريقيا الشرق 2007، ص173.
[4] إنها غرفة يعمها السواد، إلا أن واحد من جدرانها العازلة للضوء يحوي فتحة صغيرة: ثقب le sténopé.
[5] نسبة إلى إتيان دي سولويت Étienne de Silhouette (1709-1767).
[6] Edgar Morin, sur l’esthétique, éd. Robert Laffont, 2016, p. 87.
[7] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها ص 16.
[8] Michel Tournier, Le vol du vampire, note de lecture, idées Gallimard 1983, p 215.
[9] Dominique Fernandez, Le musée d’Emile Zola, Haines et passions, Stock 1997, p 7.
[10] Emile Zola, Edouard Manet, étude biographie et critique, 1867.
[11] رولان بارت، الغرفة المضيئة، ص 32.
[12] Gille Deleuze, L’image-temps (cinéma 2), Les édition de minuit, collection critique, 1985, p 60.