لتحميل الحوار : حوار معنى مع ألبرتو مانغويل
1– المؤلِّف الموسوعي والمترجم والناقد السينمائي والقارئ الكبير والكاتب القدير ألبرتو مانغويل، يسعدنا ويشرّفنا استقبالكم لإجراء هذا الحوار؛ بدايةً حدّثونا عن فنّ القراءة، مَن هو القارئ، وعن كيف تُهتم في عقول الآخرين حتى أصبحت الكتب تفكّر عنكم؟
إنّ القارئ -من وجهٍ محدد تحديدًا دقيقًا- مؤلِف للنصّ؛ يكتبُ الكاتب الكلمات، وحالما ينتهي منها يظلّ النصّ في عالم النسيان، منتظرًا القارئ أن يفتحه، ليهبه الأجنحة. في هذه المرحلة، ما كتبه الكاتب تحوّله عينا القارئ إلى ما يراه القارئ فيه؛ فقد تتحول القصة الخيالية إلى مقالات، وتصبح المقالة قصيدة. ومن نافل القول تأويلات القارئ لأيّ نصٍّ مقيّدة بحدود ما يقول أومبرتو إكو: (إنّ حدود التأويل تتطابق مع حدود البداهة)، لكن ما يعدّه قارئ ما حكايةً ممتعة، قد يعدّه قارئ آخر نصًا مُدنّسًا، أو تُهمة بالظلم.. إلخ. لقد تحوّلتْ نصوصًا معينة على يد أجيالٍ من القرّاء، مثل: «رحلات غوليفر»، للكاتب جوناثان سويفت التي استهلّتْ حياتها باعتبارها نصًا ضاربًا في السخرية، ثمّ أصبحتْ تُقرأ باعتبارها حكايةً للأطفال؛ وكذلك «نشيد الأنشاد» الذي كان قصيدةَ حُبّ، ثمّ أصبح سِفرًا من أسفار النصّ المقدّس، وحوارًا بين الروح والله.
2- «إنّ تعلُّم القراءة، كان المُستهلّ الذي بدأتُ به حياتي». مَن بدأ الآخر القراءة أم العزلة، هل مازالت الكتب تعتبر المصدر الأول للمعرفة مع التقدّم التكنولوجي المعرفي، وما مستقبل القراءة والثراء الثقافي في عصر رقمنة الكتب؟
حالتي متفردة (ولعلَّ ذلك ينطبق على كلّ قارئ). كنتُ طفلًا منعزلًا جدًا، ربّتني مربية أطفال، ولم أكن أتواصل مع أخوتي أو والديَّ إلا لمامًا، لم أكوّن الصداقات إلا عندما بلغت السابعة أو الثامنة من عمري؛ لذا أصبحتْ الكتب نوافذي إلى العالم، كلّ تجربة عشتها أولًا كانت على شكل كلمات: الصداقة، والمغامرة، والحُبّ، والموت. إذن، أهمية القراءة بالنسبة لي مصدرُها العزلة. لقد أصبحنا في هذا العصر -غالبًا- منعزلين أكثر مِمَن سبقونا، والفرق أنّنا لم نعدْ نعي هذه العزلة، إذ نعتقد أنّنا «متصِلون»؛ لأن الهواتف النقالة معنا. أوهمنا الإعلام الإلكتروني أنّ لنا صداقات لا متناهية جمعناها بواسطة «فيسبوك»، وعدد «الإعجابات» و«عدم الإعجابات» على شاشاتنا، قيل لنا إنّ الإنترنت يصلنا بالعالم أجمع. هذا صحيح على وجهٍ من الوجوه؛ لأنّ في متناولنا كلّ كتاب رقميّ في أيّ مكتبة، ونستطيع التواصل عن طريق الـ«سكايب» أو «زووم» مع أشخاصٍ في الطرف الآخر من العالم، ولكن هذه التواصلات ليست بالضرورة لقاءات حقيقية أو محادثات أصيلة. إنّ الاختصار والسرعة خصِّيصتا الإنترنت؛ أما تبادل الأفكار والمشاعر بين البشر يتطلّب وقتًا وجهدًا.
3- «ألن نقرأ كيبلينغ الليلة؟». منذ تلك الليلة، هل سبق وأن اخترتم مادة القراءة مع بورخيس، أم ظلَلتم تستندون إلى ذاكرته التي تشبه عِشّ النسر، وهل بنيتم يومًا حُكمًا على كتابٍ ما بناءً على حكم بورخيس له، ما دور المعلِّم الكبير هنا في تدرّجكم المعرفي؟
لم أخترْ كتابًا لبورخيس قطْ؛ فقد كان اختيار الكتاب مهمته الدائمة، وهو اختيار مبني على أسبابٍ عملية للغاية. حيث قرّر آنذاك -منتصف الستينات- دون أن يخبر أحدًا أن يعود إلى كتابة القصص الخيالية؛ إذْ توقف عن كتابتها حين أصابه العمى. وبعد عشر سنوات، أراد فحص القصص القصيرة التي أعتقدَ أنها أفضل القصص (تلك القصص التي كتبها كيبلينغ، وهنري جيمس، وتشيسترتون، وستيفنسون)؛ كي يرى بُنيتها، كميكانيكي يفحص التروس وقطع الآلات التي صُنِعْت بعناية. لم يكترث بالحبكة (إذ يعرفها عن ظهر قلب)، ولكن كان مهتمًا ببنية ميكانيكا القصص؛ حيث يظهر اختيار الكلمات، وترتيبها. ولم يُرِدْ منّي حينها إلاّ القراءة المباشرة للنصّ: دون تأويل، ولا اختيار. ولا شك أنّ اختياراته تلك أثّرت فيّ؛ فبعد قراءة هذه القصص لبورخيس، أصبحتْ أسماء كتّابها ضمن قائمة كتّابي المفضلين. لقد علَّمني بورخيس كرم الأدب، قدرته على منحك ما تحبّ، وسماحه لك بالانتقاء، ألاّ تشعر وكأنك مضطرٌ إلى قراءة أيّ شيء؛ بما في ذلك أكثر الكتب مبيعًا، أو ما يُسمّى بـ«الكلاسيكيات».
4- «لا تذرفوا الدموع بكاءً، ولا تلوموا مشيئة الله الذي حباني هذه السخرية العظيمة في آنٍ معًا: الظُّلمة، والكتب». ما الأطوار الغريبة التي اُختزلت في الأقدار العجيبة لمصير بعض الكُتّاب، بورخيس مثلاً في هذه الأبيات، حين عُيّن مديرًا للمكتبة الوطنية في الأرجنتين بعد أن أصبح مكفوفًا؟
يستحيل الإجابة عن سؤالك. فمنْ يقدر على معرفة مسوغ تحريك القدر لعجلته، وكيفية تحريكه؟ فكما قال الفارابي (مرددًا صدى أفلاطون)، ينبغي علينا جميعًا أن نعود إلى الكهف، ونتعلّم التحدّث إلى سكّانها: الرجال والنساء مثلنا الذين أصبح قدرهم الاعتقاد أنّ ظِلال الأشياء واقعُ العالم. لا ينبغي أن يقتصر تحدثنا إليهم على الكلمات التي نقرأها في الكتب؛ بل وأن نشارك في أفعالٍ قد تحسّن مصير مجتمعاتنا. نقود قدرنا على هذا النحو، ولكنّ القدر نفسه لا يُحدد.
5- «أيُّها القارئ، أنتَ تنبض بالحياة والكبرياء والحُبّ تقريبًا مثلي؛ لذا إليكَ الأغنيات التالية». قياسًا على هذه الصورة الشِّعرية، ما الذي يدفع شاعر عظيم وابن كل الأماكن كوايتمان لأن يرى ذاته في قرّائه، وهل مازال العالَم يؤكد كلماته أم أصبح يرى ذاته في ذاته فقط؟
نختار ما نقرأ، ونختار تأويلنا له. ولا شك أنّ وايتمان منبوذٌ في عالمنا المحمّل بالقيم الاستهلاكية. ولكن إنْ خرجنا من تأثير العالم الدعائي -ولو لثانية- سندرك أنّ وايتمان مكتبة عالمية، قد نجد فيه ما نبحث عنه، وربما ما لا نعلم أنّنا نريده. كتب يقول: «ما أُسلِّم به، ستسلِّم به؛ فكلّ ذرة تنتمي إليّ تنتمي إليك كذلك». وصَدَق.
6- موهبة التنبؤ لدى الشعراء -فرجيل مثلاً- هل لها علاقة بمواهب فوطبيعية أخرى قدرَ علاقتها بالمواهب الإيمائية والشاعرية، وهل هذا التواشج هو ما يمنح أبيات الشِّعر الحميمية والقوّة التي تجذب القراّء على مرِّ العصور؟
«التنبؤ» اسمٌ نطلقه على الاكتشاف في نصٍّ مفاده أنّ ما يقوله الشاعر يتوافق مع تجاربنا، وهذا بالنسبة للشاعر في طيّ الغيب؛ فالشاعر نفسه لا علم له به؛ بل إنّنا نحن القرّاء مَن نمنح لهذا التنبؤ أهميته المُستلَّة من الكلمات.
7- متى ينعكس الكاتب والقارئ والعالم في فعل القراءة ذاته، ما دور كل ذلك في خدمة الفعالية الإنسانية الحيويّة، متى ننظر للكتاب كإنسان وللإنسان ككتاب، وكيف تساعدنا المجازات في فهم الأشياء المتعلّقة ببعضها البعض؟
كلمة «مجاز» لها معنىً مماثل لكلمة «ترجمة»» (translation) أصل الكلمتين واحد؛ فالأولى من اللاتينية، والثانية من اليونانية، وكلاهما يعني: «نقل شيء من مكانٍ إلى آخر»، ورؤية العالم باعتباره كتابًا، ورؤية الكتاب باعتباره عالمًا مجازٌ عتيق لهذا النقل من مكانٍ إلى آخر. قدّم ابن طفيل في القرن الثاني عشر الميلادي هذه الفكرة المعروفة في «حيّ بن يقظان»، التي تروي قصة طفل -يذكرنا بروبنسون كروزو- يتعلّم من الطبيعة كما لو أنّه يتعلّم من كتاب.
8- هل تناقض مكان القارئ مع المكان الأدبي في الكتاب المقروء له علاقة بغياب شعور القرّاء بالانغمار التامّ بالأعمال الشِّعرية والتأملية من قِبل عمالقة الأدب، ما مدى تأثير المكان على مخيّلة القارئ، ومتى لا يتجاوز النصّ المقروء المحيط الجسدي للقارئ؟
النصّ والسياق يتداخلان، ليس فحسب على صفحة الكتاب؛ بل وفي المحيط المادي للقارئ والكتاب. يعتمد مدى تأثير المحيط على القارئ اعتمادًا كبيرًا على مشيئة القارئ: أنت تختار قراءة كتاب على السرير، وتعيره حميمية ما كانت لتوجد لولا ذلك، أو تقرأ كتابًا على متن القطار، وتعير الكتاب خصائص المناظر المتحركة.. إنّ الكلمات والعالم متداخلان دائمًا.
9 – «مسقط رأسنا الحقيقي هو المكان الذي ألقينا فيه وللمرّة الأولى نظرة ذكية على أنفسنا؛ كتبي موطني الأول». هل نعزو لهذا السبب الاغتراب المعرفي والوجودي الذي يشعر به القرّاء غالبًا، وما نسبة تأثير مادية ونسبية هذا الاغتراب على وجدان القرّاء، هل هناك أمثلة؟ حدّثنا.
كما ذكرتُ آنفًا، تساعدنا التقنيات الإلكترونية على تجاهل غربتنا؛ فتصفّح الإنترنت يخفّض مِن حدّة شعور التعاطف، ويسمح للواقع (أو ما صَفِيَ من الواقع) أن يكتسب خصائص القصص الخيالية. قد نبرّر أنانيتنا كأن نقول لأنفسنا إنّنا في عالمٍ افتراضي، أو لعبة افتراضية. لقد بدا تفجير برجيّ التجارة العالمية لكثيرٍ من الناس صناعة هوليوودية، وأزمة المهاجرين تبدو وكأنها من سِفر الخروج، وما كان يُعدُّ مغلوطًا وكذبًا، أصبح الآن جانبًا من الخطاب السياسي، لا مجرّد خطابًا منمقًا؛ بل حقيقة.
10- برأيكم، مَن يملك الفعل والموقف في الوقت ذاته القراءة أم الكتابة، وأنثولوجيًا هل سيتمّ خلق قراءة النصوص كما نعرفها لو لم تتم عملية اكتشاف الكتابة، أم سنبقى على الهلوسة باللغة عبر النظر إلى الصور التي ترمز إليها كما في العهد السومري؟
الرسوم التوضيحية، والصور، والرموز هي كتابات كذلك، تتكوّن الكتابة باعتبارها نظامًا للإشارات الصوتية لا يغيّر الطبيعة الجوهرية للتواصل الكتابي. إنّ الاختلاف الأساسي ليس بين الكلمات والصور؛ بل بين الكلمة الشفهية والكلمة المكتوبة؛ إذْ لكليهما المفاهيم متباينة أشدّ التباين للفضاء والزمان.
11- عدا ملحمة جلجامش، هل كان هناك نص أدبي نستطيع القول بأنّه أصيل وفريد بحدِّ ذاته، ولا يتولّد من نصوصٍ ومخيّلاتٍ سابقة تغيّرت بفعل كثرة الاستخدام والخيال الواسع للمخيّلة البشرية المتجددة؟
لا يوجد نصّ وُلِد من العدم؛ فكلّ نصّ له أسلاف. كما يقول بورخيس: «يصنع كلّ كاتب أسلافه». لا وجود لنصٍّ «أصلي»، وحتى «ملحمة جلجامش» نشأت من مسوداتٍ سابقة منذ بدء الزمن، ومفقودة منذ أمدٍ بعيد. أن تطرح سؤالًا عن أصل نصٍّ لا يُماثل أن تطرح سؤالًا عن بداية الكون: لا وجود لانفجار ٍكبير في الأدب؛ بل ثمّة دائمًا «ما قبل».
12- كمَن قرأ كل شيء، ما سبب عدم تجاوزكم لـ «آليس في بلاد العجائب»، لماذا تستعيدون في كتبكم ما سبق وتحدّثتم عنه في كتبٍ سابقة، هل هذه رسالة موجهة للقرّاء بأهمية تكرار القراءة، وكيف يُمكن للقرّاء فهم كيف تكرِّرون إعادة خلق المعنى؟
ليس في مقدور أحدٍ قراءة كلّ شيء، وهذه هي هدية الأدب الرائعة: اختيار ما تقرأ؛ فلستَ مضطرًا لقراءة ما لا تودّ قراءته. سلسلة كُتب آليس هامة بالنسبة لي؛ لأنّني أجد فيها موادَ سيرة ذاتية غنية؛ إذْ أرى نفسي -في آليس-، مواجهة عبث هذا العالم. إنها أناي الثانية.
13- باعتبار أنَّكم أعدتم الاعتبار للثقافة الإنسانية، إلى ما يخضع منطق الاستهلاك في الأدب الذي يُحدّد أهمية كاتب ما وهامشية كاتب آخر، وإلى أيّ مرجعية يستند تقويم الكتب اليوم حين دان براون وباولو كويلو يُباعان ويُقرأن أكثر من هوميروس؟
وُجِدَ دائمًا منتجٌ ثانوي للفن يستهلكه الكثير من الناس، وذلك لعدّة أسباب: ثمنٌ أقل، عدم تطلّبه لجهدٍ فكري، ولأنه رائج -بأسوأ معاني الكلمة- وإذا كان رائجًا؛ سيزيد معدل قراءته، وإذا كان معدل قراءته عالٍ؛ سيزداد رواجًا: نحن في دائرةٍ مفرغة. إنّ الكتب التي تعدُّ هامة بالنسبة لنا عبر امتداد الأجيال قد تظلّ -على نحوٍ مفارق- غير مقروءة لأنّنا نعلم أنها كلاسيكيات؛ وبناءً على ذلك نعتقد أنّنا في غنىً عن قراءتها. نأخذ وجودها في حياتنا مأخذ التسليم، ولا نشعر أنّنا مضطرون إلى استكشافها شخصيًا؛ فقد ناب المجتمع عنّا في فعل ذلك. قد لا نختار دخول هذه العوالم إلاّ إذا خلّصنا أنفسنا من هذه المواضعات والقيم التي فرضها المجتمع علينا، ولكن لا يفعل ذلك كلّ الناس.
14- بغضّ النظر عن ما قيل عن الأسباب الاستشراقية، هل هناك أسباب أخرى لافتتان الغرب بالليالي العربية وتأثّر الكُتّاب اللاتينيين بها تحديدًا، هل هي سُلطة الأسطورة والواقعية السِّحرية التي وقعوا تحت سِحرها، وهل قرأها بورخيس بالعربية حقًّا؟
لا، قرأ بورخيس «الليالي» بالفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، والإسبانية، وليس بالعربية. لقد حاول في آخر أسابيع حياته تعلّم العربية، لكن الوقت لم يسعفه. كان بورخيس دائمًا مفتونًا بالثقافة العربية، ولكن -كما ذكر هو نفسه- معرفته بها لم تكن مباشرة. صرّح ميشيل فوكو أنّ القراءات التي يقدّمها بورخيس عن الشرق تخلخل «جميع الأمور المألوفة في نظام أفكارنا، في زماننا ومنطقتنا الجغرافية، وتهزّ جميع السطوح المنظّمة، وجميع الخرائط التي تضع لنا وفرة الموجودات، وتجعلها تترنح، وتُقلق ممارساتنا المتعلّقة بالنفس والآخر الممتدة لألف عام».
15- «إن كان تولستوي في هيئةٍ للحُكم على أعمال شكسبير، لم يكن ليمنح شكسبير الجائزة؛ لأنّ تولستوي كان يمقت الملك لير». من منطلق ذلك، هل تعتقدون بأنّ الجوائز الثقافية الكبرى كنوبل مثلاً قائمة على آراءٍ مجرّدة من قِبل لجنة التحكيم ليس إلاّ؟ وما الكُتّاب الذين تعتقدون بأنهم يستحقون نوبل الآداب من الأحياء اليوم؟
لن تكون لجائزة نوبل أهمية إلاّ إذا حكمنا بأنّ لها ذلك. لقد نزعت لجنة التحكيم قيمة الجائزة عدّة مرّات؛ لم تمنحها قطّ لبورخيس أو لمحمود درويش، بل لكتّاب ثانويين أمثال: دارو فو أو لي كليزيو، أو -بصراحة- لكتّاب تافهين أمثال: آني إرنو، وعبدالرزاق قرنح، أو حتى لممارسين في حقولٍ أخرى مثل: بوب ديلن. وسنرى جانبًا أسوأ للحكم بمنح الجائزة لهؤلاء الكتّاب؛ إذا رأينا وجود عدد من الكتّاب الأحياء الذين كانت لهم كتابات مذهلة، ويستحقون بلا شك أن ينالوا على إثرها الجائزة، أمثال: سيس نوتيبوم، وآن كارسون، وتوم ستوبارد، وأنتونيو لوبو أنتونيوس.
16- «من ينتظر شُهرة من الكتب عليه أن يتعلّم منها؛ عليه تجميعها في رأسه لا في مكتبته». من منطلق ما ذكره غايلر، ما قولكم لمن يشبه بطليُمس الثاني من حيث الولع بالكتب دون قراءتها، هل تجميع المعارف هو من يقود إلى الحكمة، وما الطريقة الأمثل لإدراك الأفكار التي تأتي عن طريق القراءة؟
قد تبدأ الحكمة بجمع الكتب التي في مقدورنا جمع الحكمة منها. ولقد فهم ذلك الخليفة المأمون عندما أسَّس «بيت الحكمة»، في بغداد (بأمرٍ من طيف أرسطو الذي زاره في منامه، كما يقول المأمون). لا بد من توفّر النصوص قبل قرأتها، ولا ضير من تجميع الكتب بدافع الافتتان بها: الكتب صابرة صبرًا مذهلًا، وستنتظرنا حتى نصبح جاهزين.
17- صببتَم ذاكرتكم المعرفية في مؤلفاتكم، وبرغم انعطافكم على ذاتكم الشخصية إلاّ أنها ظلّت مجهولة وغامضة، متى سيعرف القرّاء مانغويل الشخص وليس الرجل المكتبة؟
ربما عندما يعرف مانغويل القارئ نفسُه مانغويل الشخص. وحتى حين يحدث ذلك، قد لا يعرف القرّاء مانغويل الشخص. كتب الشاعر جيمس رييفس:
«ظلُّ بدينٍ في ضوءِ القمر،
يسبقني في الطريقِ الذي أسلكه،
وإنْ التفتُ وهربت؛ لحقني:
هذا الشخص الذي ينبغي عليَّ معرفته».
18- حدّثونا عن زيارتكم عام 2013 للمملكة العربية السعودية، ولمركز الملك عبدالعزيز الثقافي «إثراء»، حيث شاركتم في مسابقة أقرأ، كيف وجدتم الدور الثقافي الذي يقوم به المركز حينها؟
كان ذلك الحدث عام 2013 من أكثر الأحداث الاستثنائية التي حضرتها، وهو بيانٌ حيّ ينفي التحيّز والرقابة، وتظاهرة مفادها أنّه حتى في أشد الظروف صرامةً يستطيع العقل أن يظلّ حُرًا. تعجز الكلمات عن وصف أهمية مسابقة أقرأ في نظري، وآمل أن تحتفظ بهذه الأهمية أعوامًا مديدة. رؤية اليافعين من الجنسين يقصّون حبّهم للقراءة والكتب، ويبيّنون قوّة مخيّلتهم، كانت بالنسبة لي درسًا لن أنساه ما حييت.
19- في عام 2015 استقبلتموني برفقة الدكتور خالد اليحيا وفهد الأفندي في مكتبتكم القديمة في الريف الفرنسي، حيث صوَّرتُ فيلمًا وثائقيًّا تأمليًّا عنكم، بعنوانٍ مقتبس من كتابكم: «المكتبة في الليل»، كيف كانت تجربتكم السينمائية هذه، ما حلَّ بمكتبتكم تلك، وما الأحداث التي حدثت في حياتكم بعد تلك التجربة؟
أعزُّ ذكرى تلك الزيارة إلى منزلي في فرنسا. ما زلتم أصدقاء أعزّاء روحيًا، وإنْ لم يكن جسديًا؛ إذْ لم يسمح لنا الوقت ولا الظروف بالاقتراب جسديًا مرّة أخرى. بعدما غادرت فرنسا ذلك العام 2015، جمعتْ مكتبتي وأرسلتها إلى مخزنٍ في كندا، ولكنّ معجزةً وقعت في فبراير عام 2020، إذ تواصل معي عمدة مدينة ليزبن، وطلب مني إحضار مكتبتي إلى ليزبن؛ لِتستقرّ في قصرٍ مدهش يعود إلى مطلع القرن التاسع عشر، وهو يُجدَّد هذه الأيام. المكتبة الآن هي قلب «Espaço Atlântida» في ليزبن، مركز أبحاث تاريخ القراءة، حيث ننظّم فيه فعاليات منذ عام 2020، والمركز نفسه سيُفتح أبوابه في الـ 25 من أبريل عام 2024، في الذكرى الـ 50 على ديمقراطية البرتغال، بعد سقوط دكتاتورية سالازار.
20- «أتذكّر الزهوّ الغريب الذي أحسستُ به؛ عندما أخبرنا أستاذ التاريخ أنّ تدشين بوينس آيرس قد بدأ بمكتبة». هل هذا الزهوّ هو السبب في عودتكم الدائمة إلى بوينس آيرس، أم هو الحنين الذي يُغري بفكرة العودة مثل بحث أورفيوس عن يوريديس؟
لم تكن رحلات العودة إلى بوينس آيرس منتظمة. منذ غادرتها عام 1969، عدتُ إليها مرّات عديدة لزيارة عائلتي فحسب، ولاحقًا ما بين 2016 – 2018، عدتُ لإدارة المكتبة الأرجنتينية الوطنية. والآن لن أعود إليها أبدًا؛ إذ لم يعد لي شيء فيها. وطني الجديد هو البرتغال.
21- ألبرتو مانغويل ماذا يقرأ هذه الأيام، وما التطلّعات والمشاريع الأدبية التي سنرى نتاجها قريبًا؟
أقرأ كل ما تقع عليه يدي في الأدب البرتغالي. كما أقرأ ثلاث روايات مذهلة: رواية«ثقة» للأمريكي هيرنان دياز، ورواية «ظل الملك» للإثيوبية مآزا مانجيستي، ورواية «Volver la vista atrás» للكولومبي خوان غابريال فاسكيس.
أمّا كتابي الأخير: «سيرة لموسى بن ميمون»، سيُنشر باللغة الإنجليزية في مارس 2023، وهو نموذج لحوارٍ ممكن ومثمِر بين الثقافتين الإسلامية واليهودية.