مراجعات

عن موسم الهجرة إلى الشَّمال مع الطيب صالح | أحمد بادغيش

«الأصعب في الأمر ليس معاشرة الآخرين؛ بل محاولة تفهّمهم». – جوزيه ساراماغو

لا يُمكن النظر إلى الأدب العربي المعاصر دون الالتفات إلى الطيب الصالح، عبقريّ الرواية العربية [١٩٢٩-٢٠٠٩]، الذي قدّم للمكتبة السردية باقة من الأعمال العظيمة، أشهرها «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي سأحاول تقديم قراءة تحليلية لها في هذه المقالة. تتناول هذه الرواية موضوع صراع الحضارات، وموقف الإنسان البسيط في الدول النامية تجاه العالم المتقدّم المتمثّل في الحضارة الأوروبية المعاصرة:

«نحن بمقياس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، لكنّي حين أعانق جدي أحسّ بالغِنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه. إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارقة الفروع في الأرض نمَت عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنه كشجيرات السّيال في صحاري السودان، سميكة اللحى حادة الأشواك، تقهر الموت، لأنها لا تسرف في الحياة».

يحمل هذا الصراع في طياته مواقفًا وحشية وبشعة أحيانًا وأخرى رقيقة ورحيمة يتجلّى فيها تماسك المجتمع. يقرأ الطيب الصالح، ملامحًا إيجابية وأخرى سلبية في كلا الثقافتين بطريقةٍ محايدة، فلا يُفاضل بين واحدة وأخرى، بل يتعامل مع هاتين الثقافتين من منطلق تأثيرها على حياة الفرد وأحلامه وطموحاته. الجدير بالذكر هو أنّ هذه الرواية نُشرت لأول مرّة في عام ١٩٦٦، باللغة العربية، ثم تُرجمت إلى لغاتٍ أخرى مثل: الإنجليزية الروسية، الفرنسية، الإيطالية، التركية والفارسية.

 

التركيبة الروائية للقرية العربية

يقف الطيب الصالح، في هذه الرواية راسمًا الملامح الأدبية لمجتمع القرية السودانية، كأحد رواد الأدب العربي الحديث عامة والرواية العربية بشكلٍ خاص. تدور القصة حول الراوي العائد من غربته الأكاديمية الطويلة في البلاد الأوروبية إلى القرية السودانية العريقة «عند منحنى النيل».  كان الراوي شخصية منسجمة مع محيطه الاجتماعي ومسؤولًا تجاه عائلته والمجتمع في القرية الصغيرة. فالمجتمع الصغير مسالمٌ بطبعه إذ تجمع أفراده تاريخ طويل وأنساب. فنجد الراوي يقول عن قريته وواصفًا علاقته بالمجتمع الأوروبي:

«البلد الآن ليست معلّقة بين السماء والأرض، ولكنها ثابتة؛ البيوت بيوت، والشجر شجر، والسماء صافية لكنها بعيدة […]، لقد عشت أيضًا معهم، لكنّي عشت على السطح، لا أحبّهم ولا أكرههم. كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة، أراها بعين خيالي أينما التفت. أحيانًا في أشهر الصيف في لندن، إثر هطلة مطر، كنت أشمّ رائحتها».

تُحكى القصة على لسان الراوي، الذي لم يُكشف اسمه خلال السرد، إلاّ أنه كان الشخصية الرئيسة في الحبكة والأحداث والسرد. فيُذكر إلى غير نباهتها وتفوّقها الأكاديمي أنها كانت مفعمة بالحياة شديدة الطموح، فتحكي تلك الشخصية في مطلع الرواية عن دوافعها: «إنّي أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحبّ من قلبي فينبع ويُثمر. ثمّة آفاق كثيرة لا بُد أن تُزار، ثمّة ثمار يجب أن تُقطف؛ كتب كثيرة تُقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العُمر، سأكتب فيها جُملًا واضحة بخطٍ جريء».

من جهةٍ أخرى يصف الطيب الصالح النظرة الشعبية للمجتمعات الغربية المتقدمة تقنيًا في الفترة التي بدأ فيها التعامل مع الحداثة الغربية، أقصد النظرة المليئة بالتساؤل عن ماهية الآخر في بدايات المرحلة التي انفتحت فيها الثقافات على بعضها، حتى يصف الراوي ذلك: «دُهشوا حين قلت لهم أن الأوروبيين، إذا استثنينا فوارق ضئيلة، مثلهم تمامًا، يتزوجون ويربّون أولادهم حسب التقاليد والأصول، ولهم أخلاق حسنة، وهم عمومًا قوم طيبون». فبالنسبة إلى الراوي كان البشر متشابهون جدًا في ذواتهم وأسلوب حياتهم التي يحملون فيها الأحلام بأيامهم المليئة بنشوة النجاح وبخيبات الأمل أيضًا، والبحث المستمر عن الطمأنينة والاستقرار.

تبدأ الأحداث بعد عودة الراوي إلى قريته على ضفاف النيل، وسط كل اشتياقه إلى ما غاب عنه لسنوات، والأهم إلى مَن غاب عنهم بدءًا بوالديه وجده وبقية أفراد القرية. لم يتغيّر الكثير في القرية، غير وصول مصطفى سعيد إليها، الشخص الجديد والغريب في القرية، التي كانت هي الشخصية المساندة الأساسية في القصة، فكان الراوي يحاول استكشاف هذا الشخص الذي ترك أثرًا كبيرًا على القرية وعلى سكانها.

كل ما يعرفه أهل القرية عن مصطفى سعيد أنّه رجلٌ «ربعة القامة، في نحو الخمسين أو يزيد قليلًا، شَعر رأسه كثيف مبيضّ، ليست له لحية، وشاربه أصغر قليلًا من شوارب الرجال في البلد»، لا يعرف أهل القرية عن ماضيه الكثير سوى أنه من نواحي الخرطوم، وأنه أتى إلى القرية منذ خمس سنوات وابتاع فيها أرضًا تفرّق ورثتها، ولم يبقَ منهم إلا امرأة، فابتاعها منها، وتزوج من أحد عوائل القرية فيما بعد. كانت الأسرار تحيط بهذا الرجل وأحاديث الآخرين عنه مليئة بالألغاز والكلمات المستترة.

يكفي أن نشير إلى حديث جدّ الراوي عن مصطفى في قوله: «تلك قبيلة لا يبالون لمن يزوِجون بناتهم»، إشارة إلى زوجة مصطفى، وتداركه للأمر سريعًا بعدها: «لكنه أردف، كأنه يعتذر، أن مصطفى طوال إقامته في البلد، لم يبدُ منه شيء منفّر، وأنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وأنه يسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح». فضلًا عن مساندته لأهل القرية ودوره الاجتماعي في تنظيم مواردهم وشؤون حياتهم بأساليبه الحديثة بالنسبة إليهم، إلا أن كل ذلك لم يكن كافيًا للراوي، خاصةً بعدما ذكر مصطفى أن هناك سِرًا يعرفه جدّ الراوي، بعدما سرد الحقيقة الناقصة عن تاريخه:

«كنت في الخرطوم أعمل في التجارة، ثمّ لأسبابٍ عديدة قررت أن أتحوّل للزراعة، كنت طوال حياتي أشتاق للاستقرار في هذا الجزء من القطر، لا أعلم السبب. ركبت الباخرة وأنا لا أعلم وجهتي، ولمّا رَسَت في هذه البلد، أعجبتني هيئتها، وهجس هاجس في قلبي: هذا هو المكان، وهكذا كان، كما ترى. لم يخب ظني في البلد ولا أهلها».

رسمت «موسم الهجرة إلى الشمال» جوانبًا مختلفة للمجتمع المحلي، فنرى البساطة حينًا إذ يتوقف المسافرون على جانب الطريق لصلاة العشاء وتجمعهم مأدبة وليلة سَمَر بعدها، والبراءة في مجتمعٍ لا يعرف الجريمة فيستغرب حتى رجال الأمن من وقوعها، أو تجمّع الناس لإنصاف رجل وقع ضحية احتيال. إلا أن هذا التلاحم كان له بعض المواقف التي تثير التساؤل حول بعض العادات والآداب، مثلما رسمت الرواية في دخول مصطفى سعيد على الراوي دون استئذان، الأمر الذي يُعد مقبولًا بين أفراد المجتمع المحلي إلاّ أن الراوي لم يتقبّله بعد عودته مِن غياب سبع سنوات.

الغربة والانتماء بين أواصر المجتمع

ربما تعمّد الراوي تجاهل السبر وراء تاريخ مصطفى لفترةٍ من الزمن، إلا أن الإجابة على ذلك اللغز تتناثر حول أجزاء الرواية، فذلك التساؤل أضحى أكثر إلحاحًا عندما تلا الأخير عددًا من القصائد الإنجليزية من حفظه في ليلة سَمَر، الأمر الذي كان مزعجًا للراوي، خصوصًا أن رد مصطفى حين علم بعودة الراوي بشهادة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي كان: «نحن هنا لا حاجة لنا بالشِّعر. لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب، لكان خيرًا»، ويكفي الإشارة إلى أنه استثنى الراوي من فصيل المجتمع المحلي في عبارته السابقة، «مع العلم بأنّ البلد بلدي»، كما خطر في بال الراوي، «هوَ -لا أنا- الغريب».

ترسم الرواية صورتين لانفتاح الثقافة العربية المتمثّلة في القرية السودانية على العولمة، والحداثة الأوروبية، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي مقارنةً بحال القرية، فمن الناحية الأولى هناك الراوي الذي عاد بعد سبع سنوات قضاها في أوروبا ليحصل على أفضل تعليم في مجاله حتى يعود إلى القرية معلمًا بمدرستها، بينما هناك الطالب النبيه الذي تنبأ له الجميع بمستقبلٍ مشرق، وأنه سيكون أعجوبة زمانه، والذي كان محبًّا رومانسيًا له العديد من العلاقات الحميمة في المجتمعات الأوروبية، حتى حصلت له حادثة تسببت في محاكمته نتيجة مصرع إحدى صديقاته الحميمات، فراح يصرخ: «أنا لست عطيل، عطيل كان أكذوبة»، إشارة إلى مسرحية شكسبير الشهيرة.

في الجهة الأولى كان الراوي الذي كان منغمسًا في ثقافته المحلية، يجد ذاته في أركان تلك القرية وحياتها اليومية، فكان تعامله مع تلك الثقافة المغايرة متحفظًا أكثر لينظر إلى المجتمع الأوروبي وكأنهم مماثلين كأفراد وكمجتمعات رغم التقدم العلمي والتقني والأدبي، الأمر الذي جعله يكمل مهمته الأكاديمية في أوروبا بنجاح، ليعود فيجد دوره في المجتمع كمصدر للعلم وما يفيد الناس، حتى أنه اغتاظ لمّا ذكّره مصطفى سعيد بأن بعض الدراسات الأخرى قد تكون أشد نفعًا وذات نتائج ملموسة أكثر في القرية.

من الناحية الأخرى كانت للشخصية الثانية تجربة أكثر تعقيدًا بسبب ذكائها وتميزها الذي جعلها مغترة بذاتها، حيث بَدَت كأنها متقلبة في تعريفها لهويتها الذاتية فوجدت نفسها في التطور الذي شهدته في أوروبا حينًا، وكانت مستهترة في حياتها اليومية نتيجة لذاك الغرور الذي عماها، حتى استسلمت حين وجدت نفسها في مأزقٍ قضائي، وصرخت: «يا للسخرية. الإنسان لمجرد أنه وُلِد عند خطّ الاستواء بعض المجانين يعتبرونه عبدًا، وبعضهم يعتبره إلهًا. أينَ الاعتدال؟ أين الاستواء؟»، فعادت بعد ذلك إلى الحياة الزراعية البسيطة والهادئة في القرية، وكان ثمن ذلك التقلّب في الهوية هو السُمعة السيئة بين الأقران إلا أن تلك الشخصية لم تكترث بذلك.

«إنَّني قرأت بعض ما كتب عمّا أسماه اقتصاد الاستعمار. الصفة الغالبة على كتاباته أن إحصائياته لم يكن يوثق بها»، يقول عنه أحد أقرانه، «كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاديين الفابيانيين الذين يختفون وراء سِتار التعميم هربًا من مواجهة الحقائق المدعمة بالأرقام. العدالة، المساواة، الاشتراكية .. مجرد كلمات». فيما يقول عنه أحد معارفه الآخرين:

«ترك أكسفورد قبلي بمدة. لكني سمعت نتفًا هنا وهناك. يظهر بمظهر أنه كان زير نساء. خلق لنفسه أسطورة من نوعٍ ما، الرجل الأسود الوسيم، المدلّل في الأوساط البوهيمية. كان كما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينات وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرّر، […]، وكان أيضًا من الأثيرين عند اليسار الإنجليزي. ذلك من سوء حظه، لأنه يقال أنه كان ذكيًا، لا يوجد أسوأ من الاقتصاديين اليساريين. حتى منصبه الأكاديمي -لا أدري تمامًا ماذا كان- يخيّل إليّ أنه حصل عليه لأسبابٍ من هذا النوع. كأنهم أرادوا أن يقولوا: «انظروا كم نحن متسامحون ومتحرِّرون! هذا الرجل الإفريقي كأنّه واحد منّا!».

 

القطيعة والانفتاح تجاه الثقافات الأخرى

نصبت الرواية وأحداثها مجموعة ثانوية من الرجال والنساء ليمثّلوا واجهة القرية الاجتماعية وأعيانها، فكانت هذه المجموعة تؤازر الضعيف، وتدعوا لجمع الأموال إلى المحتاجين، وتدلي برأيها في زواجات القرية ومناسباتها، وتتداول القصص والحكايات عمّا يحصل بين الأفراد وتحافظ على ترابطهم. وبالطبع نال التغيير والانفتاح على المجتمعات الأخرى جوانبًا من هذا الحديث، فكان البعض متحفظًا جدًا تجاه هذا الانفتاح ولا يزال يرى الخير في القرية كما هي، بينما رأى آخرون ذلك الانفتاح فرصة للانفتاح والتغيير.

فنجد الرأي الأول المتحفظ حينًا تجاه الشمال: «البواخر مخرَت عرض النيل أول مرّة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلًا لنقل الجنود. وقد أنشؤوا المدارس ليعلمونا كيف نقول “نعم” بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام».

كما تنعكس هذه القطيعة تجاه العلم الذي حمله هذا الانفتاح؛ فيمكن الاستشهاد بكلمات أحد الشخصيات الثانوية، حملت اسم محجوب، وكان صديقًا مقربًا للراوي ويقاربه في العُمر. انقطع محجوب عن الدراسة بعد المدرسة بعد مرحلة التعليم الأولى، وقال حينها: «هذا القدر من التعليم يكفي، القراءة والكتابة والحساب. نحن أُناس مزارعون مثل آبائنا وأجدادنا. كل ما يلزم المزارع من التعليم، ما يمكّنه من كتابة الخطابات، وقراءة الجرائد، ومعرفة فروض الصلاة».

فكان التعليم هو أحد المواضيع التي يُلمس فيها المأزق الثقافي نتيجة الانفتاح على الحداثة وكل التطور الذي حملته الثقافة الأوروبية إلى المجتمع المحلي. وحملت هذه المفارقة بين الراوي وصديقه مقارنات حملت بعض الندم حينًا، مثل قول محجوب: «انظر أين أنت الآن، وأين أنا. أنت صرت موظفًا كبيرًا في الحكومة، وأنا مزارع في هذه البلد المقطوعة». وكان رد الراوي هو: «أنت الذي نجحت لا أنا، لأنك تؤثر الحياة الحقيقية في القِطر. أما نحن فموظفون لا نقدّم ولا نؤخر». يذكر الراوي مثالًا آخر على هذا المأزق الثقافي حين يستشهد في حواره مع محجوب عن الوزير الذي قال في خطابٍ قوبل بعاصفة من التصفيق:

«يجب ألا يحدث تناقض بين ما يتعلّمه التلميذ في المدرسة، وبين واقع حياة الشعب. كل من يتعلّم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة، ويسكن في بيتٍ محاطٍ بحديقة ومكيّف بالهواء. يروح ويجيء في سيارةٍ أمريكية بعرض الشارع. إنّنا إذا لم نجتث هذا الداء من جذوره تكوّنت لدينا طبقة برجوازية لا تمت إلى الواقع بصلة، وهي أشد خطرًا على مستقبل إفريقيا من الاستعمار نفسه».

وإذا ما قارنا كلمات هذا الوزير بحياته الشخصية، فسنجده هاربًا من صيف السودان إلى بحيرة لوكارنو في سويسرا، بينما تقضي زوجته حاجياتها من أشهر العلامات التجارية العالمية. على النقيض تمامًا يقرأ الراوي عبارة كتبها مصطفى سعيد على قصاصةٍ ورقية: «نعلّم الناس لنفتّح أذهانهم، ونطلق طاقاتهم المحبوسة. ولكننا لا نستطيع أن نتنبأ بالنتيجة: الحريّة. نحرّر العقول من الخرافات. نعطي الشعب مفاتيح المستقبل، ليتصرف كما يشاء».

لا يقتصر هذا الانفتاح على التعليم فحسب، بل يحمل في طياته الكثير من القيم والعادات، بل وحتى أساليب الحياة ومناهج التفكير التي نتج عنها هذا العلم. فيرسم الطيب الصالح مشهدًا يتكئ فيه الراوي على جذع نخلة، مستشعرًا بالغربة التي وجدها بعد عودته نتيجة اختلافاته عن بقية أفراد المجتمع، «لا مكان لي هنا»، متسائلًا عمّا يبقيه في القرية التي حمل صورتها في غربته ذكرىً وحنين، «هؤلاء القوم لا يدهشهم شيء. حسَبوا لكل شيء حسابه. لا يفرحون لمولدٍ ولا يحزنون لموت»، كما يُتبع، «تعلّموا الصمت والصبر من النهر والشجر».

 

الحداثة والتغيير في البُنية الاجتماعية

كان للانفتاح على الثقافات الأخرى أثره المختلف في نفوس الناس، فنرى مشهدًا في منتصف الرواية تقريبًا يناقش فيه ود الريس، أحد أعيان القرية، النساء ويُفاضل بينهم في الزواج والمعاشرة، فيقول ود الريس للراوي: «قالوا نسوان النصارى فوق التصور»، ويستفزه ليعرف إن كان ثمّة علاقات حميمة في الفترة التي قضاها الأخير. ليُتبع حديثه ود الريس: «دعكِ من بنات البلد يا بنت مجذوب. النسوان البرّانيات، هؤلاء هن النساء»، أو «عليّ اليمين يا حاج أحمد، لو ذقت نساء الحبش والفلاتة كنت رميت مسبحتك وصلاتك».

يوثق هذا الحوار وغيره من المشاهد في الرواية شكلًا للعلاقات بين الرجل والمرأة وفكرًا متطرفًا أحيانًا لمفهوم وفكرة الزواج في العالم العربي؛ «أنت تعرف نظام الحياة هنا. المرأة للرجل، والرجل رجلٌ حتى لو بلغ أرذل العُمر»، فيرد الراوي على عبارة صديقه محجوب السابقة بأن الحياة قد تغيّرت، وما صلُح في زمان ما لا يصلح لهذا الزمن، فجاءه الرد: «الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه»، فلربما تغيرت أدوات الزراعة وبدأ عصر تعليم الإناث، إلا أن الفكر الاجتماعي لعلاقة الرجل بالمرأة، والبُنية الاجتماعية الكاملة للقرية لم تزل كما هي.

يتجلّى هذا التغيير في حبكة الرواية عندما رغب ود الريس بالزواج من بنت محمود ابنة الثلاثين ربيعًا، التي تصغره بأربعين عامًا. ولم يلتفت أيّ فرد في القرية إلى فارق العُمر هذا، فيكفي أن يكون رد الجد الضاحك على غضب الراوي من هذا الارتباط: «هل هذا شيء يثير الغضب؟». فبالنسبة إلى الجد ما زال ود الريس شابًّا وهو صاحب مال، وسط استغرابه من عدم ارتباط بنت محمود رغم وفاة زوجها منذ ثلاث سنوات.

بالطبع، رفضت بنت محمود هذا الزواج المقترح، الأمر الذي لم يتقبّله ود الريس بصدرٍ رحب؛ «ود الريس الذي يبدّل النساء كما يبدّل الحمير، يجلس أمامي الآن، وجهه مربد وجفناه يرتعشان، وقد عضّ شفته السفلى حتى كاد يقطعها»، ويجدر الإشارة إلى أنّ ود الريس كان متزوجًا من مبروكة أيضًا، فالتعدد لم يكن مستقبحًا في ثقافة القرية، بل هو أمر دارج ولا يستدعي الاستغراب.

أمّا بالنسبة لمفهوم الزواج فما كان مرتبطًا بمفهوم الحبّ والمشاعر الرومانسية بشكلٍ تامّ بقدر ما كان مرتبطًا بالمسؤولية والواجبات الزوجية، فمن جهةٍ أولى كان رد بنت محمود على سؤال الراوي، عن إذا ما أحبّت زوجها السابق: «كان أبًّا لأولادي»، ثمّ تابعت، «كان زوجًا كريمًا وأبًّا كريمًا، طول حياته لم يقصر معنا». ويؤكد على ذلك الخلو من المشاعرِ مشهدَ تلقي مبروكة خبر مقتل زوجها ود الريس في منتصف الليل: «في ستين داهية»، ثمّ واصلت نومها حتى سُمع لها شخير، فيما كان أهل القرية يجهّزون ميتهم، ثم أنهم وجدوها تشرب قهوتها بكل برود حين عادوا من مراسم الدفن.

يوثق الطيب الصالح في موسم الهجرة إلى الشمال أشكالًا لاختلاف الثقافتين المحلية والأوروبية من قيمٍ وعادات، فالثقافة في نهاية الأمر تمثّل طريقة المجتمع في تعامله مع مختلف أمور الحياة الاجتماعية والصناعية، وحتى تعامل الإنسان مع الأرض من حوله. الأمر الذي قد يجعل التوفيق بين الثقافتين ومنتجاتهما أمرًا مستصعبًا يعقّد شيئًا من شؤون الحياة للفرد. وفي نهاية الأمر، كل امرئ سيواجه الحياة بما يعرف وبكل حيلته؛ «لأنّ ثمّة القليلين أحبّ أن أبقى معهم أطول وقت ممكن»، كما يقول الراوي، «ولأنّ عليّ واجبات يجب أن أؤديها؛ لا يعنيني إن كان للحياة معنىً أو لم يكن لها معنى».

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

  • الطيب صالح (١٩٧٩)، موسم الهجرة إلى الشمال، الجمهورية التونسية، دار الجنوب للنشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى