بشَّر العديد مِن الأسماء في نهايات القرن الماضي بأنّ القرن القادم – أيّ القرن الواحد والعشرين – سيكون قرنًا تنتصر فيه القِيم الروحية على المادة. لكنّ الذي حدث هو أننا وفي العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وجدَ العالم نفسه رهينًا للمادة التي أحكمت الخناق على الجميع، التي يرى الغالبية أنّه من غير الممكن الفكاك من قبضتها المحكمة. ظلّتْ بعض الأصوات تصرخ في بريّة الله مراهنة على أنّ الروح ستنتصر، ومِن ضمن هذه الأصوات يأتي صوت محمد إبراهيم يعقوب، في عمله الشِّعري، الصادر مؤخرًا عن دار تشكيل للنشر والتوزيع: «مجازفة العارف».
آثرتُ في قراءتي هذه أن أبحث عن أمرين مهمّين يشغلانني على الصعيد الشخصي، ويؤثِّران على موقفي النقدي والإبداعي، ألا وهما: دوافع الكتابة الشِّعرية، وجِدّية المضامين التي يشتبك معها الشاعر. فبعد طغيان المادة، ما الذي يدفع الشاعر للذهاب إلى الكتابة الشِّعرية؟ من أين يستمد إيمانه بالقصيدة؟ وبقوة الكلمة في وجه ما أسلفنا ذكره في مفتتح هذه القراءة؟ إنّ الإجابة تأتينا منذ عنوان العمل الشِّعري الذي جاء رغم عادية تركيبته اللغوية – المضاف والمضاف إليه – محمّلاً بكل ما يحمله تلاقي الأضداد من دلالة، فالمجازفة لا تلتقي مع العرفان. إذ إنّ التراث الروحي لكل الأمم جاء مؤكدًا على أنّ العرفان حالة من اليقين الذي يستغرق صاحبه، ويجعله يمخر عباب الحياة بسكونٍ، وهدوء، واطمئنان.
لكن أن يختبر العارف المجازفة واللاّطمأنينة في حياته، فهذا تعبير دقيق ومكثّف للطريقة التي يرى فيها الشاعر – الذي يتوسّل اليقين في روحه – اضطراب العالم من حوله، وانقلاب المفاهيم فيه. فهو يلجأ للتعبير الشِّعري من اللحظة الأولى هربًا من عادية الكلام. ثمّ إنّ تقسيم العمل الشِّعري إلى ثلاثة أقسام يؤيد – إلى حدٍ كبير – ما أذهب إليه في نظرتي هذه: «قلقٌ إنسانيّ، فناءٌ طوعي، انكشافٌ ماثل». إننا في خضم ملاحظتنا هذه، نجد أنّ الشاعر انتقى شخصية صوفية استهلّ بأقوالها كلّ قسمٍ من أقسام المجموعة. وهذا أمرٌ اعتاد الشعراء أن يفعلوه لتوليد دلالاتٍ مختلفة، لكنّ غير العاديّ في انتقاء هذه الشخصية هو شطحاتها المدهشة، وتعبيرها الفريد الذي ظلّ حيًّا معنا لقرونٍ عدة، وتكمن المفارقة في أنّ هذا الحضور الكثيف يأتي رغم ضحالة ما عرفناه عن حياة صاحبها «النَّفري». وبهذا يظلّ اليقين الخائف، والشكّ الواثق، وكل ما يُمكن أن يجمع النقائض ببعضها بعضًا مفتاحًا لفهم العتبات الأولى لهذا العمل الشِّعري الذي يصدمنا به محمد إبراهيم يعقوب.
لماذا الشِّعر؟
«الشِّعر تاريخ الخسارة» هكذا عبَّر يعقوب في إحدى المرّات عن الشِّعر، لكنّه – في هذه المجموعة – يجدد الرهان على الشِّعر، باعتباره نافذة للخلاَص، ومفكرة تسرد هزائم الإنسان أمام العالم، وترصد هلعه، وخوفه الشديد من القادم. ينطلق يعقوب في القسم الأول من المجموعة: «قلقٌ إنساني»، من نقطة الصفر، منه هو تجاه العالم؛ ليرينا إيّاه كما يراه، بسخريةٍ تمثّل مجازفة حقيقية للعارف، إذ نقرأ من نصّ: «لكنّ العالم لا يفنى»: «لن يتغيّر شيءٌ / هذا العالم بين أصابعنا قنينة كولا / نعرف أنّ نهايتها / لا تعني شيئًا! / ألف طريقٍ نحو/ خساراتٍ قادمةٍ / لكنّ العالم لا يفنى / سيظلُّ النسخْ! / سيظلُّ النسخْ! / سيظلُّ النسخْ!». إنّ هذه النظرة الساخرة للعالم، تخفي في داخلها سوداوية يحاول الشاعر أن يغلّفها بالمفارقة. ويظلّ في سوداويته هذه وارتيابه، الذي هو ارتياب إنسان هذه اللحظة حين يؤكدّ في نصّه: «أسباب مؤجلة لشيءٍ سيحدث» حيث نقرأ منه: «كم نسخةٍ منّا تموتُ / على المرايا ليس من أحدٍ يطمئن عُرينا / نحن انتظارٌ لا يكفُّ عن التردّد بين هاويتين / متّهمٌ تمامًا حظّنا بالعيش في الماضي / نخاف من المضيّ / جهازنا العصبيّ مُنتهَبٌ / نعيش رتابة اليوميّ باسمٍ مُقترحْ». إنّ المرايا هي انعكاس للواقف أمامها، لكنها عند محمد يعقوب تقول شيئًا آخر وكأنها تتنكّر هي الأخرى، في إشارةٍ أخرى إلى أنّ الأشياء أيضًا أصبحت تتنكّر عمّا عرفناها عليه، وفي هذا استحضارٌ مضمَر لنظرة شيخ الصوفية الأكبر محييّ الدين ابن عربي؛ إذ يقول: «وما الوجه إلاّ واحد غير أنّه / إذا أنتَ عددت المرايا تعددا».
تداعيات الوردة
إنّ استخدام الفن، كأداة لمخاطبة الضمير، تسامٍ وارتقاءٍ بالفعل الإنساني، يمنح للتعبير عن المشتركات الإنسانية فرصتها في الخلود إنْ هي هربت من ذئب الوقت. ومن هذه المشتركات التي عبّر عنها الشاعر: التجربة العاطفية تجاه المرأة. ففي القسم الثاني الذي حمل عنوان: «فناءٌ طوعيّ»، جاءت تجربة يعقوب مستوعِبة لِما ذهب إليه بعض الناس في أنّ الوجود البشري كان رهن غريزتين أساسيتين هما: البناء والهدم، البقاء والفناء. إلخ. وعليه، لا يمكن للفناء أن يكون طوعيًا، ولكن هذا التقابل المجازي في المعنى لا يصل ذروته إلا في التعبير عن الحبّ. وهوَ بهذه الطريقة يطرق أقصى منطقة يُمكن أن يصِل إليها فعل الحبّ. نقرأ من نصّه: «ظلّ ناقص في الرسم»: «تدرينَ / لَم تثق الغزالةُ / باسم مَن شقّوا على/ عجلٍ خسارتهم / ولم يتعلّقوا بالريح / لَم تكن الكناية عن تفاصيلِ الغزالة صعبةً جدًا / ولكنّي، على مَهَلٍ، تعبتُ». نلحظ أثناء قراءتنا لقصائد هذه المجموعة تخفّفًا كبيرًا من الاختباء وراء المجاز، بالاعتماد على الحالة الشِّعرية الكاملة للنصّ، ولكن عندما حانت لحظة التعبير عن الحبّ، عاد يعقوب لاستخدام ذخيرته اللغوية، وقدرته على صوغ الصور الشِّعرية المتقنة، دون تخلٍ عن التعبير السهل الممتنع، الذي جنح إليه في هذه المجموعة.
يذهب بعض المتصوفة إلى أنّ الإنسان يرى في المعشوق تجلٍّ من تجلّيات جمال الخالق؛ فيصبح ميله وانجذابه للمعشوق تعلّقًا بالخالق. هذا التعلّق هو ما يأتي بـ«الخاطر»، و«الوارد»، وفي تعليق ابن عجيبة عن الوارد في «التشوّف إلى حقائق التصوف»، يذهب إلى اعتباره كشفًا يتخطّف الصوفيّ وينتابه لحظة حزن، أو فرح أو عشق، وعليه يمكن لنا أن نتلقّى هذا المقطع العذب، من نصّ «ما لا أستحقّ»:
«طوعًا يميلُ إليكِ
أوّلُ واردِ
يَا نايَ أيّامي
وحظَّ قصائدي
رئتاكِ موسيقى
وأنتِ
توتّرٌ حانٍ
يُعلَّل بارتباكٍ حاشدِ
يا صعبةً
حدّ المزاج الأنثويّ
وغضّةً
حدّ الضَّلال الناهدِ
مكشوفةً
عصبًا
وعجلى سكرةً
وغواكِ مجنونٌ وغير مُهاودِ
لم تلعني
إلاّ التناقض في المبادئ
حُرّةً أبدًا
بحسٍّ ناقدِ
تأتين
مِن جهةِ الفجيعةِ نشوةً
فتدور
أقداح الصِّبا المتصاعدِ».
تجاعيد الروح
إنّ الشاعر هو الكائن الوحيد الذي يشارك العالم أسراره، ويبوح بها في لحظة اتحادٍ غامضة مع وارده «الذي يأتي ولا يأتي»، وعليه قد يمسّ الشِّعر أمكنة في روح قائله لا يستطيع الوصول إليها سوى الشِّعر. ونجد أنّ يعقوب ترك لروحه أن تقول ما تريد في القسم الأخير من المجموعة، الذي حمل عنوان: «انكشافٌ ماثل» حيث استعاد فيه الشاعر لحظات متنوعة تمثّل صميمه الإنساني والشخصي، وقد لا تمثّل إلّا الآخر الذي تحدث عنه ذات مرّة الكاتب الأورغوياني كارلوس ليسكانو؛ باعتبار أنّ للكاتب ذاتين مختلفتين، واحدة تكتب وتنتج، وأخرى تسهر وتكد وتشحذ أدوات الأولى. فعن أيّ الذوات تحدث هذا القسم؟ لقد طرق يعقوب في هذا القسم من المجموعة مضامين كثيرة، وقد نجح في مقاربتها شِعريًا وفنيًا، بما يجعلها معبّرة عن اللحظة، طازجة، لا تنطلق من أيدولوجيا، ولا تحمل هدفًا معينًا، بقدر ما تريد أن تشارك العالم قلقها وخوفها، فنجد تعبيره عن القلق واللاّجدوى التي وُضِعَ فيها إنسان هذه اللحظة ممثّلاً في قوله:
«أحنُّ إليّ ..
كم حاولتُ جَهدي
يحنُّ السيف أحيانًا لغمدِ
لقد طاوعتُ أيامي
كثيرًا
وخضتُ معاركي ولعنتُ جُندي
وجرح أصابعي ما زال رطبًا
مِن الركضِ
الذي ما عادَ يُجدي».
إنّه الركض الذي تحدث عنه مرّة، في مكانٍ آخر: «أنا صيغة الركض التي لم تتعبِ». ويعبّر في موضعٍ آخر من المجموعة عن مخاوف الهوية، فيقول: «أدري/ على أطراف هذا الماء موّالٌ حجازيٌّ / وفي شبه الجزيرة ما يدلّ على ملاذٍ آمنٍ للظاعنين / النّخل يسقي النّخل / قد تحنو على البئر المعطّلة الهوّية / والهويّة بقعة الروح الحميمة كلّما حطَّ الحمامُ». إنّ من أسوأ مشكلات الشعراء اليوم أنهم يهومون على الفكرة ولا يقولون، ولعلَّ يعقوب يدرك ذلك جيدًا فهو في كثير من الأحيان كان يقول فكرته، بل وعبارته بكل وضوحٍ جارح، كما في هذا النصّ: «دار العجزة فكرة معتوهٍ لَم يلمس يومًا مرآةً ويخاف / الحرب الأهليّة خاصرةٌ تتآكل في قلبِ الريح / الهجرة جرحٌ شخصيٌّ». يواصل الشاعر تعبيره الجارح والقلق، مستخدمًا هذه المرّة السيريالية الساخرة، الممزوجة بالألم وعدم الرضا عن اللحظة، فيقول:
«يحدثُ مثلاً ..
أن تأخذ سيارات الإسعاف إجازة وضعٍ
نغلق مغسلة الموتى عدّة أيامٍ للراحة مِن وجعِ القلب
نُفاجئ مستشفى الأمراض العقليّة
في غفلة حرّاس الأمن الساديين لنأخذ أخبار العالم
نُخفق في الكذب
نشمُّ هواءً في الممشى
لا يعرف شيئًا عن أسعارِ النفط اليوم
ونقصد مقهىً لا يهتك عِرض اللغة العربية
في قائمةِ الطلباتِ الحصريّة».
قبسٌ من نار العارف
يُقال إنّ الروائي الذي يكتب حياته، سيكتب في الغالب رواية واحدة، لذا عليه أن يشحذ أدواته لكي يتفادى حياته الخاصة، ويخلق عوالم أخرى. ونقيض ذلك نجد أنّ الشاعر يتخذ حياته كوقودٍ لإثراء تجربته الشِّعرية وأخذها لأبعادٍ أخرى لا تصلها الحياة الفعلية، ولكن المدهش والأجدّ في هذه المفارقة، أن يقف الشاعر بين منزلة الروائي ومنزلة الشاعر في مغامرةٍ تضع التجربة الإبداعية في محكّ اختبارٍ هائلٍ، وهنا يحضرني قول البرتغالي فيرناندو بيسوا: «أن لا تعرف شيئًا عن نفسك هوَ لتعيش. أن تعرف نفسك بشكلٍ سيئ هوَ لتفكّر». وهل الشِّعر إلاّ محاولة الشاعر الدؤوبة للإجابة عن السؤال: «من أنا؟». يقول شاعرنا في نصّ: «في مديح شخصٍ لا يشبهني»: «الأيام تشبهه تمامًا / لم يكن يسعى إلى شيءٍ / يُسمّي ركضه اليوميَّ ذاكرةً / وينسَى نفسهُ!». إنه يعمّق الحيرة لتأخذه لبعدٍ آخر، بإجابةٍ تشبه السؤال. هي حيرة لا تلتقي بمسارات العارف لكنها خفّته وبساطته، مفارقة لا يقوى عليها سوى الشِّعر؛ أن يقول الشيء ذاته ونقيضه في آنٍ معًا.
«لغةُ الصِّبا حرّاقةٌ جدًّا
ولكن لَم يجازف – مثل قِطٍّ طيّبٍ – بثباتهِ النفسيِّ
يأخذ دورهُ الأزليَّ في جسدِ الرواية
مثقلاً بقواعدِ الإملاءِ
لَم يخرج عن العاداتِ إلاّ نادرًا
يدع الحياة لشأنها
حصص الجسارة لا تمسُّ ضرورةً في صدرهِ
حذِرًا كما ترجو التقاليد العتيقة
لَم يذُق عِنبًا
ولَم يسرِق جنوحًا من ضلالِ صبيّةٍ سَكرى
تجاوز كل شِعر الحُبّ في درسِ القراءة
لَم يُفاجئ قلبه بتوتّرٍ عالٍ
تعمّد أن يمرَّ بلا التفاتٍ للحديقة
وانتهى جِذعًا غريبًا
كي يُغالِط فأسهُ!».
هكذا إذن، يغالي بوضعنا في أعمق نقطةٍ في بئر الحيرة، لتخرج الدلاء وهي تفيض شِعرًا؛ لكأنما الشِّعر في الحيرة لا في اليقين، في الغرابة لا في الأُلفة والاعتياد، بالسير محاذاة النفس والتفيء في ظلالها لا بنسخها وكتابتها. إنّه درس حقيقي عن كيف يمكن للشِّعر أن يكون، وكيف يمكن أن يُستفاد من التجربة إلى آخر حدّ. يقول من ذات النصّ:
«كان انتصارًا للقوانين المعدّة منذ آلاف السنين
مواطنًا صِرفًا،
يسير على خُطى أسلافه
لَم يعتنق رأيًّا جزافيَّ النتائج شاطحًا
كي لا يُلام على حماقتهِ
يُفكّر في كلام الناس كي لا يكسر الإيقاع
يهتمُّ اضطرارًا بالنظام العائليّ
مُقدّسًا في الحزن
ناءٍ في الفجيعة حيث لا يلوي على أحدٍ تمامًا
لَم يُعادِ الناس
لكن لا يُحسُّ بقربهم
زملاؤه يُخفون عنه برودةً في طبعهِ
الآراء لا تعني له شيئًا
يُحاول أن يعيش طقوسهُ في شبه دائرةٍ
ولَم يفتح نوافذ للهواءِ الخارجيّ
الصمت لعبته الخطيرة
إذ يمرُّ الماء بين شقوقه الأولى حنينًا لا يعاتبهُ
ويبسمُ
كي يُرمِّم كأسهُ!».
إنّ المفردة الشِّعرية في اللغة العربية مفردة حيّة ومطلَقة في الآن نفسه، وكل مفردة تقابل حالة وجودية حدس بها مبدعها، وربما اختبرها ذات مرّة في حياته، وبطريقةٍ ما انتقلت منه إلينا محمّلةً بدلالات تجربته، فليستْ اللغة العربية إذن تركيبية، والاشتقاق فيها لا يكون مصطنعًا أو نحويًّا، إنّها نوع من الخلق الفنّي المدهش، وقد تضمن الشِّعر العربيّ تقديم صورًا عن الواقع دون رسم الخطط المستقبلية، إلاّ بعض الإرهاصات التي كانت شبه تعميمات تقول بوجوب ضرورة الانتقال إلى مراحل جديدة، ولا أعني بذلك الفعل التبشيري بقدر ما أعني هذا البلاغ الحذر، والخوف الشديد من القادم، مع الإيمان المطلَق بالجِدة والتمسك الذي يشوبه الحنين للماضي،كما تظهره تجربة يعقوب في «مجازفة العارف».
وقد تضمنتْ تجارب الشّعراء العرب هذه الواقعية الانتقادية، ونقلت لنا الكثير من مشكلات واقعهم. لقد اكتشفوا الضحالة في فكرة إيجاد السعادة البشرية ضمن ظواهر العالم الحاضر: (البردوني، السياب، أمل دنقل، وغيرهم…)، وتلمّسوا تناقضات المجتمع الرأسمالي إذ انطلقوا جميعًا من رؤية كلّ منهم لواقعه، متأثرًا بوضعه الذاتي داخل المجتمع والفئة التي ينتمي إليها، ومع أنّ الواقعية الانتقادية تركز على أشكال الكتابة الدقيقة، فإنّ معظم الشعراء العرب الانتقاديين قدّموا في أساليبهم الطابع الشمولي الذي يحفل، في أحيانٍ كثيرة بالتفاصيل والجزئيات والوقائع، ولعلّي أقتبس للراحل محمود أمين العالم، من كتابه: «مستقبل الشِّعر العربي»، حيث يقول معبّرًا بشكلٍ أدقّ عن دور التجربة الشِّعرية، بأنّها: «مشاركة جِدّية في الحياة، تتخذ مادتها من الواقع الإنساني العام، وصياغتها من طبيعة حركة الحياة. وحياة الشِّعر ليست في مفرداتٍ مستحدثة، ولا أخيلةٍ محلّقة، ولا معانٍ مبتكرة، إنّما في مقدار ما يُؤخذ من الحياة وما يُعطى لها، وفي مقدار ما يتأثَّر بها ويُؤثِّر فيها ذلك؛ لأنّ الشِّعر فعلٌ حيّ وحركة جِدّية، تؤرّخ لنا واقعنا النفسي تأريخًا لا يقوم على المصدر والوثيقة، إنّما على المعايشة والوجود، وهو بهذا التأريخ الحيّ يؤازر بين حركاتنا ويطوّر تجاربنا، ويجعل من حياتنا طريقًا إلى أيّ شيء».
خاتمة
في ختام هذه القراءة، التي حاولتُ من خلالها إلقاء الضوء على بعض المواضِع في هذا العمل الشِّعري المهم، هل يمكنني القول بأنّني وصلت إلى آخر الطريق؟ لا أعتقد ذلك، فالمجموعة مليئة بالمداخل المتعددة لجنّة الشِّعر ونَار القصيدة؛ لكنّ المقام يضيق كما «تضيق العِبارة؛ كلَّما اتسَعت الرؤية».