في الأسبوع الماضي، استعمل مستخدم تطبيق التيك توك، الذي يحمل الاسم المستعار Ghostwriter، تقنية محاكاة الصوت بالذكاء الاصطناعي؛ لإنشاء أغنية تبدو وكأنها تعاون بين الفنانين دريك وذا ويكند. وما أثار الدهشة هو أنّ النتيجة لم تكن فظيعة. لذا انتشرت الأغنية على وسائل التواصل الاجتماعي وحصدت مئات الآلاف من مرّات الاستماع قبل أن تزيلها عدة منصات بناءً على طلب مجموعة يونيفرسال الموسيقية.
بطبيعة الحال، أثارت أغنية الذكاء الاصطناعي نوبة من التأويل المذعور: ماذا يعني هذا الإنجاز الغريب في الفنّ الاصطناعي؟
أخذ البعض الأمور في اتجاه ديستوبي. لم يتطلب الأمر الكثير لتخيل المستقبل القريب حيث تختلط الأغاني المزيفة والأغاني الحقيقية، حيث مقابل كل أغنية أصلية لتايلور سويفت، سيكون الإنترنت مليئًا بالمئات، بل بالآلاف، بل حتى بالملايين من الأغاني المقلدة لتايلور سويفت، والتي قد تخدع المستمع.. ومع الذكاء الاصطناعي، سيمتلئ مجال الموسيقى بالمعلومات المضلّلة.
بدلاً من ذلك، يمكن للمرء أن يميل إلى التفاؤل. Ghostwriter (ربما) ليس واحدًا من أعظم عباقرة الموسيقى في العالم، لكنه أنتج شيئًا جذابًا. إذا كان بإمكان مستخدميّ الإنترنت المجهولين صنع أعمال موسيقية مثيرة في الطابق الأرضي من منازلهم باستخدام الذكاء الاصطناعي، فماذا يعني ذلك بالنسبة للفنانين الموسيقيين الفعليين؟ وجد الباحثون الذين يدرسون إدراج الذكاء الاصطناعي في لعبة اللوحة “غو (Go)” أن ظهور هذه الآلات الخارقة قد “حسَّن عملية صنع القرار البشري”، حيث تعلّم كبار اللاعبين تضمين الاستراتيجيات الجديدة للذكاء الاصطناعي ليصبحوا لاعبين أكثر إبداعًا. وبالمثل، يمكن للمرء أن يتخيل تطوير أفضل كتّاب الأغاني في العالم لمهاراتهم مع كاتب مشارك اصطناعي.
لكنني سئمت قليلاً في الآونة الأخيرة من الانقسام بين اليوتوبيا والديستوبيا في حلقات النقاش حول الذكاء الاصطناعي. ماذا لو أن كتابة أغنية تؤدَّى بأصوات المشاهير لا يوجهنا بوضوح نحو المعلومات المضلّلة ولا جنّة من الإبداع في الموسيقى؟ ماذا لو كانت القدرة على إنتاج مثل هذه الأغاني التي تمنحك الاهتمام من أصدقائك شيئًا رائعًا بكل بساطة – دون الحاجة لأيّ انقسام؟ كما أشار الكاتب التكنولوجي بن تومسون، يمكن لفنانين مثل غرايمز ودريك أن يكسبوا الكثير من المال إذا باعوا تراخيص أصواتهم التي تمّ إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي وسمحوا لمعجبيهم بمشاركة الأغاني مع بعضهم البعض، بشرط أن يتمّ تقسيم أيّ أموال يتم الحصول عليها من الموسيقى بين الفنان الأصلي والمستخدم. بالتأكيد، ستحصل على بعض الأعمال الموسيقية المثيرة المفاجئة. لكن في الغالب، ستجد الكثير من المراهقين يسجلون ثرثرة المدرسة الثانوية بأسلوب وصوت دريك. هذا ليس ديستوبيًا أو يوتوبيًا، بل مجرد أحدث طريقة مضحكة لإضاعة الوقت.
لقد دارت تصورات لاحتمالية إضاعة الوقت في الذكاء الاصطناعي في ذهني مؤخرًا، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى أن زوجتي قالت لي، بعباراتٍ أقل دقة: “أنت تضيع الكثير من الوقت في الذكاء الاصطناعي”. Midjourney، وهو برنامج يحوّل الأفكار المكتوبة إلى صور فخمة، قد استحوذ على وقت فراغي و–أتمنى أن لا يقرأ مديري هذا– وقت عملي أيضًا.
لقد استخدمته بنجاحٍ لـ “إنتاج” صور داجيرية لشخصياتٍ تاريخية تلعب بيكل بول، وأعطيته صورة لغرفة المعيشة في بيتي وطلبت منه إعادة تصميمها. لقد صممت سلسلة من الأسرّة على طراز آبل وفيراري وبيكاسو. ثمّ أدركت أنه يمكنني أن أرفع صور أصدقائي وأطلب من الذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيلها كنسخ مضحكة من أنفسهم – زوجتي كشخصية رسوم متحركة من إنتاج شركة بيكسار، وأفضل صديق لي كرياضي أشيب، وجاري كقنطور ملكي. بعد حوالي أسبوع من شغلي وظائف بديلة كمصمم أثاث أو مصمم ديكور داخلي، قررت استخدام Midjourney لإضحاك أصدقائي. Midjourney برنامج مذهل، نعم؛ ولكن من بين أمور أخرى، هو مضيعة مذهلة للوقت.
يمكن للمرء أن يقدم ملاحظات مماثلة حول ChatGPT. إنه بالفعل يشارك مع المبرمجين في كتابة التعليمات البرمجية، وتسريع البحوث الأساسية، وتنسيق الأوراق وكتابتها، لكنني في الغالب أستخدمه عبثًا، مثل لعبة فيديو نصية مفتوحة. انتشر ChatGPT بسرعة كبيرة في العام الماضي، مما أثار دهشة في منظمة OpenAI، ليس فقط لأن عشرات الملايين من الأشخاص حصلوا على لمحة حول نهاية العمل الذهني المكتبي، ولكن أيضًا لأنه يمثّل لعبة مثيرة للاهتمام للغاية لاختبار حدود المحادثة الاصطناعية. عندما ترى صورًا لمخرجات ChatGPT على الإنستغرام وتويتر، فإن ما تشاهده هو إضاعة الأشخاص للوقت بشكلٍ مسّلٍ.
يميل الاقتصاديون إلى تحليل التكنولوجيا الجديدة من خلال تصوّر كيف أنها ستقدم إضافة إلى الإنتاجية والناتج المحلي الإجمالي. والأمر الأكثر صعوبة في نمذجة الطريقة التي قد تعمل بها التكنولوجيا الجديدة –وخاصة تكنولوجيا الاتصالات– على توفير الوقت وإضاعة الوقت، مما يجعلنا على نحوٍ متناقض أكثر إنتاجية وأقل إنتاجية على حد سواء. لقد استخدمتُ جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي للبحث ولكتابة هذا المقال، وللمماطلة في كتابة هذا المقال. إن إمكانات تعزيز إنتاجية الهواتف الذكية واضحة، وكذلك إمكانات تدمير الإنتاجية: يقضي الأشخاص العاديون في العشرينات من العُمر ما يقرب من سبع ساعات يوميًا على هواتفهم، بما في ذلك أكثر من خمس ساعات على وسائل التواصل الاجتماعي أو مشاهدة مقاطع الفيديو أو اللعب.
إننا نتجاهل الأهمية بعيدة المدى لتكنولوجيا إضاعة الوقت بعدة طرق. في عام 1994، درس الاقتصاديان سو بودين وأفنر أوفر مدى انتشار تقنيات القرن العشرين المختلفة لدى الأسر، واستنتجا أن تقنيات “استخدام الوقت” (على سبيل المثال، التلفزيون والراديو) انتشرت بسرعة أكبر من تقنيات “توفير الوقت” (المكانس الكهربائية والثلاجات والغسالات).
ولم تكن الأسباب واضحة تمامًا، لكن التفسير الأكثر إثارة للاهتمام الذي قدمه بودين وأوفر هو أن خبراء الاقتصاد وخبراء التكنولوجيا يبالغون في تقدير مدى رغبة الناس بشدة في عدم الشعور بالملل. سوف يبذل المستهلكون جهودًا كبيرة للهروب من الأعباء النفسية الناجمة عن غياب النشاط الحسّي. حصل المشترون في منتصف القرن على الراديو، ثمّ تلفاز بالأبيض والأسود، ثمّ تلفاز ملون، ثمّ نظام مكبرات صوت، ثمّ جهاز فيديو، وما إلى ذلك؛ ما أرسل إشارة واضحة إلى منتجيّ هذه الآلات مفادها أن لديهم ما يقرب من الطلب اللانهائي على “جرعات أعلى من الإثارة لكل وحدةٍ زمنية”.
إنّ النظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره لعبة أو مصدر إلهاء أو مضيعة للوقت لا يعني أن الذكاء الاصطناعي سيكون غير منتج أو غير مفيد على الإطلاق. بل إن الأمر يتعلّق بالأحرى بتخيل أن المستقبل المليء بالذكاء الاصطناعي يحتوي على نسيج أكثر من مجرد يوتوبيا وديستوبيا. في كتابه المعنون بـ: بلاد العجائب: كيف صنع اللعب العالم الحديث (Wonderland: How Play Made the Modern World)، يقول كاتب العلوم والتكنولوجيا ستيفن جونسون إنّه “عندما يخلق البشر تجارب مصممة للإسعاد أو الإدهاش ويشاركونها، فإنهم غالبًا يحولون المجتمع بطرقٍ أكثر دراماتيكية من الناس الذين يركزون على اهتماماتٍ أكثر نفعًا”.
على سبيل المثال، كانت أوراق الأغاني الخاصة بآلات البيانو ذاتية العزف في الأساس عبارة عن تعليماتٍ برمجية لآلاتٍ ذات حدود بشرية. ساعدت أوراق التعليمات البرمجية هذه في إنشاء مجال البرمجيات الحديثة. بدلاً من رؤية الألعاب والعمل على أنهما متضادان، قد نحاول رؤيتهما على أنهما مكملان. قد تؤثر الطريقة التي نتعامل بها مع الذكاء الاصطناعي اليوم على طريقة عملنا بطرقٍ يستحيل توقعها.
في ثنائية اليوتوبيا والديستوبيا، ينقذ الذكاء الاصطناعي المتقدم العالم من خلال الإنجازات العلمية والثراء الرائع حتى اللحظة التي يدمر فيها العالم. سيكون المستقبل كالتالي: مليء بالذهب، ثمّ الذهب، ثمّ الذهب، ثمّ يتدمر -ربما-، إلا أنه إن كان للماضي رأي، فإن الطريق إلى الذهب والموت ستكون مرصوفة باللعب ومليئة بالمشتتات. سوف يضيع الذكاء الاصطناعي مليار ساعة قبل أن يوفر مليار ساعة. وقبل أن يقتلنا جميعًا، فإنه سيقتل الكثير من الوقت.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة ذا أتلانتيك).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.