٥ ..
يُقال إن العالم وُلِد مرتين ..
٤ ..
اختلف الجميع على ولادته الأولى ..
٣ ..
لكنهم اتفقوا على ولادته الثانية ..
٢ ..
في فجر السادس عشر من يوليو، عام ١٩٤٥ ..
١ ..
أشرقت شمس القنبلة النووية في صحراء نيومكسيكو لأول مرة في تاريخ البشرية ..
«فجأة، تحول الليل إلى نهار، وقد كان ساطِعًا للغاية؛ وتحول البرد إلى دفء، حيث أخذت كرة النار تتلون تدريجيًا من الأبيض إلى الأصفر إلى الأحمر وهي تنمو في الحجم وتتصاعد إلى السماء. وبعد قرابة خمس ثوانٍ، عاد الظلام مجددًا، وقد امتلأ الهواء بوَهَجٍ أرجواني كما لو كنا محاطين بالشفق القطبي. وقفنا هناك، وقد تملَّكتنا الرهبة .. » ١. «جاء دوي الانفجار بعد قرابة ١٠٠ ثانية من الوميض الساطع؛ الصرخة الأولى لعالمٍ حديث الولادة» ٢.
وَصَفَ الصَحافي «ويليام إل. لورانس William L. Laurence» المتواجد لحظة اختبار القنبلة، ردة فعل الحضور من العلماء والعساكر بعد زوال رهبة الانفجار: «تلك المجموعات الصغيرة التي وقفت مُتجذِّرة في الأرض كما لو أنها نباتات صحراوية، شَرَعَت بالرقص، ثم أخذوا يُحَيُّون بعضهم ويتضاحكون كالأطفال السُعداء» ٣.
كان المشهد يَحمِلُ في طيّاته الكثير من التناقضات التي لم تتضح لدى غالبية الحضور الممسوسين بنشوة الطاقة النووية؛ الضوء الساطع في وسط العُتمة، والحرارة المشِعّة في أول الصباح، والاحتفالات المبتهجة قبل ارتكاب إحدى أبشع الجرائم في التاريخ. كل الهتافات كانت مُحمَّلَة بشيءٍ من التوجس الخفي في اللحظات الأولى. لم تكن تجربة «ترنتي Trinity» مجرد اختبار للسلاح الأكثر فتكًا في الحضارة الإنسانية، بل هي انفتاح على عالمٍ جديد أصبح فيه الدمار الشامل مُمكنًا.
المقولة الأشهر في ذلك اليوم
«كينيث بينبريدج Kenneth Bainbridge» (المسؤول عن تحضيرات التجربة في موقع الاختبار) استوعب تبعات وجود الأسلحة النووية مُبكرًا، وحين ذهب ليُصافح «روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer» (المدير العلمي لـ«مشروع مانهاتن»)، قال له الجملة التي لخَّصَت موقف العالم أجمع من هذا الاختراع ومَن شاركوا في صِناعته: «الآن، جميعنا سَفلة» ٤.
هذه المقولة التي خلَّدها التاريخ، أصبحت شِعار وصمة «مشروع مانهاتن» لما تسبَّبوا به من جرائم في هيروشيما وناغازاكي، وإقحام العالم في تعقيدات الحرب الباردة. ففي كل مرة يَتَصَعَّد الصراع السياسي بين دول تملك ترسانة من الأسلحة النووية، سيشتم العالم أولئِك «السَّفلة» في لوس آلاموس. حتى إن «أوبنهايمر» نفسه، آمن بمصداقية هذا الوصف٥؛ فنجد الكثير من الكتب والوثائقيات التي سعت لتأريخ صِناعة القنبلة النووية وحياة صُنّاعها، قد أوردت مقولة «كينيث بينبريدج» الشهيرة بشكلٍ أو بآخر.
في كتاب «بروميثيوس الأمريكي» مثلًا، عَنوَن «كاي بيردKai Bird و مارتن جي. شيرون Martin J. Sherwin» الفصل الثاني والعشرين (المخصص لتجربة «Trinity»): «الآن، جميعنا سَفلة». هكذا كُتِب العنوان بالخط العريض، حتى لا يتسنّى لقارئ التاريخ تفويت خلاصة «مشروع مانهاتن» عند اختبارهم أولى أسلحة الدمار الشامل.
وحين اختار المخرج «كريستوفر نولان Christopher Nolan» كتاب «بروميثيوس الأمريكي» لتحويله إلى فلمٍ سينمائي، تحمَّس مُحِبّي التاريخ والسينما والعلوم لرؤية هذه القصة تروى على الطريقة النولانية؛ حيث المقياس الملحمي، والتلاعب السردي، والإبهار البصري. لكن ملحمة «نولان» كان ينقصها شيئًا أساسيًا؛ كان ينقصها مقولة «كينيث بينبريدج» الشهيرة!
مضت مشاهد تجربة «Trinity» على وتيرةٍ مُتصاعِدة، دفعت الحضور في قاعة السينما للجلوس على أطراف مقاعدهم، ليأتي الانفجار المهيب، مُصوِّرًا كرة النار المتسَيِّدَة للمشهد، وهي تتلون وتتصاعد إلى السماء، يتبعها الدوي الذي أجفل الجميع ليُعيشهم رهبة الموقف. بعد هذه اللحظات، أتى احتفاء العلماء بإنجازهم المميت مُقاربًا لما وثقه الكتاب؛ كان هناك تشابه كبير في كل شيء، ما عدى المقولة الشهيرة التي لم نسمعها بتاتًا!
أين السَّفلة؟
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا أمرًا لا يستحق الخوض فيه؛ لكن بمجرد التمعُّن في رؤية «نولان» الفنية عند اقتباسه لكتاب «بروميثيوس الأمريكي»، سنجده في غاية الأهمية. لنبدأ هنا بالتأكيد على أن فلم «أوبنهايمر» ليس عملًا سينمائيًا يسعى لتلميع صورة «مشروع مانهاتن» بأي شكلٍ من الأشكال. إذن، ما الدافع وراء حذف مقولة «بينبريدج»؟ هل هي محاولة لطمس الحقائق التاريخية؟ شخصيًا، لا أعتقد ذلك؛ وهذا لأن قرار حذف المقولة كان لأسبابٍ فنية أكثر منها سياسية؛ أي إن ذكر المقولة كان ليتطلب تقديمًا مُسبقًا لـ «بينبريدج»، مما يستدعي استثمارًا قصصيًا في شخصيته. فلا يصح -دراميًا- إدخال شخصية جديدة من اللامكان (لا نعرف اسمها أو دورها في المشروع)، ثم ندعها تصافح «أوبنهايمر» وتقول: «الآن، جميعنا سَفلة». كان لهذا ليكون نقطة ضعف في الفلم.
نحن الآن بصدد مسألة معقدة تتعارض فيها المسؤولية الأخلاقية لتصوير الحقائق مع حبكتها الدرامية؛ لمن تكون الأولوية في هذه الحالة؟ هل علينا مُطالبة صُنّاع الأفلام بتقديم وثائقيات تاريخية بدلًا من الدراما؟ أسئلة كثيرة لمواضيع متعددة ومتشابكة يمكن حصرها في حالة «أوبنهايمر» باقتباس «نولان» لكتاب «بروميثيوس الأمريكي». هذا يُبرئ ساحة المخرج من اتهامات تَعَمُّده تهميش فظائع استخدام القنابل النووية، لأن الكتاب لم يتطرق لها بصورةٍ مباشرة، بل فعل ذلك من منظور «أوبنهايمر» الذي تَمَلَّكه الشعور بالذنب حتى آخر لحظات حياته. فإذا ما أردنا نقد رؤية «نولان» الفنية، علينا فعل ذلك بناءً على الكتاب الذي اقتبس منه القصة.
هذا يُعيدنا مجددًا إلى «بينبريدج» ومقولته التي لم تجد طريقها إلى شاشات السينما، لتفتح باب المقارنة بين العمل الأصلي واقتباسه السينمائي؛ فهل أهمل «كريستوفر نولان» مسؤولية سرد الحقائق من أجل الحبكة الدرامية؟
من صفحات الكتب إلى شاشات السينما
حسنًا، لكي نجيب على هذا السؤال، علينا أولًا الخوض في المسائل التقنية للكتابة وصِناعة الأفلام. بالنسبة لي، أجد متعة خاصة في قراءة الأعمال الأصلية قبل مشاهدة اقتباساتها السينمائية، وهذا لأن متابعة الفلم بتَصَوُّرٍ مُسبق عن الأحداث، يضعني في موقعٍ استثنائي يُمكنني من الإمساك برؤية المخرج الفنية. أنت تعلم حين تجد اختلافًا في تصوير المشهد أن فريق العمل اتخذ قرارًا فنيًا لتغييره؛ لماذا؟ هل المشهد طويل أم غير لائق سياسيًا؟ هل تكلفته الإنتاجية عالية أم وجوده لا يتناسب مع سرعة تسلسل الأحداث؟
هذا الحديث عن الكتب والأفلام دائمًا ما يدفعنا إلى مسألة «أفضليّة العمل الأصلي على اقتباسه السينمائي». فهناك مَن يُحاجج على أن غِنى الرؤية الفنية للكاتب تضعه في مرتبةٍ أعلى من المخرج صاحب الرؤية المحدودة بأدواته وميزانيته وما يسمح له الرقيب بتصويره. هذه الحجة صحيحة في حال حصرنا المقارنة في الجوانب التفصيلية لتعقيدات العالم الروائي، لا التأثير المعنوي على القارئ أو المشاهد.
في حالة التأثير، نحن نخرج من نطاق الحديث عن المنتجات الفنية كـ (الكتب والأفلام)، وندخل في نطاقٍ آخر يتمحور حول طبيعة التفاعل مع هذا المحتوى الفني بمختلف أشكاله. هنا، يتوجب علينا التفريق ما بين:
- القراءة كفعلٍ مُعَقَّد من حيث استلزامها تعلم مهاراتٍ لغويةٍ محددة (لكي تقرأ نصًا ما .. عليك تعلم لغته أولًا).
- المشاهدة كفعلٍ بَسيط لاتستلزم تعلم أي مهارات لغوية (لكي تشاهد فلمًا ما .. عليك فتح عينيك أمام الشاشة فقط).
على هذا الأساس، يمكننا القول بأن اللغة هي الوسط الذهني الذي من خلاله نخلق العوالم الروائية لنعايش شخصياتها في رحلاتهم الممتدة طوال صفحات الكتاب؛ فلا حياة للقصة بلا قارئها. إنها من أكثر التجارب حميمية في قربها وارتباطها بنا. فالكلمة التي أضع عيني عليها لا يُحييها عقلي بمعزلٍ عن خبرتي بها؛ إن الكلمات كـ (العائلة، والولاء، والحب، والانتقام، والجشع، والحرب، والرأسمالية .. إلخ) هي مفاهيم مشحونة عاطفيًا في أذهاننا جميعًا، مما يجعل فعل قراءة القِصص – حيث تدور الحبكات الدرامية حول هذه الثيمات – فعلًا حميميًا بطبيعته. وهنا يكمن سحر الأدب، في قدرة قِصصه على استِثارة العواطف ومواجدة الآخر حتى وإن كان مُتخيَّلًا.
في المقابل، نجد الأفلام أيضًا قادرة على الاستثارة العاطفية، لكن بصعوبةٍ أكبر. فهي تتطلب نصًا محبوكًا من الناحية الدرامية، ومخرج متمكن فنيًا، وأداءات تمثيلية رائعة، وموسيقى تصويرية ساحرة، لتخلق الأثر العاطفي المشابه لقراءة الرواية! والسبب وراء ذلك، هو كون الصورة السينمائية لا تتطلب مُشاركة فعّالة من المشاهد كي يُحييها كما هو الحال مع النص الروائي. كل شيء في الصورة له هويته الخاصة، مما يُصَعِّب إمكانية تشكيله ذهنيًا والتماهي معه. نحن نفقد الوسط الذهني القادر على رسم المشاهد من أوصافها اللغوية على الورق، ونرتهن إلى قدرة المخرج وفريقه الفني على تقديم هذه المشاهد بأفضل طريقةٍ ممكنة. لهذا السبب تحديدًا، يؤمن الكثير بأفضلية الأعمال الأصلية؛ لا بسبب التفوق الفعلي للكتاب، بل بسبب فشل الاقتباس في خلق التأثير ذاته على المشاهد.
لكن مسألة الأفضلية المطلقة لا تصمد أمام الكثير من الاقتباسات السينمائية الناجحة، كاقتباس «فرانسس فورد كوبولا Francis Ford Coppola» لرواية «العراب»، واقتباس «ميلوش فورمان Milos Forman» لرواية «أحدهم طار فوق عش الواقواق»، واقتباس «جوناثان ديم Jonathan Demme» لرواية «صمت الحملان». فما فقدنا قيمته من صفحات هذه الروايات، كسبنا أضعافه من اقتباساتها السينمائية. إن ما يميز هذه الأفلام عن غيرها هو إخلاصها للأعمال الأصلية في الجوهر، لا التفاصيل. فقد أثبتت لنا تجارب صِناعة السينما أن الاقتباس الناجح هو القائم على إزالة التفاصيل الزائدة عن حاجة الشاشة. وبصياغةٍ أخرى نقول، إن التفاصيل التي تستوعبها صفحات الكتاب ويستمتع بها القارئ، قد يكون من الأفضل إزالتها عن الاقتباس السينمائي كي يخرج الفلم بصورةٍ متماسكة. هذا ما يُعرف باسم «الرخصة الفنية»، وهي الرخصة التي تسمح للمخرج التلاعب بالعمل الأصلي من أجل تقديم أفضل اقتباسٍ ممكن مع الحِفاظ على جوهر القصة.
هنا، نرى بوضوح أن الأولوية عند الاقتباس السينمائي هي للحبكة الدرامية، لا التفاصيل الجانبية للكتاب. وهنا أيضًا، تبدأ تتعقد كل هذه المسائل حين ننتقل إلى موضوع اقتباس القصص الواقعية، لأن التفاصيل، في هذه الحالة، هي عبارة عن حقائق! تمامًا كمقولة «كينيث بينبريدج» بعد تجربة «Trinity».
فهل يتوجب علينا وضع اعتباراتٍ محددة «للرخصة الفنية» حين نتعامل مع قصصٍ من الواقع؟ أم الدراما بطبيعتها تستبيح التلاعب بالحقائق؟
معادلة هوليود للحبكة الدرامية
لنتعمق الآن في اقتباس «كريستوفر نولان» لكتاب «بروميثيوس الأمريكي».
من الصفحات الأولى للعمل الأصلي، نجد الكتاب قد وضع القارئ في منتصف دوامة حياة «أوبنهايمر» فترة ١٩٥٣-١٩٥٤، حين وجد نفسه يُصارع محاولات تلطيخ سمعته ومنع تجديد ترخيصه الأمني . في تلك الصفحات، نجح الكاتبان في إبراز ملامح خصومة «أوبنهايمر» مع «لويس ستراوس Lewis Strauss» (صاحب المطامع السياسية في واشنطن). من هنا، وجد «نولان» جوهر القصة التي أراد أن يحكيها بمقاييسه الملحمية الممتدة عبر الخطوط الزمنية؛ دراما الخصومة في كواليس المشهد السياسي إبان الحرب الباردة، بين الرجل الذي سعى خلف الخَلاص من ذنب صِناعة القنبلة النووية، والرجل الذي سعى خلف السُّلطة في عصرٍ ساده القلق واجتاحته الريبة.
كثيرة هي الأفلام الهوليودية الرائعة التي تمحورت حول ثيمات الخصومة. وعند إمعان النظر في بنيتها القصصية، سنجدها قائمة على أساسات درامية ثابتة؛ إنها بمثابة المعادلة لتصوير الخصومات بشكلٍ ناجح على شاشات السينما.
هناك ٣ أمور في هذه المعادلة:
- الأساس الدرامي للخصومة
يخبرنا الكاتب المميز «آرون سوركين Aaron Sorkin» أن جوهر الدراما ومحركها الأساسي في الأعمال الفنية هو «الرغبة وعوائقها» ٦؛ الشخصية ترغب بشيءٍ ما، لكن هناك ما يُعيقها عن ذلك؛ هذه هي الدراما في أبسط صورها. ويمكننا رؤية كيف لها أن تتعقد مع تغيير الثيمات القصصية؛ فالخصومة هي إحدى الثيمات التي تساهم في خلق قصصٍ مثيرةٍ للاهتمام على المستوى الدرامي. في هذه الحالة ، نجد رغبات الشخصيات تتعارض مع بعضها، بحيث تكون كل شخصية هي العائق لرغبة الآخر.
«روبرت أوبنهايمر» كان يسعى لإيقاف سباق التسلح النووي بين أمريكا والاتحاد السوڤيتي، في حين «لويس ستراوس» كان يسعى لدفع حكومته للهيمنة على هذا السباق والاستمرار في تطوير أسلحة الدمار الشامل. للوهلة الأولى، قد يبدو لنا الوصف كما لو أنه تصوير صبياني لصراع الخير والشر، لكن حقيقة الخصومة كانت أكثر تعقيدًا في الواقع، لأننا نعلم أن «أوبنهايمر» هو مَن قاد علماء «مشروع مانهاتن» لتطوير القنبلة، مما يجعل دوافعه النفسية مُتَجذِّرَة في شعوره بالذنب. نحن الآن أمام شخصيات هي أقرب ما تكون إلى تعقيدات الكائن البشري بكل ما يملكه من قدرة على ارتكاب الفظائع بحق نفسه والآخرين.
- التصاعد الدرامي للأحداث
هذا التعقيد الخفي الذي لا تُكْشَف تفاصيله في البدايات، هو ما يدفع المشاهد للاستثمار في أحداث القصة. هل كان «أوبنهايمر» مضطرًا فعلًا لتطوير القنبلة النووية أم أن حمى الحرب أعمت بصيرته؟ لماذا لم يتوقف «مشروع مانهاتن» بعد اكتشاف فشل المشروع النازي لتطوير القنبلة؟ كيف لم يعترض أحد على استخدام القنبلة عسكريًا ضد اليابان بالرغم من هزيمتها؟ أوه، «ستراوس» هو مَن خطط حملة إذلال «أوبنهايمر»! لماذا؟
مع هذه الأسئلة، أظهر «نولان» قدرته الفنية العالية على خلق تجربة سينمائية مثيرة لما يقارب الـ ١٨٠ دقيقة. كل إجابة، تطرح سؤالًا آخر. وما بين سردية «أوبنهايمر» وسردية «ستراوس»، يحاول المشاهد ترتيب الأحداث لتتضح له الصورة الكاملة. مشهد تلو المشهد، وحوار تلو الآخر، يضعنا «نولان» أمام الشاشة الكبيرة لنشهد كواليس اتخاذ القرارات السياسية في تلك الفترة الحرجة؛ إنها رحلة مُربكة و مُرعبة، تأخذنا بوتيرة متصاعدة من المختبرات السرية في لوس آلاموس إلى مباني مجلس الشيوخ في واشنطن.
- المردود العاطفي من القصة
بعد الاستثمار، يأتي المردود على قدر – أو أعلى من – القيمة الـمُستثمَرَة. هذا المبدأ ينطبق على كل شيء من التجارة إلى مشاهدة الأفلام. هنا، تأتي أهمية «الذروة Climax» في البنية القصصية (تلك المشاهد التي تضع الشخصيات في مواجهاتها الأخيرة قبيل النهاية)، إنها ترد للمشاهد قيمة استثماره العاطفي في أحداث الفلم وشخصياته. وكما هو الحال مع التجارة، هذه عملية ليست مضمونة، وغالبًا ما تعتمد على قدرات المخرج في تقديم قصة قادرة على إعطاء المشاهد ما يبحث عنه عند استثماره في أحداثها.
لكن ما هو هذا الشيء في أحداث «أوبنهايمر»؟ هل هو نتيجة صراعه مع «ستراوس»؟ أم صراعه الداخلي مع مشاعر الذنب المتجسدة في رؤى العالم وهو يحترق بالنيران التي أوجدها لهم؟ هل كان من المفترض علينا اختيار أحد الأطراف في هذه الصراعات؟ أم التحسُّر على وضع العالم الجديد الذي خلَّفه لنا «السَّفلة»؟
هناك من شعر بأن «نولان» حاول دفعنا للميل ناحية «أوبنهايمر» كي يستغل ذلك في المردود العاطفي للفلم. لحسن الحظ، يمكننا البت في هذه المسألة عن طريق المقارنة المباشرة للتغييرات التي أجراها «نولان» أثناء اقتباسه لكتاب «بروميثيوس الأمريكي»، لنحكم ما إذا أساء استخدام «رخصته الفنية» عند تصويره لأحداث القصة.
جرائم لا تغتفر ولا تعالج دراميًا
في الخامس والعشرون من أكتوبر، عام ١٩٤٥، استقبل الرئيس الأميركي «هاري ترومان Harry Truman» «روبرت أوبنهايمر» في المكتب البيضاوي. وبعد عِدة دقائق من النقاش عن مستقبل الطاقة النووية، استشعر «أوبنهايمر» أن الرئيس الأمريكي لم يستوعب بعد التبعات السياسية لسباق التسلح النووي؛ فقال له بنبرةٍ مُكتئبة: «أشعر بأن يدي مُلَطَّخة بالدماء».
تتفق الروايات التاريخية على أن هذه المقولة أغضبت «ترومان»، لكنها اختلفت فيما بينها على ردة فعله:
- هناك رواية تذكرأنه قال: «يدي هي الـمُلَطَّخة بالدماء،فدعني أنا أقلق بشأن ذلك».
- رواية أخرى تذكرأنه قال: «لاتقلق، سوف تزيلها مياه المغسلة».
- الروايةالأخيرة تصف أنه سحب المنديل من جيب معطفه ثم قدمه لـ «أوبنهايمر» وقال: «حسنًا، خذ، أتريد تنظيف يديك؟».
على تعدد الروايات التاريخية، إلا إنها تخبرنا الشيء ذاته ٧. في هذه الحالة، لا يمكننا مُعاتبة «نولان» على استخدام «رخصته الفنية» في تصوير شخصية الرئيس الأمريكي بالشكل الوقح الذي ظهر به في الفلم؛ فالتصوير السينمائي، لم يبتعد عن الواقع.
لكن «نولان» لم يُحافظ على هذه الموازنة في معالجته الدرامية لأحداث القصة طوال الفلم.
ففي السادس عشر من أكتوبر، عام ١٩٤٥ (أي، قبل ٩ أيام من مقابلة الرئيس)، صعد «أوبنهايمر» على المنبر في حفل تقاعده من إدارة لوس آلاموس، وقال للحضور مُحذِّرًا: «إذا أُضِيفَت القنابل النووية كأسلحةٍ جديدة إلى ترسانات العالم المتحارب، أو إلى ترسانات الدول التي تستعد للحرب، فسيأتي اليوم الذي تلعن فيه البشرية اسميّ لوس آلاموس وهيروشيما» ٨.
هذه الجملة بصياغتها المشينة، التي تضع ضحايا القنبلة النووية أمام مرمى الشتائم، لم تجد طريقها إلى خطبة «أوبنهايمر» في الفلم! فنسمعه يقول: « .. فسيأتي اليوم الذي تلعن فيه البشرية اسم لوس آلاموس». بلا أي ذكر لهيروشيما كما هو موثَّق في كتاب «بروميثيوس الأمريكي». في هذه الحالة، نرى «نولان» قد استخدم «رخصته الفنية» في خلق انطباعٍ مُختلف عما حدث في الواقع؛ أليس من المفترض مُعالجة الشخصيات بنفس الطريقة، فتُصَوَّر وقاحة «أوبنهايمر» كما تُصَوَّر وقاحة «ترومان»؟!
نحن الآن أمام مُعالجتين مختلفتين للشخصيات؛ معظم مَن هم حول «أوبنهايمر» رُسِموا بصورةٍ تعكس بشاعة أفعالهم. في المقابل، نجد «نولان» قد تعامل مع صورة شخصيته الرئيسية بدرجةٍ عاليةٍ من الحذر؛ إنه لا يريدنا أن ننفر منه، لأنه الأساس الدرامي الذي تقوم عليه قصة الفلم ورسالته.
تتضح هذه المعالجة المتباينة في مشهد اجتماع «اللجنة المؤقتة Interim Committee» برئاسة وزير الحرب «هنري إل. ستيمسون Henry L. Stimson» والذي أقيم في آخر أيام مايو ٩، عام ١٩٤٥. في هذا الاجتماع المصيري، الذي لم تأخذ مشاهده سِوى عدة دقائق من مدة الفلم، وُضِع «أوبنهايمر» في موقف ضعفٍ بين كِبار صُنَّاع القرار داخل إدارة الرئيس «ترومان». ما بين «ستيمسون» الذي أزال مدينة كيوتو من قائمة الأهداف المحتملة للضربة النووية بسبب قضائه لشهر العسل فيها، والجندي الذي رفض إنذار اليابانيين قبل الضربة كي لا يعطيهم فرصة لإحباط العملية، نرى «أوبنهايمر» يحاول التعبير عن مخاوفه من تبعات استخدام القنبلة قبل أن يُقطع كلامه نهائيًا، كما لو أن صوته المتزن الذي لم يكن مُتعطِّشًا للدماء كبقية الحضور لم يُسمح له بالتحدث.
مُجددًا، قام «نولان» باستخدام «رخصته الفنية» لخلق انطباعٍ مختلف عما حدث في الواقع. اجتماع «اللجنة المؤقتة» امتد من الصباح إلى آخر النهار ١٠، ولم يكن في فترة قصيرة كما أوحى لنا المشهد؛ وهذا يعني، أنه كان لدى «أوبنهايمر» ساعاتٍ طويلة للمُحاججة على موقفه، لكنه لم ينجح بإقناع أحد. كما أن قرار «ستيمسون» بإزالة مدينة كيوتو من قائمة الأهداف لارتباطه العاطفي بها، كان قرارًا مُرتجلًا من ممثل الشخصية ولا وجود لهذه المعلومة في كتاب «بروميثيوس الأمريكي» ١١. بالإضافة إلى أن الجندي الذي أبدى اعتراضه على إنذار اليابانيين، كان قد ذكر ذلك في اجتماعٍ مختلف في مكتب «أوبنهايمر» نفسه، والذي لم يُحاجج على موقفه في ذلك الاجتماع أيضًا ١٢.
يستنتج كُتّاب «بروميثيوس الأمريكي» أن «أوبنهايمر» في تلك الفترة الحرجة التي سبقت جرائم هيروشيما وناغازاكي، لم يكون في موقف ضعف، بل موقف تخاذل ١٣. وإذا ما نظرنا إلى مُلخّص مقترحات المجلس العلمي (التابع «للجنة المؤقتة») الصادر السادس عشر من يونيو، عام ١٩٤٥، سنجده يدعم الاستخدام العسكري للقنبلة النووية في اليابان، مما يجعله بلا أدنى شك – تاريخي أو أخلاقي- مُشارك في إحدى أبشع الجرائم في التاريخ ١٤. هذه جرائم لا تغتفر، حتى لو قضى بقية حياته يسعى للتكفير عن ذنبه بمحاولة إيقاف سباق التسلح النووي.
كلمات أخيرة
إذن، هل أساء «كريستوفر نولان» استخدام «رخصته الفنية» في فلم «أوبنهايمر»؟ نعم، أعتقد أنه أساء استخدامها. لكن من المهم هنا توضيح السبب. إن التلاعب بالتفاصيل التاريخية لأغراض درامية هو ليس فعلًا سيئًا من الناحية الأخلاقية بالضرورة. تعمدت ذكر «آرون سوركين» مُسبقًا كي أشير إلى أفلامه عن سيرة «مارك زوكربيرغ» و «ستيڤ جوبز» كأفلام سِيرٍ ناجحة. يعترف «سوركين» أن التلاعب بالتفاصيل التاريخية هو أمرٌ لا بد منه في السينما، ولا أحد يعترض على ذلك؛ لماذا؟
«زوكربيرغ» ساهم في صناعة الفيسبوك، «جوبز» ساهم في صناعة أجهزة أبل، «أوبنهايمر» ساهم في صناعة القنبلة النووية التي تسببت بمقتل مئات الآلاف من الضحايا! إن الاختلاف في درجة حساسية المواضيع، تتطلب درجات مختلفة من مسؤولية تصوير الحقائق. هل يعني هذا أن كل أفلام الحروب والمآسي لا يحق لها توظيف «الرخصة الفنية»؟ بالطبع لا، فالمخرج «كونتن تارانتينو Quentin Tarantino» مثلًا، اشتهر بتلاعبه بالحقائق التاريخية، لكن في السياق الكوميدي الذي يجعلها مقبولة لدى المشاهد.
«كريستوفر نولان» قدَّم لنا تحفة فنية مَعيبة أخلاقيًا، والسبب في ذلك، هو أنه اقتبس كتابًا يحمل كل الحقائق البشعة، ثم اختار مُعالجتها دراميًا بطريقة تخل بالواقع من ناحية تصويرها للشخصية الرئيسية. «أوبنهايمر» لا يستحق لقب بروميثيوس، في الحقيقة، أنه أحد سَفلة لوس آلاموس.
الهوامش
1) Bird, Kai & Sherwin, Martin J. American Prometheus. P.308
2) Ibid., P..309
3) Ibid., P.309
4) Ibid., P.309
5) Ibid., P.646
6) https://www.masterclass.com/classes/aaron-sorkin-teaches-screenwriting/chapters/intention-obstacle-11ba8c15-7856-490d-85bb-eb0601e02c55
7) Bird, Kai & Sherwin, Martin J. American Prometheus. P.332
8) Ibid., P.329
9) Ibid., P.293
10) Ibid., P.297
11) https://www.nytimes.com/2023/07/20/movies/christopher-nolan-oppenheimer.html
12) Bird, Kai & Sherwin, Martin J. American Prometheus. P.298
13) Ibid., P.297
14) Ibid., P.299