بعض الانعطافات مُغيظة، وبعضها بارعة. لكنَّ كليهما يجعل من القصة المفاجئة لعبة ائتمانية ذاتية الانفجار.
لا نظير للتشويق الناتج عن “الحبكة الانعطافية plot twist“، غير المتوقعة حقًّا والمصنوعة بتناسبٍ مُمتع. يحمي النقاد الحبكات الانعطافية الجيدة؛ إبقاءً على سِحرها؛ «لأنَّ الفيلم يعتمد كثيرًا على الانكشاف الفاتن لحبكته، وسيكون من الإجحاف التجاوز في الوصف»، كما قال الناقد السينمائي روجر إيبرت Roger Ebert، عن فيلم: “الحيّ الصيني Chinatown” (1974). وكما قال ناقد آخر بعد 45 عامًا -وهو ريتشارد برودي Richard Brody، عن فيلم: “نحن Us” -من إخراج وكتابة جوردان بيل Jordan Peele (2019)-: «سيكون خطأ كبيرًا أن نفسد انعطافاته twists».
عندما تكون الانعطافة في غير موضعها تترك انطباعًا دائمًا أيضًا؛ فالانعطافة السيئة تبدو كأنها خدعة رخيصة. إنها رديئة. إنها لا تجعلنا نشعر فقط بخيبة الأمل، وإنما بالإهانة أيضًا، فقد نكون في عالَمٍ من الخيال، لكنَّ إحساسنا بالمظلَمة حقيقي. كانت خاتمة المسلسل التلفزيوني: “لوست Lost“، عام 2010، تتويجًا لستِّ سنوات من الغموض، والتضليل، والترقب؛ لذا أثارت خاتمته رد الفعل هذا في كثير من مشاهديه، وقد اشتكى الصانع المُشارك لهذا المسلسل جاي جاي أبرامز J J Abrams من أنَّ «الناس ظلّوا سنوات يثنون على المسلسل ثناءً شديدًا، والآن يقولون: “نحن غاضبون جدًا منك بسبب خاتمة المسلسل”، لم أسمع بعد أيّة إشارة إلى ما كان ينبغي أن تكون عليه النهاية، وإنما سمعت فقط: “هذه النهاية مثيرة للاشمئزاز”».
لا ريب أنَّ الانعطافات هي مجرد نوع من أنواع مفاجآت السرد. يمكن أن تفاجئنا القصص دائمًا بمجرد إحداث شيء مفاجئ وغير متوقع؛ إذ يُعَد فزع القفز Jump scares عنصرًا أساسيًّا في أفلام الرعب والتشويق؛ لأنه مفاجئ بلا شك وبطريقةٍ أساسية ومباشرة جدًّا. ويمكن أن تكون التجاورات العبثية والاختلافات الجامحة في الأسلوب مفاجئة ومُمتعة في كثيرٍ من الأحيان، لكنَّ الانعطافة المفاجئة تعرض بعض المكافآت وتواجه بعض القيود بخلاف فزع القفز والعبثية.
حين تكشف القصة عن الحدث الانعطافي، تسحب البساط من تحتك بطريقةٍ مهمة. فأنت كنت تعتقد أنَّ شيئًا ما كان يحدث، لكن يتضح أنه كان شيئًا آخر، فطوال الوقت كان دارث فيدر Darth Vader، والد لوك Luke. كانت القلادة المفقودة مجرد مجوهرات زائفة. روزباد Rosebud كانت هي المزلجة. وحتى تكون المفاجأة منعطفًا، فيجب أن تتجاوز بعض المعلومات الجديدة فهمًا قديمًا. وكي تكون الانعطافة مُرضية؛ يجب أن تكون معقولة -أو على الأقلّ أن تشعر بأنها معقولة- عند استعادة الأحداث. وإذا لم تكن كذلك، فمن المرجح أن تشعر بمثل شعور نك بيزولاتو Nic Pizzolatto، الكاتب والمنتج الرئيس لمسلسل الجريمة: “المحقق الفذّ True Detective (2014-2019)”، الذي قال ذات مرّة: «لا يمكنني التفكير في أيّ شيء أكثر إهانة للجمهور»، من استثمار ساعات أو أسابيع في قصةٍ ما، «ثمّ يُقال لي: إنها كذبة؛ أنَّ ما كنتَ تراه لم يكن حقًّا ما كان يحدث».
تتضمّن القصص ذات الانعطافات المفاجئة عدة أنواع من الجهد جديرة بالملاحظة
إنها تطلب من الجمهور -مثل أيّ قصة- أن يبذلوا من وقتهم وجهدهم لبناء أفكارٍ محددة حول ما يجري. نحن نستثمر انتباهنا وانفعالاتنا في الشخصيات والمواقف، ثمّ يفترض -في أعقاب المفاجأة- أن نلغي قدرًا كبيرًا من هذا العمل، ونقوم بعملٍ جديد بديل، وإعادة بناء فهمنا لما يجري؛ ليناسب المعلومات الجديدة المفاجئة.
يجب أيضًا على القصص نفسها القيام بأنواعٍ خاصة من العمل؛ لإحباط رد الفعل غير المرغوب الذي وصفه بيزولاتو. يمتلك القصَّاص خِزانة من الأدوات يمكنه استغلالها للمساعدة في منع بعض هذه النتائج التعيسة. وقد كتبتُ عن هذه التكتيكات في كتابي: “عناصر المفاجأة Elements of Surprise (2018)”، الذي يدور حول كيفية استفادة هذه الأساليب من الميول الإدراكية cognitive العامّة والنقاط العمياء في طريقة تفكيرنا.
إنَّ هدف القصَّاص الرئيس هو إقناع الجمهور بما يلي:
أولًا: أنَّ الفهم السابق للانعطافة ربما كان تفسيرًا معقولًا، لكن خاطئ جوهريًّا للوقائع المُعطاة.
ثانيًا: أنَّ الفهم التالي للانعطافة يتفق تمامًا مع تلك الوقائع نفسها؛ فإنهم يديرون هذه الحِيل مع حليف كريم، هوَ عقلك.
إنَّ الأداة الأولى والأهمّ لإعداد انعطافة هي الحقيقة المرّة المُتمثّلة في أننا لا نعتمد بصرامةٍ على ما نراه ونسمعه عندما نشقّ طريقنا في العالم، أو عندما نفهم ما يخبرنا به الناس؛ إذ نواظب على الاستدلال، ونحاول سَد الثغرات. وهذا يعني أنَّ أيّ قصة تتضمن كثيرًا من الفرص التي تسمح لنا باستخلاص استنتاجاتنا الخاصة، مع الإبقاء على خيَار إخبارنا بشيءٍ مختلف لاحقًا. فالأمر يشبه (كابحات المشاهدة spoilers)، فمثلًا: مفاجأة نهاية فيلم: “الحاسَّة السادسة The Sixth Sense” (1999)، المُتمثّلة في أنَّ مالكوم كرو Malcolm Crowe (بروس ويليس Bruce Willis)، هو شبح قد أُعدِّت بهذه الطريقة تحديدًا. ففي التسلسل الافتتاحي نرى كرو يُطلَق النار عليه، وفي المشهد التالي نراه يتجول بلا أيّة إصابة. يبدو أنَّ الوقت قد مضى؛ فلم يخبرنا أحد أنه تعافى من طلقٍ ناريّ، وإنما نستنتج ذلك. يمكننا النظر إلى الوراء بعد ذلك فحسب، وعندئذٍ نقول: “أوه، لقد افترضتُ أنّ…”.
بعد ذلك، مثل الساحر المسرحي –أو النشَّال– يمكن للكتّاب الإفادة من الطريقة التي نفكر بها بأن ننظر في اتجاهٍ واحد حين تحدث أمور مُهمة في مكانٍ آخر، وإخفاء المعلومات الحاسمة في الحبكة التي يمكن اكتشافها لاحقًا، دون لفت الانتباه إلى أهميتها في مشهدٍ مبكر جدًّا. ويساعد استحواذ القصص بطبيعتها على انتباهنا وخيالنا في استمرار العملية. لقد وجدت عالمة النفس ميلاني جرين Melanie Green وزملاؤها أنَّ الناس أكثر تقبّلًا للإقناع تبعًا لما يسمّونه: “النقل السردي narrative transportation”، فعندما تكون القصة مشوِّقة وحيويّة وجذابة وآسرة؛ فإننا نكون أقلّ حذرًا وأقلّ قلقًا من كون جميع التفاصيل مذكورة، وأكثر استعدادًا لمتابعة القصة أينما ذهبت بنا، أم لا.
عندما يحدث شيء غير متوقّع، مهما كان عاديًّا، فإنه يُبدئ نوعًا معينًا من التذكّر
أمّا في حال الحذر الأقلّ، نتخذ المزيد من الطرق-المختصرة shortcuts الإدراكية. وهذه الحقيقة تفتح الباب لكثيرٍ من المناورات المُخططة. في سبعينيات القرن الماضي لاحظ عالِما النفس عاموس تفيرسكي Amos Tversky، ودانييل كانيمان Daniel Kahneman، أنَّ الناس غالبًا ما يتخذون مقاربة للتفكير يمكن وصفها بأنها مقاربة «الترسيخ والتكييف». إنَّ الناس عندما تُعرَض عليهم بعض المعلومات -كالسعر المطلوب لشقة، أو النتائج المبكرة لمسح اقتراع الناخبين، أو إجابة سؤال عادي كعيّنة-، يميلون إلى استخدامها كنقطة بداية في صياغة تقديراتهم وفرضياتهم وتوقعاتهم. فإذا طلبتُ منك تخمين متوسط عُمر السلحفاة، بعد سؤالك أوّلًا عمَّا إذا كانت معظم السلاحف تعيش بعد سِنّ التاسعة، فمن المرجح أن تعيّن عُمرًا أقلّ من العُمر الذي يعيّنه صديقك الذي سُئل عمَّا إذا كانت السلحفاة تعيش غالبًا بعد سِنّ السبعين. والمنطق الإدراكي نفسه هو ما يجعل “السمكة الحمراء” مؤثرة جدًّا. فهذه المغالطة تمارس قوة جاذبة على تكهناتنا. يمكن أن تمثّل المعلومات أيضًا مرتكزًا حين ندرك أنها خاطئة أو لا صِلة لها أصلًا. إذا تعرّفتَ إلى بعض المعلومات الخاطئة باعتبارها رنجة حمراء، فلا يزال بإمكانها التأثير على ما وصفه تفيرسكي وكانيمان بأنّه “إتاحية availability” الأفكار الأخرى، التي ستقيّد خيالك، وتجعل رؤيتك لبعض اتجاهات التفكير أسهل جدًّا من غيرها.
إنَّ شخصيات القصة أوعية للمعلومات مفيدة إفادة خاصة؛ لأنهم يضيفون إمكانية الإنكار. يمكن أن تكذِب الشخصية أو تخطئ دون جعل القصة كلها غير متسقة أو مخادعة. وتعمل هذه الحقيقة سهلة المنال بتناسب مع سِمة قابلة للتنبؤ من سِمات الإدراك البشري، وهي تذكرنا السيء نسبيًّا لمعلومات المصدر؛ إذ يمكننا -لا سيَّما إذا كنّا مشتَّتين (مثلًا من خلال محتوى قصة ما مقنع وجذاب عاطفيًّا)، أن نجد ادعاءات في بيئةٍ مريبة، أو حتى نراها وهي تُكذَّب، ولكن لاحقًا نتذكّر فقط أننا سمعناها في مكانٍ ما من قبل، ثمّ إذا سمعنا تلك الادعاءات مرّة أخرى، فإنَّ هذا الشعور بالأُلفة يمكن أن يجعلنا أكثر عرضة لأخذها على محمَل الجد. يصف عالِم النفس دانييل شاكتر Daniel Schacter -وهو شخصية رئيسة في الدراسة الإدراكية والعصبية للذاكرة- هذا الإخفاق وأشباهه بـ: «خطايا الذاكرة»، ويمكن للقصص استخدامها لزرع المعلومات في الأماكن التي من المرجح أن نتذكّر فيها اللفتات المُضللة في الوقت الذي نضلّ فيه عن مسار الحذر. لحسن الحظ، على الرغم من ميلنا إلى فقدان مسار هذه المعلومات، فإننا لا نفقد بالكليّة أبدًا مسار التمييز، ولذلك إذا أظهرت لنا قصة ما أنَّ أحد المصادر التي وثقنا بها غير موثوق؛ فإننا نفهم ذلك. إنَّ المصدر احترق، لكنَّ القصة نفسها ما زالت أمينة.
إذا كانت القصص ترمي بأوراقها على النحو الصحيح، يمكنها حتى تقديم معلومات جديدة تمامًا في مشهد حلّ العقدة، لكن مع معالجة المقدمة ببراعةٍ بحيث لا تبدو جديدة. ومن الأمثلة الشائعة جدًّا التي يمكن الاعتماد عليها اعتمادًا مدهشًا حالة المفتاح غير المحدَّد لحلّ اللغز. يراقب شيرلوك هولمز Sherlock Holmes ركبتيّ بنطال المشتبه به، لكنه “يذكّر” واتسون Watson بحقيقة أنهما كانتا متسختين، ولم يُلبَس البنطال إلا عندما كُشف حلّ اللغز. أُخبرتْ الآنسة ماربل Marple فقط بأنّ كان هناك خادمة في المنزل الذي وقعت فيه جريمة القتل، لكنّها توضح لاحقًا أنها عرفت ما حدث بمجرد أن «سمعتْ بوجود فتاة صغيرة جميلة في المنزل».
تستفيد هذه الاستراتيجية من حقيقة أنه -بشكلٍ عام- عندما يحدث شيء غير متوقع، مهما كان عاديًا، فإنه يُبدئ نوعًا معينًا من التذكّر. ومثل لخطة القصاص، توجّه المفاجأة هذه العملية في اتجاهٍ معيّن من خلال تعزيز استرجاع المعلومات المنسجمة المفاجئة؛ لذلك نحن نتذكّر، فنقول: نعم، لقد سمعنا عن ركبتيّ البنطال، أو نعم، لقد سمعنا عن خادمة تُدعى غلاديس Gladys، ومن ثمّ تتناسب المشاهد معًا. من الأصعب رؤية حقيقة أنَّ الاكتشافات المختلفة كانت متسقة اتساقًا متساويًا مع المعلومات الجزئية التي كانت لدينا في البداية؛ لأنَّ هذا لا يمثّل بنية تفكيرنا بشأن النتائج وإمكانية التنبؤ. بمجرد حدوث شيء ما، فإنَّ هذا الحدث هو بيانات مهمة حول ما يجب أن نتوقّعه على أساس أيّة معلومات جزئية مُتاحة.
طريقة التفكير في الماضي هذه “خاطئة” باعتبارٍ معين، ولكنها مفيدة في الخبرة اليومية. تخيّل أنك تمشي في الحديقة، مستمتعًا بأشعة الشمس، وتتنقل بسهولةٍ في البقاع، في الوقت الذي تنزلق فيه انزلاقًا غير متوقع. ما الذي حدث؟ تقول إحدى النظريات: إنَّ أنظمتك الحسيّة الحركية كانت تقوم بمعالجةٍ تنبؤية، حيث تصنع أنماطًا على أساس الخبرة السابقة لتتوقع ما سيحدث بعد ذلك. وعندما يكون النمط خاطئًا، فإننا نتفاجأ. (وإذا كانت المفاجأة ضعيفة بحيث لا تُسجَّل في عقولنا الواعية، فإننا نستعير مصطلحًا مرتبطًا بمنظّر المعلومات العظيم كلود شانون Claude Shannon، ونطلق عليه: “مباغَتة surprisal“). وعند حدوث ذلك، يحتاج النظام إلى مراجعة تقييمه للماضي القريب ذي الصِلة في ضوء ما اتضح. من المنطقي إيلاء اهتمام أقلّ لبعض الأدلة التي تتوافق أيضًا مع النتائج الأخرى؛ لأنها لا تنفعنا كما ينبغي. ويمكن للقصة أن تستفيد من هذا الميل؛ لتقدّم لنا روابط فضفاضة نشعر أنها مُقنعة ومُحكمة.
من المُمتع والمثير للاهتمام تحديد المبادئ الإدراكية التي تفسِّر كيف تُحدث هياكل القصة آثارها، لكنَّ المؤلِّفين وكتّاب السيناريو ليسوا مضطرين لأن يكونوا علماء إدراكيين للاستفادة من هذه الاستراتيجيات؛ إذ يعرِف القصَّاصون الماهرون بالفطرة والخبرة أنها فعّالة. والمبدأ المركزي -قبل كل شيء- هو إحداث ما ينتج التأثير المطلوب، فالهدف هو بناء آلة تعمل، لكن يمكن للقصة أن تُصنع تبعًا لكل هذه القواعد، ويمكن هندستها بهياكل يبدو لمؤلِّفيها أنها على المستوى المطلوب من كل الجوانب الجوهرية، ومع ذلك تثير غضب جمهورها، فمثلًا: أحبَّ [روجر] إيبرت Ebert فيلْمَ: “حياة باي Life of Pi“، للمخرج أنج لي Ang Lee -وهو حكاية عاطفية تستخدم انعطافة وجودية لطرح أسئلة حول الإيمان والصدمة-، وفيلم: “بيت الألعاب House of Games (1987)”، لديفيد ماميت David Mamet -وهو فيلم إثارة مبنيّ بإحكامٍ وخالٍ من العاطفة، مع صاعقة مخادعة في نهايته-، لكن إيبرت أبغض النهاية الانعطافية لفيلم: “المشتبه بهم المعتادون The Usual Suspects (1995)”، ونبَّه على أنّ «بقدر ما ترغب في مشاهدة هذا الفيلم، سيكون ذلك بسبب المفاجأة»، لكنَّ “الإفشاء شديد السطوع لم يبهجني، وإنما أشعرني بأنه كان من الأفضل للكاتب كريستوفر مكواري Christopher McQuarrie، والمخرج: براين سينغر Bryan Singer، أن يكشِفا عن جعبتهم الخيالية المنسوجة بعناية، ويُخبرانا -فقط- بقصةٍ عن شخصياتهما».
يمكن لماكواري وسينغر أن يعزيَّا أنفسهما في أقلّ الأحوال بأنَّ وجهة نَظر إيبرت لا تمثّل إلا الأقلية، أمَّا مسلسل “Lost” فكتّابه وممثِلوه وطاقمه في وضعٍ أسوأ؛ ففي تذكّر حديث للفيلم، أصرَّ هنري إيان كوزيك Henry Ian Cusick -الذي لعب دور ديزموند Desmond-، على أنَّ “المسلسل غير متعلِّق بنهايته»، لكنَّ كثيرًا من المشاهدين غاضبون للغاية من المسلسل. أين يكمن الخطأ؟ بعض المشاهدين -على الأقلّ- يرى أنه لم يكن هناك إتقان في المرحلة النهائية لعمليّ: “Lost“، و“The Usual Suspects“؛ فالعملان سمحا لجمهوريهما بالانسحاب دون تعليمهم أوّلًا تقدير ما حدث وقبوله؛ لقد أهملا تهدئة المشاهِد.
كلَّما استثمرت أكثر في وجود شيء رائع وساحر داخل الصندوق؛ ازداد الأمر سوءًا
بعد ثلاث سنوات من مسلسل: “Lost” -الذي استمرّ عرضه سِتّ سنوات-، تحدّث أبرامز Abrams، في منصة: “تيد TED”، عن فلسفته في السرد، إذ قال: “إنَّ مصدر إلهامه هو “الصندوق السِّحري”، الذي اشتراه من متجر السِّحر في طفولته. إنَّ الصندوق بِيعَ كصفقة حِيل سِحرية بقيمة 50 دولارًا مقابل 15 دولارًا. لا يمكنك اختيار الحِيل المحددة التي ستكون في الداخل بخلاف المدخرات. يقدّم كثير من البائعين هذا النوع من الخصم خفيّ الحظ. إنه طريقة لتفريغ بعض البضائع الراكدة مع تقديم تجربة ممتعة للعملاء، وهي تجربة رؤية ما تحصل عليه. لكنَّ أبرامز لم يفتح صندوقه السِّحري؛ فقد احتفظ به مغلقًا لسنوات. لِمَ؟ لأنّه يذكّره بجدِّه، ولكن أيضًا لأنه «يمثّل إمكانية غير محدودة؛ إنه يمثّل الأمل، إنه يمثّل الممكن». وهكذا -كما يقول في حديثه لـ TED- كان لديه -على أيّة حال- وعيّ بوظيفته كقاصّ: «أليست القصص سوى صناديق غامضة؟ والصندوق الغامض -تكريمًا لجدّي- لا يزال مغلقًا».
هناك طريقة أخرى للنَظر في تشبيه الصندوق السِّحري، وهي أنَّ السبب الحقيقي الذي يجعلك لا تفتح هذا الصندوق، هو أنه من المرجح جدًّا أن تكون محتوياته مخيبة للآمال. فإذا فتحته، فستكتشف أنك لم تحصل على حِيلٍ سِحرية قيمتها 50 دولارًا، إذا كنتَ تحسب القيمة بالنظر إلى ما كنتَ ستنفقه إذا كنت تعرف ما تشتريه؛ فربما لن يكون لديك ما قيمته 15 دولارًا أصلًا، وفقًا لهذا الحساب؛ ستشعر أنك قد خُدعت، ولن تشعر بالرضا. كلما طال انتظارك، وزاد استثمارك في فكرة أنَّ هناك شيئًا رائعًا وساحرًا وجذابًا داخل الصندوق؛ زاد الأمر سوءًا. والأمر نفسه ينطبق على القصص؛ فعندما يتضح أنَّ الصندوق السِّحري كالسمك في الماء؛ تكون في موقفٍ سيئ.
أثناء إعدادي لكتاب: “عناصر المفاجأة“، بدا لي أنَّ القصص ذات الانعطافات في نهايتها، تهدف إلى أن تكون نوعًا من الخدعة الائتمانية ذاتية التعافي؛ إذ يمكنك أن تخدع شخصًا ما، وإن لم يدرك مطلقًا أنه قد خُدع. في الواقع، يرى المحتال أنَّ هذه النتيجة قد تكون مثالية، لكنها غير مناسبة للقصة الانعطافية؛ فالقصة ذات الانعطافة يجب ألَّا تتضمن فعل الخداع فحسب، ولكن أيضًا لا بد أن تتضمن الآلية التي من خلالها تُكشَف الخدعة. هذا المزيج من العناصر يصنع قصة مفاجئة، وهذه العملية يمكن أن تسمّيها لعبة الائتمان ذاتية الانفجار. وما يجعلها ذاتية التعافي -إذا سارت الأمور كما ينبغي-، هو ما يحدث لهذا الانفجار؛ فمن المفترض أن تنتهي من المشاهدة، وأنت تشعر بالسعادة والإنارة، لا الخداع والإحباط. يجب أن تحتوي القصة على محرِّك إعادة بنائها. عندما بدأتُ في دراسة جانب التعافي الذاتي للمفاجآت السردية، اعتقدتُ أنه يمثّل فرقًا أساسيًّا بين القصص وألعاب المخادعة الفعلية، لكنَّ هذا كان خطأً.
لاحظ علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، وعلماء الأنثروبولوجيا -فضلًا عن المقامرين والمحتالين-، على اختلاف تحقيقاتهم، أنَّ البشر لديهم إحساس دقيق للغاية بما إذا كان الآخرون يلعبون بطريقةٍ عادلة أو مُخادعة. حتى إنَّ بعض علماء علم النفس التطوري وضعوا نظريات مفادها أنَّ لدى البشر بُنية إدراكية عصبية طُورِّت خصيصًا؛ لأجل “اكتشاف المخادعين“، لذا فإنَّ انتباهنا المُمتد والتلقائي إلى احتمالية أن يكون شخص ما في مكانٍ ما يَعِد بما لا يفي. وكما هي الحال، كثيرًا ما يكون حكمنا على هذه الأمور خاطئًا، لكنّه عاطفي، من غير اعتبار لأيّ شيء آخر. قد يفعل الآخرون أشياء كثيرة لا نحبّها، لكنَّ أكثرنا فعليًّا لا يحبّ الخداع. ويبدو أنَّ هذا صحيح سواءً كان الخداع حقيقيًّا أم متخيّلًا؛ لأنّ في كلتا الحالتين، ما يُعتدى عليه هو وضعنا الحقيقي ونيتنا الحسَنة. ومن ثَمَّ فإنَّ القصة التي تريدك أن تشعر بالرضا بعدئذٍ؛ يجب أن تقوم بما يقوم به الأشخاص الذين يعرفون كيفية التعامل مع النوع نفسه من المخاطر في العالَم الحقيقي.
عندما نُشِر كتاب ديفيد مورير David Maurer: “الخدعة الكبرى The Big Con (1940)”، وُصف بأنه «نتاج ثانوي» لأبحاثه حول التعبيرات العامية والاختصاصية لعالَم الجريمة الأمريكي. وقد شملت مسيرته المهنية اللغوية اللغات الاجتماعية للعاملين في الخمر الممنوع، والنشَّالين، والبغايا، ومحتاليّ بطاقات الدفع، وباعة المورفين المتجولين، ومتاجريّ المعلومات السِرية في السباقات، وغيرهم.. لكن بالطبع كان كتاب: “الخدعة الكبرى“، عن المحتالين الائتمانيين؛ لأنَّ لغتهم كانت لغة لمهنتهم خاصة، ولم يستطع دراستها دون دراسة طرق ووسائل المهنة نفسها. لقد عرَف المجتمع المستقيم شيئًا من هذه الأساليب قبل كتاب: “الخدعة الكبرى” -من تقارير الصحف، أو من أدب رنغ لاردنر Ring Lardner، أو من تجربة شخصية مؤسِفة في بعض الحالات. لكنَّ “الخدعة الكبرى“، كان تصويرًا سلِسًا وشاملًا وعاطفيًا لعَصرٍ ذهبيّ للخداع الفنّي المزخرف؛ فقد (كان حقًّا في تدهور إبان نشره)، وقد تعمّق الكتاب جدًا، وكان ذلك شيئًا جديدًا. كان التأثير الثقافي للكتاب كبير. ربما لم تقرأ لمورير بنفسك، لكن إن قرأت له ستجد أنَّ العديد من المفردات والتكتيكات التي وثّقها قد أَلِفَتْهَا حقًّا عشرات الأفلام والروايات، التي أفادت إفادة مباشرة وغير مباشرة من عمله. وهكذا استلَّ فيلم جورج روي هيل George Roy Hill “اللدغة The Sting” (1973)، بتوسعٍ وبشكلٍ مباشر من “الخدعة الكبرى”، حتى إنَّ مورير رفع دعوى قضائية ضد استوديو الفيلم وكاتب السيناريو، لكن وقعت مصالحة قبل المحكمة. وقد علمتُ مؤخرًا من مقالٍ لباربرا ويلي Barbara Wyllie، أنّ في عام 1950، أرسل الناقد إدموند ويسلون Edmund Wilson، نسخة إلى صديقه فلاديمير نابوكوف Vladimir Nabokov؛ ليخبره أنّ الكتاب «يُلقي الضوء جيدًا على جوانب معينة من الحياة الأمريكية».
قرأ الكتاب أيضًا إرفينغ غوفمان Erving Goffman -أحد أبرز علماء الاجتماع في القرن العشرين-، وفي مقالته الكلاسيكية: “تهدئة الهدف On Cooling the Mark Out (1952)”، اعتمد على وصف مورير للمراحل المتأخرة لأيّ خدعة كبرى: العمل الأوّل للمخادعين هو تحديد الهدف، أو تعيينه، واكتساب ثقته. بعد ذلك يمكن إقناع الهدف بفعلٍ ما وفقًا للمخطَّط الاحتيالي للمجرمين، والانخراط على نحوٍ أكبر ببعض النجاحات الصغيرة، وفي النهاية التشجيع على القيام باستثمارٍ كبير، ومن ثمّ سلب ما معه تبعًا لذلك. لكنَّ مجرد تحصيل أموال الهدف لا يكفي؛ فبعد الحصول عليها، تحتاج العصابة المجرمة إلى الهروب النظيف، بلا انتقام من الضحية أو القانون.
الحياة مليئة بمَن يحتاجون إلى تهدئة: المُحبّ المرفوض، أو الموظف الذي فاتته الترقية، أو…
لذا فإنَّ القدرة على “تهدئة” هدف عنيد هي مهارة جوهرية. يمكن توظيف “الإثاريات” الذكية -أحيانًا-، الأدوات المتعددة، (مثل: “الدماء المزيفة”، أو ضباط الشرطة المتورطين في الخدعة)؛ لمنع الهدف من الذعر أو استدعاء الشرطة إلى أن تبتعد العصابة عن الموقع تمامًا. قد يحتاج الهدف إلى تهدئة هنا وهناك في مراحل مبكرة من العمليات أيضًا. يقول مورير: «الهدف المرتاب ليس استثنائيًّا؛ ففي الواقع كل المستهدفين كانوا مرتابين في البداية». والمهدِّئ الماهر يقوم بإخماد هذا الارتياب، وإعادة التوجيه، والتلطيف، والتشتيت، والطمأنة حسب الحاجة، بحيث عندما يحين وقت اللعبة الكبيرة، تذهب الضحية بهدوءٍ وعن طيب خاطر إلى الذبح.
يشير غوفمان -كعالِم اجتماع- إلى أنّ رغم الندرة النسبية لأن يكون المرء ضحية احتيال كبير، فإنَّ الحياة الاجتماعية مليئة بالذين يحتاجون إلى التهدئة، من حبيبٍ رُفض تقرّبه، أوموظف فاتته الترقية، أومجرم مُدان سيُسجن، أو طرف مهزوم في أيّ مسابقة أو لعبة أو معركة… في أيّ وقت يشعر المرء بالخزيّ عندما تتحطم توقعاته، ويشعر أنَّ وضعه محفوف بالمخاطر، وأنَّ شخصه مُهدَّد، تكون هناك أزمة. فإن يُسترضَ كيلا يصبح عنيفًا، ولا يثور، ولا يرفع دعوى قضائية، وإلاّ اندفع وخرج عن السيطرة.
كثيرًا ما تمهد المؤسسات والأفراد القادرون على إحداث هذا النوع من خيبة الأمل باستعداداتٍ مُسبقة للتعامل مع الانفجار. ويتمثّل أحد الخيارات في ترتيب ما يضمن عدم الغضب الذي يحتاج إلى تهدئة، كاختلاق سبب يسلب أحقيّة موظف دون المستوى في التقدّم للحصول على ترقيةٍ قادمة ابتداءً، لكن في كثير من الأحيان لا يكون هذا ممكنًا، حيث تكون الأزمة لا مفرّ منها. وإذا كان الوضع كذلك، يجب بعدئذٍ إخبار الهدف بكيفية قبول الوضع الجديد والمضيّ قُدمًا دون المسَاس بكرامته. كما يوضح غوفمان: «بالنسبة للهدف، يمثّل التلطيف عملية تكييف لوضعٍ مستحيل، وهو موقف ينشأ من تعريفه لنفسه بطريقةٍ تتناقض بها الحقائق الاجتماعية؛ لذا يجب تزويد الهدف بمجموعةٍ جديدة من الاعتذارات لنفسه، وإطار جديد يرى فيه نفسه، ويحكم على نفسه. يجب التحريض على عملية إعادة تعريف الذات على أُسسٍ يمكن الدفاع عنها، والمساعدة في إتمام هذه العملية؛ نظرًا لأنَّ الهدف نفسه غالبًا ما يكون أضعف من أن يقوم بذلك، وعلى الشخص الذي يهدئه أن يقوم بذلك في البداية».
لماذا هذه المعاملة الدقيقة ضرورية؟ يرى غوفمان أنَّ التهدئة هي فنّ مساعدة الناس في تقبّل الفشل، ويقترح أننا بحاجةٍ إلى هذه المساعدة؛ لأنَّ الفشل يمثّل تهديدًا وجوديًّا لشعورنا بالذات. ونحن نتعاون لإخفاء رعب الفشل عن بعضنا البعض وعن أنفسنا؛ ليقود بعضنا بعضًا عبر عتبة الفشل المُميتة إلى نوعٍ من الحياة الأخرى التالية للفشل. يقول غوفمان: “إنَّ الذي يحتاج إلى التهدئة هو «شخص يفقد حياة من حيَواته الاجتماعية، ويوشك أن يموت ميتة من ميتاته المُحتملة».
لكن أليس من المؤكد أنَّ كل ما يحدث للقرّاء أو لروّاد السينما الذين أصابتهم خيبة أمل بسبب انعطافة مفاجئة باهتة لا يكون بهذه الفظاعة؟ وعلى أيّ حال، لماذا يحتاج الجمهور إلى نوع العزاء الذي يقدّمه المجتمع للإخفاقات؟ فإذا أخفق أيّ شخص أو أيّ شيء هنا، فالقصة هي احتيال معطَّل، أليس كذلك؟ إنَّ الأدوات الذكية التي سبق أن وصفتُها -الإخفاء التّام للمعلومات، وخداع المعلومات الخاطئة، وتشجيع المشاركة العاطفية في اللحظات الحاسمة، والاستفادة من “خطايا” الذاكرة-، هي نوع من إدارة المخاطر، التي تعمل على تجنيب القصة تهمة الخداع، لكن الطريقة التي تقوم بها بهذا العمل تتمثّل في إلقاء اللوم عليك، فهي لعبة محفوفة بالمخاطر. وكما يقول غوفمان: «تخلق خيبة الأمل من التوقعات المعقولة، وكذا المضلّلة، حاجة إلى المواساة»، وإلى عملية تكييف؛ لذا، مهما بدت شكاوى المشاهدين مزعجة وغير عقلانية لأبرامز، فقد لا يكون من الحكمة تركهم يندهشون للغاية من اكتشافاتهم النهائية، ولا يجدون سوى قائمة أسماء فريق العمل، وبعض اللقطات المُدمجة footage الداعمة [التي يُطلَق عليها]: “اللفّة الثانية B-roll”، لمشهد الانهيار الأصليّ للشركة.
في الواقع، كان من المفترض أن تكون اللقطة الأخيرة لمسلسل “Lost” بمثابة تهدئة؛ فقد أخبر كارلتون كوز Carlton Cuse -المنتج المشارك للمسلسل-، مجلةَ ” Vulture” أنّ بعد أن كان القطْع cut الأوليّ لحلقة “النهاية The End” جاهزًا للبثّ، كان باري جوسين Barry Jossen -رئيس استديوهات ABC آنذاك-، قلقًا من أنَّ النهاية مبتورة جدًا. وتذكَّر كوز قول جوسين: «أنا قلق من أننا سنبثّ هذه النهاية العاطفية بشدةٍ لهذا العرض، ثمّ نسحق المشاهد بإعلانٍ لشركة بروكتر، وغامبل Proctor & Gamble. لن يكون هذا حسنًا؛ فهل من طريقةٍ لتخفيف ذلك أو تحسينه؟».
ما إن نعرِف شيئًا ما، حتى يستحيل تمامًا أن ننكر معرفته، ولا أن نتخيّل عدم معرفته
إنَّ اللقطات المُدمجة التي قاموا بتجميعها -وهي مونتاج لمناظر shots لحطام الطائرة على الشاطئ، مصحوبة بصوت أمواج المحيط المتلاطمة-، «كانت لخلق وقفة سردية فحسب»، كما قال كوز. ويتابع فيقول: «لكنها كانت عجيبة جدًّا… أعتقد أنّه كان بإمكاننا فعل بعض الأمور؛ لتوضيح أنَّ هذا لم يكن من المفترض أن يصِل إلى المشاهد. لكن كان من المقاصد العظيمة للعرض الغموض المتعمد، ومنح الناس فرصة لهضم وتفسير مسلسل: “Lost” كما يريدون، إن شاؤوا. وعلى مستوىً ما -كما تعرف- لا يمكنك الحصول على هذين المتقابلين».
بعد صدور كتابِي: “عناصر المفاجأة“، اتصل بي كاتبان مختلفان بطلباتٍ متشابهة تقريبًا؛ فقد تعرّض كلاهما للخداع من قِبل محتالين موهوبين، ورغبا في التحدث إليّ عن كيف يمكن أن يساعد العلم الإدراكي cognitive للحبكات الانعطافية في فهم تجربتهما. أوّلاهما: ستيفاني وود Stephanie Wood، كتبت كتابًا ومقالات عديدة عن انخداعها بالحياة المزيفة المفصّلة لرجلٍ التقت به عبر الإنترنت. وتعرّض الآخر: بروس غريرسون Bruce Grierson، لخديعة انتحال الشخصية، وهي نوع من المواقف التي يكون فيها المرء حين يتلقى مكالمة هاتفية وجودة الاتصال سيئة، ويستمع إلى ضجيجٍ مرتفع على الخطّ، ولكن يمكنه سماع الكرب الذي في صوت أحدهم، وهو يقول: “جدّي، أنا في ورطة. من فضلك لا تخبر أمي وأبي”. وفي حالة غريرسون، تمثّلت الخديعة في رسالة بريدٍ إلكتروني، مِن كاهن كنيسته على ما يبدو، مع قصة حول بطاقات هدايا iTunes لصديقٍ مريض. لقد خسر غريرسون 300 دولار، وربح قصة لمجلّة “The Walrus“.
إنَّ المحتالين في كتاب: “الخدعة الكبرى“، مغرمون بالمبدأ القائل: “لا يمكنك خداع رجل نزيه”. هذا الادعاء ينطبق على بعض أنواع حِيل الائتمان، وهذا وارد، لكن ليس على ذلك النوع. من اللطيف أيضًا أن تتصوّر نفسك وأنت تخدع أُناسًا من أجل عائدٍ ما. وقد استشعرتُ شيئًا من الاحتيال بنفسي، وسعيتُ إلى تقديم أيّ نوع من التبصّر في أعقاب حِيل الائتمان في العالَم الحقيقي. ويدور بحثي حول كيفية توفير القصص مساحة آمنة للعب بأنواع الحِيل والمخادعات التي تسبب ضررًا حقيقيًا عندما تُوظَّف بتركيزٍ شديد. كان هذان المُراسلان يعانيان من حدثٍ حقيقي. فما الفائدة التي يمكن أن يحصلا عليها من البحث في آلية نسخةٍ متخيّلة؟ قال كلاهما: إنهما وجدا أنّ من المطمئن معرفة مدى كفاءة الأدب القصصي في تشغيل الماكينة؛ لرؤية أوجه التشابه بين مسارات الاحتيال التي انطلت عليهما وبين المسارات المنعمة التي يسلكها الجمهور.
الأهمّ من هذا كلّه أنهما أحسَّا بمواساة من حقيقة كون الانعطافات الأكثر فاعلية تستفيد مما أطلق عليه علماء الاقتصاد السلوكي كولين كامرير Colin Camerer، وجورج لوينشتاين George Loewenstein، ومارتن ويبر Martin Weber: «لعنة المعرفة the curse of knowledge“، فإنك ما إن تعرف شيئًا ما، حتى يستحيل أن تنكره، ولا أن تتخيّل عدم معرفته؛ إذ تبدو أنفسنا السابقة ساذجة وغبية مقارنةً مع وضعنا الحالي. كيف فشلنا في رؤية ما سيأتي؟ عندما يكون لدينا رد الفعل هذا على القصة، فإنّه يجعل الحبكة تبدو رائعة وكاشفة. وعندما يكون لدينا رد الفعل هذا على أحداثٍ في حياتنا، فمن المرجح أن نشعر بالذنب والخجل، وأننا ملومون في هذه الزلَّة.
أرى الآن أنَّ وود وغريرسون كانا يهدِّئان أنفسهما على نحوٍ خبير، حسب مصطلح غوفمان، الذي يقول: “عندما تُمَسّ كرامتنا، «يمكننا أن نسعى إلى مواساةٍ من دورٍ ما؛ عوضًا عن الأضرار التي لحقت بالأدوار الأخرى». وبهذا يتضح أنَّ الانعطافات المفاجئة لها نوعان من القيمة: الأوّل: سِحر المفاجأة نفسها. فعندما تقدّم القصة مفاجأة مقنعة ونجد تجربة الدهشة – ذلك الكشف المعَدّ بإحكام لتفسير أعمق وأصحّ لما حدث من قبل. أمّا النوع الآخر الأقلّ وضوحًا، فهو فرصة رؤية أنفسنا ساذجين دون خجل، فقد خُدعنا، ثمّ نعرف أننا خُدعنا، (وكيف خُدعنا). نحن نعرف -على نحوٍ أفضل من الاعتقاد- أننا لن نُخدع مرّة أخرى، و المهم هو إيجاد توظيف جيّد لهذا المظهر المُخادع.
الهوامش
1- أو خدعة الائتمان أو الثقة، وهي أيّة محاولة لكسب ثقة الضحية لأخذ شيءٍ قيِّم منه. (المترجم).
2- في صناعة الفيديو تُستخدم اللغة الأولى A-roll، لتصوير اللقطة الأساسية، أمّا اللفَّة الثانية B-roll، فتصوّر المشاهِد الداعمة أو الثانوية، وتُستخدم اللغَّة الثانية لأغراضٍ كثيرة، أقلّها دفع الملل عن المُشاهد، بسبب التركيز المطوّل على موضوع المشهد الأساسي. (المترجم).
3- الأدوار التي يتحدث عنها غوفمان هنا تمثّل الجوانب الاجتماعية والنفسية للشخص في حياته ومصادر الرضا عن الذات، فعند تضرّر جانب اجتماعي معيّن يبحث الشخص عن عزاءٍ في جوانب أخرى. (المترجم).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.