إيون

الكوميديا الإلهيَّة لدانتي | مارك فيرنون

ترجمة: محمد السعيد - تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري

 

لا تزال الكوميديا الإلهيَّة -بعد 700 عام من وفاة دانتي- حديثة، ودرسًا في الذكاء الروحيّ يُحسِّنُ من بقائنا أحياء.

كان دانتي سابقَ عهدٍ في إدراك أنّ لزماننا مشكلة. كان أوّل كاتبٍ استخدم كلمة moderno (1) في الإيطالية، والإشكال الذي لاحظه في الفكر الحديث ما هو إلا محدوديّته في استيعاب الصورة الشاملة للواقع، لا سيَّما في نواحيه الروحيّة. ربما يبدو هذا مفاجئًا، ولْنعلَمْ أنّه لطالما وُصفت رائعته: «الكوميديا الإلهية» بأنها أكثر الخيال القروسطيّ تألّقًا. تُعدّ عبقريّةَ التعبير في نظرةٍ ولَّت للعالم، ليس العالمَ الحديث، بل من عصرٍ رأى كلَّ شيءٍ في علاقته مع الحقيقة الأسمَى التي هي الله. لكنّ دانتي الذي كان وليدَ أزمنةٍ مضطربة، أدرك أنّ هذه الرؤية الكونية كانت تُمتحن، ولم يسعَ إلى رفضها أو استعادتها، بل خلقها من جديد.

يفسِّر هذا المِعيار من الطموح جزءًا من سبب كتابته لرحلةٍ ثلاثية الأجزاء، عبر: الجحيم (Inferno)، والمطهر (Purgatorio)، والفردوس (Paradiso)، بلغةٍ إيطالية شملت عامّة الناس، ولم تُخصَّص للمتعلِّمين الذين يقرؤون باللغة اللاتينية. سرعان ما راجتْ الكوميديا الإلهية. نجت مئات المخطوطات المبكرة من الملحمة؛ فطالب الناس سريعًا بقراءاتٍ علنيّة لها. ولا تزال تُلهِب خيالَ المتأخرين من الشعراء: بدايةً من توماس ستيرنز إليوت، حتى كلايف جيمس، ومن الفنّانين: بدايةً من ويليام بليك، حتى مونيكا بايزنر -أَحَبَّ رسامة معاصرة إليّ-. يأخذك دانتي إلى مكانٍ غير مألوف مسبقًا. يفعل ذلك؛ لأنَّ ملحمته الشِّعرية ردٌّ واعٍ لوعيٍ متقلّب -لا سيَّما ما يتعلّق بالمعنى- كثيرًا ما نغالبه.

كانت مدينةُ دانتي قلبَ النَّقلة من القروسطية إلى الحداثة؛ إذ ضُخَّتْ فلورنسا بأموالٍ جديدة نتيجةَ التضخّم الذي حدث في القرن الثالث عشر، الذي غذّته نماذج مبتكرة في الصِّرافة والتجارة، التي انسلَّت منها الرأسمالية، وجدَّدت المجتمع. لقد كانت بوتقةَ عصر النهضة وحاضنةَ الفنّانين من أمثال جوتو الذي أراد رسم أشخاصٍ يملكون حياةً داخلية مثلنا. من المحتمل معرفة دانتي لجوتو؛ إذ كان يتشرَّب أيضًا معنى الحركات الروحيّة التي زلزلت المشهد الديني من الفقر الطوعي في الرهبنة الفرنسيسكانية، التي قاومت الثروة والسُّلطة المفرتطين لدى الكنيسة، حتى التحرّر الروحيّ عند البيغينيات، وهنَّ طائفة من النساء في أوروبا أعلنَّ عن استقلالهنّ الاجتماعي والديني، وقد نذرنَ حياتهنّ لله.

 لاحقًا، حين انتصفت حياة دانتي، أدرك تأثير هذه التطورات أيّما إدراك. لقد وُلد في عائلةٍ فلورنسية، وخاض -في بادئ الأمر- بحرَ السياسة، ورأى ميزان السُّلطة يتذبذب باطرادٍ بين أحزاب يمثّلون البابويّة وأحزاب يميلون إلى الإمبراطورية. حاز على عددٍ من المناصب المدنيّة، ومنها أنه صار ضابطًا ضمن ستة أداروا المدينة. لكن في عام 1301، مُزّقتْ فلورنسا بالحروب والخصومات، ووجد دانتي نفسه في الكفّة الخاطئة؛ فأُجبِرَ على المغادرة إلى المنفى.

بدا النفي مُهلِكًا للشاعر الذي أثبتَ اسمه بالفعل كخبيرٍ في «الأسلوب العذب الجديد» (2)، ولأنّه لا يستطيع معاشرة أهليه مِمَن يتحدثون بلهجته المحبوبة؛ إذ فقد أملاكه وتواصله مع عائلته أيضًا، وعرف وعورة سُلَّم بيوت الآخرين، ووصف العزلة التي خَبِرَها بقية حياته (3)، ظلّ الشِّعر المذهل الذي بدأه -ربما عام 1308، أو بعده، وأنهَاه في العام الذي يسبق وفاته 1321-، ليسَ مجرّد بيانٍ لانهيارٍ وتشافٍ بعد أزمة منتصف العُمر؛ بل حكايةَ تجلٍّ.

يمكن قراءة الكوميديا الإلهية بكثيرٍ من الطرق. تستكشف أبياتها الأربعة عشر ألفًا أزهى ما في البشرية وأدناه. والوزن الشِّعري الجديد: terza rima (4) (مقطع ثلاثيّ الأبيات)، طبّق الآفاقَ، وأصبح حجرَ الأساس في الإيطالية الحديثة. هذه الأبيات أيضًا استجلاء للحبّ في أبهى صوَره. رِعدةُ الروح الحيَّة التي ترفرف في سريرة القلب -كما سمَّاها دانتي- هزّته هزًّا بعد لقاءٍ عذريّ بشابّةٍ قد تكون بياتريتشي دي فولكو بورتيناري، ابنةَ تاجرٍ ناجح. لقد ماتت وهي في ربيع العُمر -ابنةَ أربعٍ وعشرين سنة-، عام 1290، لكنَّ ابتسامتها انطبعتْ في روح دانتي للأبد. شَعر بأنها إشارة، وما عثر عليه بعد اتّباعها شيءٌ أساسي.

 لقد قادته إلى حجٍّ في بقاع الآخرة الثلاث، وتخيّل الكثير من المسيحيين والطوائف الأخرى كالإسلام (5)، جهنّم -وفقًا لدانتي- مكان وحالة نفسيّة يُحبس فيها الناس؛ إذ يعتقدون أنهم مُدانون، لكن -كما يرى دانتي- مشكلتهم أعمق من مجرد أنّ قاضيًا إلهيًّا مكينًا لعنَهم. في الحقيقة، لقد فقدوا سِعتهم على التغيّر بسبب أنّ عاداتهم المشينة والدنِسة صارت طِباعًا.

المطهر بقعةُ تغيّر. ليست وظيفته تطهير ما يُعدّ مشوبًا، بل تطهير أيّ شيءٍ يمنع الروح من أن تنهل مزيدًا من الحياة، لا سيَّما حين تتشكّل في هيئاتٍ روحيّة. يصوّر دانتي هذه المملكة الثانية جبلًا تصعد فيه الأرواح نحو الحريّة. هؤلاء الأرواح يكتسبون رغبات أوضح وفهمًا أعمق؛ يقودهم تجاه نواحٍ أكثر رحابة، ليصبحوا قادرين على صعود الفردوس -آخر مرحلةٍ في الرحلة وأصعبها-، ولدخولها يرى دانتي أنّه ينبغي له ولهم «أن يصيروا أُناسًا» (6). هذا مثال على مفرداته المستحدثة، وفي هذه الحالة تعني اكتساب طريقة يجب أن يتفوّق فيها الفهم الإنساني على الانشغالات والتصوّرات اليومية، إن أُريد تقدير طبيعة الكون كلّه وما فوقه.

هذا السبب الرئيس لأهمية دانتي حتى اليوم. إنّه يشدّد على أنّ المعرفة تتأتى من الخبرة والمكابدة على الدراسة أو البحث؛ إذ يستجلبان فهمًا ليس منوطًا بجمع المعلومات وحفظها، بل بالوثوق بالمشاعر واتّباع البصيرة، حيث يغرسان قَبولَ الحدس الذي يفضي إلى الوحدة. إنها نوع من المعرفة التي بها «عرَف آدم حواء»، كما نقرأ في تراجم الكتاب المقدس القديمة، ولا تعني أنهما تصاحبا فحسب، بل تضاجعا (7). يخبرنا دانتي أنّ لاستكشاف معالم الزمان والمكان ولإدراك المناحي الخالدة للوجود؛ علينا أن نتوافق ونتمازج في خواصّها المختلفة. أقول «علينا»؛ لأنَّ دانتي كتب بوضوح لنا  -نحن الذين لم نجِئ بعد- ولمعاصريه. متى نقرأ له، يحثّنا على اتّباعه.

ليس الذكاء الروحي فكرًا مجردًا ولا ذكاءً عاطفيًّا

أتأمّل هنا نوع الإرب الذي يحتضن هذا الذكاء الروحي، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنني عضوٌ في إحدى المجموعات للتخصصات البينيّة التي أنشأتها الجمعية الدولية للعلم والدين، والتي تسعى لفهمٍ أفضل لهذا النمط من المعرفة، وأيضًا بسبب حضور الذكاء الروحي في هذه الملحمة الفلورنسيّة.

 الباحث وكاتب سيرة دانتي جون توك استعمل الذكاء الروحي للتعبير عن الوعي الناشئ مع أكمل صورة من مواجهة الذات، وإعادة تهييئها، والتسامي فوقها. شرح توك في كتابه: Why Dante Matters (2020)، كيف يستحثّ دانتي هذا النور الروحي؛ بابتكاره لصورٍ ومحادثات وقصص يمكنها استظهار الأنماط المختلفة والغير معروفة من الفهم. 

كان دانتي يعرف أنّ الصور دليل، وأنَّ المحادثات محفزة، وأنَّ القصص بصيرة. ليس الذكاء الروحي فكرًا مجرّدًا كأنّ دخول الفردوس يتطلّب فيلسوفًا ذا تحليلٍ جيّد، لا ذكاءً عاطفيًّا، ولا قدرة على التعلّم من التجربة. بل يجمع هذه العناصر للكشف عن جوهره والتعرّف على ما سمّته آيريس مردوخ في كتابها: «نسيج الوجود» The Sovereignty of Good (1970) بـ«نسيج الوجود»، أيّ: أن تكون متنبّهًا للطرق التي بها نتقبّل الوجود.

الكوميديا الإلهية مليئة بالصور التي تجسّد هذا. تخيّل دانتي مستيقظًا في غابةٍ مظلمة، كما تبدأ القصيدة. يكشف لنا المشهد شيئًا مهمًّا؛ فالهواء ثقيل، والظلال مرعبة. دانتي مدرك أنَّ الأمور سارت على نحوٍ خاطئ. لكن ثمَّة لحظة أمل رغم أزمته (8) –ونحن نعلم هذا-؛ لأنَّ لحظة الحلّ تأتي في بداية ما أسمَاه بالكوميديا (9)، حكاية نهايتُها سعيدة (10). والسؤال ليس عن احتمال الحدوث، بل عن كيفيّته.

تعِدُ الافتتاحية بإجابةِ مَن سيشارك في هذه المغامرة التفاعليّة، وتصرّ على انغماس القارئ فيما سينجلي. ولا تشدّد على ترابط الأحداث فحسب، بل على تغيّرنا الداخلي حين نكابدها أيضًا، وبهذا، ننسبها إلينا. فلا تستديروا أثناء اكتشافنا لهذه البقاع -كما ينصح دانتي-، إذ لا تحتمل هذه الرحلة الضلال عن الطريق أو الحَيرة. تأمّلوا -في ظلّ هذا- بعض الخطوات المهمة خلال هذا الدرب الذي يأخذنا إلى الأسفل، ثمّ إلى الأعلى، وأخيرًا إلى العلياء.

 تنجلي سريعًا مشكلات مهمة في الجحيم. المرحلة الأولى يمكن اختصارها في التعرّض لطرقٍ خاطئة ومحدودة في المعرفة. فلنأخذ أكثر اللقاءات المُحتفى بها -التي حظيَ بها دانتي-، حين التقى بالعاشقَين فرنتشيسكا دا ريميني وباولو مالاتستا. تخبره فرنتشيسكا أنها نالت قلبَ باولو:

«الحُبّ الذي لا يَعفي مَحبوبًا من مبادلة الحُبّ،

سيطر على كياني بلذَّة،

وهو كما ترى لا يفارقُني بعدُ» (11). 

تَهوي بها ريح الجحيم من كل جانب، فيما تتحدث، وهذه كناية عن أعاصير اللذّة التي تملّكتها في الحياة، لكنها لا تفشل في استعطافنا: فمَن لم يكن في مكانها، أو أراد بشدّةٍ أن يكون فيه؟ لمَ تُرمى هذه الرغبة بالسّوء؟

إنّ أمَلهما بألاّ يفارقا بعضَيهما هَدَمَ حياتَيهما، ونَصَفَها في كونَين. لقد جذبا بعضَيهما، وصارا هوسًا للآخر. سيُقال لدانتي بعد ذلك بأنّه صار مهووسًا بـ بياتريتشي، سيُقال له: «شديد الهوس»؛ حين قارب تحويلها إلى معبودة. أشمل إلماحة أنّ الوقوع في الحبّ يستحضر إيحاءات بالفردوس، فالجهد في الحفاظ على اللذّة ليس إلا سجنًا. ربما يكون سبب الخوف -في زمانٍ يؤلِّه الغراميّات كزماننا- أنّ شدّة المشاعر هذه هي أفضل ما يمكن للحياة أن تقدّمه، فقد صار يصعب ضمان وجود المزيد، وكذا يصعب ضمان أنّ ذلك المزيد سيأتي بعد أن نتخلَّى.

تظهر ناحية أخرى لهذا التعلّق بالحياة عند نزول دانتي ودليله فيرجيليوس إلى حلقات الجحيم السُّفلَى، إذ يلتقيان بأرواحٍ تسعى أمدَ الدهر إلى الانتقام لأجل خطايا محسوسة، وأخرى لا تتصوّر حياةً أخرى خلاف حياة الخداع، والسرقة، والفخر، والاختلاس. الحقيقة أنَّ دانتي في اتّفاقٍ مع فريدرك نيتشه الذي ذكر ببلاغةٍ في هوَ ذا الإنسان (1888)، أنّ البشر يصيرون ما هُم عليه. إنْ استغلّيتَ الآخرين؛ فسينتهي بك الحال إلى استهلاك نفسك.

وعندما استمرّ هو وفيرجيليوس في نزولهما، بدأ دانتي في استيعاب شيءٍ آخر، إذ تأتيه بصيرة مهمة حينما يتأمّل في تعامل هذه الأرواح البائسة مع الزمن. لقد شكَّلتهم أفعالهم القديمة وعاداتهم المشينة؛ لأنهم نسوا احتمال وجود حاضرٍ قد يكون مختلفًا. يرى دانتي أنّ هذه الشخوص مقدّرٌ لها عيش حياةٍ مكرورة؛ لأنّ الماضي هيمن على عقولهم، وحال دون الجديد أو المُبتكر. وهذا يتجلَّى حين يصل الرفيقان إلى قعر الجحيم؛ إذ لم تكن حارةًّ ملتهبةً، بل باردةً متجمّدةً. كلُّ شيءٍ جامدٌ ومحبوسٌ في الجليد (12). 

ليس في المطهر لقاءات ليست فرصًا للتطوّر

هيمنة الماضي على أرواحنا تبدأ في التبدّل بداية صعود دانتي وفيرجيليوس جبل المطهر. يعرف الأفراد هنا أكثر مما تعرفه زمرة الأرواح ذوات العقول المعذَّبة، التي تقول: يجب ألَّا تكون الخطايا سجنًا. تُولد الحريّة النسبية حين يُعرف أنّ من الممكن عدم ارتباطها بالأخطاء والزلات والكره والخوف. وسؤال كهذا عن المعرفة نوعٌ من البصيرة، وهي مَلَكة العقل المدهشة في الاستيعاب، وكذا في الحدس والتطور إذا كان له ذلك. هذا تحرير؛ لأنَّ الأفراد يصبحون أكثر انفتاحًا للاحتمالات التي تعرّضهم لها تيّارات الحياة الواسعة بعدما كانوا معزولين عنها. يدرك دانتي أنَّ الأرواح التي يلتقون بها ويتحدثون إليها على الجبل، في نموّ، وهذه الأرواح تشرح رحلتها في أهليّتها لتقديرٍ أكبر للحياة حولها ودونها؛ إذ تتعلّم الوثوق واستبصار ما يمكن أن يُسمَّى خيالًا، وبهذا تولد سِعةٌ -مهمة أخرى-، وهي الإبداع المشترك.

 هذا فنّ العيش الجيد -دولاب الابتكار والصيرورة- الذي شدَّد عليه الفنّانين ممن التقى بهم دانتي أثناء الصعود. يقصده الشعراء خاصة -كما يمكنك أن تتوقع- لأنه شاعر. ليس في المطهر لقاءات ليست فرصًا للتطوّر. هُم أخبروه أنّ في حياتهم الدنيا لم يكونوا على معرفةٍ صادقة بما كتبوا عنه غالبًا، علمًا أنهم شعروا بجاذبيّة ما كتبوا عنه، وأنهم يتعلَّمون سدّ تلك الفجوة الآن.

إنها عملية تجسيد تصل ذروتَها عند التقاء دانتي ببياتريتشي على قمّة المطهر، ولك أن تتوقّع امتلاء هذه اللحظة بالحبّ والفرح. فكم سيسعد عند رؤية ابتسامتها مرّة أخرى في مملكة ما بعد الموت! إلاّ أنها لا تحيّيه بحفاوة، بل تنتقده في نشيدَين موجعَين (13). 

تؤنّبه بياتريتشي؛ لأنه ألَّهها، فلم يحنّ إلاّ لوجهها، ولم يرَ أنّ جمالها يمكن أن يكون استفاقةً. تتكرر هذه المسألة بأنّ كل لحظة يمكن أن تصبح دعوةً للمزيد إنْ وُجدت الحيويّة المناسبة، وشُوركت، ووُظّفت. حين تُقرن بهذا الاستبصار، يُعامل الحبّ بأنّه دربٌ روحي، لا مثلًا غراميًّا؛ إذ لم يكن بالدرجة الأولى تبادلَ عواطفٍ وملذّات، بل زيادةً في البصيرة، لا أن تُفهَم، بل أن تَفهَم.

هي تصبو إليه لتزداد معرفتها به. إنْ كان لقاؤهما في الآخرة ليس إلاّ لمّ شمل؛ فسيضيع دانتي في حلمٍ بماضٍ لم يكن مطلقًا. لكنَّ قسوتَها لئلا يحدث أيّ هذا -وإن سبَّبَت كدرًا- جعلته يتقبّل جانبًا آخر من تحوّله. وهذا بسبب تمرين إرادته الحرّة، وهذا التمرين مشكلة مهمة يناقشها دانتي بإسهابٍ معقول. يعقلُ الذكاء الروحي أنَّ الإرادة الحرّة ليست فكرةً ساذجة بفعل أيّ شيءٍ دون عرقلة أو تعبيرٍ غير مقيّد، بل توظيفًا لما يدعوه علماء النفس بالقَصْد، أيّ: القدرة على تحويل البال عمدًا تجاه هذه الفكرة أو ذلك الغرض، بخلاف التصرف بغير تفكير لأيّ شيءٍ نلحظه. أنْ نعقل قدرتنا على اختيار ما بطويّتنا، يتطلب في العادة ممارسةً؛ ولهذا كان التأمل الذاتي قِبلةَ كثير من التمرينات الروحيّة كالاعتراف بالذنب والتأمّل -ثمّ إنَّ دانتي مؤهّلٌ لخوض تجربة أن يصير إنسانًا في الفردوس-، لكن علينا أوّلاً أن نقوّم أنفسنا. 

لقد ظهرت مختلف السِّمات للذكاء الروحي، الذي يُستشفّ منه أنَّ الأزمات يمكن رؤيتها كنقاط تحوّل؛ فالصور والقصص تحمل الصدق، والمعرفة المشتركة تتطلب تحوّلًا شخصيًّا، والحريّة ليست قيودًا أقلّ، بل اكتشاف لآفاقٍ مخفيّة أخرى.

وفقًا لدانتي، حدثت هذه الإدراكات -كما نفهم من كلام دانتي-؛ بسبب مواجهته لجوانب نفسه عند لقائه بأرواح الجحيم، وأنّه كشف عن أساريره للأرواح التي اعتنقت حالةً عقليّة تطهّرية. لقد رأى كيف تمنح انهيارات الحياة اكتشافات جديدة، وهو الآن مؤهّل للمرحلة الثالثة: أن يصير إنسانًا. ومع هذا يدرك فورًا أنّ هذا ليس تجاوزًا بمعنى الهرب، بل بزيادة التعمّق فيه؛ ولهذا كانت الفردوس أصعب مرحلة في الرحلة.

إحدى طرق فهم ما يعنيه ذلك أن تتأمّل كيف يتبدّل مرّة أخرى إدراك دانتي للزمن. يحدث هذا حينما امتُحنت افتراضاته مرّة أخرى امتحانًا شديدًا كما في المطهر، ولكن على نحوٍ أكبر؛ فوظيفة الفردوس هي تكثيف المشاكل لا تقديم حلول سريعة؛ لأنَّ الهدف هو الاستيعاب لا التلقيم بملعقة. وخير مثال لهذا أنَّ ثمَّة مشكلة عويصة في المعاناة، تتكشّف في أولى الأرواح التي يلتقي بها دانتي في السماء السُفلى (14)، وهي روح بيكاردا دوناتي (15)

لقد كانت بيكاردا أخت أحد أصدقاء طفولة دانتي، هو فوريزي دوناتي، ولم يكن دانتي متفاجئًا للقائها في الفردوس؛ إذ كانت جميلةَ الروح في الدنيا. لكنّه كان متفاجئًا بلقائها سريعًا، لا في السماوات العُليا قرب الله. تحوّل تفاجؤه إلى صدمةٍ حين حكَت بيكاردا عن استغلالها في حياتها الدُنيا. أخوها الآخر كورسو الذي كان يشعل الفتن، اختطفها من دير سانتا كيارا للراهبات، الذي انضمّت إليه، وزوّجها غصبًا لضمان تحالفٍ مفيد. هذا الاختطاف يعني انتزاع عصائبها المقدسة منها (16)؛ لذا وجدها دانتي في سماءٍ سُفلى.

استشاط دانتي غضبًا لهذا الخبر. استدلّ بذكائه الأخلاقي أنَّ الظلم الذي عانت منه على الأرض تكرَّر في السماء. احتجَّ قائلًا: إنّه لم يكن لها خيَار ترك الدير. أليس عقابها ظُلمًا؟

لكن زاد توتر بيكاردا -كما فعلت بياتريتشي في قمّة جبل المطهر-؛ ليتسنَّى لدانتي رؤية الصورة الكبرى. النزول يأتي قبل الصعود. هناك المزيد.. حين تجاوز أنواع الذكاء الأخرى -الآن مع بيكاردا- تأجَّجت أحاسيس دانتي الأخلاقية خاصة.

يمكن أن نقول: إنَّ البحر متواضع؛ لأنه يحتوي دونما تحفّظ

لقد شرحت بيكاردا أنَّ انتزاعها من الدير كشف لها حقيقةً ربما لن تراها إن صار العكس؛ إذ يمكنها التخلّي عن المستقبل الذي رسمته لنفسها لتكتشف ما لم تتوقعه. وهي تتأمّل الماضي، لم تعد تشعر بأنها انتُهكت ظلمًا وقسرًا؛ لأنها أدركت أنَّ قدرها أسفَر عن احتمال معرفة لذّة أعمق وأبقى. تستطيع أن تقبل ما حدث؛ لأنَّ موافقتها لأيّ حادث مكّنها من الاغتنام وتجاوز ما يمكن أن يحدث. ليست متحرِّرةً من الماضي تعيش حاضرها فحسب، بل يمكنها تقدير حياة كونيّة شاملة من نَظرةٍ عُليا أبديّة نزولًا.

كان المُعالِج النفسي دونالد وينيكوت على الصفحة نفسها عندما لاحظ في 1947، أنّ بعد معرفة وحشيّة الكراهية كلّها يمكن الوثوق بطبيعة الحبّ المطمئنة. لِجان الحقيقة والمصالحة -كالتي في جنوب أفريقيا- تثق بها أيضًا؛ لأنهم يعرفون أنّ تسليط النور على المفاسد، يُظهر خيَارات عفويّة جديدة. يمكن أن تكون ذات نبرة عدائية للآذان التي اعتادت الضرَر الذي يتركه العنف، بل ويُساء فهمه. لكنَّ بيكاردا لا تقول: إنّه ينبغي للروح النبيلة تقبُّل المعاناة، ولا تعلّم المازوخية الدينية. ولا تتغاضى عن العنف، فسيُحاسب أخوها المتلاعب على شرّ فعاله، كما تبيّن دانتي.

 تشقّ بيكاردا -على الأحرى- طريقًا بديلًا لمواجهة المآسي، لا كما صوّره اليونانيون القدماء بانتظار تدخّلٍ إلهيّ يضع الأمور في نصابها، ولا كما قال نيتشه عندما ذكر أنَّ الأشياء التي لا تهلكنا تجعلنا أقوى. بل تجد بيكاردا طريقة للنظر بها إلى العالم بإمكانها دائمًا أن تستبين الخير سواءً وُجد الشر أم لا، وأن تجد طرقًا واعيةً لمحاذاتها.

يمكن للبشر امتلاك هذا النمط من الإدراك عندما يثقون بالقيم الحميدة. هذه الخِصال والعادات الشخصية التي يمكن تجسيدها في المجتمعات والمؤسسات أيضًا، تدلنا على الخير الذي يحثّنا على المشاركة فيه أينما وُجِد، وغالبًا يكون فينا وحولنا.

أو لنقل: إنَّ دانتي يرى أنَّ الخِصال الحميدة تكشف الحقيقة أكثر. خصلة التواضع محورية في هذا الحثّ، ومع هذا، يجب أن تُفهم فهمًا مناسبًا؛ لأنها ليست نكرانًا للذات، أو أن تضع نفسك آخر. إنها -على الأحرى- تقبّليّة غير محدودة لاكتناف المزيد. يشبّه دانتي التواضع بالبحر؛ لأنَّ قعرَه يكتنف كلَّ شيء. يمكن إذن القول بأنَّ البحر متواضع؛ لأنه يحتوي دونما تحفّظ. وكذا الشخص المتواضع تواضعًا مناسبًا ينمو؛ إنّه يقبل كل الأشياء، ولهذا يعرف كلّ الأشياء، سواءً كانت صالحة أم طالحة؛ لأنّه لا يميل إلى إحداهما أكثر من الأخرى، بل مرتبطٌ بكلّ الأشياء؛ لذا يغتنم للأبد.

نصل هنا إلى ذروة الكوميديا الإلهية التي تمثّلت في الفصل الأخير -فصل الفردوس-، حين يصير دانتي واعيًا بالبقعة الخارجة عن الزمان والمكان، والتي تُدعى: بالإمبريوم (17). ينقل لنا تجربته بالتمازج مع النبض الحيّ -الذي يعرفه الآن- كنسيج الوجود المرح والمتحرّر، يشارك الجميع هذا الإبداع «كعجلةٍ تدور بالمحبَّة، التي تحرِّك الشمس وسائر النجوم»، كما يقول البيت الأخير الشهير مُحتفيًا في استعارةٍ عذبةٍ أيَّما عذوبة، يصف دانتي -كحال الكُتّاب- تجربته بهذه المعرفة في صورة:

«وفي أعماقي رأيتُ الأوراق التي تناثرت في أرجاء العالم، 

تتجمَّع برباطِ المحبَّة في كتابٍ واحد».  

يعرف عقل المحبَّة كيف توجد الموجودات بصورٍ متفاوتة من النور الإلهيّ وينبوع الحاضر، ولمَ؟ (18)، هذه هي فكرة أنّ كياني وكيانك والكيانات كلّها ما هي إلا كيانٌ واحد. الجزء يبيّن الكل؛ لأنّ حياتَه يمكنها فقط أن تكون تعبيرًا رنّانًا آخر للحياةِ نفسها.

إنها تُسمَّى -في هذه الأيام- الطبيعة اللاثنائية للواقع، ويُعبَّر عنها في الفلسفة الهندية للأدفايتا فيدانتا، أو إدراك أنَّ كل شيء يتشارك الوجه الإلهيّ، كما يقول المتصوِّفة. نجد في الإرث المسيحي عالِم اللاهوت الألماني ميستر إيكهارت -الذي عاصر دانتي معاصرة مباشرة- يشير إلى الفكرة نفسها أيضًا، في قوله: «عيني وعينُ الله عينٌ واحدة، وبصيرةٌ واحدة، ومعرفةٌ واحدة، ومحبّةٌ واحدة».

 أدرك دانتي ذلك حين اكتملت ذاته، -وهذا يعني أن تخترق الظلمات، وأن تصير أكثر وضوحًا لنور الحياة-؛ حيث وجد نفسه يذوب ذوبانًا تامًّا مع كل شيءٍ حوله، لا بالاتحاد، بل بالتآلف والانسجام. لم يفقد ذاته في الآخرين، وهذا سيُسيء لحقيقة أهميّة الفرد، كما هو مفهوم وفقًا للفكر الحديث، لكنه بدلًا من ذلك استشفّ نفسه في الله، كما يفعل الجميع. إنّه يعرف الوعي الكسريّ للذكاء الروحي: كيف أنَّ جزءًا يبيّن الكل؛ لأنّ حياتَه يمكنها فقط أن تكون تعبيرًا رنّانًا آخر للحياةِ نفسها في وحدةٍ مشعّةٍ راقصة.

الرؤية هائلة وسهلة، والتعبير بَهِيٌّ متقن للوعي البشري اليومي. نحن نَعي -ونستطيع أن نَعي- أنَّنا واعون. هذه هي رسالة دانتي إلى الحاضر: بطريقةٍ ما، كل ما ينبغي فعله أن نعيد اكتشاف جوهر ذكائنا، والسِّعة لاستيعاب الواقع في صورته الشاملة -لا سيَّما في نواحيه الروحيّة-، التفاتة تجاه تجاربنا المحسوسة، وأن نتفحّص ما وجدناه. ثمَّة حاضر وحريّة، قصد وخيال، حقيقة في القصص، وتحوّلات الزمن.. أن ننمو بهذا المعنى يَعني أن نتحسَّن في عيش الحياة.

الهوامش

1- استخدم دانتي هذه الكلمة في سياقَين في المطهر، أحدهما كان إشارةً إلى لهجة فلورنسا آنذاك التي هي اللغة الإيطالية الآن. أمّا الآخر فكان دانتي يتحدّث عن جحيمه كما لم تُعرف من قبل (كما أتت في إنيادة فيرجيليوس). (المترجم).

 2- هذا الأسلوب الجديد في شِعر تلك الحقبة كان يقوده الحبّ، وأقرب إلى المذهب الصوفي في التعبير عنه. يظهر هذا الأسلوب في أشعار دانتي وجويدو غوينتزلي وجويدو كافلكانتي؛ إذ يقول دانتي بلسان إحدى شخصيات المطهر: «إنَّ هؤلاء الثلاثة خلقوا أسلوبًا عذبًا جديدًا لم يسبقهم أحد فيه». للاستزادة: اقرأ كتاب: «الحياة الجديدة» لدانتي. (المترجم).

 3- في حديثٍ بين جد دانتي الأكبر كاتشيجويدا ودانتي نفسه في الفردوس. (المترجم).

4-   تتلاحق في هذا الوزن الشِّعريّ ثلاثة أبيات في مقطعٍ واحد، وتتشابه قافية البيت الأول مع البيت الثالث، والثاني مع الأول من المقطع التالي وهكذا. ثمَّة ترجمة إنجليزية تحاكي جزءًا من الوزن للمترجم والشاعر الأمريكي جون تشاردي. (المترجم).

5- على القارئ الكريم التنبّه بأنّ دانتي عدَّ الإسلام طائفةً منشقَّةً عن المسيحية. (المترجم).

6- Transhumanise.

 7- هذه ترجمة حرفيّة: أنّ آدم عرف حواء، لكن في الترجمة التي أصدرتها دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط: «واضطجع آدم مع امرأته حواء»، وفي ترجمة: سعديا الفيومي -الذي تُنسب له أقدم ترجمة عربية للتوراة-: «وأنّ آدم واقع حواء زوجته». في كلتا الترجمتَين، أظنُّ أنّ هذه المعرفة هي التي قال عنها آدم في سفر التكوين عندما رأى حواء أول مرّة: «هذه الآن عظمٌ من عظامي، ولحمٌ من لحمي». (المترجم).

8-  المشهد المقصود في هذه الجملة عند رؤية دانتي للشمس، باعتبارها الأمل والحبّ الإلهيّ الذي يريد أن يكسبه دانتي. (المترجم).

9-  لم تكن كلمة «الإلهية/divina» أصلًا جزءًا من اسمِ الملحمة كما هو معروف، لكن أتى مؤلف «الديكاميرون» جيوفاني بوكاتشيو، وألصقها بالعنوان؛ ليميّزها عن باقي الكوميديات؛ نظرًا لأنَّ مسائلها متعلّقة بما هو رفيع ومقدَّس. (المترجم).

10-  يخطئ كثيرون في معنى كلمة كوميديا، وهي قطعًا ليست استهزاءً أو مدعاةً للضحك، ولكنَّ الشِّعر في العصور الوسطى صُنّف إمَّا ملهاةً -قصة بدايتها تعيسة ونهايتها سعيدة-، وإمَّا مأساةً، وهي عكس الملهاة. (المترجم).

11- الجحيم، دانتي أليجييري، ترجمة: حسن عثمان، الطبعة الثالثة، دار المعارف. سيُقتبس منها في باقي النصّ. (المترجم).

12- ترمز النار -في التراث والتخييل المسيحي- إلى حبّ الله واشتعال الروح بالحركة. من المنطقي أنّ مركز الجحيم غارقٌ في جمودٍ وبردٍ مُقيم. (المترجم).

13- دانتي في النشيد الثلاثين يبدع في خروجه عن الإرث الأدبي الذي شاع في عدم استعمال الاسم الشخصي للكاتب في كتاباته ولرسم العلاقة بينه وبين بياتريتشي عند ظهورها له في أعلى جبل المطهر، إذ كانت أولى كلماتها مواساةً لاختفاء فيرجيليوس فجأة عن تلميذه دانتي الذي رافقه في الجحيم والمطهر، حيث قالت: «لا تسترسلنّ في البكاء يا دانتي»، وهذه هي المرّة الوحيدة التي ذكر دانتي اسمه بصريح العبارة؛ لحبّه لبياتريتشي، فهي الوحيدة في الكوميديا كلّها التي تستطيع ذكر اسمه لفرطِ ما أراد أن تقوله في حياتها. (المترجم).

14- السماء السُفلى هي سماء القمر. (المترجم).

15- ثمّة قرابة بين زوجة دانتي جيما دوناتي وبين بيكاردا؛ ولذا عرِف دانتي التفاصيل عنها. (المترجم).

16- بتعبير دانتي. (المترجم).

17- سماء السماوات، ووردة الفردوس، ونهر النور الخالص. وهذه آخر سماء في الفردوس، وفيها يرى دانتي النور الإلهيّ، ويغشى بصره، ويصير عاجزًا عن الكلام. (المترجم).

18- يتحدث دانتي في أوّل نشيدٍ من الفردوس عن هذه الفكرة، ويقول: «إنَّ البهاء الإلهيّ يزيد وينقص وبهذا الشي يهب الله الوجود للكائنات». (المترجم).

المصدر

(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).

تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى