تحرير: مارينا بنيامين _ ترجمة: آية علي _ تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
هل الغضب كالطاقة، لا يفنَى ولا يُستحدَث بل يتحوَّل وحسب من شكلٍ إلى آخر؟ أم أنّه جزء من تَرسانة الرغبات لدينا؛ صرخةٌ لحاجةٍ لم تُلبَّ بعد؟
تُعتبر غرفة استشارات المحلِّل النفسيّ بوتقةً لمجوعةٍ غنيّة من المشاعر، لكن قد لا يكون هناك ما هو أكثر تجلّيًا وإلحاحًا من الغضب، ولا من تمظهراته الجمَّة. من ذلك امرأة تجد غضبها الذي يتعذَّر تعليله تجاه شريكها يَتَمظهرُ في نوبات رَبوٍ حادة لدرجة أن يتملّكها الخوف من التواجد معه في الغرفة ذاتها. وفي الأسابيع الأولى من العلاج النفسيّ، يُعبِّر رجلٌ عن غضبه إزاء خيانة مِهنية من خلال حَجْب مُعظَم معلوماته الشخصية ذات الصِّلة عنّي. دعوني أوضِّح مرّة أخرى أنّ هذا الرجل يُعاني من مُشكِلاتٍ في الجهاز التنفسي ومليء بالغضب تجاه الأطباء الذين يُطالبونه بضبط سلوكياته -وتجاه تواطؤيّ المُتخيّل- لدرجة أن يُدخِّن بشراهةٍ فيما يُفترَض أن يكون انتقامًا. وفي اليوم الذي تلا انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، شَرعَت امرأةٌ في البكاء بحُرقةٍ بمجرّد جلوسها. عندما تساءلتُ بصوتٍ مرتفع عمَّا إذا كان يُذكّرها بوالدها المُتعصِّب المُتنمِّر، صاحَت فيّ قائلة إنّها تبكي بسبب شيءٍ واحد فحسب، وإنّها ليست بحاجةٍ لسماع هُرائي المُملِّ النابع من علم النَّفس.
أثبتَت غُرف التحليل النفسيّ أنّها المكان المناسب لملاحظة المفارقة الجوهريّة بخصوص الغضب. إنّ طبيعة الغصب الصريح -وكما يمكن أن يَتحقَّق من ذلك أيّ شخص تقريبًا-؛ تجعل الشعور به واستقباله فوريًّا ومباشِرًا، باعثًا الروح في الأصداء العاطفية والمادية لكلمة «مشاعر». لكنّه قد يكون أيضًا -وعلى نحوٍ استثنائيٍّ- خادعًا وعُرضة للاختباء والتخفّي؛ إذ يُمكِنه التنكُّر في أشكالٍ أخرى لا حصرَ لها، كـ: التحفّظ والانفعال والتهذيب والودّ المُبالغ فيه. إذا لم يَتجلَّ الغضب بصورةٍ علَنية وفوريّة؛ فإنه يقبُعُ مُتربِّصًا في مكانٍ ما؛ فيُخفي نفسه في رداءِ حالةٍ عاطفيةٍ أخرى أقلّ وضوحًا؛ ليقضي وقته في الاستعداد وانتظار إشارة الانطلاق.
دائمًا ما يجد الغضب وسيلةً للظهور في نقاشاتي الإكلينيكيّة مع زملائي المُحلِّلين. وغالبًا ما يفرض نفسه بالقوّة المُطلقة؛ إذ يسترسل المرضى بالشكوى، ويشرعون في سبِّ ولعن أقربائهم، وزملائهم، وشخص ما في وسائل النقل، وأغاني البوب السيئة، ومحّال البقالة باهظة الثمن، وكثيرًا ما يُدخِلون المحلِّل نفسَه صراحةً في نطاق أهدافهم. وفي أحيانٍ أخرى يتسلَّل الغضب إلى نفسه بشكلٍ خفيٍّ؛ ربما دون وعيٍّ من المريض، الذي قد يحتجُّ (غاضبًا) على إيحاء المحلِّل بأنّ هذا ما يشعر به. الغضب حاضر وغائب دائمًا في الجلسات الإكلينيكيّة؛ حاضرٌ على نحوٍ ساحقٍ وغائبٌ على نحوٍ يُنذِر بالسوء. لكن بروزه في المناقَشات بين الزملاء لم يُقابِله إطلاقًا اهتمامٌ مفاهيميّ به. إنَّنا نميل إلى اعتبار الغضب جزءًا من المحتوى، ومُجرّد حالةٍ عاطفية من ضمن حالاتٍ عاطفية أخرى.
لماذا إذن، بالجلوس في غُرف الاستشارات، ناهيك عن قراءة الأخبار ومُشاهَدتها، يصعُب تجنّب الشعور بأنّ الغضب ليس سوى لونٍ آخر في طيف العواطف؟ لماذا يبدو وكأنه يتجلَّى كقوة محرِّكة للعالَم، توجّه التدفقات غير المتوقعة للحياة الخاصة والعامة؟
في تاريخ حالات سيغموند فرويد وأوراقه النظريّة وتعليقاته الثقافية على حدٍّ سواء، يظهر الغضب كواحدٍ من القوى الدافِعة الكبرى للذات والعالَم. لنأخذ مثلًا: «عُقدة أوديب»، التي تُمثّل حجر الزاوية في نظريّته في التطوّر النفسي. تَرتكِز عقدة أوديب على القوّة التشكيليّة للغضب القاتل. وبالرغم من أنّ فرويد لا يقدِّم لنا علاجًا مَفاهيميًّا مُنفصلًا ومتكاملًا للغضب، إلا أنّه يُشير إلى المكانة البِنيويّة للغضب في الحياة النفسيّة، ولا سيَّما في المُقتطفات الإكلينيكيّة المُقتضبة للغاية من أحد النصوص التأسيسيّة لعِلم التحليل النفسي، وهو كتابه: «عن الآليّة النفسيّة للظواهر الهيستيريّة»، الذي ألَّفه مع زميله الأكبر منه سِنًّا، الطبيب العام: جوزيف بروير. وقد أوجز الكتاب الابتكارات العلاجية للطبيبَيْنِ في علاج الهيستيريا.
رجلٌ يستشير طبيبًا شابًّا يافعًا، في عيادته المُنشأة حديثًا لعلاج الاضطرابات العصبيّة. كان يُعاني من هجماتٍ هيستيريّة عشوائية، يسقط خلالها في نوباتٍ من الغضب الصامت. يكشِف تنويمُه المغناطيسيّ عن أنّه «يعيش في المشهد الذي اعتدى عليه فيه صاحبُ العمل في الشارع وضربه بعصًا». وعند عودته بعد ذلك بعِدّة أيام، يتحدّث المريض عن هجمةٍ هيستيريّة أخرى، التي يكشف التنويم المغناطيسيّ أنّها تَمظهُر للحدث الذي تسبَّب في مرضه: «مشهد المحكمة القانونية الذي لم يُنصِفه بحُكمٍ يُعوِّضه عن سُوءِ المعاملة». لا يُخبرنا فرويد وبروير بأيّ شيء تقريبًا عن هذا الرجل. قد يكون عاملًا في مصنعٍ أو نادلًا، لكنّني دائمًا ما أتصوّره في قالَب نوع من الأسهم المالية الناشئة: الموظف المضغوط والقَلِق، الذي سَرْعان ما سيتخلّد وصفه في شخصية: «جوزيف ك» لـ فرانز كافكا، أو شخصية «ليونارد باست» لـ إي إم فورست. الرجال الذين تُخفي واجهاتُهم الاعتذاريّة غضبًا واستياءً؛ يتأجَّجان في الخلفيّة بصمت.
تَتوافَق مثل هذه الشخصيات الخيالية الأيقونية مع سِمات الشخصية الكلاسيكية المُصابة بالوهَن العصبيّ (neurasthenia)، التي بدأ فرويد بمعالَجتها والكتابة عنها. يُعَدّ الوهَن العصبي ظاهرة من مظاهر المجتمع الصناعيّ سريع التمدُّن، الذي بدأ بالتكوّن مع نهاية القرن التاسع عشر، والذي يحدث نتيجة حِملٍ مُفاجئ ومُفرط من المحفِّزات الحسِّية والعاطفية، التي تُؤثِّر على العقل والجسد؛ فينتُج عنها ظهور أعراض التهيُّج والتعب والاكتئاب، وكذلك الصداع وارتفاع ضغط الدم. يُشير الغضب الإيحائيّ الصامت للموظف إلى نَفسيّةٍ تحت تأثير الصدمة وثقلها، تَرزَح تحت الضغوطات، غير قادرة على تحمُّل عبء الإذلال الناجم عن الضرب العلَنيّ، وما تلاه من تَنصُّلٍ للمحكمة من قضيته القانونية للحصول على تعويض.
تُعلِن صرخة الطفل عن وجود فجوةٍ بين الحاجة وبين تلبيتها
كان اهتمام فرويد الإكلينيكيّ بالمعاناة العصبيّة في ذلك الوقت مصحوبًا بتساؤلاتٍ أكثر جَوهريّة تخصّ الحياة النفسيّة، والتي كانت على نَفس القدَر من الأهميّة والصِّلة بحالة الموظف الذي تعرَّض للضرب. في نصٍّ غير منشور، كُتِب عام 1895، ويُعرَف بعنوان: «مشروع علم النفس العِلميّ» (Project for a Scientific Psychology)، يتأمّل فرويد في أوّل اختبارٍ للرضا والإشباع كطفل، واصفًا معاناة الطفلة من الكرب الداخليّ الزائد الناجِم عن الجوع أو بعض الاحتياجات الحيويّة الأخرى. وبسبب عدم قُدرتها على توفير هذا الأمر لنفسها، تبكي الطفلة، محاولةً التعبير عن شعورها بالقلق وعدم الارتياح، ومن ثَمّ جَذب انتباه مُقدِّم الرعاية. تُشكِّل هذه الدورة الكاملة المُتمثِّلة في التوتر، ثمّ التدخّل الخارجي والارتياح اختبارًا للإشباع والإرضاء satisfaction. تقود فَعاليّةُ صرخة الطفلة الجائعة فرويد إلى الاستنتاج المُذهل «بأنّ العجز الأوّليّ للبشر هو المصدر الأساسي لجميع الدوافع الأخلاقية». يعني هذا أنّ الأخلاق تبدأ من كَربِ أو مِحنة المخلوق الذي يدعو القائمين على رِعايته إلى منحه الإرضاء والإشباع الذي لا يستطيع توفيره لنفسه. وطالما فشلوا في تحقيق ذلك؛ تَصرُخ باحتِجاجها الأخلاقيّ البدائيّ الغاضب.
كشف التنويم المغناطيسيّ للموظّف الذي تعرَّض للضرب عن صرخةٍ مُماثلة عاجزة، هذه المرّة عندما «فشل في الحصول على الإرضاء عن سوءِ معاملته». والصدى اللفظيّ أكثر من مُجرَّد مصادفة. إنّ العجز المُهين عن نَيل الرضا والإشباع؛ يجعل الموظف على اتصالٍ مع عجزه الطفوليّ الأوّليّ، ويصبحُ ردّ فعله كرد فعل الطفل؛ صرخة غضبٍ صامتة، مدفوعة الآن في صمت الذاكرة غير الواعيّة.
الهيستيريا، والوهن العصبيّ، والاحتياجات الطفوليّة: جميع هذه الظواهر النفسيّة المختلفة فيما بينها أشدّ الاختلاف تكشف عن تجربة العجز ذاتها. تُعلن صرخة الطفل عن وجود فجوة بين الحاجة وإشبِاعها، والتي يُصبِح تحمُّلها أكثر صعوبة كلما طال أمدها. عادةً ما يُبعِدنا نموّنا الجسدي والعاطفي عن حالة العجز هذه؛ ففي حين نطوّر الاستقلالية العاطفية والجسديّة، تزداد قُدرتُنا على مساعدة أنفسنا، والبحثِ عن الطعام أو الحبّ الذي نتوق إليه، ومن ثَمّ العثور عليه. لكن وكما تُذكّرنا حالة الموظّف، فيُمكِن لتجربة الصدمة أو الإذلال أن تُعيد إحياء الضعف اليائس للطفل الرضيع. وكما تُذكّرني مُمارسة التحليل النفسيّ كل يوم، فيمكن للكثير من التجارب العادية جدًّا -كـ: الإهانات الحقيقية أو المُتصَوَّرة، والازدراء، والرفض، وخيبات الأمل، ولحظات الإحباط- أن تجعلنا على اتصالٍ مع هذه الطبقة الأوّليّة من العجز. وكثيرًا ما نتعاملُ مع مشاعر العجز هذه عن طريق تلك الحالة من الوَهَن الهائج، والتي نُسمّيها: «الغضب».
إنَّنا، بمجرَّد ولادتنا، نُصبِح في مَعيَّة ورعاية أولئك البالغين من حولنا، الذين نعتمد عليهم في بقائنا ونموِّنا الجسدي والمعرفي والعاطفي، والذين يَحصُلون في المقابل -بطبيعة الحال- على مشاعر الحبّ، أو الكراهية، أو تقلُّباتهما، من طرفنا. لا يمكن، من منظور التحليل النفسيّ، فَصل الغضب عن هذه التجارب العاطفية المُبكّرة.
تضعنا هذه التجارب في مواجَهة واحدٍ من أهمّ المفاهيم الأساسية في التحليل النفسي، ألَا وهو الدافع (drive). لكن ماذا نقصد بالدافع؟ يمكن العثور على أكثر تصريحات فرويد شمولًا بخصوص هذا الموضوع في ورقته البحثية: «الدوافع وتقلّباتها» (Drives and Their Vicissitudes)، (1915). تمثَّلت النقطة الأولى التي كتب عنها في أنّ الدافع مصدر تحفيز نابع من داخل الكائن الحيّ، لا من خارجه. والفرق هنا جوهريّ وحاسم، فتأثير المحفِّز الخارجي -كالضوء الساطع أو الضوضاء العالية- يكون مُؤقَّتًا على الدوام. أمّا المحفزّ الذي يستخرجه الدافع فهو محفزّ «ثابت على الدوام». ولأنّ هذا المُحفِّز يصدر من الداخل، فهو مُحفِّزّ لا مفرّ منه.
إنَّنا خاضعون للأبد لقوّة الدافع الداخلية هذه. إنّ اندفاعَنا لحبٍّ ما يُرضينا وكراهية ما يُحبِطنا دائمًا ما يحاول جاهدًا التمظهُر، فيقترب أحيانًا من سطح الوعيّ، ويتلاشى أحيانًا أخرى دون أن يَلحظَه أحد. وبالنظر إلى أنّ الكائن الحيّ لا يُمكِنه أبدًا التخلّص من المُحفِّزات التي تُسبِّبها الدوافع، فإنّ مهمَّته الأساسية، والتي تضعُ عبئًا كبيرًا ومستمرًّا على الجهاز العصبي، هي السيطرة عليها.
الغضب هو نتيجةُ فشل الرغبة في التحقّق على أرض الواقع
من أكثر ادّعاءات فرويد غموضًا وإبهامًا بخصوص الدافع -ومصدر الكثير من التعليقات والخلافات- كان قوله بأنّه يقع «على الحدود التي تلتقي عندها المناطق العقليّة والجسديّة». إنّه المُمثِّل النفسيّ لمُحفّزٍ جسدي؛ ما قد تبدو عليه الحكَّة إن كانت كيانًا عقليًّا لا جلديًّا. وينسبُ فرويد إلى هذا الدافع أربع مكونات: الضغط (tension)، وحجم القوة (force)، التي يَبذُلها الدافع في تأكيد مُتطلَّباته علينا، والهدف (aim)، الذي يعرّفه فرويد بأنّه صدى واضح وجليّ للطفل الجائع -من عمله «مشروع علم النفس العلميّ»-، والموضوع (object)، أيّ الشيء المطلوب لتحقيق الرضا/الإشباع (صدر، لَمسة، صوت)، والمصدر (source)، أيّ الموقع الجسديّ الذي نشأ منه الدافع.
يُوضّح مفهوما الهدف والموضوع سبب اختلاف الدافع عن الغريزة، إذ هي جزءٌ من المعرفة البيولوجية المبرمجة التي تضمن تحقيق الاحتياجات الحيويّة؛ كانجِذاب النحل نحو الرحيق وحبوب اللقاح مثلًا. عندما يتعلّق الأمر بالغريزة، يكون المسَار بين الهدف والموضوع خطًّا قصيرًا ومستقيمًا. أمّا في الدافع، فعادةً ما يكون هذا المسَار أكثر تعقيدًا وغير مؤكّد. لا يزال الهدف هنا هو تحقيق الإرضاء والإشباع، لكن مكوّنات هذا الرضا أكثر غموضًا. وهذا ما توصّل إليه المُحلِّل النفسيّ الفرنسي المثير للجدل، جاك لاكان، حين قال: إنّ «استخدام وظيفة الدافع ليس له أيّ موضوعٍ آخر بالنسبة إليّ سوى وضعِ المقصود بالإرضاء/الإشباع موضعَ تساؤل». قد أشعر بالجوع مثلًا، لكن هل ستوفِّر بضعُ شرائح من الخبز الإِشباع الذي أسعى إليه؟ سوف تُلبّي احتياجاتي الحيويّة، لكنها لن تلبّي الرغبة الحسيّة التي تستدعي بشكل مُلحٍّ بيضًا مقليًّا وزبدةِ صلصةِ تاباسكو بين تلك الشرائح.
ولا يُعتبَر هذا الغموض تطوّرًا متأخّرًا في الإنسان. عندما تبكي الطفلة تعبيرًا عن الجوع، فهل ما تريده هو الحليب فقط؟ أم تبحث عن اللذّة الأكثر مراوغة التي قد تنشأ من رائحة بشرةِ أمّها وشعورها بها، ومن فيضان الدفء الذي يتكسّر على شَفَتيها عندما يتدفّق اللبن؟ باختصار، يخضع كل من هدفِ الدافع والموضوع منه لتنوّعات لا نهائية. يقول فرويد إنّه يمكن «إعاقة» الدوافع أو «جعْلها تنحرف» عن المسار الذي انطلقت منه. هل أريد بيضًا مقليًّا، أم سمك سلمون مُدخَّن، أم مسحةً دسمةً من زبدة الفول السوداني؟ هل أحبّ هذه المرأة؟ أم تلك؟ أم هذه؟ أم الجميع؟
تُعَدّ العلاقة بين الهدف والموضوع لدى النّحل علاقة ثابتة على نحوٍ موثوق. موضوعٌ واحد فقط يخدم هدفه. لم تشعر أيّ نحلة بالحاجة إلى تجربة جِعَة الزنجبيل أو الفودكا اليوم؛ من باب التغيير فحسب! بالنسبة إلى الإنسان، فقابلية التغيّر هذه تُحدِّد الدوافع. في مُعالَجته السابقة للدافع، والتي ظهرت في كتابٍ بعنوان: «ثلاث مقالات في النظريّة الجنسيّة»، (1905). يشير فرويد إلى أنّ الأساطير الرومانسية الراسخة -كالقول مثلًا بأنّ شخصين «قد خُلقا لبعضهما البعض»- تُقنِعنا بأنّ علاقة الدافع الجنسيّ بالموضوع «أكثر حميمية مِمَّا هي عليه في الواقع». والحقيقة أنّ «الدافع الجنسيّ sexual drive، والموضوع الجنسيّ sexual object، مُلتحِمان ببعضهما البعض فحسب». إنّ الدوافع في جوهرها مُتحرِّكة، إذ تخضع للتقلُّبات والإزاحة وتغيير الاتجاهات وأخذ المُنعطَفات. لكن عندما تُهدِّد هذه الدوافع استقرار الكائن الحيّ، يمكن تثبيطها أو إعادتها إلينا، ومثال على ذلك شعوري بالكراهية تجاه شيء كان من المفترض أن أشعر تجاهه بالحبّ، وهذا أمر قد يُثير مشاعر الخوف والذنب بداخلي لدرجة أن أختار كراهية نفسي بدلًا من كراهيته.
بالنسبة إلى لاكان، فالغضب هو نتيجةُ فشل الرغبة في التحقُّق على أرض الواقع. وفي إشارة إلى الكاتب الفرنسي تشارلز بيجي، يقول: «إنّه يحدث [أيّ الغضب] عندما تأبى الأوتاد الصغيرة الدخول في الثقوب الصغيرة». باختصار، تُحتّم علينا الدوافع وجود درجةٍ معينة على الأقل من عدم الرضا، فتُلحِم رغبتنا بأغراض/ أشياء لا نُدرِك أنَّنا غير قادرين على تحقيقها سوى بعد فوات الأوان. واللغة الأساسية لهذا الاستياء/ عدم تحقُّق الرغبة dissatisfaction، هي الغضب.
لعلَّ عدم القدرة على التنبؤ بالغضب، وقدرته المُخيفة على الاشتعال نتيجة أسباب مُتباينة، بل ومُتعارِضة أحيانًا أشد التعارض، هي ما يُزعِجنا ويُربِكنا بشأن الغضب. وغالبًا ما يقود هذا الالتباسُ المُتأمِّلينَ في الموضوع إلى البحث عن الوضوح، وذلك من خلال فصل أشكال الغضب الواقية (preservative) أو «الجيِّدة» عن أشكال الغضب المدمِّرة (destructive) أو «السيئة». ويُمكِن أن نرى مثل هذه المحاولات لدى العديد من الكُتَّاب والناشطين النِّسْويِّين والمناهضين للعُنصريّة، الذين يحتفلون بقوّة الغضب في تحفيز التغيير الاجتماعي، ومعالجة الأشكال البنيويّة للظلم والانقسام.
تجدُ هذه الفكرة التي تنظر إلى الغضب باعتباره ذا تأثيرٍ إيجابيٍّ ومحافِظٍ على الحياة بعض الدعم في أدبيّات التحليل النفسيّ الشحيحة حول هذا الموضوع. ففي ورقةٍ بحثيةٍ نُشِرت عام 1949، حول تجارب الولادة الطبيعية والصادمة، اقترح المُحلِّل النفسيّ وطبيب الأطفال البريطاني، دونالد وودز وينيكات، أنّ بكاء الطفل بعد الولادة الطبيعية هو شكل بُدائيّ من أشكال تأكيد الذات: «يُمكِن أن يتضمَّن شكل الصرخة الغاضبة شكلًا من أشكال التناغُم مع الأنا (ego-syntonic)، [أيّ داعمًا لتوازُننا الداخلي]، يظهر في فترةٍ مبكرة للغاية؛ وظيفة دافعة لديها هدف واحد فقط: أن يعيش المرء حياته بطريقته الخاصَّة، لا كردّ فعل».
لكن عندما تُثبّط الاحتياجات الحيويّة لحديثيّ الولادة، من دِفءٍ، وتغذيةٍ ومشاعر، إمّا بسبب التأخير أو بسبب الصعوبات البيئية؛ يكون تأثير عدم التناغُم (dystonic) أشدّ بكثير. عندما يُحقِّق البكاء هدفه؛ تُصبِح الطفلة قادرة على تحديد سبب غضبها. لكن عندما يكون تأثير البكاء ضئيلًا أو معدومًا؛ يصبح الهدف منه أقلّ «تحديدًا» للطفلة بشكلٍ تدريجي، وهو ما يتركها في حالة من القلق اليائس، مصحوبًا بعواقب وخيمة على الشخص الذي ستُصبِح عليه عندما تَكبَر: «دائمًا ما يبقى في نفسِ الشخص شيءٌ من الارتباك بخصوص الغضب وأشكال التعبير عنه». من الآثار الرئيسة الناتجة عن هذا التمييز الذي وضعه وينيكات هو أنّ الغضب يُعزِّز النموّ، ويُساعد في تحديد الذاتية والشخصية الفردانية عندما تبلغ حالة الرضا/الإشباع التي كانت تسعى إليها؛ أيّ عندما تُلبَّى الاحتياجات التي عبَّرت عنها. لكن عندما لا تحدث استجابة لهذه الاحتياجات، يكون لذلك تأثير معاكِس؛ حيث تُزرع الحيرة واليأس في قلب الذات.
عندما تُقابل مطالبات العدالة بالرفض؛ يميل الغضب لأن يُصبِح كيانًا قائمًا بذاته
يذكّرني هذا الشكل الأخير من الغصب بغوردون، وهو رجلٌ في الأربعينيّات من عُمره، خضع لجلسات التحليل النفسيّ المكثّف لديّ لمدة 6 سنوات. كان غوردون يُعاني من صداعٍ مُزمِن قاتل وفترات طويلة من الأرَقِ جعلته يشعر كما لو أنه يتشظّى لأجزاء متفرّقة. كانت هذه الأعراض في أوج شِدَّتها دائمًا في الأوقات التي تُصبِح فيها العلاقة الرومانسية أكثر جِديّة. كانت احتمالية إشباع تَوْقِه إلى الحبّ وتكوين الأسرة مصدر ذُعرٍ عارِمٍ عبَّر عن نفسه في شكل انفجارات لفظية مفاجئة ضد شريكته؛ لعجزه عن فهم ما كان يمرّ به. قد يؤدي الأرق والألم إلى تَفاقُم هَشاشته وضعفه؛ ما يجعله يعيش في حلقةٍ لا نهائية وقاتمة من الغضب والاعتذار، حتّى تنهار العلاقة تحت الضغط.
تربَّى غوردون بعد فترة وجيزة من ولادته على يد مُمرضاتٍ ومُربيّاتٍ وضعن نظامًا صارمًا للتدريب على النوم والطعام في أوقاتٍ مُحدَّدة. عندما بلغ السابعة من عُمره، أُرسِل إلى مدرسةٍ داخليّة، وهي، على حدّ تعبير وينيكات، ضربة أخرى لأيّ طموح في «أن يعيش المرء حياته بطريقته الخاصَّة، لا كردّ فعل». قابل والدا غوردون احتجاجاته الأوّليّة ضد المدرسة الداخلية بالتأكيد له على أنها ستُعجِبه مع الوقت، فهما، بعد كل شيء -قد خاضا التجربة ذاتها عندما كانا في نفس عُمره، وتعلَّما تقدير التجربة مع تقدّمهما في العُمر. كانت مشكلة غوردون في تكوين علاقات دائمة هي أنه لا يَثِق إطلاقًا في أنه سيستمتع بما يُطلِق عليه فرويد: «تجربة الرضا»، حيث تُقَابل صيحات الحاجة التي يُطلقونها بالاحتواء والاهتمام بها في الوقت المناسب. كلَّما وضع نفسه بين يدَيْ شخص آخر، زاد خوفه من التجاهُل أو التَخلّي عنه. وبالنظر إلى أنّه لم يجد كلمات تعبِّر عن مَخاوفه أو مُستمِع مُتقبِّل لها؛ عبَّر عنها بدلًا من ذلك بالأعراض الجسدية، التي سيجد الألم مُتنفّسًا منها في النهاية عبر الغضب غير المُنضبِط.
كان غوردون مُدرِكًا لغضبه، لكنّه شعر بأنه شيء من المَسّ الشيطاني الذي لا سيطرة له عليه؛ لم تكن لديه أدنى فكرة عن سبب غضبه في تلك اللحظات ولا عمَّا يريده. يُمكِن للغضب الذي يُقابل بالتجاهل والإهمال أن يُصبح متناثرًا وغير خاضعٍ للسيطرة؛ أن يُصبح سيّد الشخص وآمره الناهي، لا خادمه المُطيع.
ربما تُعطينا حالة غوردون العويصة هذه تفسيرًا لحالات الغضب العامّ، التي تَمظهرَت على نحوٍ جليٍّ وملموس في السنوات الأخيرة. تشترك احتجاجات حركات: «حياة السود» (Black Lives)، و«أنا أيضًا» (MeToo)، و«تَمرُّد ضد الانقراض» (Extinction Rebellion)، و«احتجاجات حركات ترامب وبريكست»، التي تختلف اختلافًا هائلًا فيما بينها في المحتوى، في الشكوى من أنّ صَيحاتِهم مِن أجل الاعتراف والاستجابة قد تعرَّضت للتجاهل لفترةٍ طويلة جدًّا.
نَودُّ التصديق أنّ بوسعنا توجيه غضبنا وتوطينه بكل وضوح، وبأنه يُمكِننا -على حدِّ تعبير جوديث بتلر- «صياغته وتهذيبه». لكن وكما يُذكِّرنا المُوظّف الذي تعرَّض للضرب، فعندما تُقابَل مطالبات العدالة بالرفض؛ يميل الغضب إلى أن يُصبح كيانًا قائمًا بذاته. إنَّنا نعيش في عالَمٍ تكثر فيه المطالبات الغاضبة والمتضاربة في كثيرٍ من الأحيان بالاعتراف. ويُمكن أن نرى في الإرهاب والسُّلطوية الشعبوية والكراهية عبر الإنترنت بعض الأمثلة على عواقب إنكار مثل هذه المطالبات.
بقدر ما تستشري الاحتياجات غير المُشبَعة والمطالب غير المُعالَجة في الحياة وتستوطنها؛ كذلك يفعل الغضب. تُعَدّ هذه الفكرة، التي كانت مِحوريّة في نهج فرويد وبروير في عملهما عن الهيستيريا، الأساس لنهجهما العلاجيّ الذي يُطلقان عليه: التنفيس (abreaction) أو التطهير (catharsis). يُعَدّ هذا النهج طريقة لتطهير أنفسنا من الغضب المكبوت الذي يتراكَم داخلنا على مدار الحياة. يرى الطبيبان أنّ بعض الذكريات تكون بمثابة الأجسام الغريبة المُبتلعة؛ فبدلًا من مرورها عبر الجهاز الهضمي العقليّ، تستقرُّ في دواخلنا وتظلّ محفوظة كما هي، دون أن يمسّها ضرَر. مثل هذه الذكريات تُعذِّبنا وتؤذينا كما لو كانت وليدة اللحظة، كونها؛ «تَتوافَق مع الصدمات التي لم نأخذ وقتًا كافيًا في التعامل معها».
في جلسة التنويم المغناطيسيّ، أخرج الموظَّف الذي تعرَّض للضرب كل الغضب الصامت الذي كان قد أُجبِر على قمعه، سواءً في الشارع أو في المحكمة. وهذا هو أساس الأسلوب التنفيسي؛ ترتفع الذكرى المكبوتة، وكذلك «تأثيرها المُصاحب» إلى سطح الوعي؛ ما يُمكّن المريض من وصف التجربة المؤلمة والمشاعر التي أثارتها على أكمل وجهٍ ممكن. يُعتبَر هذا الأسلوب «ردّ الفعل النشط» (energetic reaction)، في العلاج النفسيّ، إطلاقُ قدرٍ من العاطفة يتناسَب مع الأضرار المُتكبَّدة. إنّه تكنيك نجد أسُسه المنطقية في عباراتٍ اصطلاحية، مثل: «البكاء حتى انقطاع النفَس»، أو «التنفيس عن مكنونات النَّفس»، وكذلك في أساليب إدارة الغضب الشعبيّة، مثل ضرب الوسائد بقوّة. دون هذا التحرير الهيدروليكي؛ يصبح الضيق والغضب اللذَيْنِ يشعر بهما الضحية مجرّد عبءٍ دائم على الجهاز العصبي.
منذ ذلك الحين، أُعيدت فكرة إحياء العلاج المُوجِّه للألم غير المستقلَب الموجود في أعمق طبقات العقل والجسم في العديد من الأساليب العلاجية، وأشهرها أسلوب آرثر جانوف البُدائي (primal therapy)، المعروف باسم: «العلاج البدائيّ بالصراخ»، الذي حظيَ برواجٍ قصير في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. بعد خضوعه لبضعة أشهرٍ من العلاج لدى جانوف -وهو حدث جرى تصويره ببراعةٍ في رواية Beatlebone (2015)، لـ كيفن باري-، صرّح جون لينون قائلًا: «أنا نفسي، وأعرف السبب». على غرار فرويد وبروير، رأى جانوف أنّ الألم النفسيّ يقع في صدمات الطفولة المُبكّرة المكبوتة. وكان العلاج المقترَح هو تفريغ الغضب الرجعيّ (reactive anger) المكبوت بالصراخ والصيّاح العفويَّيْنِ وغير المُقيّدَيْنِ.
تجبرنا الحقيقة المتمثّلة في عيشنا مع آخرين على التخلِّي عن دوافعنا الشهوانيّة والعدوانيّة
تفترض نظريّة التنفيس أنّ المشاعر مُخزَّنة بكمياتٍ محدودة، ما يعني أنّ بمقدورنا البكاء أو الصراخ حتى تَفرغ بالكامل. لكن مع تطوّر تفكيره واكتسابه خبرة إكلينيكية، بدأ فرويد يرى خطأ إيمانه بالتنفيس، وإن كان خطأ مُثمرًا. فما يفتقر إليه هذا المفهوم هو تميّز المشاعر بالإصرار الدؤوب، ورفضها المُتعنِّت للاختفاء عندما يُطلَب منها ذلك. توثِّق صرخات الأطفال أو البالغين الذين تعرَّضوا للصدمات حالة من عدم الرضا، وفجوة بين الحاجة أو الرغبة -الجوع، الحبّ، العدالة- وبين تحقُّقها. لكن عدم الرضا ليس مجرد حالة مؤقتة تنتظر التخفيف من خلال الإجراءات المناسبة؛ إنها حالة متأصِّلة في الحياة البشريّة.
في كتابه: «سخط الحضارة»، (1930)، يفترض فرويد أنّ حقيقة عيشنا معًا تفرِض علينا جميعًا نبذَ دوافعنا الشهوانيّة والعدوانيّة. فمن أجل إفساح المجال للآخرين، عليّ أن أكبَحَ شهيّتي المفرطة للحبّ والقوة والمتعة. وفي حين تُحدّد نظرية التنفيس مواقع استيائنا في العالم الخارجي -التجربة المؤلمة «جسم غريب»، كعصا صاحب العمل، تُكسِّر عظامنا الجسديّة والنفسيّة- فإنّ الشهوات أو النزعات الغريزيّة (appetites)، التي يصفها فرويد في «سخط الحضارة»، تكون بمثابةِ توتُّراتٍ داخليّة مُلحّة، شعور دائم بالحكّة يتطلّب تخفيفه بحكِّ المنطقة. إنها تصدر من الداخل، لا الخارج، فيما يُطلِق عليه فرويد مُسمَّى: «الدوافع». بعبارةٍ أخرى، الغضب هو الطريقة الأساسية التي يُعبِّر بها الدافع عن نفسه عند مُطالَبته المُلحّة بالحصول على الرضا أو الإشباع.
وفي إيجازٍ بليغ لفِكر وينيكات، كتب المحلِّل النفسيّ الأمريكي مايكل إيجن أنّ «الحنق الشديد، على ما يبدو، جزء لا يتجزّأ من صرخة الرضيع». وفي كتابها: «عنف التأويل» (The Violence of Interpretation) (1975)، تُقدّم المُحلِّلة النفسية الفرنسية بيرا أولاغنييه Piera Aulagnier، التفسير الأكثر صلابة وراديكالية لهذا الارتباط بين الغضب والعجز. تُميّز المُحلِّلة بين طريقتَيْنِ أساسيتَين تُمثّل بها النَّفس الطفوليّة (infantile psyche)، علاقتها بكائنٍ آخر (ما يسمّيه التحليل النفسي: «الموضوع Object»)، وهُما يتواجدان جنبًا إلى جنب. في الطريقة الأولى، هي ما تسمّيها أولاغنييه: «الحبّ»، يتوحَّد الطفل مع موضوعه وحدة تامّة متكاملة. أمّا في الطريقة الثانية، وهي ما تُسمّيها: «الكُره»، يختبر الطفلُ الموضوعَ (كثدي الأم المُغذّي مثلًا)، على أنّه ما يفتقرُ إليه ويعتمد عليه في البقاء على قيد الحياة. كتبت أولاغنييه أنّ نشأة الطفل في بيئةٍ من الاعتماد الإلزاميّ على الآخرين تُجبِر نفسيته على إدراك مسؤوليتها الخاصَّة في أن «تجد نفسها في حالةٍ من الافتقار»، التي يكون فيها العقل والجسد في حالةٍ من الرغبة اليائسة في ما لا يملكانه ولا يستطيعان توفيره.
لنأخذ مريضي غوردون مثلًا: كان دافعه للحبّ والرغبة في أن يكون موضوع الحبّ يدفعه دفعًا نحو شريك. لكن الحبّ كان قد رسم مساراتٍ مُعيَّنة في ذاكرته العميقة؛ إنه يعني بالنسبة إليه الخيانة والهجر، وخيبة الأمل. وهكذا، يصبح الصراع بين ضغط الدافع وحاجة النَّفس إلى احتواء، هذا الضغط غير مُحتمَل، كما نرى من الصداع والأرق.
بدأ هوميروس الإلياذة مُوجِّهًا حديثه لربَّة الإلهام، قائلًا: «غنِّ لي يا ربَّة الشِّعر عن غضبة آخيليوس بن بيليوس المُدمِّرة، التي ألحقت بالإغريق مآسي تفوق الحصر» (1). لا يسعنا، مهما حاولنا، حصر أهمّية هذا الغضب البدائيّ ومكانته في المسَار اللاحق للتاريخ الثقافي. تزخر الميثولوجيا والثيوغونيا الإغريقية والإسكندنافية والهندوسية بشخصياتٍ مكوَّنة من غضبٍ خالص، والتي يمكن سماع أصدائها في أعمال الكُتّاب والفنانين على مرِّ العصور. هذا الغضب الذي يتخطَّى جميع المقاييس -الانتقام المُستعِر لميديا وهيكوبا، والهذيان الغيور لعُطيل، والغضب الأعمى لكابتن إيهاب (Captain Ahab)، والتذمُّر الفوضوي لإيمينيم وآيس كيوب-؛ قد أثار افتتان الكُتّاب والقُرّاء على مرِّ القرون.
غير أنّ من الصعب علينا مواجهة هذه الشخصيات دون أن نتذكّر الغضب العام، الذي يبدو أنّه يُميِّز حاضرنا السياسي؛ التحريضات الشرِسة المُطالِبة بالعدالة في جميع أنحاء العالم، والتي أثارها التاريخ الظالم والمستمرّ المليء بالتمييز والعنف القائمَيْنِ على أُسُس العِرق والجندر، وكذلك الاستلاب البيئي، والغضب الرجعيّ للقوميين والعنصريين، والناشطين في مجال حقوق الرجال، ومُنكريّ التغيّر المُناخي، وأصحاب نظريّات المؤامرة. يُلخِّص الغضب من هذا النوع منطق الدافع. يبدو أنّه ينبعُ من مصدرٍ عميقٍ في الرّوح؛ من القوّة أو «الضغط»، الذي يُمارِسه؛ فيكسر حدود أيّ حاويةٍ مُحتملة. يَهدفُ هذا الغضب إلى الإرضاء، لكن يبدو أنّه ما من موضوعٍ قادرٍ على منحه ذلك الرضا.
يمكن وصف الإلياذة بأنّها محاولة فاشلة لإخضاع غضب «أخيل» لحُكم العقل والمنطق. فعندما يوبّخه المُقاتل «آياس» أثناء المُهمة الفاشلة؛ لإقناعه بالانضمام إلى المعركة ضد الطرواديين، نظرًا «للوحشية التي في صدره»، ولعدم «تفكيره في حبّ رفاقه»، لا ينكر أخيل التُّهمة: «يبدو كل ما قلتَه حول مشاعري صحيحًا، لكنّ قلبي يتفجَّر غضبًا كلَّما تذكَّرتُ ذلك الوقت؛ الطريقة التي عاملني بها ابنُ أتريوس أمام الإغريقيين».
كما يذكّرنا هوميروس وأخيل، فليس من السَّهل إخضاع الغضب لحُكم العقل والمنطق
«أمام الإغريقيين»: لا يسعني سوى الشعور بأنّ إذلال أخيل يضعه في الرفقة الغريبة إلى حدٍّ بعيد للموظف المضروب. يُجبَر أخيل على رؤية قوّات أجَامِمْنـُون، بعينَيْنِ مغرورقتَيْنِ بالدموع، وهم يسلُبونه محظيَّته بريزيس، التي حصل عليها كـ «غنيمة» حرب؛ تمامًا كما كان على ذلك الموظّف الخضوع لقوّة رئيسه وعنفه، ولحُكم المحكمة. لقد شعر الاثنان بالعجز أمام قوّةٍ أكبر، وبالعارِ أمام حشد من الشهود. ولا يمكن للشخص السيطرة على غضبه أو كبحه. يعترف أخيل بوصف آياس لغضبه بالـ «العنيد والمُهلك»؛ ما يوحي بأن لُبّ المشكلة هنا هو العِناد. لقد استحوذ عليه الغضب لدرجة أنّه لا يستطيع إنكاره. ليس من شيَمه العفوّ أو الصفح عن الإساءة التي وُجِّهت إليه، حتى وإن كان ذلك في سبيل إنقاذ رِفاقه من الطرواديين الغُزاة.
يمثّل فشل أبطال هوميروس في احتواء عواطفهم؛ محوَر حُجَّة أفلاطون في إبعاد الشُعراء عن جمهوريتّه؛ فالترنّم بغضب أخيل يُغري المُستمع بالتساهل الخطير مع الرذيلة والطِباع السيئة. الشِّعر «يَرعى ويُغذِّي» المشاعر التي تُفسد الروح. «إنّه يجعلها [أيّ هذه المشاعر]، في مقام الحُكّام، في حين ينبغي أن تكون خاضعة للحُكم».
ممّا لا شكّ فيه أنّ أفلاطون لا يرغب في القضاء على الغضب. إنّ المعنى الأشمل للكلمة اليونانية: «ثيموس thymos»، التي يُترجِمها مُترجِم هوميروس، مارتن هاموند، بـ: «الغضب»، هو الحماسة أو الحيويّة والشغف. وفي جمهورية أفلاطون، تُعد حالة الثيموس المستوى المتوسِّط في تقسيمه الثلاثيّ للروح، وباعتبارها مَلَكَة تأكيد الذات والرغبة في نيل الاعتراف، تعتبر وظيفتها العُليا توجيه الغضب ضدّ ميلنا نحو التراخي الأخلاقي والفسوق. يُمكِن القول إنّها نسخة عريقة ممّا قد يسمّيه التحليل النفسيّ: «الأبّ الداخلي أو وظيفة الأنا العُليا». وبصفته تابعًا للثيموس، فيمكن تحويل الغضب إلى خدمة الانضباط الذاتي؛ ما يساعد في إبقائنا حُكّامًا لمشاعرنا، لا محكومين بها. لكن وكما يذكّرنا هوميروس وأخيل، فليس من السَّهلِ إخضاعُ الغضب لحُكم العقل والمنطق.
يتمتَّع الغضب المحكوم بالعقل باستخداماتٍ تربويّة. لكن وكما أظهرت المُؤرِّخة باربرا روزينوين في دراستها الأخيرة لتاريخ الغضب، فإنّ التقاليد الفلسفية والدينية الأخرى تُعدّ أقلّ تفاؤلًا بشأن احتمالية إبقاء الغضب تحت سيطرة العقل. فبتصوُّرِها الغضب على أنّه مُتطرِّف بطبيعته، تسعى التقاليد الدينيّة والفلسفيّة المُختلفة، سواءً كانت شرقيّة أم غربيّة، إلى طرد الغضب من سِجِلّ الحالات النفسيّة.
يأمُرُنا بوذا بـ «التخلِّي عن الغضب»؛ باعتباره سببًا رئيسًا للمُعاناة غير الضرورية. إنّه يُضخِّم توهّمات الأنا بالأهميّة الذاتية، ويعذّب روح الشخص الغاضب بقدر ما يضطهد موضوعات ذلك الغضب. من غير المستغرَب أن يكون لعمليات الاستنساخ والتكرار الغربيّ للبوذيّة تأثيرٌ كبير على تطوير تقنيات إدارة الغضب الحديثة. ويُمكِن قول الشيء ذاته عن الرواقيَّة، التقليد الفلسفي الغربي الذي يمكن القول إنّه يوازي البوذيّة بشكلٍ وثيق. تُصوِّر مقالة سينيكا: «De Ira»، التي نُشِرت حوالي 45 م، الغضب كقوّة تُربِك الروح وتُشوِّه قُدراتنا على الإدراك والحُكم الصحيحَيْنِ، وتدفعنا إلى تدمير الذات، بديناميّته المُستعصية على الترويض. ومثل جسد رجُلٍ يسقُط من على منحدر، لا يمكن السيطرة على اندفاع الغضب. إنّ الشرور مُجبَرة بحكم وزنها ذاته، وبحكم ميلها إلى السقوط، على أن تَنحدِر حتى الأعماق.
ألهَم النبذُ الرواقيّ للغضب الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس في العصر الحديث، لا سيَّما الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم. لا تُنكِر نوسباوم أنّ عالَمنا يثير غضبًا أخلاقيًّا يوميًّا وغزيرًا، لكنها تُصرّ على أنّه ينبغي توجيه هذا الغضب بالكامل نحو الحلّ العملي، في حين يجب القضاء على بقاياه العاطفية، كالرغبة في الانتقام من الجاني، واستمرار الشعور بالمرارة والحقد. بعبارةٍ أخرى، ينبغي ألّا يتحوّل التدوين المعرفي لمبرِّرات الغضب إطلاقًا إلى مشاعر غضبٍ فعليّة.
تُعَدّ هذه المواقف الأكثر راديكاليّة حول الغضب -والتي تقول بعدم جدواه وبوجوب التخلِّي عنه-، أقرب نوعًا ما إلى منظور التحليل النفسي من وِجهة النَّظر الأفلاطونية أو الأرسطية القائلة بأنّ للغضب استخداماته المفيدة عندما يكون تحت السيطرة. إنّ تصوير سينيكا الحيّ للغضب كقوة لها زخمها وديناميتها القاتلة يُعَدّ أقرب بكثير إلى سِمة الدافع الموجودة فيه من مفهوم أرسطو عن الغضب الحكيم أو المنطقي. يَنبُع نبذ الغضب نبذًا تامًّا من فكرة أنّ الغضب متطرِّف بطبيعته. قد تسعى المشاعر الغاضبة إلى نيل الرضا/الإشباع، لكن هناك دائمًا شيء من الشكّ فيما إذا كان سيرضيها أيّ شيء. بالإصرار على توجيهه بالكامل نحو تصحيح ما أثاره، تَخطيء نوسباوم في فهم المنطق الأساسي للغضب.
يصبح الغضب قوة إنشائية، ومصدرًا سياسيًّا دائمًا للجسم للتحريض المُلِحّ على التغيير
يبدو أنّ الفيلسوفة الأمريكية أغنيس كالارد تقترب كثيرًا من هذا المنطق، في مقالتها: «حول الغضب»، (2020)، التي ترى العِنْدَ المتأصِّل باعتباره سِمةً مُميِّزة للغضب. تقول كالارد: «إنّ الغضب مستمرّ وباقٍ، تمامًا كـ الإساءات والجرائم التي تُثيره: اسرقني وستكون سرقتك هذه قطعية لا رجعة فيها». وبغضِّ النَّظر عن الجهود التعويضية التي قد تبذلها في محاولةٍ منك لتهدئة غضبي، ففعل السرقة الأصليّ قائم ولا يمكن التراجع عنه؛ وهكذا: «بمجرد أن يكون لديك مبرِّر للغضب، يُصبحُ لديك مُبرِّر للغضب إلى الأبد».
قد نعترِض على كالارد بالقول: إنّ تَبِعات الإهانة تظهر وتستمرّ عبر الوسيط المرن والمتغيّر للذاكرة، وفي العلاقات الحيّة. وفي حين أن الجهود التعويضية لا يُمكِن أن تُغيِّر ما حدث لي، إلا أنّ بوسعها تغيير ما تحمله من معانٍ وأهمّية. قد يؤدّي ندم الجاني وردِّه لحقوقي إلى خفض تقديري لخطورة الجريمة. لكن هل يُمكِن لاحتمالية الإصلاح والغفران أن تتفادى ما يُمكِن أن نُطلِق عليه الحاجز الأخيليّ؟
لو أنّ نوسباوم قالت لأخيل إنّ جهود اللصّ التعويضية تُبطِل بسهولةٍ أسباب غضبه، لردّ عليها بنخرةٍ ساخرة. فبعد كل شيء، عرض أجَامِمْنـُون، بواسطة السفراء المقاتلين بقيادة نيستور، على أخيل مكافأة تتجاوز بكثير المحظية التي سلبه إيّاها: يؤكّد أوديسيوس لأخيل على أنّه لن يعيد إليه بريزيس وحسب، بل سيعطيه فوقها مجموعة مُبهرة من الهدايا: ذهبٌ وفير، وخيولٌ من الغنائم، ونساءٌ ماهراتٌ وجميلات، ومدنٌ خصيبة، وإحدى بناته لتكون عروسًا له. بالنسبة إلى التقليد الذي تَنطلِق منه نوسباوم، فيمكن إشباع الغضب بكمّية محددة من الجهد التعويضي. لكن بالنسبة إلى أخيل، فالمعنى المحدد وراء غضبه هو أنّه غير قابل للإشباع؛ وأنّ البوادر التعويضية غير كافية. لقد فتحت إهانة أجَامِمْنـُون الأوّليّة جرحًا من الإذلال ليس له علاج.
إنّ القول بأنّ الغضب مدفوع بقوة الدافع هو القول بعدم وجود طريق مباشِر لتحقيق الإشباع لديه، وبأنّه لا يمكن أن يكون مُتأكدًا مِمَّا يُريده أو يسعى وراءه. ولهذا السبب يُمكِن للغضب، كما يلاحِظ سينيكا، أن يحمله وزنه الخاص بلا داعٍ فعليّ نحو أفعال تدميريّة.
في دراسته لسياسات الثيموس واقتصاديّاته، يجادل الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك، بأنّ الغضب قد تسبَّب في تشكيل مسَار التاريخ الغربيّ، وإخراجه عن ذلك المسَار في الوقت ذاته؛ وذلك من خلال رفضه لأيّ منطق للتوازن وتحكيم العقل. ومع وضع ثيموس أخيل صراحةً بعين الاعتبار، يشير سلوترديك إلى أنّ الحلول التي يعتزّ بها الغرب لوضع حدٍّ لـ «بندول الضرب والانتقام اللامتناهي»، من التدريبات الروحيّة الخاصة إلى العدالة العامّة وحتّى السياسة الخارجية، قد تتعارَض مع حدودها الخاصّة: «مثلما يمكن أن يُصبح الجرح المُتقيِّح عِلّةً مُزمنة وعامّة معًا، يمكن كذلك ألاّ تلتئم الجروح النفسيّة والأخلاقيّة؛ الأمر الذي يخلق نطاقًا زمنيًّا فاسدًا خاصًّا: لا نهائية الشكوى التي لَم تَتَلقَّ استجابة».
بمجرد أن نفهم الغضب باعتباره تعبيرًا عن الدافع؛ تصبح «لا نهائيّة الشكوى التي لم تَتَلقَّ استجابة» احتمالًا دائمًا، وتَبِعات هذا الفهم كبيرة جدًّا بالنسبة لحياتنا الاجتماعية والسياسية. بدلًا من كونه مجرد واحد من مشاعر كثيرة، يُصبِح الغضب قوّة بنيويّة، أو مصدرًا دائمًا للدفع نحو التغيير بالنسبة إلى الجسد الاجتماعي (مثلًا حياة السُّود مُهمة)، ونحو المقاومة المضنية لأيّ اضطراب (حياة الزُّرق مُهمة Blue Lives Matter)، في بناء المجتمع ونسيج الحياة اليومية.
هل يوجد أيّ مصدر للغضب أقوى أو أكثر مباشرة من الحاجة البيولوجية المحضة؟ تضمن الضرورة، من خلال الجوع والبرد والألم الشديد، نوعًا من الضغط هو مُطلَق وحاسِم، وتحت ضغط هذه الضرورة نشعر أكثر من أيّ وقت بالعجز وقلّة الحيلة. هذا الغضب، أكثر من أيّ شيء آخر، قادر على الهرب من جهدنا للتحكُّم به، وقادر على أن يأخذ شكل القوّة الهادرة لشكوى غير مُستجابة.
يدلنا التاريخ على أنّ هذا صحيح بالنسبة إلى الحياة السياسية للمجموع، مثلما هو صحيح بالنسبة إلى الفرد وحياته العاطفية، كما أخبرتنا حنّا أرندت. ففي كتابها: «عن الثورة»، (1936)، تحاول أرندت أن تُفسِّر لمَ انحدرت الثورة الفرنسية (وكل ما تلاها من ثوراتٍ تقريبًا) إلى نوعٍ من الإرهاب الهائج.
اعتقدت أرندت أنّ العمود الأساسي للحياة هو قوّة التضامُن الإنساني، أيّ نوع من الفضاء الذي يستمع للأصوات المُتعارِضة ويسمح لها بالفاعلية، وعدوّ التضامُن الأوّل هو البؤس البشريّ الناتج عن الحرمان من الحاجات البيولوجية الأساسية، وهو ما يضغط على الناس بعنفٍ تُسَمّيه أرندت: «قبل سياسي». تَفترِض ممارسة السياسة أنّ المشاركين فيها عندهم بالفعل مأكل ومأوى، لكن إن لم يكن هذا الافتراض صحيحًا، تُصبِح هذه الحاجات الأساسية قوّة دافعة للفعل السياسي، والحاجة لا تستطيع التعبير السياسي إلا عن طريق العنف. فور أن تَدلِف هذه الحاجات الأوّليّة إلى ميدان الحياة السياسية، تكتب أرندت أنّ «البؤساء (malhereux) يتحوَّلون إلى غاضبين (enragés)؛ لأنّ الغضب هو بالتأكيد الصورة الوحيدة التي يُمكِن للبؤس أن يُصبح فيها فِعلًا نشطًا».
ثَمَّة تاريخ عنيف وغير مُنقَّح للحركات السياسية من اليمين واليسار، وهي تستغلُّ القوة الدافعة للغضب
يُولَد الغاضبون في اللحظة التي يفيض الكيل فيها بالفقراء والجائعين من بؤسِهم، وعندما يصل ضغط الدافع، بلغة التحليل النفسيّ، عند أعلى نقطة مُمكنة. الغاضبون هم ثمرة اليأس من تلبية الحاجة بأيّ طريقة أخرى، اليأس الذي أوصل روبسبيير أخيرًا ودفعه إلى قيادة «عهد الإرهاب»، في تسعينيات القرن الثامن عشر. تكتب أرندت عن هذا الغضب أنّه: «يحمل معه الزَّخَم الهائل للمعاناة الحقيقية، ويتفوَّق في قوته المدمِّرة على انفِجارات الغضب الجنونية الناتجة عن مجرَّد الإحباط، ويمتدُّ لفترةٍ أطول بكثير».
الغضب إذن هو إلغاء العملية السياسية برُمَّتها، ولا أظن أن أيّ لحظة تاريخية قد تؤكد هذه الفكرة أكثر من لحظتنا الحاليّة. لم يكن من فراغٍ أن استخدمَت حملة ترامب في 2016، بوستر «البؤساء»؛ لتحويل مقاتليّ فيكتور هوغو بأعلامهم ودِفاعهم عن كوميونة باريس إلى مجموعةٍ من أنصار ترامب المُخلصين، وتحويل «البُؤساء» إلى «الحُقراء» (Les Deplorables)؛ كردِّ فعلٍ ذكيٍّ على الصورة النُّخْبوية لهيلاري كلينتون. على أنّ هذه الإحالة للبؤساء تظلّ مُبهمة على أقلّ تقدير، فإذا كانت تستدعي صور الكوميونة، فإنها تفعل هذا فقط عبر مسافة تهكُّمية. يدلّ بوستر «حملة ترامب» على أنّ لحظتنا الحاليّة أبعد بكثير عن الثورة وأقرب إلى نسخةٍ ساخرة وعَدَمية منها، حشد لقوة الغضب من دون غاية أو موضوع محدَّد.
كان إرهاب روبسبيير أوجًا لغضبٍ رهيبٍ يلتهم ذاته وأعداءه. تُمسِك السياسات الديماغوغية لترامب والبريكست بهذا الغضب وتجعله قوّة أبديَّة متجددة، فلا يهم تحقيق أيّ هدف معلَن، كبناء حاجز حدوديّ أو ضمان الرعاية الصحيّة الرخيصة على سبيل المثال، بل على العكس، من الأفضل سياسيًّا للحركة أن تُثبَّت في وضع من الإحباط المتراكم؛ حيث يمكن لومُ مجموعة واسعة من الأعداء، وإخراجُ الغضب في دفعاتٍ خطيرة في الوقت الملائم، مثلًا في تشارلوتسفيل (أغسطس 2017)، أو مبنى الكابيتول (يناير 2021).
ثَمَّة تاريخ عنيف وغير مُنقَّح إذن للحركات السياسية من اليمين واليسار، وهي تستغلُّ القوة الدافعة للغضب؛ بشحذه وتوجيهه والتلاعب بأهدافه وتغيير غاياته (المهاجرين تارةً والديمقراطيين تارةً والخبراء تارةً أخرى)، بحسب حاجة الحركة السياسية في الوقت الحاليّ. وفي الحياتَيْنِ الخاصة والعامة، تكمُن القوة التدميرية للغضب في طبيعته الدافعة. الغضب دائمًا مهدَّد بأن ينفجر بدرجةٍ من الضغط يعجز عن احتوائها، وغياب اليقين الدائم بشأن هدفه وموضوعه؛ يجعله عُرضةً دائمًا للاستغلال من الخارج، أو يدفعه نحو الفعل العشوائيّ الأعمى.
مع ذلك، إذا كانت الطبيعة الدافعة للغضب خطيرة، فمن المُمكن أن تكون كذلك مُثمِرة بصورةٍ غير متوقعة، ولأنّ غايات الغضب وأهدافه متغيّرة وغير يقينية، يستطيع الغضب أن ينتج تساؤلًا فضوليًّا بخصوص ذاته؛ لأنّ الدوافع تولِّد عندي مشاعر لا أستطيع التحكُّم فيها، وتُنتِج رغبات أعجز عن تلبيتها، إذ تجعلني غريبًا بالنسبة إلى ذاتي، وهذه الغُربة، كما رأينا، تجعلنا عرضة للتحكُم العاطفي على المستويَيْنِ الفردي والجماعي (فلو كنَّا نعرف دائمًا ما نريد؛ لما أمكن التلاعب بنا؛ كي نريد شيئًا آخر)، لكن هذه الغُربة تؤهِّلنا كذلك لممارسة التأمّل الذاتي بصوره المختلفة، التي يكون وسيطها عادةً الفنّ أو الفلسفة أو العلوم، والتحليل النفسيّ هو كل هذه الأشياء ولا شيء منها في الوقت ذاته.
إن كان ثَمَّة أساس للتمييز بين الغضب المدمِّر والغضب العادل، فهو يكمُن حتمًا هنا. تستند بلاغة ترامب وأتباعه إلى التخلُّص من كل أثر لأبسط درجة من الشكّ الذاتي، وهذا التوجُّه يُصبِح أكثر شمولًا كلَّما ضرب عرض الحائط بالحقيقة وبأيّ خُلُق حميد. رفض ترامب المستمرّ للتراجع أو لتصحيح أيّ خطأ من أخطائه التي لا تُعَدّ، والثابت خطؤها، مثل إنكار الجمهوريين المستمرّ للعنف الذي وقع في تظاهرات السادس من يناير؛ هو علامة على المقاومة الشديدة التي يُبديها هؤلاء نحو أيّ محاولة لنقد الذات أو فحصها.
يتولَّد الغضب السُّلطوي والديماغوغي ويكتسب قوّته من رفضه القاطع لمساءلة نفسه. لا يتغذَّى هذا الغضب على المقولات الموضوعية، إنما على تأكيد صورة واحدة للواقع لا يجوز التشكيك فيها، ولا يحقّ لأيّ أحد وصفها سوى الديماغوغ نفسه. هذا غضب عاجز عن مواجهة أو مساءلة نفسه، ويعبِّر عن نفسه كما لو أنّه يعرف يقينًا أهدافه وغاياته، وهذا هو «الغضب الأخيليّ»، جنون أعمى واثق بذاته لرجلٍ نُزعت منه المرأة التي كان قد استولى عليها ظُلمًا بدوره.
هذا النوع من اليقين الذاتي يوجد بصورةٍ وبائيّة في تاريخ اليسار الثوريّ كما في تاريخ اليمين الرجعيّ، كما تخبرنا بذلك أرندت. يتوجَّب على الغضب السياسي الأصيل والمُثمِر، بمقابلة الغضب المفتعَل للمتسلِّطين والقادة الشعبويين، أن يحتوي على عنصرٍ من الشكّ الذاتي اليقظ. نرى هذا النوع من الشكّ الذاتي مثلًا في عمل المنظِّرة والناشطة النسوية السوداء أودري لورد، التي تكتب في مقالها عن «استخدام الغضب»، (1981): «حاولتُ أن أتعلَّم فائدة الغضب بالنسبة إليّ، وحاولتُ أن أتعلَّم حدوده».
تحتوي سِجلَّات التاريخ على ما يكفي من الظلم والقسوة والغباء لتغذيَّة غضبنا المُستمرّ طوال حياتنا
عندما نتأمَّل في الغضب عبر ممارسة الشكّ الذاتي والتفكير والشعور، يتباطأ زَخَمُه ويُصبِح موضوعًا للنظر والتمعُّن واللعب. لا أودُّ أن أظهر هذا كأمر بسيط، وهو في الواقع من أصعب الأشياء، فبالتأكيد لا أستطيع أن أستمع إلى المزيج المشؤوم من القسوة والعبث الذي يُعبِّر عنه ترامب، من دون أن أجد نفسي قد انفجرتُ غضبًا. من الصعب جدًّا تصوُّر أن يأخذ أيّ شخص مسافة تأمّلية من الغضب، إذا كان شاهدًا على مقتل جورج فلويد، أو أيٍّ من الاعتداءات السَّافِرة على العدالة العِرقيّة في السنين والعقود والقرون الماضية. تحتوي سِجلاَّت التاريخ على ما يكفي من الظلم والقسوة والغباء لتغذيّة غضبنا المُستمر طوال حياتنا.
على أنّ الميزة الغريبة للفنّ والتحليل النفسيّ (والتي يُمكِن تصوّرها بالمناسبة كعَيبٍ كذلك، من وجهة نَظر الفكر الفلسفي أو الموضوعية العلمية)، هي توفيرها الطُرق المناسبة لاختبار هذه المشاعر المتطرفة مع جعلِها مادة للفضول والاستكشاف.
في مسيرتنا العلاجية التي امتدّت لسنوات، وصل غوردون في النهاية إلى الشعور بالراحة؛ لقدرتي على استقبال انفجارات غضبه من دون أن أصبح ضحية لإغرائَيْ التجاهل أو الانتقام، وكأن طريقة جديدة لبناء العلاقة مع غضبه ومعي أصبحت مُمكنة بالنسبة إليه، وهذه الطريقة ليست مختزلَة في الذعر السلبي. استطاع التحليل النفسي ببطءٍ وبعد تعثُّر أن يُخفِّف من ميل غوردون نحو ردود الفعل المذعورة وتَبِعاتها التي لا تكُفُّ عن التعاظم. أظن أنّ هذا التغيير كان مُمكنًا قبل كل شيء بسبب الوضعية المزدوجة للتحليل النفسي، حيث يمكن للمرء أن يشعر بغضبه ويجلس بجانبه في الوقت نفسه، وحيث يمكن له أن يظلّ عالقًا فيه بينما ينظر إليه من مسافةٍ قريبة في الوقت نفسه.
أمَّا قراءة «الإلياذة» أو ميديا فتجربة مختلفة، لكن لها التأثير المزدوج ذاته؛ فهي تضعنا بداخل الغضب الملتهِب للشخصيات وخارجه في الوقت نفسه، وربما يكون هذا الموقع المزدوج أكبر آمالنا في تعلُّم الطريقة المناسبة للعيش مع الغضب، غضبِنا وغضبِ الآخرين، بدلًا من توهُّم أننا قادرون على تجاوزه ببساطة، أو الاستسلام له.
الهوامش
*جوشوا كوهن: مُحلِّل نفسيّ ومُمارِس خاصّ، وأستاذ النظرية الأدبية الحديثة، في كليّة جولدسميث، في جامعة لندن. مِن مؤلفاته: How to Read Freud (2005), Not Working (2019) and How to Live. What To Do. (2021).
1- هوميروس، الإلياذة، أحمد عتمان. ترجمة لطفي عبد الوهاب يحيى، ص 177. المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، 2008.
2- تصوير إسبن راسموسن، صحيفة في جي، بانوس بيكتشرز.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.